محاورات الإمام زين العابدين (ع) مع يزيد بن معاوية
بعد دخول السبايا من أهل البيت (ع) إلى مجلس يزيد بن معاوية، حصلت محاورات بينه وبين الإمام زين العابدين (ع)، مما جعل يزيد يهم بقتل الإمام (ع)، واستشار بعض الحاضرين بقتله (ع)، فأشاروا عليه بقتله (ع)، ثم أن الإمام (ع) جابه الرجل الشامي الذي اعتبر أن السبايا من أهل البيت (ع) حلال لهم بالرفض وخروجهم من الدين.
الإمام زين العابدين (ع) يواجه مشاكل عديدة
لقد بلغت الحرب النفسيّة الذروة بعد وقعة الطف الأليمة، ولم تكن بأقل من الحرب في ظلّ السيوف، فيزيد يريد أن يظهر بمظهر الغالب الظافر في جميع المجالات، وأن يرى انتهاء الأمر بتمامه، لكي يتم بذلك كلّ شيءٍ له! وهو يعلم أنه لا يصل إليه إلا بظفره في هذه الحرب النفسيّة، فثم يتم ترجيح إحدى كفتي المعادلة.
وفي جبهة الحق نرى أنها تسير على مسير قائدها، وتتحرك نحو تحقق أهدافها، وللإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) القدح المعلى في ذلك، لأنه هو الحجّة على الأرض بعد أبيه، ولذلك نرى أن زينب الكبرى (س) تقف خلفه في جميع المواقف، ومنها ما روي أنه قال يزيد لزينب: تكلميني؟! فقالت: هو ـ أي الإمام زين العابدين ـ المتكلم[1]، نعم ولعمّته زينب الكبرى سلام الله عليها الدور الأوفى بعده كما نذكره إن شاء الله.
كان الإمام زين العابدين (ع) يواجه مشاكل عديدة ينبغي له أن يتغلب عليها:
1ـ طاغوتاً يسمّى بيزيد متستّر بستار الخلافة الإسلامية، لابد أن يفتضح على رؤوس الأشهاد، ويكشف الغطاء عن واقعه الرذل، ليكسر أمام محبّيه ومواليه.
2ـ حكماً دموياً تحت غطاء ديني، فيزيد يستند إلى بعض الآيات القرآنية! ولابد للإمام زين العابدين (ع) أن يواجه ذلك، ويتمسك بالقرآن في الإجابة، أو يفسره بواقعه.
3ـ إعلاماً مضلّلاً وبيئة مسمومة، فلقد عرّفوا الحسين بأنه رجل خارجي! فعلى الإمام زين العابدين (ع) أن يواجه ذلك بكل صلابة ويعرف أباه ونفسه وأهل بيته بأنهم أولاد رسول الله (ص)، حيث يتكرر ذلك في مواطن عديدة.
إن كل ذلك يحتاج إلى اتخاذ مواقف بطولية وشجاعة علوية وصمود فاطمي، وقد تمثلت في الإمام زين العابدين وزينب الكبرى سلام الله عليهما.
وحينها سوف ترى من هو الغالب؟!
قال ابن سعد: «ثمّ أُتي يزيد بن معاوية بثقل الحسين ومن بقي من أهله، فأدخلوا عليه قد قُرنوا في الحبال، فوقفوا بين يديه، فقال له علي بن الحسين: أنشدك بالله يا يزيد، ما ظنك برسول الله (ص) لو رأنا مقرنين في الحبال، أما كان يرق لنا؟! فأمر يزيد بالحبال فقطعت، وعُرف الانكسار فيه!»[2].
وهكذا تمكن الإمام زين العابدين (ع) في أول موقف وقفه أمام هذا الطاغي أن يجرده من السلاح، فهو لم يكسره نفسياً فحسب، بل جعل الانكسار يبين ويُعرف فيه، كما صرّح بذلك ابن سعد، وسبط ابن الجوزي ـ في المرآة ـ.
قال سبط ابن الجوزي: «وكان علي بن الحسين والنساء موثقين في الحبال، فناداه علي (ع): يا يزيد، ما ظنك برسول الله لو رآنا موثقين في الحبال عرايا على أقتاب الجمال، فلم يبق في القوم إلا من بكى»[3].
وهذه الرواية تصرّح بتغيير وضع المجلس بهذه الكلمة.
قال ابن نما: «فقال علي بن الحسين: وأنا مغلول فقلت: أتأذن لي في الكلام؟
فقال: قل ولا تقل هجراً!
قلت: لقد وقفت موقفاً لا ينبغي لمثلي أن يقول الهجر، ما ظنك برسول الله لو رآني في الغل؟
فقال لمن حوله: حلوه»[4].
قال ابن أعثم: «ثمّ أُتي بهم – الأسرى من آل البيت ـ حتى أُدخلوا على يزيد، وعنده يومئذ وجوه أهل الشام، فلما نظر إلى علي بن الحسين (ع) قال: من أنت يا غلام؟!
فقال: أنا علي بن الحسين.
فقال: يا علي، إن أباك الحسين قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت.
فقال علي بن الحسين: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[5].
فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه يا بني، فلم يدر خالد ماذا يقول، فقال يزيد قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ )[6]»[7].
يستفاد من هذه الرواية استشهاد يزيد بالآية الشريفة، دون أن يرده الإمام زين العابدين (ع)، وفيه تأمل واضح، فكيف يستند الطاغي إلى آية شريفة في المقام ـ وهو يريد المغالطة في البين ـ والإمام زين العابدين (ع) قادر على الجواب ولا يفعل!
فلذلك نرى حصول خلل في النقل.
فبعضهم لم يذكر شيئاً عن إجابة يزيد لكلام الإمام زين العابدين (ع)، مثل ما أورده ابن الجوزي في المنتظم[8]، ولا بأس به.
ولنعم ما ذكره أبو الفرج الإصفهاني في المقام، قال: «ثم دعا يزيد – لعنه الله – بعلي بن الحسين، فقال: ما اسمك ؟ فقال: علي بن الحسين، قال: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟! قال: قد كان لي أخ أكبر مني يسمّى علياً فقتلتموه!
قال: بل الله قتله، قال علي: (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)[9]، قال له يزيد: (مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[10]، فقال علي: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَ أَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[11].
فوثب رجل من أهل الشام فقال: دعني أقتله، فألقت زينب نفسها عليه»[12].
فتحصل أنه بناءً على ما ذكره أبو الفرج ينتهي الكلام بما استند به الإمام زين العابدين (ع)، وهو المطلوب المختار.
والدليل عليه ما رواه علي بن إبراهيم القمّي عن الإمام جعفر الصادق (ع)، قال: قال الصادق (ع):
«لما أُدخل رأس الحسين بن علي على يزيد لعنه الله وأدخل عليه علي بن الحسين وبنات أمير المؤمنين، وكان علي بن الحسين مقيداً مغلولاً، فقال يزيد: يا علي بن الحسين، الحمد لله الذي قتل أباك.
فقال علي بن الحسين: لعن الله من قتل أبي.
فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه.
فقال علي بن الحسين: فإذا قتلتني فبنات رسول الله (ص) من يردهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟
فقال: أنت تردّهم إلى منازلهم!
ثم دعا بمبرد فأقبل يبرد الجامعة من عنقه بيده.
ثم قال له: يا علي بن الحسين، أتدري ما الذي أريد بذلك؟
قال: بلى تريد أن لا يكون لأحد عليَّ منة غيرك.
فقال يزيد: هذا والله ما أردت أفعله.
ثم قال يزيد: يا علي بن الحسين (مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[13].
فقال علي بن الحسين (ع)، كلا ما هذه فينا نزلت، إنما نزلت فينا: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ… وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ…)[14].
فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا، ولا نفرح بما آتانا منها»[15].
نعم، ذكر ابن الصباغ المالكي بعد ذكر استشهاد يزيد بآية: (مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) كلاماً للإمام علي بن الحسين لا يكون بمنزلة تفسير هذه الآية قال: فقال علي: هذا في حق من ظلم، لا في مَنْ ظُلم[16]، فالإمام يهدم أصل استناد يزيد من الأساس، ويبين عدم فقهه بمعنى الآية الشريفة.
قالوا: «ثم دعا بالنساء والصبيان، فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة فقال: قبح الله ابن مرجانة، لو كانت بينكم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم هكذا»[17].
وهذا أيضاً موضع آخر لتبيّن الانكسار في وجه يزيد، والتجائه للتفوه بهذه الكلمات الواهية، وهو يريد أن يتخلّى عن المسؤولية ويرميها على عاتق فاسق مثله هو ابن زیاد.
ملاحظات
ذكر بعض وقوع المكالمة بين يزيد بن معاوية والإمام زين العابدين (ع) والاستناد بتلك الآيات الشريفة في هذه المواقف:
1ـ قال ابن قتيبة: «وذكروا أن أبا معشر قال: حدثني محمد بن الحسين بن علي قال:
دخلنا على يزيد ونحن اثنا عشر غلاماً مغلّلين في الحديد، وعلينا قمص، فقال يزيد: أخلصتم أنفسكم بعبيد أهل العراق؟ وما علمت بخروج أبي عبد الله حين خرج ولا بقتله حين قتل، فقال علي بن الحسين: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[18].
فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته وقال: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[19]، يا أهل الشام ما ترون في هؤلاء؟
فقال رجل من أهل الشام: لا تتخذن من كلب سوء جرواً…»[20].
فبناء على ما ذكره ابن قتيبة لم يفسح المجال للإمام زين العابدين (ع) حتى يقوم بالجواب.
2ـ ذكر ابن عبد ربه عن علي بن عبد العزيز عن محمد بن الضحاك بن عثمان الخرامي عن أبيه قال: «فقتله (أي الإمام الحسين (ع)) عبيد الله وبعث برأسه وثقله إلى يزيد، فلمّا وُضع الرأس بين يديه تمثل بقول حصين بن الحمام المري:
يفلقن هاماً من رجال أعزة ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال له علي بن الحسين – وكان في السبي ـ: كتاب الله أولى بك من الشعر، يقول الله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[21].
فغضب يزيد وجعل يعبث بلحيته، ثمّ قال: غير هذا من كتاب الله أولى بك وبأبيك ، قال الله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[22]، ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟…»[23].
فبناء على هذا الخبر – أيضاً – لم يفسح يزيد المجال الإجابة للإمام زين العابدين (ع).
أورد الحافظ الطبراني بإسناده عن الليث قال: «أبي الحسين بن علي رضي الله عنهما أن يُستأسر، فقاتلوه فقتلوه وقتلوا بنيه وأصحابه الذين قاتلوا معه بمكان يقال له الطف، وانطلق بعلي بن حسين وفاطمة بنت حسين وسكينة بنت حسين إلى عبيد الله بن زياد وعلي يومئذ غلام قد بلغ، فبعث بهم إلى يزيد بن معاوية، فأمر بسكينة فجعلها خلف سريره لئلا ترى رأس أبيها وذو قرابتها وعلي بن الحسين رضي الله عنهما في غلّ فوضع رأسه فضرب على ثنيتي الحسين (ع) فقال:
نفلق هاماً من رجال أحبة ** إلينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال علي بن الحسين (ع):
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[24].
فثقل على يزيد أن يتمثل ببيت شعر وتلا علي آية من كتاب الله عزوجل، فقال يزيد: بل (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[25].
فقال علي: أما والله لو رآنا رسول الله مغلولين لأحب أن يخلينا من الغل.
قال: صدقت، فخلوهم من الغل.
قال: ولو وقفنا بين يدي رسول الله (ص) لأحبّ أن يقربنا.
قال: صدقت، فقرّبوهم.
فجعلت فاطمة وسكينة يتطاولان لتريان رأس أبيهما، وجعل يزيد يتطاول في مجلسه ليستر عنهما رأس أبيهما…»[26].
التأمل الذي ذكرناه يجري في هذا النقل، وعلى فرض صحته فالكلام الواقع بين الإمام زين العابدين (ع) ويزيد محمول على إرادة الإمام تجريد يزيد من سلاحه وذلك بتعريف نفسه وأهل بيته بأنهم أولاد رسول الله (ص)، وأن ما يجري باسم الخلافة الإسلامية هو على خلاف سنة رسول الله (ص)، وقد نجح الإمام زين العابدين (ع) في ذلك.
قال ابن أعثم والخوارزمي ـ واللفظ للأول ـ: «فتقدم علي بن الحسين حتى وقف بين يدي يزيد بن معاوية، وجعل يقول:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
فالله يعلم أنا لا نحبّكم ** ولانلومكم إن لم تحبونا
فقال يزيد: صدقت يا غلام، ولكن أراد أبوك وجدك أن يكونا أميرين، فالحمد الله الذي أذلهما وسفك دماءهما!
فقال له علي بن الحسين: یابن معاوية وهند وصخر، لم يزل آبائي وأجدادي فيهم الإمرة من قبل أن تلد [تولد]، ولقد كان جدي علي بن أبي طالب يوم بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول الله (ص) وأبوك وجدك فى أيديهما رايات الكفر.
ثم جعل علي بن الحسين (ع) يقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم ** ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد منقلبي ** منهم أسارى ومنهم ضُرّجوا بدم
أكان هذا جزائي أن نصحتكم ** أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
ثم قال علي بن الحسين (ع):
ويلك يا يزيد، إنّك لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي إذاً لهربت في الجبال وفرشت الرمال ودعوت بالويل والثبور أن يكون رأس الحسين بن فاطمة وعلي منصوباً على باب المدينة وهو وديعة رسول الله فيكم، فأبشر بالخزي والندامة غداً، إذا جمع الناس ليوم لا ريب فيه»[27].
وفيه نقاط للبحث والتأمل
1ـ صلابة موقف الإمام زين العابدين (ع) وصموده في المقام.
2ـ جعل الإمام زين العابدين (ع) مسؤولية قتل الإمام الحسين (ع) ـ وما جرى في وقعة الطف وبعده ـ على عاتق يزيد وتنبيهه لعمق الفاجعة الكبرى، ووعيده بنار جهنم.
3ـ تبيين موضع جبهة يزيد بأنّه وأباه وجده كانوا على خط الباطل، وفي قباله هو وأبوه وجده على نهج الحق، وأنّ النهضة الحسينية هي استمرار لتلك المواجهة والمقابلة.
4ـ وفي هذا الخبر أيضاً ما يفضح يزيد نفسه، فقد رأينا أنه يحاول أحياناً أن يتخلّى عن مسؤولية قتل الإمام الحسين (ع) ويدعي كذباً وزوراً بعدم علمه بقتل الحسين وعدم رضاه بذلك ، بينما نراه – في هذا الخبر ـ يفصح عما في ضميره ويصرح بفرحه وسروره بقتل سيّد الشهداء ويحمد الله على ذلك!
يزيد بن معاوية يهم بقتل الإمام زين العابدين (ع)
قال الفقيه المحدّث قطب الدين الراوندي: «وروي أنه لما حمل علي بن الحسين إلى يزيد عليه اللعنة هم بضرب عنقه، فوقفه بين يديه وهو يكلمه ليستنطقه بكلمة يوجب بها قتله، وعلي لا يجيبه حسب ما يكلمه وفي يده سبحة صغيرة يديرها بأصابعه، وهو يتكلّم، فقال له يزيد عليه ما يستحقه: أنا أكلمك وأنت تجيبني وتدير أصابعك بسبحة في يدك، فكيف يجوز ذلك؟
فقال: حدثني أبي عن جدي (ص):
أنه كان إذا صلّى الغداة وانفتل لا يتكلم حتى يأخذ سبحة بين يديه، فيقول: اللهم إنّي أصبحت أسبحك وأحمدك وأهلك وأكبرك وأمجدك بعدد ما أدير به سبحتي، ويأخذ السبحة في يده ويديرها وهو يتكلم بما يريد من غير أن يتكلم بالتسبيح، وذكر أنّ ذلك محتسب له وهو حرز إلى أن يأوي إلى فراشه، فإذا أوى إلى فراشه قال مثل ذلك القول ووضع سبحته تحت رأسه فهي محسوبة له من الوقت إلى الوقت ، ففعلت هذا اقتداءً بجدي (ص).
فقال له يزيد عليه اللعنة مرة أخرى: لست أكلم أحداً منكم إلا ويجيبني بما يفوز به.
وعفا عنه ووصله وأمر بإطلاقه»[28].
إشارة بعض الحاضرين بقتل الإمام زين العابدين (ع)
قال المسعودي: «فلما استشهد (أي الإمام الحسين (ع)) حمل علي بن الحسين مع الحرم، وأدخل على اللعين يزيد ، وكان لابنه أبي جعفر سنتان وشهور، فأُدخل معه، فلما رآه قال له: كيف رأيت يا علي بن الحسين؟!
قال: رأيت ما قضاه الله عزّوجلّ قبل أن يخلق السماوات والأرض.
فشاور یزید جلساءه في أمره، فأشاروا بقتله وقالوا له: لا تتخذ من كلب سوء جرواً.
فابتدر أبو محمد الكلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال ليزيد لعنه الله:
لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه، حيث شاورهم في موسى وهارون، فإنّهم قالوا له: ارجه وأخاه، وقد أشار هؤلاء عليك لقتلنا، ولهذا سبب.
فقال يزيد وما السبب؟ فقال (ع): إن أولئك كانوا الرشدة، وهؤلاء لغير رشدك، ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلا أولاد الأدعياء.
فأمسك يزيد مطرقاً، ثم أمر بإخراجهم على ما قص وروي»[29].
وحيث كان هذا الكلام يحتوي على أحسن برهان وأتقن دليل، لم يجد يزيد أي ملجأ يهرب إليه.
مجابهة الإمام زين العابدين (ع) مع الرجل الشامي
قال ابن سعد: «فقام رجل من أهل الشام فقال: إن سباءهم لنا حلال! فقال علي بن حسين: كذبت ولؤمت، ما ذاك لك إلا أن تخرج من ملّتنا وتأتي بغير ديننا. فأطرق يزيد ملياً، ثم قال للشامي: اجلس»[30].
وروى القاضي نعمان عن علي بن الحسين قال: «ووجه بي إلى يزيد لعنه الله مع سائر حرم الحسين وحرم من أصيب معه، فلما صرنا بين يدي يزيد اللعين قام رجل من أهل الشام فقال: يا أمير المؤمنين، نساؤهم لنا حلال، فقال علي بن الحسين: كذبت إلا أن تخرج من ملة الإسلام، فتستحل ذلك بغير دين.
فأطرق يزيد ملياً، وأمر بالنسوة، فأدخلن إلى نسائه…»[31].
الاستنتاج
أن الإمام زين العابدين (ع) بعد دخوله مع السبايا إلى مجلس يزيد بن معاوية واجه مشاكل عديدة ينبغي له أن يتغلب عليها، لذلك حصلت له محاورات مع يزيد، مما أدت أن يهم يزيد بقتل الإمام (ع)، واستشار بعض الحاضرين بقتله (ع)، فأشاروا عليه بقتله، ولكن الله تعالى أبعد عنه (ع) شرهم ونجّاه من القتل.
الهوامش
[1] ابن شهرآشوب، المناقب، ج4، ص173.
[2] ترجمة الإمام الحسين (ع) ومقتله، من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، ص83.
[3] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص262.
[4] ابن نما الحلّي، مثير الأحزان، ص99.
[5] الحديد، 22.
[6] الشورى، 30.
[7] ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج2، ص184.
[8] ابن الجوزي، المنتظم، ج5، ص343.
[9] الزمر، 42.
[10] الشورى، 30.
[11] الحديد، 22ـ 23.
[12] الإصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص120.
[13] الشورى، 30.
[14] الحديد، 22ـ 23.
[15] القمّي، تفسير القمي، ج2، ص352.
[16] ابن الصبّاغ، الفصول المهمة، ص195.
[17] أنظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص352.
[18] الحديد، 22ـ 23.
[19] الشورى، 30.
[20] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج2، ص8.
[21] الحديد، 22ـ 23.
[22] الشورى، 30.
[23] ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ج5، ص131.
[24] الحديد، 22.
[25] الشورى، 30.
[26] الطبراني، المعجم الكبير، ج3، ص109، ح2806.
[27] اُنظر: الخوارزمي، مقتل الحسين (ع)، ج2، ص62.
[28] الراوندي، الدعوات، ص61، ح152.
[29] المسعودي، إثبات الوصية، ص145.
[30] ترجمة الإمام الحسين (ع) ومقتله، من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، ص83.
[31] القاضي المغربي، شرح الأخبار، ج3، ص158، ح1089.
مصادر البحث
1ـ ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الأُولى، 1411 ه.
2ـ ابن الجوزي، عبد الرحمن، المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك، تحقيق محمّد عبد القادر عطا، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
3ـ ابن الجوزي، يوسف، تذكرة الخواص، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1418 ه.
4ـ ابن الصبّاغ، محمّد، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، قم، مؤسّسة دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1422 ه.
5ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه.
6ـ ابن عبد ربّه، أحمد، العقد الفريد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
7ـ ابن قتيبة، عبد الله، الإمامة والسياسة، تحقيق طه محمّد الزيني، بيروت، دار المعرفة، بلا تاريخ.
8ـ ابن نما الحلّي، محمّد، مثير الأحزان، النجف، منشورات المطبعة الحيدرية، طبعة 1369 ه.
9ـ الإصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، قم، مؤسّسة دار الكتاب، الطبعة الثانية، 1385 ه.
10ـ ترجمة الإمام الحسين (ع) ومقتله، من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، تحقيق عبد العزيز الطباطبائي، بيروت، مؤسّسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، طبعة 1416 ه.
11ـ الخوارزمي، الموفّق، مقتل الحسين (ع)، تحقيق محمّد السماوي، قم، أنوار الهدى، الطبعة الثانية، 1423 ه.
12ـ الراوندي، سعيد، الدعوات، قم، مدرسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأُولى، 1366 ش.
13ـ الطبراني، سليمان، المعجم الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، طبعة 1405 ه.
14ـ الطبري، محمّد، تاريخ الأُمم والملوك، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الرابعة، 1403 ه.
15ـ القاضي المغربي، النعمان، شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأطهار (ع)، تحقيق محمّد الجلالي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1414 ه.
16ـ القمّي، علي، تفسير القمّي، قم، مؤسّسة دار الكتاب، الطبعة الثالثة، 1404 ه.
17ـ المسعودي، علي، اثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب، قم، انتشارات انصاريان، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
مصدر المقالة
الشاوي، علي، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، قم، مركز الدراسات الإسلامية، طبعة 1421 ه.
مع تصرف بسيط.