شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

دور سبايا أهل البيت عليهم السلام في بلاد الشام

0 المشاركات 00.0 / 5

من الفجائع الكبرى أن أهل البيت (ع) يؤخذون سبايا من الكوفة إلى الشام على محامل بغير وطاء، وهم موثوقين بالحبال، والنساء مكشفات الوجوه، ورأس الحسين (ع) على الرمح، وأن يزيد أمر بإيقاف الأسارى بدرجة المسجد؛ لينظر الناس إليهم، ولما دخلوا عليه استبشر بقتل الحسين (ع)، وجعل ينكت رأسه بالخيزران.

 

أصبح أهل بيت رسول الله (ص) أُسارى

هذه هي الفاجعة الكبرى، والمأساة العظمى، جاءوا إلى الشام وعلى رأسهم زين العابدين علي بن الحسين (ع)، وقد جعل الغل في عنقه ويده[1]، يحمله بعير يطلع بغير وطاء، والأسارى من أهل بيت الرسول من النساء والصبيان راكبين أقتاباً يابسة ورأس الحسين (ع) على علم، وحولهم الجنود بالرماح إن دمعت عين أحدهم قرع رأسه بالرمح، ساقوا بهم من منزل إلى منزل كما تساق أسارى الترك والديلم.

نعم إنهم جاءوا إلى الشام مشدودين على أقتاب الجمال موثوقين بالحبال، والنساء مكشفات الوجوه… إنا لله وإنا إليه راجعون.

جاء في رسالة ابن عبّاس ليزيد: «ألا ومن أعجب الأعاجيب ـ وما عشت أراك الدهر العجيب – حملك بنات عبد المطّلب وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب تُري الناس أنك قهرتنا وأنك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً لجرح يدي…»[2].

وقال أبن حبان: «ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله (ص) على أقتاب مكشفات الوجوه والشعور»[3].

وقال ابن أعثم والخوارزمي: «فسار القوم بحرم رسول الله (ص) من الكوفة إلى بلاد الشام على محامل بغير وطاء من بلد إلى بلد، ومن منزل إلى منزل كما تساق أسارى الترك والديلم»[4].

 

كيف ورد أهل بيت الحسين (ع) دمشق

لقد دخل أهل بيت رسول الله (ص) دمشق نهاراً وأهلها قد علقوا الستور والحجب والديباج، فرحين مستبشرين، ونساؤهم يلعبن بالدفوف، ويضربن على الطبول، كأنه العيد الأكبر عندهم.

روى الخوارزمي بإسناده عن زيد عن أبيه قال: «إن سهل بن سعد قال: خرجت إلى بيت المقدس حتى توسّطت الشام فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار كثيرة الأشجار قد علقوا الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي لعل لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن، فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا هؤلاء ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟

قالوا: يا شيخ نراك غريباً! فقلت: أنا سهل بن سعد قد رأيت رسول الله وحملت حديثه، فقالوا: يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها. قلت: ولم ذاك؟ فقالوا: هذا رأس الحسين وعترة رسول الله (ص) يهدى من أرض العراق إلى الشام وسيأتي الآن.

قلت: واعجباه! يهدى رأس الحسين والناس يفرحون؟! فمن أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات، فسرت نحو الباب، فبينما أنا هنالك إذ جاءت الرايات يتلو بعضها بعضاً وإذا أنا بفارس بيده رمح منزوع السنان وعليه رأس من أشبه الناس وجهاً برسول الله (ص)، وإذا النسوة من ورائه على جمال بغير وطاء، فدنوت من إحداهن فقلت لها: يا جارية، من أنت؟

فقالت: أنا سكينة بنت الحسين. فقلت لها: ألكِ حاجة إلي ـ فأنا سهل بن سعد، ممّن رأى جدّك وسمعت حديثه؟ قالت: يا سهل، قل لصاحب الرأس أن يتقدّم بالرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله.

قال: فدنوت من صاحب الرأس وقلت له: هل لك أن تقضي حاجتي وتأخذ مني أربعمائة دينار؟ قال: وما هي؟ قلت: تقدّم الرأس أمام الحرم، ففعل ذلك، ودفعت له ما وعدته».[5]

 

إن هذه الرواية تكشف عن عدة نقاط

1ـ الوضع العام المتمثل بحالة الفرح والانبساط والاشتغال باللهو، وهي ناشئة عن الجهل السائد.

2ـ الوضع الخاص، وهو وجود ضمائر حية تعرف الأمور، وتميّز الحق من الباطل، ممّن رأى سهل بن سعد بعضهم مصادفة، وسمع منهم هذا الكلام (يا سهل ما أعجبك السماء لا تمطر دماً والأرض لا تخسف بأهلها، هذا رأس الحسين وعترة رسول الله (ص) يهدى من أرض العراق إلى الشام)، وأغلب الظن أنهم قاموا بدور مهم في إيقاظ الناس، بعدما فُسح لهم المجال، إلى جانب الدور المهم الذي أداه أهل بيت الحسين (ع) في الشام، وإن لم نعلم تفاصيل ذلك.

3ـ اهتمام حرم الحسين (ع) بمسألة الحجاب وحفظ مكانة المرأة في الإسلام، مع كونهم في مأساة كبيرة لا تتصوّرها العقول، فلقد قدموا من سفر بعيد، ونالت منهم جراحات اللسان والسنان ما نالت ومع ذلك تقول سكينة: «قل لصاحب الرأس أن يتقدّم بالرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه فلا ينظرون إلينا، فنحن حرم رسول الله».

ونحو ذلك ما رواه السيد ابن طاووس وابن نما، قال – واللفظ للأول ـ: «قال الراوي: وسار القوم برأس الحسين (ع) ونسائه والأسرى من رجاله فلما قربوا من دمشق دنت أُمّ كلثوم من الشمر ـ وكانت من جملتهم ـ فقالت: لي إليك حاجة، فقال: وما حاجتك؟

قالت: إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنها، فقد خزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال، فأمر في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل ـ بغياً منه وكفراً ـ وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة، حتى أتى بهم إلى باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي»[6].

وروي أن السبايا لما وردوا مدينة دمشق أُدخلوا من باب يقال له باب «توما»[7].

وروى محمد بن أبي طالب قال: «إن رؤوس أصحاب الحسين وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً واقتسمتها القبائل ليتقربوا بذلك إلى عبيد الله وإلى یزید»[8].

 

رأس الحسين (ع) يتلو القرآن في الشام

كيف ينطق الرأس الشريف؟ وما الذي نطق به؟ لقد نطق بالقرآن لكي يثبت للجميع أنه شهيد القرآن، وإذا كان هو القرآن الناطق في حياته، فكيف لا ينطق به بعد استشهاده؟!

المروي في التاريخ أن الرأس الشريف تلا هذه الآية الشريفة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[9].

روی ابن عساكر عن الأعمش عن سلمة بن كهيل قال: «رأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنه على القنا وهو يقول: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)»[10].

 

تكلّم رأس الحسين (ع) بدمشق

أخرج ابن عساكر بإسناده عن المنهال بن عمرو قال: أنا والله رأيت رأس الحسين بن علي حين حمل وأنا بدمشق وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتى بلغ قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً)[11]، قال: فأنطق الرأس بلسان ذرب فقال: «أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي»[12].

 

على درج المسجد

أمر يزيد عليه اللعنة بإيقاف الأسارى من أسرة الرسول (ص) بدرجة المسجد حيث توقف الأسارى لينظر الناس إليهم، صرّح بذلك المؤرّخون ومنهم مطهر بن طاهر المقدسي[13]، وابن العبري[14]، قال – واللفظ للأخير -: «ثم بعث (أي ابن زياد) به (أي رأس الحسين ) وبأولاده إلى يزيد بن معاوية فأمر نساءه وبناته فأقمن بدرجة المسجد حيث توقف الأسارى ينظر الناس إليهم».

 

مع الشيخ الشامي

قال ابن أعثم: «وأتي بحرم رسول الله حتى أدخلوا من مدينة دمشق من باب يقال له “باب توما”، ثمّ أُتي بهم حتى وقفوا على درج باب المسجد حيث يقام السبي، وإذا بشيخ قد أقبل حتى دنا منهم وقال: الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح الرجال من سطوتكم، وأمكن أمير المؤمنين منكم.

فقال له علي بن الحسين: يا شيخ هل قرأت القرآن؟

فقال: نعم قرأته.

قال: فقرئت هذه الآية: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)[15]؟

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال علي بن الحسين: فنحن القربی یا شیخ! قال: فهل قرأت في «بني إسرائيل»: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)[16]؟

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال علي (ع): نحن القربى يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الآية: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)[17]، فنحن ذو القربي يا شيخ، ولكن هل قرأت هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[18]؟

فقال الشيخ: قد قرأت ذلك.

فقال: فنحن أهل البيت الذين خُصصنا بآية الطهارة.

قال: فبقى الشيخ ساعة ساكتاً نادماً على ما تكلمه، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنّي تائب إليك مما تكلّمته ومن بغض هؤلاء القوم، اللهم إنّي أبرأ إليك من عدوّ محمّد وآل محمد من الجن والإنس»[19].
تأمل وملاحظات

نستنتج من هذا الخبر عدة أمور:

1ـ إن هذا أول موقف تكلّم به الإمام زين العابدين بعد تحمله شدة السفر وشقته، وبعدما رأى من المعاناة، لأنّه روي أن الإمام لم يتكلم في الطريق – من الكوفة إلى الشام ـ حتى وصل الشام[20].

2ـ الإمام يقوم بأداء الرسالة في أوّل فرصة وأول نقطة يجد بها الطينة الطيبة، فمع أن ذاك الشيخ الشامي لم يكن إلا رجلاً عاش في كنف حكم الأمويين مدة طويلة، ولم ير عليّاً ولا أحداً من أبنائه ولكنه كان على فطرة سليمة، بينما الذين قاموا بقتل الإمام الحسين وسبي أهل بيته فقد كان كثير منهم ممن رأى عليّاً والحسن والحسين وصلى خلفهم وسلّم عليهم ولكنهم كانوا خبثاء!

3ـ هذا الخبر يدلّ على سيطرة الجوّ الإعلامي المسموم على مجتمع وبيئة تربت في أحضان بني أمية، لقد أذاعوا بأنّ المقتول هو رجل خارجي خرج على أمير المؤمنين وخليفة المسلمين كان يريد بثّ الفتنة والفرقة في المجتمع، ولذلك نرى أن الشيخ الشامي حينما يواجه الإمام لأول مرة يحمد الله على قتل الحسين ويقول: «الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح الرجال من سطوتكم وأمكن أمير المؤمنين منكم».

ولكن حينما ينكشف له الواقع يتوب إلى الله من قوله ويتبرأ من قتلة أهل بيت رسول الله (ص) وأعدائهم، وكانت أكثرية المجتمع الشامي على غرار هذا الشيخ، قد ضلّلتهم الدعاية الأموية وحجبتهم عن معرفة أهل بيت رسول الله (ص)، ومن ثم لم يتحمّل يزيد ذلك وأمر بقتل ذلك الشيخ، كي يظل مسيطراً على الأوضاع في زعمه.
متى وصل الرأس الشريف إلى الشام

بالنسبة إلى زمان وصول الرأس الشريف هناك عدة احتمالات:
الاحتمال الأول

أن الرأس الشريف حمل مع تسييرهم أهل البيت إلى الشام، وهناك بعض الشواهد التاريخية تؤيد ذلك.

1ـ ما رواه ابن حبان بقوله: «ثمّ أنفذ عبيد الله بن زياد رأس الحسين بن علي إلى الشام مع أسارى النساء والصبيان من أهل بيت رسول الله»[21].

2ـ ما رواه السيد ابن طاووس عن الإمام زين العابدين أنه قال:

«حملني على بعير يطلع بغير وطاء ورأس الحسين على علم ونسوتنا خلفي على بغال… والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح»[22].

3ـ ما رواه ابن الأثير: «ثمّ أرسل ابن زياد رأس الحسين ورؤوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام إلى يزيد ومعه جماعة وقيل مع شمر وجماعة معه وأرسل معه النساء والصبيان وفيهم علي بن الحسين»[23].
الاحتمال الثاني

أن الرأس الشريف أوصل إلى دمشق قبل وصول أهل البيت (ع)، وهناك بعض الشواهد تؤيد هذا الاحتمال:

1ـ ما صرح به ابن أعثم والخوارزمي بقولهما ـ واللفظ للأول ـ: «ثم دعا ابن زياد بزحر بن قيس الجعفي فسلّم إليه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما ورؤوس إخوته… ورؤوس أهل بيته وشيعته (رضي الله عنهم أجمعين) ودعا علي بن الحسين فحمله وحمل أخواته وعماته ونساءهم إلى يزيد بن معاوية… وسبق زحر بن قيس برأس الحسين إلى دمشق حتى دخل على يزيد فسلّم عليه ودفع إليه كتاب عبيد الله بن زياد، قال: فأخذ يزيد كتاب عبید الله بن زياد فوضعه بين يديه، ثمّ قال هات ما عندك يا زحر، فقال ابشر يا أمير المؤمنين»[24].

ومقتضى هذا الاحتمال أن الرأس الشريف أرجع بعد ذلك إلى خارج دمشق لكي يدخل مع الأسارى الشام.
الاحتمال الثالث

أن أهل بيت الحسين شرحوا إلى دمشق بعدما أُنفذ برأس الحسين (ع)، ولكنهم لحقوا بالذين معهم الرأس الشريف، فأدخلوا مع الرأس الشريف الشام.

روى الشيخ المفيد والطبرسي ما يؤيد ذلك، قالا: «ثم إن عبيد الله بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين أمر بنسائه وصبيانه فجهزوا وأمر بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع محفز بن ثعلبة العائذي وشمر بن ذي الجوشن فانطلقا بهم حتى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس»[25].

ويمكن أن يقال: إن الرأس الشريف أنفذ مع إنفاذ أهل البيت إلى الشام وأدخل معهم دمشق، ولكنه أدخل بالرأس الشريف مجلس يزيد قبل إدخالهم مجلسه، وهذا يتحد مع الاحتمال الأول الذي ربما ذكره الأكثر، ويحمل عليه الاحتمال الثاني أيضاً.
رأس الحسین (ع) بين يدي يزيد

قال الحافظ البدخشاني: ولما قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين بين يديه، فاستبشر الشقي بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران…»[26].

وقال الدينوري: «قالوا إن ابن زياد جهز علي بن الحسين ومن كان معه من الحرم ووجّه بهم إلى يزيد بن معاوية مع زحر بن قيس ومحقن بن تغلبة وشمر بن ذي الجوشن، فساروا حتى قدموا الشام ودخلوا على يزيد بن معاوية بمدينة دمشق، وأدخل معهم رأس الحسين فرمي بين يديه، ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن فقال: يا أمير المؤمنين ورد علينا هذا في ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستين رجلاً من شيعته…»[27].

قال الشيخ المفيد: «روی عبد الله بن ربيعة الحميري فقال: إنّي لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل عليه، فقال له يزيد: ويلك ما وراءك وما عندك؟

قال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم، جعلوا يهربون إلى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر لواذاً كما لاذ الحمائم من صقر، فوالله يا أمير المؤمنين! ما كانوا إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفّرة تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الرياح، زوّارهم العقبان والرخم.

فأطرق يزيد هنيهة، ثمّ رفع رأسه فقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما لو أني صاحبه لعفوت عنه»[28].
تأمل وملاحظات

مع ملاحظة تلك النصوص نصل إلى الحقائق التالية:

الأول: خوف يزيد كما روى سبط ابن الجوزي في الفقرة أعلاه.

الثاني: صلابة الإمام الحسين وأصحابه الأوفياء، وعظمتهم وعزة أنفسهم وقدرتهم الفائقة، حيث إن الجميع – بما فيهم ابن سعد وابن عبد ربه وابن أعثم والطبري وابن الجوزي وسبطه وابن الأثير وابن نما وابن كثير والباعوني وغيرهم اعترفوا بأن الإمام وصحبه رفضوا الاستسلام وأبوا إلا القتال.

الثالث: اعتراف العدوّ بقساوة أفعاله وفظاعة جريمته.

الرابع: عجز العدوّ عن مقابلة الواقع والتجاؤه إلى الكذب، حيث يقول: «وجعلوا يهربون إلى غير وزر ويلوذون منا بالآكام والحفر».

بينما الواقع الثابت على عكس ذلك، والدليل عليه «تصديق أميرهم عمر بن سعد لكلام عمرو بن الحجاج حينما رأى عدم قدرتهم لمبارزتهم فصاح بالناس: «يا حمقى، أتدرون مَنْ تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر، وتقاتلون قوماً مستميتين، لا يبرز إليهم منكم أحد، فإنّهم قليل وقلما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، فأرسل في الناس من يعزم عليهم ألا يبارز رجل منكم رجلاً منهم»[29].
رد فعل يزيد

ذكر المؤرخون أن يزيد بعدما سمع كلام زحر بن قيس تكلم بكلمات تدلّ بنظرنا على كذبه ونفاقه.

فمن ذلك ما ذكره ابن سعد أنه دمعت عينا يزيد! وقال: «كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين»! ثم تمثل:

من يذق الحرب يجد طعمها ** مراً وتتركه بجعجاع»[30].

ومنه ما رواه ابن أعثم أنه أطرق يزيد ساعة ثم رفع رأسه فقال: يا هذا لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين بن علي، أما والله لو صار إلي لعفوت عنه، ولكن قبح الله ابن مرجانة.

وأظن أن وضع المجلس أدّى بيزيد لاتخاذ هذا الموقف ـ كذباً ونفاقاً ـ ولعلّ هذا أول موقف أبرز فيه تراجعه وأظهر ندامته.

وروى نحوه ابن عبد ربه من أن يزيد قال: «لعن الله ابن سمية، أما والله لو كنت صاحبه لتركته، رحم الله أبا عبد الله وغفر له!»[31].

وقد ذكرنا الشواهد المتقنة والكافية لإثبات أن يزيد هو الآمر بقتل الحسين والراضي بقتله وأنه هو الأصل في ذلك، وأن ما أظهره من الندامة يرجع إلى كذبه وخوفه على زوال ملكه وتمشياً مع الوضع العام واستنكار الناس لذلك ـ بعدما كشف عن القضية شيئاً فشيئاً – والدليل على ذلك أنه لم يعاقب ابن زياد على ما فعله ولم يعزله عن الإمارة، بل شكر له واستدعاه وشرب معه الخمر كما مر ذكرها.

ومما يدل على ذلك ما رواه الحافظ البدخشاني، قال: «ولما قدموا دمشق ودخلوا على يزيد رموا برأس الحسين له بين يديه، فاستبشر الشقي بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران…»[32].

الاستنتاج

أن سبايا أهل البيت (ع) أخذوا أُسارى إلى الشام، وأن رأس الحسين (ع) تلا القرآن وتكلّم بدمشق، وأن السبايا أوقفوا على درجة المسجد لينظر الناس اليهم، ووضع رأس الحسن (ع) بين يدي يزيد، فاستبشر بقتله، وجعل ينكت رأسه بالخيزران.

 

الهوامش

[1] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص83.

[2] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص250.

[3] ابن حبّان، کتاب الثقات، ج2، ص312.

[4] ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج2، ص180.

[5] الخوارزمي، مقتل الخوارزمي، ج2، ص60.

[6] ابن طاووس، اللهوف، ص210.

[7] الخوارزمي، مقتل الخوارزمي، ج2، ص61.

[8] المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص62.

[9] البقرة، ١٣٧.

[10] ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج7، ص509.

[11] الكهف، ۹.

[12] ابن عساكر، تاريخ دمشق، ج17، ص246.

[13] البلخي، البدء والتاريخ، ج6، ص12.

[14] ابن العبري، تاریخ مختصر الدول، ص190.

[15] الشورى، ۲۳.

[16] الإسراء، ٢٦.

[17] الأنفال، ٤١.

[18] الأحزاب، ۳۳.

[19] ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج2، ص183.

[20] اُنظر: الطبري، تاريخ الطبري، ج4، ص351.

[21] ابن حبّان، کتاب الثقات، ج2، ص312.

[22] ابن طاووس، إقبال الأعمال، ص583.

[23] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج4، ص83.

[24] ابن أعثم الكوفي، الفتوح، ج2، ص180.

[25] المفيد، الإرشاد، ج2، ص119.

[26] البدخشاني، نزل الأبرار، ص159.

[27] الدينوري، الأخبار الطوال، ص260.

[28] المفيد، الإرشاد، ج2، ص118.

[29] المفيد، الإرشاد، ج2، ص103.

[30] ترجمة الإمام الحسين (ع) ومقتله، من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، ص81.

[31] ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ج5، ص130.

[32] البدخشاني، نزل الأبرار، ص159.

 

مصادر البحث

1ـ ابن أعثم الكوفي، أحمد، الفتوح، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الأُولى، 1411 ه‍.

2ـ ابن الأثير، علي، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر، طبعة 1386 ه‍.

3ـ ابن العبري، غريغوريوس، تاریخ مختصر الدول، بيروت، دار الميسرة، بلا تاريخ.

4ـ ابن حبّان، محمّد، كتاب الثقات، مؤسّسة الكتب الثقافية، الطبعة الأُولى، 1393 ه‍.

5ـ ابن طاووس، علي، إقبال الأعمال، تحقيق جواد القيّومي، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1414 ه‍.

6ـ ابن طاووس، علي، اللهوف في قتلى الطفوف، قم، أنوار الهدى، الطبعة الأُولى، 1417 ه‍.

7ـ ابن عبد ربّه، أحمد، العقد الفريد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1404 ه‍.

8‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌ـ ابن عساكر، علي، تاريخ دمشق، بيروت، دار الفكر، طبعة 1415 ه‍.

9ـ البدخشاني، محمّد، نزل الأبرار بما صحّ من مناقب أهل البيت الأطهار، تحقيق محمّد هادي الأميني، شركة الكتبي، طبعة 1413 ه‍.

10ـ البلخي، أحمد، البدء والتاريخ، باريس، طبعة 1899 م.

11ـ ترجمة الإمام الحسين (ع) ومقتله، من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد، تحقيق عبد العزيز الطباطبائي، بيروت، مؤسّسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، طبعة 1416 ه‍.

12ـ الخوارزمي، الموفّق، مقتل الحسين (ع)، تحقيق محمّد السماوي، قم، أنوار الهدى، الطبعة الثانية، 1423 ه‍.

13ـ الدينوري، أحمد، الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، القاهرة، دار إحياء الكتب العربي، الطبعة الأُولى، 1960 م.

14ـ الطبري، محمّد، تاريخ الأُمم والملوك، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الرابعة، 1403 ه‍.

15ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

16ـ المفيد، محمد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، قم، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأولى، 1413 ه‍.

17ـ اليعقوبي، أحمد، تأريخ اليعقوبي، بيروت، دار صادر، بلا تاريخ.

مصدر المقالة

الشاوي، علي، مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، قم، مركز الدراسات الإسلامية، طبعة 1421 ه‍.

مع تصرف بسيط.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية