السجود على الأرض أو ما أنبتته
الـسـجدة في الصلاة وغيرها ، من مظاهر العبودية امام المسجود له ، ومن اركان الصلاة ،في بعض الماثورات (اقرب ما يكون العبد الى ربه حال سجوده ). فمهما اتى من التذلل والخضوع كان اوقع وافـضـل فـي الـعـبـوديـة . فـالسجود على التراب والرمل والحجر والحصى ابين لبيان العبودية والـتصاغر، من السجود على الحصر والبواري ، فضلا عن السجود على الالبسة الفاخرة والفرش الغالية والذهب والفضة ، وان كان الكل سجودا،لكن العبودية تتجلى في الاول بما لا تتجلى في غيره .
والامـامـية ملتزمون بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون عنها الاالى ما أنبت منها من الحصر والبواري ، بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس . ولا يرون السجود على غيرهما صحيحا فـي حال الصلاة اخذا بالسنة المتواترة عن النبي الاكرم واهل بيته وصحبه الصالحين . وسيظهر ـ فـي ثـنـايا البحث ـ ان الالتزام بالسجود على الأرض او ما انبتت ، كان هو السنة بين الصحابة ، وان العدول عنه حدث في الازمنة المتاخرة . ولاجل توضيح المقام نقدم امورا :
۱ـ اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه :
اتفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مرتين ، ولم يختلفوا في المسجود له ، فانه هو الله سبحانه الذي له (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها). (۱) وشعار كـل مسلم قوله سبحانه ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن ). (۲)
وانما اخـتلفوا في شروط المسجود عليه ـ اعني ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الامامية على انه يـشـترط ان يكون المسجود عليه ارضا او ما ينبت منها غير ماكول ولا ملبوس ، كالحصر والبواري وما اشبه ذلك . وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب ، واليك نقل الاراء.
قال الشيخ الطوسي وهو يبين آراء الفقهاء : لا يجوز السجود الا على الأرض او ما انبتته الأرض مما لا يـؤكـل ولا يلبس من قطن او كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، واجازوا السجود عـلـى الـقطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك … الى ان قال : لا يجوز السجود على شي ء هو حامل له ، ككور العمامة ، وطرف الرداء، وكم القميص .وبه قال الشافعي وروي ذلك عن علي (ع ) وابـن عمر وعبادة بن الصامت ، ومالك ،واحمد بن حنبل .
وقال ابو حنيفة واصحابه : اذا سجد على ما هـو حـامـل له كالثياب التي عليه اجزاه ، وان سجد على ما لا ينفصل منه مثل ان يفترش يده ويسجد عليها اجزاه ،لكنه مكروه . وروي ذلك عن الحسن البصري (۳) .
وقـال العلامة الحلي ـ وهو يبين آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ: لا يجوز السجود على ما ليس بارض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا اجمع ، واطبق الجمهورعلى الجواز.
وقد اقتدى الشيعة الامامية في ذلك بائمتهم الذين هم اعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين . وهذا نزر قليل من نصوصهم في ذلك :
روى الـصدوق باسناده عن هشام بن الحكم انه قال لابي عبد الله (ع ): اخبرني عما يجوز السجود عليه ، وعما لا يجوز، قال : (السجود لا يجوز الا على الأرض ، او على ما انبتت الأرض الا ما أكل أو لـبس ). فقال له : جعلت فداك ، ما العلة في ذلك ؟ قال : (لان السجود خضوع لله عز وجل ، فلا ينبغي ان يكون على ما يؤكل ويلبس . لان ابناء الدنيا عبيد ما ياكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عـبـادة الله عـز وجـل ، فلا ينبغي ان يضع جبهته في سجوده على معبود ابناء الدنيا الذين اغتروا لغرورها). (۴)
فـلا عتب على الشيعة الامامية اذا التزموا بالسجود على الأرض او ماانبتته ، اذا لم يكن ماكولا ولا ملبوسا، اقتداءا بائمتهم ، على ان ما رواه اهل السنة في المقام ، يدعم نظرية الشيعة الامامية ، وسيظهر لـك فيما سياتي من سرد الاحاديث من طرقهم ، ويتضح ان السنة كانت هي السجود على الأرض ، ثم جـاءت الـرخـصـة فـي الحصر والبواري فقط. ولم يثبت الترخيص الاخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك .
۲ـ الفرق بين المسجود له والمسجود عليه :
كـثـيرا ما يتصور ان الالتزام بالسجود على الأرض او ما انبتت بدعة ، ويتخيل ان الحجر المسجود عليه وثن الـتـربـة الموضوعة امام المصلي وثن يعبده المصلي بوضع الجبهة عليه . ولكن لا عتب على الشيعة الامامية اذا قصر فهم المعترض ، ولم يفرق بين الأمرين . وزعم المسجود عليه مسجودا له ، وقاس امر الموحد بامر المشرك ، بحجة المشابهة في الظاهر فاخذ بالصور والظواهر، مع ان الملاك هو الاخذ بالحقيقة والواقع ،فالوثن عند الوثنى معبود ومسجود له يضعه امامه ويركع ويسجد له ، ولكن الـمـوحـد الـذي يريد ان يصلي لاظهار العبودية الى نهاية مراتبها، يخضع لله سبحانه ويسجد له ، ويـضـع جـبـهـتـه ووجـهـه على التراب والحجر، والرمال والحصى ، مظهرا بذلك مساواته معها عند التقويم ، قائلا: اين التراب ورب الارباب ؟.
۳ـ السنة في السجود في عصر الرسول وبعده :
ان الـنـبـي الاكرم [صلى الله عليه وآله وسلم ] وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدة لا يـسـتهان بها، متحملين شدة الرمضاء وغبار التراب ورطوبة الطين ، ولم يسجد احد يوم ذاك على الـثوب وكور العمامة ، بل ولا على الحصر والبواري والخمر، (۵) واقصى ما كان عندهم لرفع الاذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى باكفهم ثم السجود عليها، وقد شكا بعضهم لرسول الله من شدة الـحر، فلم يجبه ، اذ لم يكن له ان يبدل الأمر الالهي من تلقاء نفسه ، الى ان وردت الرخصة بالسجود عـلـى الخمر والحصر،فوسع الأمر للمسلمين ، لكن في اطار محدود. وعلى ضد هذا فقد مرت في ذلك المجال على المسلمين مرحلتان ـ لا غير ـ:
۱ـ مـا كان الواجب فيها على المسلمين ، السجود على الأرض بانواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك اية رخصة عنها الى غيرها.
۲ـ المرحلة التي وردت فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر والبواري والخمر، تـسهيلا للامر، ورفعا للحرج والمشقة ، ولم تكن هناك اية مرحلة اخرى مع الأمر للمسلمين اكثر من ذلك كما يدعيه اهل السنة ، واليك البيان .
المرحلة الأولى : السجود على الأرض :
روى الفريقان عن النبي الاكرم (ص ) انه قال : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. (۶) والمتبادر من الحديث ان كل جزء من الأرض مسجد وطهور، يسجد عليه ويقصد للتيمم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارة ، والتيمم اخرى .
وامـا تفسير الرواية بان العبادة والسجود لله سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الأرض كلها مـسـجد للمسلمين بخلاف غيرهم ، حيث خصوا العبادة بالبيع والكنائس ،فهذا المعنى ليس مغايرا لما ذكـرناه ، فانه اذا كانت الأرض على وجه الاطلاق مسجدا للمصلي فيكون لازمه كون الأرض كلها صـالـحـة لـلـعـبـادة ، فـمـا ذكر معنى التزامى لما ذكرناه ، وما يعرب عن كونه هو المراد، ذكر (طـهـورا)، بـعـد (مـسـجدا) وجعلهما مفعولين لـ(جعلت) والنتيجة هي توصيف الأرض بوصفين ، كونها مسجدا وكونها طهورا، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : ان ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا. (۷)
تبريد الحصى للسجود :
۱ـ عـن جـابـر بـن عبد الله الانصاري ، قال : كنت اصلي مع النبي الظهر، فخذ قبضة من الحصى ، فاجعلها في كفي ، ثم احولها الى الكف الاخرى حتى تبرد، ثم اضعها لجبيني حتى اسجد عليها من شدة الحر. (۸) وعلق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متصل به لكان ذلك اسهل من تبريد الـحـصـى بالكف ووضعها للسجود. (۹) ونقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب ـ سواء اكان مـتـصلا ام منفصلا ـ جائزا، لكان اسهل من تبريد الحصى للسجود عليه ، ولامكن حمل منديل او ما شابه .
۲ـ روى انس قال : كنا مع رسول الله في شدة الحر، فياخذ احدنا الحصباء في يده ، فاذا برد وضعه وسجد عليه . (۱۰)
۳ـ عـن خـبـاب بـن الارت قـال : شـكـونـا الـى رسول الله شدة الرمضاء في جباهنا واكفنا، فلم يشكنا. (۱۱) قـال ابن الاثير في معنى الحديث : انهم لما شكوا اليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم ان يسجدوا على طرف ثيابهم . (۱۲)
هذه الماثورات تعرب عن ان السنة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط، حتى ان الـرسـول لـم يـفسح للمسلمين العدول عنه الى الثياب المتصلة او المنفصلة ،و هو (ص ) مع كونه بالمؤمنين رؤوفا رحيما، اوجب عليهم مس جباههم الأرض ، وان آذتهم شدة الحر.
الأمر بالتتريب :
۱ـ عـن خـالـد الـجـهنى قال : راى النبي صهيبا يسجد كانه يتقي التراب ، فقال له :(ترب وجهك يا صهيب . (۱۳) والظاهر ان صهيبا كان يتقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتصل والمنفصل ، ولا اقل بالسجود على الحصر والبواري والاحجار المسطحة الصافية ، وعلى كل تقدير فالحديث شاهد على افضلية السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى ، لما دل من جواز السجود على الحصى في مقابل السجود على الأرض .
۲ـ روت ام سـلمة (ره) قـالـت : راى النبي غلاما لنا يقال له افلح ينفخ اذا سجد، فقال : (يا افلح ترب . (۱۴) وفي رواية يا رباح ترب وجهك . (۱۵)
۳ـ روى ابـو صـالح قال : دخلت على ام سلمة ، فدخل عليها ابن اخ لها، فصلى في بيتها ركعتين ، فلما سـجـد نفخ التراب ، فقالت ام سلمة ،: ابن اخي يسار ـ ونفخ ـ:(ترب وجهك لله ). (۱۶)
الأمر بحسر العمامة عن الجبهة :
۱ـ روي ان النبي (ص ) كان اذا سجد رفع العمامة عن جبهته . (۱۷)
۲ـ روي عـن عـلـي امـيـر الـمؤمنين (ع ) انه قال : (اذا كان احدكم يصلي فليحسر العمامة عن وجهه )، يعني حتى لا يسجد على كور العمامة . (۱۸)
۳ـ روى صـالـح بن حيوان السبائي ان رسول الله راى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتم على جبهته ، فحسر رسول الله عن جبهته . (۱۹)
۴ـ عـن عـياض بن عبد الله القرشي : راى رسول الله رجلا يسجد على كور عمامته ، فاوما بيده : ارفع عمامتك ، واوما الى جبهته . (۲۰)
هـذه الـروايـات تكشف عن ان السجود على الأرض هو التكليف الثابت في الصلاة آنذاك ، ولم تكن هـنـاك اي رخـصـة سـوى تـبريد الحصى ، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما امر النبي بالتتريب وحسر العمامة عن الجبهة .
المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخمر والحصر :
هـذه الاحـاديث والماثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام الـنبي واصحابه بالسجود على الأرض بانواعها، وانهم كانوا لا يعدلون عنه وان صعب الأمر واشتد الـحـر. لكن هناك نصوص تعرف عن ترخيص النبي ـ بايحاء من الله سبحانه اليه ـ السجود على ما انبتت الأرض ، فسهل لهم بذلك امر السجود ورفع عنهم الاصر والمشقة في الحر والبرد وفيما اذا كانت الأرض مبتلة ، واليك تلك النصوص :
۱ـ عـن ابـن عـبـاس : كان رسول الله (ص ) يصلي على الخمرة ، وفي لفظ: وكان النبي يصلي على الخمرة . (۲۱)
۲ـ عن عائشة : كان النبي يصلي على الخمرة . (۲۲)
۳ـ عن ام سلمة : كان رسول الله (ص ) يصلي على الخمرة . (۲۳)
۴ـ عن ميمونة : … ورسول الله (ص ) يصلي على خمرته ، فاذا اصابني طرف ثوبه . (۲۴)
۵ ـ عن ام سليم قالت : … وكان يصلي على الخمرة . (۲۵)
۶ ـ عن عبد الله بن عمر: كان رسول الله يصلي على الخمر. (۲۶)
السجود على الثياب لعذر :
قـد عرفت المرحلتين الماضيتين ، ولو كانت هناك مرحلة ثالثة فانما هي مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها، لعذر وضرورة . ويبدو ان هذا الترخيص جاء متاخرا عن المرحلتين لما عـرفـت ان الـنـبي (ص) لم يجب شكوى الاصحاب من شدة الحر والرمضاء، وراح هو واصحابه يسجدون على الأرض متحملين الحر والاذى ،ولكن الباري عز اسمه رخص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة ، واليك ما ورد في هذا المقام .
۱ـ عـن انـس بـن مالك : كنا اذا صلينا مع النبي (ص ) فلم يستطع احدنا ان يمكن جبهته من الأرض طرح ثوبه ثم سجد عليه .
۲ـ وفي صحيح البخاري : كنا نصلي مع النبي (ص ) فيضع احدنا طرف الثوب من شدة الحر. فاذا لم يستطع احدنا ان يمكن جبهته من الأرض ، بسط ثوبه .
۳ـ وفـي لـفـظ ثـالث : كنا اذا صلينا مع النبي (ص ) فيضع احدنا طرف الثوب من شدة الحر وكان السجود. (۲۷) وهذه الرواية التي نقلها اصحاب الصحاح والمسانيد تكشف الغطاء عن بعض ما روي في ذلك المجال الـظـاهـر فـي جـواز السجود على الثياب في حالة الاختيار ايضا.
وذلك لان رواية انس نص في اخـتصاص الجواز على حالة الضرورة فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات . واليك بعض ما روي في هذا المجال :
۱ـ عبد الله بن محرز عن ابي هريرة : كان رسول الله (ص) يصلي على كور عمامته . (۲۸) ان هـذه الـرواية مع انها معارضة لما مر من نص النبي (ص) عن السجود عليه محمولة على العذر والـضرورة ، وقد صرح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال : قال الشيخ :اما ما روي في ذلك عن النبي (ص ) من السجود على كور العمامة فلا يثبت شي ء من ذلك ، واصح ما روي في ذلك قول الحسن البصري ، حكاية عن اصحاب النبي . وقد روي عن ابن راشد قال : رايت مكحولا يسجد على عمامته ، فقلت : لم تسجد عليها؟ قال :اتقي البرد على اسناني . (۲۹)
۲ـ ما روي عن انس : كنا نصلي مع النبي (ص ) فيسجد احدنا على ثوبه . و الرواية محمولة على صورة العذر، بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنا نصلي مع الـنـبـي (ص ) فـي شـدة الحر، فاذا لم يستطع احدنا ان يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عـلـيـه . (۳۰) ويؤيده ما رواه النسائي : كنا اذا صلينا خلف النبي بالطهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر. (۳۱)
وهـنـاك روايات قاصرة الدلالة ، حيث لا تدل الا على ان النبي (ص ) صلى على الفرو. اما انه سجد عليه فلا دلالة لها عليه .
۳ـ عن المغيرة بن شعبة : كان رسول الله يصلي على الحصير والفرو المدبوغة . (۳۲)
والـرواية ـ مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث ـ ليست ظاهرة في السجود عليه ، ولا ملازمة بين الـصـلاة عـلى الفرو والسجدة عليه ، ولعله (ص ) وضع جبهته على الأرض او ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها، ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين .
حصيلة البحث :
ان الناظر في الروايات يجد انه مر على المسلمين مرحلتان او مراحل ثلاثة . فـفـي الـمـرحـلة الاولى كان الفرض السجود على الأرض ، ولم يرخص للمسلمين السجود على غيرها. وفـي الـثـانـية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض . وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة اخرى الا جـواز الـسـجود على الثياب لعذر وضرورة ، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الـفرو وامثاله مطلقا فمحمولة على الضرورة ، او لا دلالة لها على السجود عليها، بل غايتها الصلاة عليها.
ما هو السر في اتخاذ تربة طاهرة ؟
بـقي هـنـا سؤال يطرحه اخواننا اهل السنة يقولون : ما هو السر في اتخاذ تربة طاهرة في السفر والـحـضـر والسجود عليها دون غيرها ؟ وربما يتخيل البسطاء ان الشيعة الامامية يسجدون لها لا عليها، ويعبدون الحجر والتربة ، ولكنهم لا يفرقون بين السجود على التربة والسجود لها. وعلى اي تـقـديـر فالاجابة عنها واضحة ، فان المستحسن عند الشيعة الامامية هو اتخاذ تربة طاهرة طيبة ليتيقن من طهارتها من اي ارض من ارجاء العالم أخذت ، وهي كلها في ذلك سواء.
ولـيـس هـذا الالتزام الا مثل التزام المصلي بطهارة جسده وملبسه ومصلاه ، واما سر الالتزام في اتـخـاذ التربة هو ان الثقة بطهارة كل ارض يحل بها ويتخذها مسجدا لا تتاتى له في كل موضع من الـمدن والقرى والفنادق والخانات ومحال المسافرين ومحطات وسائل السير والسفر ومهابط فئات الـركـاب ومـنـازل الغرباء، وقد يحل بها اخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لامر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة .
فـاي وازع مـن ان يـحتاط المسلم في دينه ؟ ويتخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها،يسجد عـليها لدى صلاته ، حذرا من السجدة على الرجاسة والنجاسة والاوساخ التي لا يتقرب بها الى الله قـط، ولا تجوز السنة السجود عليها، ولا يقبله العقل السليم ، خصوصا عند ورود التاكيد التام البالغ فـي طـهـارة اعـضـاء المصلي ولباسه ، والأمر بتطهير المساجد وتطييبها، والنهي عن الصلاة في مواطن ، منها : المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الابل . (۳۳)
وهـذه الـقاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وان غفل التاريخ عن نقلها، فقد روي ان التابعي الفقيه مـسـروق بـن الاجدع المتوفى عام ۶۲ هـ كان يصحب في اسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها، كما اخـرجـه بـن ابي شيبة في كتابه المصنف باب من كان عمل في السفينة شيئا يسجد عليه . فاخرج باسنادين ان مسروقا كان اذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها. (۳۴)
الى هنا تبين ان التزام الشيعة الامامية باتخاذ التربة مسجدا ليس الا لتسهيل الأمر للمصلي في سفره وحـضره ، عن ان لا يجد ارضا طاهرة او حصيرا طاهرا فيصعب الأمر عليه ، هذا كادخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمم عليها.
واما الـسـر فـي التزام الشيعة الامامية استحبابا بالسجود على التربة الحسينية فانما هو من جهة الاغـراض الـعـالـيـة والـمقاصد السامية ، منها ان يتذكر المصلي حين يضع جبهته على تلك التربة بتضحية ذلك الامام بنفسه واهل بيته والصفوة من اصحابه في سبيل العقيدة والمبدا، ومقارعة الجور والفساد. ولـمـا كـان الـسـجـود اعـظـم اركـان الـصـلاة ، وفي الحديث (اقرب ما يكون العبد الى ربه حـال سـجـوده )، فـمـناسـب ان يـتـذكـر بـوضـع جـبهته على تلك التربة الزاكية هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ، ولعل هذا هو المقصود من ان السجود عليها يخرق الحجب السبع كمافي الخبر، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب الى رب الارباب . (۳۵)
قـال الـعـلامـة الاميني : نحن نتخذ من تربة كربلاء قطعا لمعا، واقراصا نسجد عليها كما كان فقيه الـسـلـف مسروق بن الاجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنورة يسجد عليها،والرجل تلميذ الـخـلافـة الـراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلم السنة بها، وحاشاه من البدعة .فليس في ذلك اي حزازة وتـعـسف او شي ء يضاد نداء القرآن الكريم ، او يخالف سنة الله وسنة رسوله (ص )، او خروج من حكم العقل والاعتبار. ولـيـس اتـخاذ تربة كربلاء مسجدا لدى الشيعة الامامية من الفرض المحتم ، ولا من واجب الشرع والـديـن ، ولا مما الزمه المذهب ، ولا يفرق اي احد منهم منذ اول يومها بينها وبين غيرها من تراب جـميع الأرض في جواز السجود عليها، خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبرائهم ، وان هو عندهم الا استحسان عقلي ليس الا، واختيار لما هو الاولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سـمـعت ، وكثير من رجال المذهب يتخذون معهم في اسفارهم غير تربة كربلاء مما يصح السجود عليه ، كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته ، او خمرة مثله ، ويسجدون عليه في صلواتهم . (۳۶)
هذا المام اجمالي بهذه المسالة الفقهية والتفصيل موكول الى محلها وقد اغنانا عن ذلك ما سطره اعلام العصر واكابرهم واخص بالذكر منهم :
۱ـ المـصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. (ت ۱۳۷۳) في كتابه الأرض والتربة الحسينية .
۲ـ العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين الاميني مؤلف الغدير (۱۳۲۰ ـ ۱۳۹۰)، فقد دون رسالة في هذا الموضوع طبعت في آخر كتابه سيرتنا وسنتنا.
۳ـ السجود على الأرض للعلامة الشيخ علي الاحمدي ، فقد اجاد في التتبع والتحقيق .فما ذكرنا في هذه المسالة اقتباس من انوار علومهم .
رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الله الباقين منهم .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(۱) الرعد: ۱۵٫
(۲) فصلت : ۳۷٫
(۳) الخلاف ۱: ۳۵۷ ـ ۳۵۹٫ كتاب الصلاة : المسالة ۱۱۲ ـ ۱۱۳٫
(۴) الـوسـائل ۳: الـبـاب (۱) مـن ابـواب مـا يسجد عليه ، الحديث ۱، وهناك روايات قريبة بهذا المضمون . والكل يتضمن ان الغاية من السجود التي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرهما.
(۵) الـخـمـر والـخمرة : هي مقدار ما يضع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من النبات (لسان العرب ).
(۶) صـحـيـح البخاري ۱ : ۹۱٫ كتاب التيمم الحديث ۲٫ وسنن البيهقي ۲: ۴۳۳، باب اينما ادركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من اصحاب الصحاح والسنن .
(۷) احكام القرآن للجصاص ۲: ۳۸۹، نشر بيروت .
(۸) مسند احمد ۳: ۳۲۷ من حديث جابر. وسنن البيهقي ۱: ۴۳۹، باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحر.
(۹) سنن البيهقي ۲: ۱۰۵٫
(۱۰) السنن الكبرى ۲: ۱۰۶٫
(۱۱) سنن البيهقي ۲: ۱۰۵، باب الكشف عن الجبهة .
(۱۲) ابن الاثير ـ النهاية ۲: ۴۹۷، مادة : (شكى ).
(۱۳) المتقي الهندي ـ كنز العمال ۷: ۴۶۵، برقم ۱۹۸۱۰٫
(۱۴) المتقي الهندي ـ كنز العمال ۷: ۴۵۹، برقم ۱۹۷۷۶٫
(۱۵) المصدر السابق ، برقم ۱۹۷۷۷٫
(۱۶) المتقي الهندي ـ كنز العمال ۷: ۴۶۵، برقم ۱۹۸۱۰٫ ومسند احمد ۶: ۳۰۱٫
(۱۷) الطبقات الكبرى ۱: ۱۵۱، كما في السجود على الأرض : ۴۱٫
(۱۸) منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند ۳: ۱۹۴٫
(۱۹) البيهقي ـ السنن الكبرى ۲: ۱۰۵٫
(۲۰) المصدر السابق .
(۲۱) مسند احمد ۱: ۲۶۹، و۳۰۹، و۳۰۳ و۳۵۸٫
(۲۲) مسند احمد ۶ : ۱۷۹، وفيه ايضا قال للجارية وهو في المسجد ناوليني الخمرة .
(۲۳) مسند احمد ۶: ۳۰۲٫
(۲۴) مسند احمد ۶: ۳۳۱، و۳۳۵٫
(۲۵) مسند احمد ۶: ۳۷۷٫
(۲۷) مسند احمد ۲: ۹۲ و۹۸٫
(۲۸) صـحيح البخاري ۱: ۱۰۱٫ وصحيح مسلم ۲: ۱۰۹٫ ومسند احمد ۱: ۱۰۰٫ والسنن الكبرى ۲: ۱۰۶٫ ۲۸ـ كنز العمال ۸: ۱۳۰، برقم ۲۲۲۳۸٫
(۲۹) المصنف لعبد الرزاق ۱: ۴۰۰، كما في سيرتنا وسنتنا، والسجدة على التربة : ۹۲٫
(۳۰) البخاري ۲: ۶۴، كتاب الصلاة ـ باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.
(۳۱) ابن الاثير ـ الجامع للاصول ۵: ۴۶۸، برقم ۳۶۶۰٫
(۳۲) ابو داود ـ السنن : باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم ۳۲۱٫
(۳۳) الاميني ـ سيرتنا وسنتنا: ۱۵۸ ـ ۱۵۹٫
(۳۴) المصنف لابي بكر بن ابي شبة .
(۳۵) محمد حسين كاشف الغطاء ـ الأرض والتربة الحسينية : ۲۴٫
(۳۶) سيرتنا وسنتنا: ۱۶۶ ـ ۱۶۷، طبعة النجف الاشرف .