الأصلح معناه وأقسامه
المبحث الأوّل: معنى الأصلح
معنى الأصلح (في اللغة) : الأصلح عبارة عن أفعل تفضيل “الصلاح”.
والصلاح ضدّ الفساد.
قال تعالى: { وَلا تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها }[ الأعراف: 85 ].
والمصلحة: “ما يتعاطاه الإنسان من الأعمال الباعثة على نفعه أو نفع قومه”(1).
معنى الأصلح (في الاصطلاح العقائدي): يظهر من المتكلّمين: أنّ “المصلحة” عندهم تساوى “المنفعة”.
قال السيّد المرتضى: الصلاح عبارة عن النفع … ويقال عند التزايد “أصلح” كما يقال “أنفع”(2).
وقال أيضاً: “الأصلح في باب الدنيا هو فعل المنافع واللذات الخالية من وجه قبح”(3).
المبحث الثاني: وجوب(4) فعل الأصلح
إنّ الأصلح ينقسم إلى قسمين(5):
1 ـ الأصلح في الدين: ومصالح الدين هي “الألطاف” .
ولا إشكال في أنّ اللّه تعالى حكيم ، وهو يفعل دائماً ما هو الأصلح بالعباد في أمور دينهم. وقد بينّا “اللطف الإلهي” في الفصل السابق.
2- الأصلح في الدنيا: ومصالح الدنيا هي الأُمور التي ينتفع بها الأحياء بشرط أن لا تكون هذه الأُمور قبيحة(6)، ووجوب فعله تعالى لهذا المعنى من “الأصلح” هو الذي وقع النزاع حوله بين العلماء .
الآراء حول وجوب أو عدم وجوب فعله تعالى للأصلح :
1 ـ عدم الوجوب .
2 ـ الوجوب .
الرأي الأوّل: عدم وجوب فعله تعالى للأصلح (أي: لا يجب على اللّه تعالى في الدنيا أن يفعل بالعباد ما هو أنفع لهم في دنياهم).
أدلة ذلك :
الدليل الأوّل : وجوب الأصلح يستلزم المحال.
توضيح ذلك : ما من أصلح (أي: أنفع للعباد) إلاّ وهناك فعل أصلح منه، وهو مع ذلك خال عن المفسدة.
فلو كان الأصلح واجباً لوجب على اللّه تعالى أن يقوم بأفعال غير متناهية، وكلّها أصلح، وهذا محال .
ولهذا ينبغي القول بعدم وجوب فعل الأصلح على اللّه تعالى مطلقاً(7).
يلاحظ عليه :
1- إنّ البحث حول الأصلح يشمل المنافع التي يمكن وقوعها، وأمّا المحال فهو خارج عن البحث.
قال العلاّمة الحلّي: “إنّ الفعل إنّما يجب على اللّه تعالى من حيث الحكمة، إذا كان مُمكناً، أمّا إذا كان ممتنعاً فلا، وما لا يتناهى يستحيلُ إيجاده”(8).
2- إنّ الأصلح مرتبة واحدة، ولهذا فإنّ الزيادة التي يتصوّرها البعض ليست داخلة في دائرة الأصلح، بل هي خارجة عنه، ولهذا لا يتجه الوجوب إليها، فتكون هذه الزيادة خارجة عن البحث.
قال نصير الدين الطوسي: ” لا يقال: فأيُّ مرتبة فُرضت، أمكن الزيادةُ عليها، ويدخل بذلك تحت ما لا نهاية له .
لأ نّا نقول: نمنع كونَه أصلح، لأنَّا فرضنا الأصلح مرتبة، فالزائد ليس أصلح”(9).
الدليل الثاني على عدم وجوب فعله تعالى للأصلح :
لو كان الأصلح واجباً لم يستحق اللّه الشكر منّا على ما يفعله بنا من الإحسان والإنعام، لأنّ الذي يقوم بفعل يجب عليه، فإنّه لا يستحق الشكر، وإنّما الشكر يكون للمتفضّل الذي له أن يفعل وله أن لا يفعل(10).
يلاحظ عليه :
1- إنّ “الوجوب” الذي يتنافى مع استحقاق الشكر هو “الوجوب” بمعنى “الاضطرار” و”عدم الاختيار”، ولكن المقصود من “الوجوب” هنا غير هذا المعنى، وإنّما المقصود من الوجوب هنا أنّ العدل والحكمة الإلهية تقتضي أن يفعل اللّه تعالى كذا، لأنّ تركه لهذا الفعل يؤدّي إلى الإخلال بعدله وحكمته ويوجب اتّصافه تعالى بأوصاف يتنزّه عنها(11).
2- إنّ شكرنا للّه تعالى إزاء فعل الأصلح يكون من قبيل شكرنا له تعالى إزاء إعطائه “الثواب” و”العوض” .
و”إعطاء الثواب” و”إعطاء العوض” أمران يجبان على اللّه تعالى بمقتضى عدله وحكمته .
ولكننا ـ مع ذلك ـ نشكر اللّه تعالى إزاءهما.
ولكن لا يكون شكرنا له تعالى إزاء ما يجب عليه تعالى.
وإنّما يكون شكرنا له تعالى إزاء ما تفضّل به علينا.
وتفضّله تعالى في هذا المقام أنّه خلقنا ومنحنا العقل وكلّفنا وأوجد فينا الأسباب التي تجعلنا ممن يشملهم “الثواب” و”العوض” الإلهي.
وكان بإمكانه تعالى أن لا يخلقنا أو لا يمنحنا العقل، فنكون ممن لا يشملهم “الثواب” و”العوض” الإلهي.
ولكنّه تعالى خلقنا ومنحنا العقل من باب التفضّل، وبذلك أصبحنا ممن يقتضي عدله أن لا يظلمنا.
فيكون شكرنا للّه تعالى إزاء هذا التفضّل.
وتعتبر مسألة الشكر إزاء فعل الأصلح أيضاً من هذا القبيل(12).
الدليل الثالث على عدم وجوب فعله تعالى للأصلح :
لو كان فعل الأصلح واجباً لم يكن للدعاء أيّة فائدة.
لأنّه إذا كان كلّ ما يفعله اللّه تعالى هو الأصلح الذي يجب أن يفعله، فعندئذ لا يمكن تغيير هذا الواجب، فينتفي دور الدعاء.
ولكن بما أنّ للدعاء دوراً، فلهذا نستنتج بأنّه تعالى لا يجب عليه فعل الأصلح.
يلاحظ عليه : لا يوجب هذا الاستدلال نفي فعله تعالى للأصلح، لأنّ اللّه تعالى يفعل بالعباد ما هو أصلح لهم وفق ما تقتضيه الحكمة، وقد اقتضت حكمته تعالى أن يجعل للعباد بعض “الأسباب” التي يحصلون بها على المزيد من المنافع، ومن هذه الأسباب “الدعاء”.
فالأصلح في هذا المقام للعباد أن تتاح لهم الفرصة ليصلوا إلى منافعهم عن طريق تمسّكهم بالأسباب.
فمن يتمسّك بهذه الأسباب، فإنّه يصل إلى المنافع إن شاء اللّه تعالى.
ومن لا يتمسّك بهذه الأسباب، فإنّه يحرم نفسه بنفسه من هذه المنافع.
الرأي الثاني: وجوب فعله تعالى للأصلح(13) :
قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : “إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم”(14).
تنبيه مهم :
ينبغي الالتفات في هذا الصعيد إلى حقيقة مهمّة وهي: إنّ الأصلح في الدنيا لا يكون دائماً في مطلق إيصال الشيء النافع للعبد.
بل قد يكون الأصلح للعبد في الدنيا حرمانه من المنافع الدنيوية .
لأنّ المنافع الدنيوية ليست بنفسها ملاكاً عند اللّه تعالى في تعامله مع العباد.
وإنّما الملاك عند اللّه تعالى هو المنافع الأخروية للعباد.
وعلى ضوء هذا الملاك يتعامل اللّه تعالى مع العباد في إيصال الأنفع إليهم.
ورد في الحديث الشريف :
عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل، عن اللّه عز وجل، قال: “قال اللّه تبارك وتعالى: إنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالسقم، ولو صحّحت جسمه لأفسده ذلك.
وإنّ من عبادي المؤمنين لَمَن لا يصلُح إيمانه إلاّ بالصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك.
إنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم، فإنّي عليم خبير”(15).
قال الشيخ المفيد: “إنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده ما داموا مكلَّفين إلاّ أصلح الأشياء لهم في دينهم ودنياهم، وأنّه لا يدّخرهم صلاحاً ولا نفعاً، وأنّ من أغناه فقد فعل به الأصلح في التدبير، وكذلك من أفقره ومن أصحّه ومن أمرضه فالقول فيه كذلك”(16).
المبحث الثالث: الأصلح في خلق العالم
إنّ كيفية نظام الوجود وقوانين الكون هي الأفضل والأكثر إتقاناً حسب ما اقتضته الحكمة والرحمة الإلهية، بحيث لا يمكن تصوّر أحسن منه في تنظيم عالم الإمكان مع لحاظ الأهداف المطلوبة .
الأدلة المثبتة للنظام الأحسن :
1- إنّ اللّه تعالى حكيم، ولا يفعل إلاّ الأفضل والأحسن حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
2- إنّ اللّه تعالى عالم بجميع جهات حسن وقبح الأفعال، والحكيم يختار دائماً ما هو الأحسن والأكمل .
3- إنّ اللّه تعالى غني عن العالمين، وهو في منتهى الجود والكرم والعطاء، ولا يوجد ما يمنع اللّه من إيجاد الأحسن حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
____________
1- انظر: مفردات القرآن، الراغب الاصفهاني: باب: صلح.
المنجد: مادة (صلح).
2- الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص199.
3- شرح جمل العلم والعمل، السيّد المرتضى: لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص109 .
وانظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس: الكلام في فعل الأصلح، ص140 .
4- نؤكّد مرّة أخرى بأنّ الوجوب على اللّه تعالى لا يعني أنّه تعالى مكلّف بأنّ يفعل كذا وكذا، بل معناه أنّ عدم فعله تعالى لكذا وكذا لا ينسجم مع صفاته الكمالية.
انظر: بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج59، كتاب السماء والعلم، باب 24: عصمة الملائكة…، ص310.
5- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في اللطف والمصلحة والمفسدة، ص298.
6- قال السيّد المرتضى: “لا يحسن فعل ذلك [ أي: فعل] الأصلح إلاّ مع التعرّي من المفاسد”.
الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص205.
7- انظر: الذخيرة، السيّد المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص201 ـ 202.
شرح جمل العلم والعمل، السيّد المرتضى: لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص109 ـ 110.
الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس، ص140.
غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2، لا يجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص110.
8- مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث العاشر، ص262.
9- كشف الفوائد، نصير الدين الطوسي: الباب الثالث، الفصل الأوّل، وجوب الأصلح، ص253.
10- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في الأصلح، ص207 .
الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الخامس، ص142.
غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2، لايجب عليه تعالى الأصلح في أمر الدنيا، ص109.
11- انظر: البراهين القاطعة، محمّد جعفر الاسترآبادي: ج2، المقصد 3، الفصل 3، المقام 5، ص455.
12- انظر: إشراق اللاهوت، عميد الدين العبيدلي: المقصد الحادي عشر، المسألة الخامسة: ص397.
13- أي: وجوب فعله تعالى الأنفع للعباد في الدنيا .
14- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 62: باب أنّ اللّه تعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح لهم، ح9، ص392.
15- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 62، ح1، ص388.
16- أوائل المقالات ، الشيخ المفيد: القول 28: القول في اللطف والأصلح ، ص59 .