حياة السفراء الأربعة تجربة إسلامية غنية
تجربة السفارة
في النصف من شعبان من كل عام تمر ذكرى ولادة الإمام المهدي محمد بن الحسن العسكري، وفيها ينصرف الحديث عنه أو عن مفهوم الغيبة الصغرى والكبرى، وما يكتنفها من فلسفة. بيد أن الغائب الأكبر الذي يتكرر كل عام، هو انقطاع الكلام عن السفراء الأربعة حتى على مستوى الإشارة. لذلك رأينا أن نخصص هذا المقال عن هؤلاء البررة الكرام الذين نهضوا في التاريخ الإسلامية بمهمة حرجة أدّوها بدقة مدهشة طوال سبعة عقود إلاّ عاماً واحداً.
السفراء الأربعة هو اصطلاح يطلق على ذوي الوكالة الخاصة عن الإمام المهدي (عليه السلام) وهم: عثمان بن سعيد العمري، وابنه محمد بن عثمان بن سعيد العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السمري.
ترتبط فكرة الوكالة الخاصة عن الإمام المهدي في ذهنيتنا الإسلامية بمنهج الاختفاء التدريجي الذي اعتمده الإمامان العاشر علي الهادي والحادي عشر الحسن العسكري (عليهما السلام) عن قواعدها الشعبية، واعتمادها ذلك المنهج كأسلوب تربوي دام سنوات طويلة، وكان يهدف التمهيد لفكرة الإمام الغائب المهدي محمد بن الحسن العسكري (عليهما السلام).
الوكالة الخاصة (السفارة) للسفراء الأربعة شكلت مرحلة متقدمة في جو الاختفاء الذي سلكه الإمامان العسكريان، فقد بدأت باستشهاد الإمام الحسن العسكري عام (۲۶۰هـ) واضطلاع الإمام المهدي بمهام الإمامة، وانتهت في عام (۳۲۹هـ) سنة وفاة السفير الرابع (آخر السفراء) علي بن محمد السمري.
استغرقت الوكالةَ الخاصة إذاً (۶۹) عاماً من الحياة الإسلامية، كانت كافية لاستنفاد هدفها في تربية القاعدة الإسلامية ـ الإمامية (الشيعية) على حقيقة وجود الإمام الثاني عشر، وممارسته لمهام منصبه الرباني، وإن تم ذلك من خلال سفرائه الأربعة الأغلب.
وهذه المدة نهضت من ناحية ثانية بمهمة تربية الأمة وإعدادها عملياً من خلال جيلين وأكثر، على مفهوم اختفاء الإمام الثاني عشر عن مسرح الحياة الإسلامية العادية، وتعويدهم على هذه الحالة.
ومن زواية ثالثة أفضت تجربة السفراء الأربعة إلى التمهيد لمفهوم الوكالة العلمائية العامة عن الإمام المهدي.
بيد أن المؤسف الذي يبعث على الكثير من الأسى أن مدة الـ (۶۹) عاماً من تجربة السفراء الأربعة، لم تنل على أهميتها سواءاً على صعيد حياتنا الخاصة أو الحياة الإسلامية العامة، ما تستحقه من الاهتمام والدراسة حتى على مستوى الواعين من العلماء والخطباء والمبلغين والمثقفين، فضلاً عن عموم أبناء الأمة.
ولعل ما يحز في النفس أكثر، أن استقراءاً مهما كانت كيفيته وفي أي وسط تم، حول تعداد أسماء السفراء الأربعة بشكل صحيح ومتسلسل، تشير نتائجه في مدلولاتها الأخيرة على جهل مريع بهؤلاء الرجال الأجلاء الافذاذ، قد لا يخلو من بعض الإشكالات التي تمس بعض جوانب الاعتقاد، فضلاً عما تكشفه من خلل فاحش في تربيتنا الإسلامية.
وكجهد متكامل يمزج بنجاح بين الاعتقاد الأصيل والطرح المنطقي العصري يكتنف بيان الدلالات التربوية أو الفلسفة من رواء تجربة السفراء، قد لا نجد أفضل من كتاب “تاريخ الغيبة الصغرى” للسيد محمد الصدر، الذي توفر على بحث ودراسة تجربة هؤلاء الأبرار؛ وربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الكتاب المذكور يمثل طرحاً فريداً مبتكراً ومبدعاً للموضوع.
ولعل المرء لا يضيف جديداً إذا قال إن تجربة السفراء الأربعة بمضمونها السياسي ـ الحركي مظلومة في واقع ثقافتنا وممارستنا الحركية الراهنة. هذه التجربة مظلومة باعتبار أن دلالتها الحركية لا تحتاج إلى تأويل لكثافتها وشدة وضوحها، وهي بمضمونها الحركة المكثّف بمنأى عن كل تحميل.
بيد أنها مع ثرائها الباهض هذا لم تجد من الحركيين الإسلاميين المعاصرين من بذل عناية بها أو كتب ويكتب عنها، كما لم تجد من ربّى أو يربّي عليها!
وتتفاقم ومرارة هذه الإشارة إذا عرفنا أن المكسب الإسلامي المعاصر (الثورة الإسلامية) الذي نعيش ظلاله، يدين بوضوح ومن دون لبس إلى عطاءات قضية المهدي، الأمر الذي يدعو إلى أن تأخذ هذه التجربة موقعها اللائق في الاهتمام الحركي ثقافياً وعملياً.
ثم إن مطلب بناء نظرية حركية تنبت من داخل تربة الأصالة الإسلامية، وتترفد من البناء التاريخي الداخلي للتجارب الحركية الإسلامية في مختلف عصور الحياة الإسلامية، يتنافى وهذا الإهمال لتجربة عمل التسع والستين سنة من حياة السفراء، التي ما زالت لمن يتمعنها غضة طرية تفيض عطاءاً وجوداً في عصر إنجاز الإسلاميين ومحنتهم معاً!
السفير الأول
هو الشيخ عثمان بن سعيد العمري، لم يرد في المصادر التاريخية عام ولادته ولا عام وفاته. له ولدان هما أحمد وحمد، والأخير خلف والده في موقع السفارة بعد وفاته.
كان يشتغل بتجارة السمن ببغداد، وهو وكيل خاص للإمام علي الهادي حتى مدحه بقوله: “هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه فعنّي يؤديه”. وبعد استشهاد الإمام الهادي أصبح “أبو عمرو” وكيلاً خاصاً للإمام الحسن العسكري، وقد زاد من دوره ونشاطه، مسلك الإمام العسكري في الاحتجاب عن قواعده الشعبية.
كان العمري يظهر أمام الناس بمظهر التاجر الاعتيادي، وهو يستفيد من عنوانه التجاري في التغطية على أعماله الضخمة مع الإمام، وأثنى عليه الإمام العسكري في مناسبات مختلفة وأمام الناس، ومن ذلك قوله (عليه السلام): “هذا أبو عمر الثقة الأمين، ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّي إليكم فعنّي يؤدي”. وبعد استشهاد الإمام العسكري نص ولده الإمام المهدي أمام وفد وصل من مدينة قم إلى مدينة سامراء عاصمة الخلافة العباسية ودار سكنى الإمامين العسكريين، على سفارة أبي عمرو عثمان بن سعيد، وبذلك اضطلع بمهمة ربط القواعد الشعبية بالإمام وتبليغ توجيهاته وتعاليمه إليهم، وإيصال أسئلتهم ومشاكلهم وأموالهم إليه، وتنفيذ أوامر الإمام وتوجيهاته فيهم. وقد استمر في موقعه حوالي خمس سنوات إلى أن وافاه الأجل حيث دُفِنَ ببغداد.
السفير الثاني
هو الشيخ محمد بن عثمان بن سعيد العمري، ابن السفير الأول. نصّ الإمام المهدي على سفارته بواسطة كتاب خرج من الإمام على يد أبيه السفير الأول.
أثنى عليه الإمام المهدي، وقال في حقه: “لم يزل ثقتنا في حياة الأب ـ رضي الله عنه وأرضاه وأنضر وجهه ـ يجري عندنا مجراه ويسد مسدّه، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل”.
تولى السفارة لمدة أربعين سنة إلى أن توفي عام (۳۰۴هـ) أو (۳۰۵هـ). ولطول مدة سفارته كان أوسع السفراء تأثيراً في وسطه الاجتماعي وأكثرهم توفيقاً في تلقي تعاليم الإمام المهدي.
له كتب مصنّفة من الفقه وصلت بعد وفاته ودفنه في بغداد، ليد السفير الثالث.
السفير الثالث
هو الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي. بدأ سفارته بعد وفاة السفير الثاني وبنصه، عن الإمام. اشتهر بإخلاصه وإيمانه ووثاقته، عمل وكيلاً لدى السفير الثاني، الذي عمد في السنوات الأخيرة من سفارته إلى تكثيف المهمات عليه بأمر من الإمام المهدي، فيما يشبه إعداده للسفارة وتهيئته لها.
امتاز بثقافة إسلامية عالية وبانفتاح شديد على مختلف المذاهب والاتجاهات السياسية في عصره، الأمر الذي قاد إلى تكيّفه مع المناخ العام وحفاظه بالتالي على سرية مهمته كوكيل خاص للإمام المهدي.
استمرت سفارته واحداً وعشرين عاماً انتهت بوفاته سنة ۳۲۶هـ، حيث دُفن ببغداد.
السفير الرابع
هو الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري. أصبح سفيراً للإمام المهدي بعد وفاة السفير الثالث، واستمرت سفارته حوالي ثلاثة أعوام إلى حين وفاته في النصف من شعبان عام (۳۲۹هـ)، وبذلك تكون سفارته أقصر السفارات.
لقد اشتد في عصره في ضغط السلطة السياسية على الخط الموالي لأهل البيت (عليهم السلام). وكنتيجة لذلك لم يكتسب السفير الرابع عمقاً عريضاً في الأوساط الشعبية، من دون أن يؤثر في ذلك على موقعه في السفارة أو وثاقته والاعتقاد به.
كان آخر توقيع أخرجه عن الإمام المهدي، يؤكد انتهاء السفارة الخاصة، وبالتالي انتهاء آخر طريق للارتباط المباشر بين الإمام المهدي والناس. وبوفاته انتهت الغيبة الصغرى لتبدأ الغيبة الكبرى التي ما زالت مستمرة حتى يأذن الله بأمر منه.
يتضح مما سبق أن مدة الغيبة الصغرى التي استوعبت تجربة السفراء الأربعة استمرت تسعة وستين عاماً وستة أشهر وخمسة عشر يوماً، عاصر فيها السفراء الأربعة من خلفاء بني العباس المعتمد والمعتضد والمكتفي والمقتدر والراضي وأخيراً المتقي.
الخصائص العامة للسفارة
في الخصائص العامة لتجربة السفراء الأربعة والمضمون الاجتماعي لعملهم، يلاحظ ما يلي:
أولاً: ينبغي أن يلاحظ في أن كل حديث عن نشاط السفراء وعملهم، إنما هو انعكاس لنشاط الإمام المهدي وأعمال لدوره الرباني في الأمة. فالسفير إذن مجرد واسطة بين الإمام وقواعده الشعبية اقتضت وجوده ضرورات الأمن والحفاظ على حياة الإمام.
ثانياً: صرفت السفارة عن العلويين صرفاً تاماً مع أن فيهم آنذاك من يعلو شأنه في العلم والفقه والعبادة. والسبب في ذلك يعود إلى نظر السلطات الحاكمة إليهم يومئذ، هذه النظرة التي يملؤها الشك لأي دور أو نشاط لهم، فضلاً عن مهمة السفارة للإمام المهدي.
وهكذا تملي مقتضيات الحفاظ على دور السفير، ودور الإمام بالتالي، اختيارات تأتي بعيدة عن مواقع الشك التقليدي للسلطة.
ثالثاً: يلاحظ أن جميع السفراء مارسوا أعمالهم في بغداد، ولم يرد قيامهم بأي عمل اجتماعي خارجها، بالرغم من أن ذلك لا يعني بحال اقتصار مهمتهم على هذه المدينة، بل كان لهم شبكة واسعة من الوكلاء في أقاليم العالم الإسلامي الأخرى.
رابعاً: لم يذكر التاريخ أن السفراء قاموا بأعمال اجتماعية واسعة، مما يكشف عن طابع الحذر والتكتم اللذين كانوا يلتزمون بهما. في مقابل ذلك يؤكد التاريخ على انفتاح هؤلاء على الحياة السياسية المذهبية لعصورهم، ويؤكد أيضاً على صفتهم التجارية وبروزهم في مهنهم بشكل عام.
والذي يلاحظ بهذا الشأن أن الهدف الأساس للسفراء، لم يكن بحال القيام بأعمال عامة، بل إنجاز واجبات السفارة التي تتمثل في مهمتين؛ تتطلب الأولى تهيئة الأذهان للغيبة الكبرى وتعويد الناس تدريجياً على احتجاب الإمام، وعدم مفاجأتهم بغيبته، مما قد يستدعي إنكاراً لوجوده عليه السلام. أما المهمة الثانية فتقتضي القيام بما ينسجم مع رأي الإمام وتوجيهاته.
خامساً: يتم اتصال السفير بالناسب وفق نظام هرمي يحتل السفير قمته، وعشرات الوكلاء أو أكثر وسطه، بينما تشغل القواعد العبية الموالية قاعدته. وهذا النظام بقدر ما ينطبق على مركز تواجد الإمام المهدي في بغداد وسامراء، ينطبق أيضاً على الأطراف البعيدة في المملكة الإسلامية.
والملاحظة أن الاتصال كان يتم بالوضع الطبيعي العادي من خلال الظهور الاعتيادي بين الناس، والتعامل على أساس مقتضيات المهنة زيادة في الحيطة والحذر.
وهناك معلومات تفصيلية غنية عن أعمال السفراء ونشاطاتهم، جاء عليها السيد محمد الصدر في كتابه “تاريخ الغيبة الصغرى” الذي اعتمدنا عليه في هذه النقطة، وفي إعداد المقال بشكل عام، يمكن مراجعتها، بل لا غنى عن مراجعتها والاستفادة منها.