الخلافة والإمامة الإلهية
الدّين الإسلامي هو الدّين الإلهي الكامل الذي يحتوي على كل ما يحتاجه الإنسان في حياته، وهو الدّين المقبول عند الله (سبحانو تعالى) كما جاء في الآية المباركة: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّٰهِ الْإِسْلاٰمُ) ١، و القرآن الكريم هو الرّسالة السّماويّة التي نزل بها جبرئيل الأمين على نبيّنا محمد(ص) خاتم الأنبياء، وقد فرض الله(سبحانو تعالى) علينا اتّباع القرآن الكريم والإيمان بكل ما جاء فيه وحذّرنا من الكفر به وببعضه كما جاء في الآية المباركة: (أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ إِلاّٰ خِزْيٌ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذٰابِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ) . ٢
وهذا الدّين الذي هو بمثابة حلقة الوصل بين ابناء المجتمع بعضهم مع بعض من ناحية، وبينهم وبين الخالق من ناحية أخرى، ينبغي أن يكون قائماً على أصول وقواعد وثيقة، أحدها الإمامة.
فالإمامة وبالأخص إمامة الأئمة المعصومين من أهل البيت(عليهم السلام)، تحتل مكانة هامّة جدا عند الشيعة، ولكنّ في المقابل لا نراها تحتل نفس تلك المكانة عند الفرق الإسلامية الأخرى؛ والسبب في ذلك هو اختلاف اعتقاد المسلمين في أصل الإمامة، فالمسلمون يعتقدون بالإمامة بشكل عام ولكن اعتقاد الشيعة بها هو اعتقاد خاص ينبعث من مكانتها وأهميتها في الحياة البشرية من جميع جوانبها، ولهذا أصبحت أصلاً من أصول المذهب عند الشّيعة، و هي أهمّ أصل يميّز الشّيعة عن باقي الفرق الإسلامية. والإمامة التي تؤمن بها الشّيعة، هي تبعٌ للنّبيّ(ص) والأئمّة المعصومين(عليهم السلام) ومبدؤها القرآن الكريم، و من كان عارفا بها ولكن جاحداً لها أو كان لا يؤمن بها مقصراً لا قاصراً فهو لا يؤمن ببعض القرآن، ونتيجة عمله أنه يردّ الى أشدّ العذاب بتعبير القرآن في الآية المذكورة آنفاً.
الفرق بين الإمامة والخلافة
الإمامة هي: رئاسة عامّة في أمور الحياة الدّينيّة والدنيويّة لشخص من الأشخاص نيابة عن الرسول(ص) بأمر من الله(سبحانو تعالى)، و هي استمرار لوظائف النّبوّة بأن يكون للإمام كلّ ما كان للرسول(ص) من المنازل والحالات والصفات إلّا النّبوّة، وهذا المنصب يطلق عليه اسم : الإمامة الكبرى تمييزاً له عن الإمامة الصغرى التي هي وظيفة من يؤمّ النّاس في إمامة الصلاة .
والخليفة: هو من يُستخلف من جانب الشخص الذي يكون قبله، فهو كائن بدل غيره ليقوم بالامر مقامه ويسد مسده، لذا أُطلق لفظ الخليفة على الإمام أيضاً باعتبار كون الخليفة قد خلف النَّبيِّ الأعظم(ص) في منصب الإمامة الكبرى، ولهذا تصبح الإمامة الصغرى من المهام الاساسيّة في سلطته.
ومن حيث إنّ مسؤولية الإمام هي القيادة والمرجعيّة الدّينيّة والعلميّة للنّاس وهداية المجتمع للوصول الى السعادة في الدنيا والآخرة، وأنّ تبيين وتفسير الكتاب الكريم والسنّة النّبويّة الشريفة والأحكام الإلهيّة هي من المسؤوليات التي تقع على عاتق الإمام، لذا تصبح الإمامة مختلفةً عن الخلافة وتفوقها رتبةً.
اعتقاد أهل السنّة بالإمامة
يشترك أهل السنّة مع الشّيعة في أنّ الإمامة هي زعامة عامة للمجتمع، ولكنّهم يعتقدون أنّ هذه الزعامة تختص بالأمور الدنيوية فقط لا الدّينية، وبذلك تصبح عندهم فرع من فروع الدّين؛ و بناءً على ذلك يعتقد أهل السنّة أنّ الرسول(ص) لم يعيّن خليفة له من بعده يقوم مقامه ليكون إماماً للأمّة، وقد ترك هذا الأمر ليكون شورى بين المسلمين، وبذلك فُرض على الأمّة الإسلامية أن تنتخب إمامها بنفسها ليكون الخليفة من بعد رسول الله(ص)، فالخلافة التي تحلّ محل الإمامة عندهم، هي شأن بشري.
ولكن في مقابل ذلك فإنّ الشيعة الإمامية يعتقدون بكون الإمام مقاماً تنصيبياً و جعلاً من الله(سبحانو تعالى) بناءً على قاعدتين، الأولى: قاعدة اللطف الإلهي التي تستوجب تعيين الإمام بلطف من الله تعالى للعباد، والذي به يجتمع شمل الأُمّة وبعدمه تضطرب أحوال المجتمع ويعمّ فيه الفساد؛ وقد دلّ العقل على أنّ الله (سبحانو تعالى) لا يفعل إلّا الأصلح وأنّ وجود الإمام أصلح للمجتمع، وتعيين الأصلح واجب على الله تعالى. والثانية: قاعدة الاضطرار الى بعث الأنبياء للنّاس على مر العصور والتّسليم لكل ما جاؤوا به وتحذير كل من يرفض الإيمان بهم كما قال تعالى: (وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً) 3 و (لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) 4، وتعتقد الإمامية أيضاً أنّ هذه القاعدة تكون جارية في أوصيائهم من بعدهم. وعلى هذا فإنّ العقل البشري لا يقبل أنّ الرسول(ص) قد ترك هذا الأمر للأمّة ولم يعيّنه بوحي من الله(عج).
هذا من ناحية، و من ناحية أخرى فقد بيّن الله(سبحانو تعالى) الغرض من الخلقة وهو العبادة في قوله تعالى: (وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ) 5، فعلى هذا ومن أجل أن يعرف الإنسان ربه ليعبده، يوجب على الله إرسال الرسل ومن بعد ذلك تعيين من ينوب عنهم من أجل حفظ قوانين الشرع من التغيير والزيادة والنقصان، وترك هذا الأمر من قِبله(سبحانو تعالى) يؤدي الى نقض الغرض.
الوجوب الذي تقول به الشّيعة الإماميّة ليس الوجوب التكليفي على الله(سبحانو تعالى) و إنّما هو اللزوم والثبوت، كحكم العقل بوجوب عدالة الله(سبحانو تعالى) أو وجوب فعل الأصلح للعباد.
شروط الإمام
يجب أن يتم تنصيب الإمام من قبل الله(سبحانو تعالى)، ويجب أن يتمتّع بشروط خاصّة، وهي:
العصمة من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، من سنّ الطفولة الى الموت، سواء كان عن عمد أو عن سهو، صغيرة كانت أم كبيرة.
الأفضليّة على جميع أهل زمانه.
كمال العقل والذّكاء والفطنة.
العلم بما تحتاجه الأمّة لدينهم ودنياهم.
التنزّه عمّا تتنفر منه الطباع الإنسانيّة.
أن لا يكون آباؤه كفّاراً.
العصمة و الأعلميّة هما الأساس لهذه الش-روط. و أما شروط انتخاب الإمام بعد النّبيّ(ص)، والذي ينطبق عليه مصداق الخليفة، فهي: العصمة.
الأفضلية في العلم والعمل.
أن يكون منصوباً من قبل الله(سبحانو تعالى) بواسطة النّبيّ(ص) أو الإمام المنصوص عليه من جانبه(ص) و ليس للنّاس خيارٌ في تنصيبه.
الوراثة من النّبيّ(ص).
القرابة للنّبيّ (ص).
أن يكون هاشمياً، من نسل علي وفاطمة(عليهما السلام).
والعصمة التي تعتقد بها الشّيعة الإماميّة لا تعني أنّ الأئمّة المعصومين لديهم عصمة كعصمة الملائكة بحيث لا تنازعهم أنفسهم من أجل ارتكاب المعاصي، وإنّما هي لطف من الله(سبحانو تعالى) لعلمه بتوفر الشروط اللازمة فيهم لقبول العصمة و امتناعهم من ارتكاب المآثم لقدرة عقلهم و كثرة علمهم و استمرارهم بالاتصال بالله(سبحانو تعالى).
أقسام الإمامة
تنقسم الإمامة الى إمامة عامّة وإمامة خاصّة؛ فالإمامة العامّة هي ملاحظة الإمامة وبحثها بغض النظر عن مصاديقها. قال الله تعالى في كتابه الكريم: (وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ) . 6 وأمّا الإمامة الخاصّة فهي التي تختصّ بإمامة شخص معيّن، كإمامة إبراهيم(ع) وإمامة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وإمامة الأئمّة من ولده(عليهم السلام).
و الإمامة تختصّ بقيادة المجتمع بشكل عامّ و من كل الجوانب، و بعبارة أخرى هي خلافة رسول الله(ص) والزعامة الكبرى في أمور الدّين و الدنيا لشخص من الأشخاص نيابة عن النّبيّ(ص) في حفظ الشّريعة و رفع الفساد و إقامة الحدود و نش-ر الأحكام و الانتصاف للمظلوم من الظالم وغير ذلك من فوائدها اللازمة على الوجه الش-رعي والقانون الإلهي، وتترادف الإمامة العامّة مع الخلافة الكبرى والولاية المطلقة، و تعتبر الحكومة شأناً من شؤون الإمام.
الأدلّة على وجوب الإمامة
نستدلّ على وجوب الأمامة بشكل عام بالأدلّة العقليّة والنقليّة، ونستفيد في نقل الأدلّة العقليّة ممّا ذكره علماء الكلام والتفسير، بأنّ نصب الإمام واجب على الله عقلاً (لأنّ الله لا يفعل إلّا الأصلح للعباد)، وأنّ الدّين الإسلامي هو الدّين الكامل الذي يشمل كل الأمم على مرّ العصور، وأنّ الرسول(ص) بذل كل ما بوسعه من أجل إعلاء كلمة الحقّ، وقدّم نفوساً كثيرة فداءً لهذا الدّين، و فعل الرسول(ص) هو خير دليل على وجوب الإمامة إذ أنّه كان يخلف من ينوبه في المدينة في جميع غزواته، حيث يستطيع الباحث الكريم أن يحصل على أسماء أولئك الأشخاص الذين كان يستنيبهم الرسول(ص) من كتب التاريخ وغيرها. وفي وجوب الإمامة يتبادر لنا سؤال، و هو: هل استطاع الرّسول(ص) بنفسه أن يعلّم كل الدّين في فترة الثلاثة والعشرين سنة من بعد البعثة بالتمام والكمال لجميع الناّس في المجتمع الإسلامي و المجتمعات الاخرى؟ نحن نلاحظ عند مطالعة التاريخ أنّ النّبيّ(ص) كان في معظم الوقت منشغلاً بالدفاع عن الاسلام و منشغلاً بالحروب ضد المش-ركين و مواجهة المعاندين و المغرضين وذوي القلوب المريضة في داخل الجزيرة العربية، و بالرغم من أنّه(ص) قام بتعليم التعاليم الدّينية للصحابة ولم يكن يضيع أدنى فرصة لتعليم الدّين الإسلامي للنّاس، لكنّ هذه الفترة القصيرة لم تكن كافية لأن يقوم بتعليم التعاليم الدّينية بنفسه لجميع ابناء المجتمع، بسبب انتشار البشر في بقاع متباعدة من الارض، و لهذا فقد قام(ص) بتحميل الصحابة مسؤولية نقل هذه التعاليم الى الآخرين ممن لم يشهد الرسول(ص).
هذا من ناحية، و من ناحية أخرى و من أجل استمرار بقاء الدّين الإسلامي و إستقامته ومن أجل حفظ كيان الدولة الإسلامية اقتضت الحاجة أن يقوم بعض هؤلاء الصحابة الذين قام الرسول(ص) بتعليمهم وتربيتهم بالشكل الكامل بنقل التعاليم الاسلامية إلى باقي المسلمين بدون خطأ أو زيادة أو نقصان، فالرّسول(ص) ينطق عن الوحي وهؤلاء ينطقون عن الرسّول(ص)، لذا وجب أن تكون عند هؤلاء الأشخاص صفات مماثلة للرسول(ص) إلّا النّبوّة، وإحدى تلك الصفات اللازمة هي العصمة والتي ثبتت لعلي(ع) وباقي الأئمة من ولده(عليهم السلام)، وبذلك يكون قد شملهم مقام الإمامة.
إذن فوجود الإمام بهذه الصفات واجب لتبليغ ونش-ر الإسلام بالشكل الصحيح لأنّ الإسلام لم يكن آنذاك قد انتشر في كل العالم بعد وفاة الرسول(ص) وكان مهدّداً من خارج الجزيرة العربية من قبل سلطات قويّة كالروم والفرس وفي الداخل من قبل المنافقين والنفوس الضعيفة في الإيمان الموجودة بين المسلمين كما ذكر لنا القرآن الكريم في قوله: (قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . 7 وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ تغيير ظروف الحياة وحدوث بعض المستجدات مع مرور الزمان تجعل الأمّة الإسلامية تحتاج إلى شخص يقودها من النّاحية الدّينية وأنّ هذا الشخص لا بد وأن يمتلك إحاطة كاملة بالقرآن والسنّة النّبوية الشريفة لكي يستطيع إصدار حكم مناسب للمسائل المستحدثة، وخير دليل على حدوث المستجدات والمستحدثات هو استخدام اسلوب القياس عند علماء السنّة في استنباط الأحكام الشرعيّة للأمور التي حدثت بعد وفاة النّبيّ(ص) والتي لم يكن هو(ص) قد بيّن لها حكماً من قبل.
وقد وقع هؤلاء في هذا الاسلوب الخاطيء بسبب عدم اعتقادهم بوجود إمام معصوم. وسبب بطلان القياس هو أنّه يشير الى أنّ الدّين الإسلامي دين ناقص، في حين أنّ هذا الدّين كان قد اكتمل في حياة الرّسول(ص) وليس من أمر إلّا وكان هو(ص) قد بلّغه وبيّنته الش-ريعة الإسلاميّة ولو بصورة عامة آنذاك، وإذا استدعت الظروف يوماً ما صدور حكم معين لأمر معين فيجب أن يكون ذلك بشكل تبيين لاحكام الشريعة فقط، ويجب أن يتم هذا التّبيين بواسطة أشخاص لديهم الإحاطة الكاملة في أمور الش-ريعة؛ وقد دلّت الروايات على أنّ الخلفاء من بعد النّبيّ(ص) كانوا هم بأنفسهم يعترفون أنّهم ليسوا معصومين من الخطأ إلّا ما ورد في علي بن أبي طالب(ع).
وعلى هذا، فالاعتقاد بعدم تعيين خليفة من جانب الرّسول(ص) لهذه الأمّة يؤدي لحدوث الفوضى والنّزاع في صفوف الأمّة الإسلامية، والعقل السليم لا يقبل حدوث ذلك من جانب الرسول(ص)، وحاشا للنّبيّ الكريم(ص) أن يترك هذه الأمّة بدون شخص واجد للشرائط يقود زمام أمورها.
وكذلك فإنّ العقل السليم أيضاً يحكم بأنّ كل من يتصدّى لزمام أمور مجموعة معيّنة يوجب عليه أن لا يتركها بدون مسؤول ينظم أمورها حتى وإن كانت قطيعاً من الغنم؛ ومما يؤكد لنا ذلك هو قول عائشة لعبد الله بن عمر، حينما أرسله عمر أن يستأذن له منها ليُدفن قرب قبر رسول الله(ص)، حيث قالت له: «يا بُنيََّ أَبلغ عمر سلامي، وقل له: لا تدع أمّة محمد بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملاً، فإنّي أخشى عليهم الفتنة ». 8
وما أخرجه الطّبري بسنده في التّاريخ من قول معاوية عند تعيين ابنه يزيد خليفة من بعده، حيث قال: «إني أرهب أن أدع أمة محمدٍ بعدي كالضأن لا راعي لها ». 9
و دليل آخر هو قول ابن عمر لأبيه لمّا حضرته الوفاة، وقد أخرجه البيهقي في سننه وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء في باب عمر بن الخطّاب بسنديهما والمحبّ الطّبري في الرّياض النّضرة عن ابن عمر قال:
إنّي سمعت الناس يقولون مقالةً فآليت أن أقولها لك، زعموا أنّك غير مستخلفٍ وقد علمتُ أنّه لو كان لك راعي غنمٍ فجاءك وقد ترك رعايته رأيتَ أن قد ضيّع؛ فرعاية النّاس أشدّ. 10
وهكذا نلاحظ في كتب التّاريخ أيضاً أنّ جميع الخلفاء من بعد رسول الله(ص) قاموا بتعيين من يخلفه بعد موته؛ وهذا ممّا يؤيّد لنا سقم ادعاء أهل السنّة في أنّ الرّسول(ص) قد ترك للأمّة أن تعيّن إمامها بنفسها، إذ أنّه ليس من المقبول عقلاً أن يترك النّبيّ(ص) أمّته بدون راعٍ في حين أنّه أحرص النّاس عليها، وفي المقابل أن يكون الخلفاء من بعده أشدّ حرصاً منه على هذه الأمّة حيث يقومون بتعيين من يتصدّى زمام الأمّة من بعدهم!
وبتعبير آخر نستطيع القول بأنّ ادّعاء أهل السنّة هذا يُشكل عليه من وجهين:
الوجه الأول:
لو كان الرّسول(ص) على صواب في عدم تعيين من يخلفه من بعده وترك هذا الأمر للأمّة، إذن يكون فعله هذا سنّة نبويّة شريفة ويوجب على الخلفاء من بعده اتّباعها والسير عليها، وبالتالي يصبح قيامهم بتعيين خليفة لهم من بعدهم مخالفة للسنّة النّبويّة الشريفة، وهذا الوجه يضعهم في موقف التّحدي لرسول الله(ص) وخروجهم عن السنّة!
والوجه الثاني:
قيام الخلفاء من بعد رسول الله(ص) بتعيين من يخلفهم من بعدهم وترك الرسول(ص) لهذا الأمر يوحي بأنّهم كانوا قد فهموا أهميّة الاستخلاف أكثر من الرّسول(ص)، والعياذ بالله، وأنّ الرسول(ص) كان على خطأ في عدم تعيين من يخلفه من بعده، لا سمح الله، وهذا الوجه لا محالة غير مقبول لأنّه ينافي نصّ القرآن الكريم: (وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ* إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) . 11
وكلا الوجهين يدلان على أنّ هذا الادّعاء هو ادّعاء واهٍ، وهو ليس إلّا تناقض عند أهل السنّة لأنهم يدّعون العمل به وفي نفس الوقت يصرفونه عن النّبيّ(ص) غافلين عن أنّ النّبيّ(ص) هو أولى بتطبيقه من غيره وهو أوّل من قام بتطبيقه قبل غيره بتعيين علي(ع) خليفة له من بعده.
وأما ادعاء أهل السنّة بأنّ النّبيّ(ص) ترك هذا الأمر شورى بين المسلمين تبعاً للآية الكريمة: (وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ) 12، فهو ادّعاء واهٍ أيضاً ولا دلالة للآية عليه، لأنّ الشيعة يسألون أهل السنّة: إذا كان النّبيّ(ص) ترك هذا الأمر شورى بين المسلمين، إذن هل نصّ هو(ص) على أنّ الخلافة يجب أن تكون شورى بين المسلمين؟ فعدم وجود رواية دالّة على ذلك يشير الى انّه(ص) لم ينصّ على الشورى؛ ثم إنّ الشيعة يقولون: إذا ادّعى مدّعٍ أنّ وجوب الشورى من الواضحات ولا يحتاج الى نصّ، ولكن مع ذلك فقد نصّ الله(سبحانو تعالى) عليها بقوله: (وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ) ، فنحن نجيبه أن لو كان الأمر واضحاً لما وقع الخلاف، ولو كان المراد في هذه الآية هو الخلافة لكان أبو بكر في نصّه على عمر مخالفاً لله ورسوله! وبالإضافة الى كل هذا فلا قائل من أهل السنّة بذلك، وبالنتيجة فلا دلالة في الآية على الخلافة.
وأما دور النّاس في البيعة للإمام والخليفة فهو من أجل مساندة الخليفة للقيام بأمور الخلافة وليكون الخليفة والإمام مبسوط اليد في إدارة الأمور ولا دخل له في نوع تنصيب الخليفة، لأنّ تنصيب الخليفة كما أشرنا سابقاً هو أمر إلهي وتنصيب من جانب الله(سبحانو تعالى) وبواسطة النّبيّ(ص).
وكل هذا يبيّن لنا أنّ الإمامة عقلاً من الضّروريات للحياة البشريّة، وبدونها يختلّ نظام المجتمع الإسلامي وتعمّ الفتنة في صفوفهم.
وأما الأدلّة النقليّة على وجوب الإمامة، فهي الآيات في القرآن الكريم وما ورد من الروايات في كتب الحديث عن الإمامة، والتي سيأتي ذكرها لاحقاً.
ـــــــــــــــــــــــــــ
١) . سورة آل عمران: آية ١٩.
٢) . سورة البقره: آية ٨۵.
3) . سورة الإسراء، آية ١۵.
4) . سورة النساء، آية ١۶۵.
5) . سورة الذاريات، آية ۵۶.
6) . سورة السجدة، آية ٢۴.
7) . سورة الحجرات، آية١۴.
8) . الإمامة والسياسة، ج١، ص٣٨.
9) . تاريخ الطبري، أحداث سنة ۵۶، ج۵، ص٣٠۴.
10) . السنن الكبرى للبيهقي، باب الاستخلاف، ج١٢، ص٢٧٢؛ الرياض النض-رة، ج٢، ص٣۵٣؛ حلية الأولياء، ج١، ص۴۴.
11) . سورة النّجم، آية ٣و۴.
12) . سورة الشورى، آية ٣٨.