صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 114372
تحميل: 4712

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114372 / تحميل: 4712
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

2 - إذا جعلنا الذرّة بين الجسمين كالصحيفتين، فقهراً تلاقي السطحين من الجسمين المذكورين، وعليه فيكون لها سطحان؛ إذ لا يعقل تلاقي السطحين بسطح واحد بالضرورة.

وهنا وجوه أُخرى تدلّ على تركّبها بصورة قاطعة، لكنّ هذين الوجهين من أبسطها وأقربها إلى الأفهام الساذجة. فإذن، نثبت أنّ هذه الذرّات والأجزاء الصغار - سواء في ذلك ذرات ذيمقراط، وأمواج روتر فورد، الذي كسر الذرّة واستكشف أمواجها كما تقدّم - مركّبة، فلابدّ لها من مركِّب فاعل التركيب، وهو الله الواحد القهّار.

وأمّا كون الحركة ليست من نفس المادة، بل هو من غيرها - وهو الله تعالى - فلِما تقرّر في كتب الكلام والفلسفة، من لزوم تعدّد المحرّك والمتحرّك فلاحظ.

هذا وعلى قولهم من الحركة الذاتية، يلزم تركّب الأجزاء، وإن سلّمنا إمكان بساطتها في نفسها، فإنّ الأجزاء لها جهة مشتركة في الجوهرية، وجهة مميّزة؛ لاختصاص كلّ منها بحركة في جهة تتوجه إليها حركة الذرّة الأُخرى؛ إذ لو كان حركاتها إلى جهة واحدة بلا انحراف، لَما تشكّل الأجسام منها بالضرورة، وهكذا الكلام، في قول بخنز: فإنّ محلّ الدفع غير الجذب، فيتركّب الجزء، وإن جُعل الدفع في جزء والجذب في جزء، فهذا أيضاً يلزم التركّب من جزء مشترك بين الجزءين في الجوهرية، ومن جزء مميّز بالدفع والجذب. وهذا يكفي لهدم جميع ما أسّسوه، وإبطال ما ذكروه بصورة قاطعة، ولا يبقى للعاقل احتمال في بطلان مبدئية الذرّات للعالم، فإذن، لابدّ من الالتزام والإذعان، بوجود الواجب القديم المجرّد عن المادة ولواحقها.

أضف إلى ذلك أنّ المادة - كما نادوا بأعلى أصواتهم - حقيقة واحدة، والحقيقة الواحدة لا يصدر عنها آثار مختلفة، فكيف يسوغ لهم، استناد هذه الموجودات المتفاوتة المتباينة إلى المادة المزبورة؟ فإن صحّ ذلك، وأمكن بروز الآثار المتفاوتة عن حقيقة فاردة، أصبحت العلوم الطبيعية عقيمةً ولا تُنتج شيئاً؛ بداهة أنّ التجربة لا تقع إلاّ على موارد محدودة، يُعلم منها أنّ هذه الحقيقة ذات أثر كذا، فيوضع ذلك قانوناً كلّياً وقاعدةً شاملة، فيقال مثلاً: إنّ الدواء الفلاني يزيل المرض الفلاني مطلقاً؛ اعتماداً في الكلية المذكورة، على أنّ الحقيقة الواحدة لا يختلف أثرها، وأمّا إذا فرضنا جواز اختلافه فلا يتمّ قاعدةً تجربية قطعاً، فالعلوم التجربية كالفلسفة تقتضي عدم استناد العالم إلى الذرّات المذكورة، وقد نُقل أنّ بعض متفكّري الغرب تنبّه لذلك فآمن بالله العظيم، فلو صحّ بساطة المادة لَما صلحت للعلّية المطلقة من هذه الناحية (1) .

____________________

(1) الزمر 39 / 62.

١٠١

النظام الكامل

يقتضي على علّية المادة

ولئن أغمضنا النظر عن جميع ما تقدّم، من تزييف مبدئية المادة للعالم، لكان نظام الخِلقة، وإتقان الطبيعة، أحسن شاهد وأقوى كاشف، عن وجود المبدأ العليم المريد الحكيم، وقد ظلت العلوم الطبيعية تكشف لنا أسرار الكون، وعجائب الخِلقة، ودقائق الصنع، بما يندهش منه العقول، أَفليس هذا العالم البديع المنظّم - بكراته السامية، وشموسه المضيئة، وميكروباته الصغيرة، وموجوداته الحية، ونباتاته النامية، وجماداته المتنوّعة، وما أُودع في كلّ منها من الحكمة والدقّة - دليلاً على وجود المعبود الواجب القديم المجرّد؟ أَليست قبة واحدة تحكي عن بنّاء عالم بقانون العمارة والبناء؟ أيمكن أن يقال: إنّ طائرة واحدة طارت إلى السماء بلا سائق أو مدبّر؟ وهكذا، فإذا دلّت ماكنة صغيرة على فاعلها الشاعر، فكيف لا يدلّ هذا النظام البهي الجميل على علم فاعله؟!

وهذه الدلالة ضرورية بديهية لا يمكن لذي شعور إنكارها، فكما لا يمكن أن يصير الجاهل البدوي، مدرّساً في العلوم المختلفة بلا تعلّم، فكذا المادة لا تكون خلاّقة لهذا النظام الكامل التام، بل هو يكشف عن وجود مدبّر عالم حكيم وهو الله تعالى. وهذا - لمكان بداهته، وشدّة جلائه، وارتكازه في النفوس الإنسانية - لا يحتاج إلى زيادة بيان، وكثرة إيضاح، فضلاً عن توسيط برهان حسب الاحتمالات، الذي ابتكره بلز پاسكال عام 1654م وقَبله عنه غيره، هذا مع أنّه غير تام عندي في نفسه.

وعلى الجملة: مَن شك في هذا الدليل، فقد خرج عن الفطرة السليمة الإنسانية، والقرآن الحكيم في جملة من آياته المباركة قد نبّه الإنسان من هذا الطريق على معرفة ربّه فقال: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً ) (1) وقال: ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً

____________________

(1) الفرقان 25 / 59 - 62.

١٠٢

وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاّ كُفُوراً ) (1) وقال: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (2) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة، وأمّا السنة فهي مشحونة بأمثالها.

____________________

(1) الفرقان 25 / 47 - 50.

(2) المؤمنون 23 / 12 - 14.

١٠٣

ما يقول المادّيون

عن هذا النظام الأجمل؟

حينما تستنطق الماديين في انبثاق هذا النظام الأكمل عن الطبيعة الجامدة العمياء يجيبونك بوجهين:

الأَوّل: إنّه اتّفاق وتصادف، فهذه الأناظيم حصلت اتّفاقاً وصدفةً، من حركات الأجزاء غير المتجزّئة! وقد أشرنا إلى أنّ هذا الكلام لا ينافي ناموس العلم فقط، بل يصادم الإنسانية في فطرتها المودعة فيها فلا جواب له، ولو تمّ التصادف، بطل قانون العلية، وببطلانه تنهدم العلوم من أساسها.

الثاني: إنّه نتيجة الانتخاب الطبيعي والتنازع - التناحر - في البقاء. توضيح ذلك على سبيل الاختصار: إنّ شارلز روبرت داروين الانجليزي (1809 - 1882م)، دوّن فرضية رجوع الأنواع إلى أصل واحد أو أصول محدودة، وبعبارة أُخرى: أنّ هذه الفرضية تقول: إنّ هذه الأنواع الموجودة من الحيوانات، لم تكن كذلك في أصلها، بل أصلها إمّا نوع واحد أو أنواع محدودة، وجعل لتركيزها نواميس أربعة:

1 - التنازع في البقاء: فكلّ حي ينازع في حفظ كيانه وتثبيت بقائه، وان كان ذلك مستلزماً للتجاوز على الآخرين.

2 - الانتخاب الطبيعي: يعني أنّ نتيجة التنازع المذكور، بقاء الأصلح وفساد غير الأصلح أو ضعفه جداً.

3 - قانون المطابقة: وهو تأثير الأمكنة، والأغذية، والملابسات الواقعة في الحياة، في اختلاف الأفراد والأنواع، فقوة أظفار الأسد وحدته لافتراسه، فلو وقع في محلّ لا يمكنه الصيد، واضطر إلى أكل الحشائش - كالدواب مثلاً - تبطل خاصية أظفاره، بل تقوى أنيابه وهكذا.

4 - قانون الوارثة: وهو أنّ الصفات العارضة والأطوار الاتّفاقية، التي طرأت على الحيوانات من جهة اختلاف الأحوال تنتقل إلى أولادها، فتوجب اختلاف أشكالها، بحيث ينجرّ إلى تخيّل اختلاف أنواعها في الأصل، مع أنّ الاختلاف المذكور نتيجة التوارث بتمادي الزمان، وعليه يترتّب رجوع الأنواع إلى نوع واحد، أو أنواع محدودة.

١٠٤

ولما انتشرت هذه الفرضية فرح المادّيون بها، وحسبوا أنّها كافية لأن يُعلّل بها النظام المحكم الساري في أجزاء العالم، ومعها لا موجب للتشبّث بالصدفة والاتّفاق، الذي يرفضه أوائل العقول الساذجة، وينافره شرف العلم والإنسانية، فقالوا: إنّ الطبيعة وإن كانت غير شاعرة، إلاّ أنّ هذا النظام متولّد من انتخابها بعد التنازع في البقاء، بضميمة المطابقة والوراثة، فارتقاء الموجودات إلى هذه الدرجة من التكامل، معلول لهذه النواميس دون المادة نفسها.

أقول: البحث حول هذه الفرضية عن ناحيتين: الناحية الأُولى في صحّتها في نفسها، والناحية الثانية في استنتاج ما تخيّله الماديون منها.

أمّا الناحية الأُولى وصحّتها في نفسها فلا دليل عليها، غير بعض التخمينات والتخرّصات التي لم يقرّ بها العلم ولا الفلسفة، بل البرهان على خلافها، بل الإنصاف أنّها مخالفة للحسّ والوجدان والأخلاق، كما فصّلنا القول فيها في مجموعتنا المسماة بـ (كشكول محسني)، وقد دلّل على بطلانها غير واحد من باحثي الغرب، حتى أخرجها بعضهم من المسائل العلمية، وجعلها آخر منافيةً للتمدّن الغربي وموجبةً لتأخّره، وحسبها الثالث من الأقاصيص التي تحكيها الأُمهات لأولادها الصغار، بل نسبها بعضهم إلى الجنون... إلى غير ذلك من الكلمات الحادّة التي نقدوا بها هذه النظرية (1) .

وأمّا الناحية الثانية فنقول: إذا سلّمنا هذه الفرضية بتمامها وحسبناها قطعيةً، فلا يمكن استفادة مرام الماديين منها، كما لا يمكن استفادة الحرارة من الثلج!

نقول: مَن الذي أوجد هذه الموجودات؟ مَن الذي خلق هذه الذرّات المركّبة؟ مَن الذي أعطى الطبيعة انتخابها؟ مَن الذي أودع التنازع في كيان الأشياء؟ وهكذا فلابدّ إمّا من الرجوع إلى الصدفة والاتفاق، أو إلى الإيمان بخالق الإنس والجان، وهذا الذي ذكرنا لم يخفَ على داروين نفسه؛ ولذا لم يجعلها دليلاً على إنكار الصانع، بل قيل: إنّه كان عاملاً ومقيّداً بجميع ما جاء في مذهب الپرتستان أرتدوكس (2) ، من دين المسيح عليه‌السلام ، بل صرّح بأنّ عقائده لا تنافي المذاهب (3) .

وإليك ملخّص ما كتبه هو إلى بعض الألمانيين عام 1873: يستحيل على العقل الرشيد أن تمرّ به خلجة من الشك، في أنّ هذا العالم الفسيح، بما فيه من الآيات البالغة، وتلك الأنفس الناطقة

____________________

(1) الجينات الوراثية أثبتت اليوم خِلقة الإنسان الابتدائية، وأبطلت تحوّل الإنسان من الحيوان، وتدلّ هي على صدق القرآن على أخباره، أنّ الإنسان خُلق كذلك ابتداءً.

(2) فيلسوف نماها / 226.

(3) المصدر نفسه/ 225.

١٠٥

المفكّرة، قد صدر عن مصادفة عمياء؛ لأنّ الأعمى لا يخلق نظاماً ولا يبدع حكمةً، ذلك أكبر برهان يقوم عندي على وجود الله.

ثمّ يقول: ولقد قامت عندي شكوك كثيرة لأَوّل عهدي بالبحث، فسألت: من أين جاءت العلّة الأُولى؟ وهل لها نشأة ومعاد؟ غير أنّي لم ألبث حتى استبان لي، أنّ هذا الشك نفسه قد يخطر للإنسان، إذا فكّر في نشأة المادّة المحسوسة ذاتها، فمن أين جاءت المادة القديمة؟ وهل لها أَوّل؟ أم هي أزلية؟ فإذا كانت أزليةً - وغالبة الظن على ذلك - فمن أين أتت؟ تلك الحدود التي يقف عندها الفكر الإنساني معترفاً بالعجز (1) ، لكنّ الماديين أكثروا السرعة من مقلّدهم - بالفتح - ولم يدروا أنّ هذه التلفيقات على فرضِ صحّتها، لا ترتبط بهوَساتهم أصلاً.

ثمّ إنّ شارلز داروين ليس مؤسّساً لهذه النظرية، بل ذكرها غير واحد ممّن سبقه، كما ذكره فريد وجدي في دائرة المعارف، بل يوجد ذلك في كلمات العرب - إخوان الصفا وغيرهم أيضاً - كما نقلها إسماعيل مظهر في مقدّمة ترجمة أصل الأنواع (2) ، مع أنّهم من المسلمين، فاتضح من جميع ذلك أنّ هذه النظرية لا تشفي داء الماديين، فإنّ صحّتها لا تصادم وجود الله تعالى، بل ولا غيره من الأصول الدينية، نعم هي غير صحيحة عند القرآن، فإنّه يبيّن خِلقة الإنسان بدواً وينفي - بالدلالة الالتزامية - تكوّنه من القرود وغيرها، فهي تخالف الإسلام في مسألة فرعية جزئية، وقد عرفت أنّ البرهان والحسّ والأخلاق ترجّح جانب القرآن.

ولهم جواب ثالث معروف بالفلسفة الدياليكتيكية، وقد بُنيت على أُصول أربعة:

التغيّر والتحوّل الباطني (في مقابل التغيّر الحاصل من خارج الشيء المسمّى بالميكانيك)، صحّة التناقض والتضاد، بل ضرورة وقوعهما في كلّ شيء، تأثير التقابل وهو ارتباط الأشياء بعضها ببعض، بلا انفصال لشيء منها من هذه السلسلة المرتبطة، تبديل الكمّية إلى الكيفية دفعة واحدة؛ وعليها بنوا إنكار الواجب الوجود والأديان، بل وجميع الأحكام العقلية؛ إذ لا شيء ثابت عندهم أصلاً، بل كلّ شيء له أَوّل ونهاية، وبها علّلوا نظام العالم المتقن! لكن هذه الفرضية واضحة البطلان؛ لأنّ الأصل الأَوّل يشمل نفس هذه الفرضية أيضاً، فلا قيمة لها، فإنّها محكومة بالزوال والاضمحلال.

وحلّه: أنّ التغيّر غير جارٍ في العلوم غير المادية، أَليست نتيجة ضرب الاثنين في الاثنين هي الأربعة، وهل يحتمل أحد أن تكون النتيجة خمسة أو ثلاثة في زمان من الأزمنة؟ لكنّهم لا يفرّقون بين العلوم الطبيعية والعقلية، فيطبّقون أحكام الأُولى على الثانية.

____________________

(1) مقدّمة ترجمة أصل الأنواع بالعربية تأليف إسماعيل مظهر / 26.

(2) أصل الأنواع / 29 - 41.

١٠٦

وأمّا صحّة التناقض والتضاد والحكم بوقوعهما، بل بضرورة وقوعهما فضلاً عن إمكانه، فهو مخالف للفطرة الإنسانية والضرورة الأَوّلية، فإنّ امتناعهما ضروري عند كل أحد حتى الصبيان، لكن الأمر اشتبه على الماديين الدياليكتيكيين، ولم يقدروا على ضبط الوحدات المعتبرة في التناقض، وحيث أتوا بأمثلة جزئية دالة على وقوعه، لم يلتفتوا إلى فقدان وحدة أو وحدات منها، فحسبوا أنّهم فازوا بمرادهم! وقد مرّ الكلام فيه (1) .

وأمّا الثالث فلا كلّية وتعميم فيه ولا دليل على ذلك، وأمّا الرابع فهو باطل وما قيل في وجهه مضحك جداً، ولا ينبغي أن نضيّع الوقت بإطالة الكلام معهم إثباتاً ونفياً، ولعمرك إنّ وضوح فساد كلام المادّيين وشدّة اختلاله، دليل آخر على وجود الواجب الوجود، وضرورة إثبات الصانع المختار العليم ( أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .

وعلى الجملة: أنّ جميع فرضيات الماديين حول مبدأ العالم، وتلفيقاتهم حول نظام العالم البديع، ترجع إلى صدفة عمياء لا غير، وهي تناقض مبدأ العليّة العامّة الشاملة غير القابلة للاستثناء، فلا تغرنّكم كثرة تعابيرهم وفرضياتهم، فدقّق النظر تجد صدق قولنا، وبعد ثبوت تركّب الذرّة وتجزئتها، فقد سقط معبود الماديين إلى اليوم وإلى الأبد.

____________________

(1) وخلاصة الكلام أنّ الماديين اشتبهوا في مبدأ التناقض، أَوّلا باشتباه التضاد الفلسفي بالتضاد العلمي، وثانياً بعدم الفرق بين التناقض والتضاد الفلسفيين، وثالثاً بإمكان الأخيرين وضرورة وقوعهما! غافلين عن أنّ التناقض الفلسفي لو كان ممكناً، لكان إنكارهم على مخالفيهم باطلاً؛ لصحّة ووقوع التناقض وعدمه!

١٠٧

خاتمة

اعلم أنّ معرفته تعالى على درجات: الدرجة الأُولى: ما يحصل من الدلائل الإنيّة. الدرجة الثانية: ما يثبت بالبراهين الشبيهة باللم. الدرجة الثالثة: ما يستقرّ بالمشاهدة القلبية، ولها عرض عريض رزقنا الله إيّاها، ففي رواية أبي الحسن الموصلي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال: فقال: (ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أرَه. قال: وكيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان) (1) .

وفي دعاء يوم عرفة المنسوب إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام : (إلهي تردّدي في الآثار يوجب بُعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يُستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهِر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعُدت حتى تكون الآثار هي التي تُوصل إليك؟ عَميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبدٍ لم تجعل له من حبّك نصيباً... منك أطلب الوصول إليك، وبك استدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك... أنت الذي أشرقتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحدّوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتى لم يحبّوا سواك... إلخ) هذا، وكل ميسّر لِما خلق لأجله.

واعلم أنّ معرفة معظم المؤمنين الباحثين - فضلاً عن العوام - بالله تعالى إنّما هي بمفاهيم كلية يضم بعضها مع بعض، تنطبق على الموجود الواحد المخصوص وهو الله تعالى، كمفهوم الواجب الوجود غير المركّب والمتعدّد، وكمفهوم الصانع والخالق الحكيم المدبّر، وكمفهوم القديم الأزلي الأبدي الباقي ونحوها، وهي معرفة علمية يكتسبها أهل المعقول من المباحث الفلسفة والكلامية.

وأمّا المعرفة القلبية الإشراقية الإلهامية - وما شئت فسمِّها به - فهي تحصل من العبودية، والإخلاص، والخضوع مع صفاء الروح، والمؤلّف الفقير الناقص حيث لم يذق حلاوة الإيمان في باطنه، يعلم أنّ إيمانه بالله تعالى، ومعرفته علمية لا معرفته قلبية. فـ ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (2) .

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 98.

(2) الحجر 15 / 99.

١٠٨

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية

الموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية

١٠٩

المقصد الثاني

في صفاته الثبوتية

تمهيد

كل ما أوجب اتّصاف الواجب به كمالاً وبهاءً بلا استتباع نقص، فهو صفة ثبوتية، وما لم يكن كذلك فهو صفة سلبية؛ لِما سيمرّ عيك في محلّه - إن شاء الله - من أنّه كامل في غاية الكمال، كيف وهو مصدر كلّ كمال فلا سبيل للنقص إليه أبداً؟.

وأمّا ما ذكره بعض المتكلّمين، وشاع في الألسن، من حصر الصفات الثبوتية في الثمانية، (1) والسلبية في السبعة، (2) فخطأ محض، ولعلّه؛ للاهتمام بها، أو لوقوع الاختلاف فيها، أو لاحتياجها إلى الاستدلال، وغير ذلك من الاعتبارات، وإلاّ فلا حدّ لحميد صفاته وجميل أفعاله.

وقد ورد في الشرع له تعالى أوصاف كثيرة جمّة، كما يظهر لمَن راجع الأخبار ولا سيما الأدعية.

ثمّ إنّ مصادر هذه النعوت - كالعلم والقدرة والرحمة مثلاً - تسمّى في اصطلاحهم بـ (صفات الله)، ومشتقاتها - مثل العالم والقادر والرحيم - بـ (أسماء الله).

إذا تبيّن ذلك فاعلم أنّ جميع صفاته تعالى:

إمّا حقيقة محضة، وهي ما لا يعتبر في ثبوته له تعالى لحاظ شيء آخر، مثل الحياة، والوجوب، والحقية، مثلاً، فهو حيّ واجب حق بلا لحاظ أمر آخر يتوقّف عليه صدق هذه الصفات وأمثالها.

إمّا إضافيّة محضة، وهي ما لا تحقّق له إلاّ بعد وجد شيء آخر، كالرزق والخلق والرحمة وغيرها، فإنّها لا تثبت إلاّ إذا كان هناك موجود مرزوق مخلوق مرحوم.

وإمّا حقيقية ذات إضافة، وهي ما لا يتوقف مفهومه على شيء آخر، وليس الإضافة مأخوذةً في واقعها، إلاّ أنّها تعرض له، وان شئت فقل: إنّ تحقّق هذا القسم من الصفات غير موقوف على

____________________

(1) كما قال شاعرهم:

عالم وقادر وحى است مريد ومدرك

هم قديم وابدى دان متكلم صادق

(2) كما قيل:

نه مركّب بود ونه جسم مرئى نه محل

لا شريك است ومعانى تو غنى دان خالق

١١٠

أمر ثانٍ، لكن ترتّب أثرها لا يكون إلاّ بإضافتها إلى شيء مقدور، كالقدرة مثلاً، فإنّ أصل تحقّقها له تعالى لا يحتاج إلى شيء آخر، فليست الإضافة معتبرةً في مفهومها، لكن أثر القدرة لا يتنجّز إلاّ بوجود مقدور.

وإمّا سلبية، وهي ما يُعتبر في مفهومها السلب، كالبساطة والتجرّد والوحدة والغنى وأشباهها؛ إذ الأَوّل سلب التركيب، والثاني سلب المادة وعوارضها، والثالث سلب الشركة، والرابع سلب الفقر وهكذا، فهذا القسم وإن كان على صورة الثبوت لكنّها من النفي حقيقة، على حدّ سلب الجسمية والمعاني والرؤية والحلول والاتحاد، وغيرها من الصفات السلبية ظاهراً وواقعاً.

ثمّ يقال للقسم الأَوّل والثالث: الصفات الذاتية، والصفات الكمالية، ويعبّر عن القسم الثاني بالصفات الفعلية، والصفات الإضافية، والصفات الجمالية، وهنا قسم آخر لم يذكروه وسمّيناه بالصفات المدحية، وسيأتي بحثها في هذا المقصد إن شاء الله، ويسمّى الجميع بالصفات الثبوتية، وأمّا القسم الرابع فيقال له - بكلا نوعيه - الصفات السلبية، والصفات الجلالية، والصفات التقديسية، والذي يهم في المقام بيانه هو فرق الذاتية والفعلية، وأنّه كيف نعرف أنّ هذه الصفة الثبوتية فعلية وهي حادثة، وتلك ذاتية وهي قديمة؟

وإليك ذكر ما يفرّق بينها من الموازين.

1 - كلّ صفة أمكن نفيها عن الواجب القديم، وصحّ إثبات نقيضها له، فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية؛ وذلك لأنّ الصفة الذاتية إمّا واجبة بل عين ذاته كما هو الحق، وإمّا واجبة الثبوت للذات فلا يمكن انفكاكها عنها (1) .

2 - كلّ صفة كان لها ضدّ وجودي فهي فعلية؛ إذ الذاتية عين الذات، وستعرف في محله أن لا ضدّ للذات الواجبة، وأمّا إذا لم يكن لها ضدّ فلا يجب أن تكون ذاتيةً، فالملازمة من أحد الطرفين كما لا يخفى.

3 - كلّ صفة اعتبرت في مفهومها الإضافة فهي فعلية؛ لاحتياجها إلى غير الواجب، فلا يعقل كونها ذاتيةً، وهذا واضح، وكلّ صفة لم تكن إضافية محضة فهي ذاتية؛ إذ لا واسطة بين الفعلية والذاتية؛ فحيث إنّ الصفة غير الإضافية المحضة لا تكون فعليةً؛ للزوم الإضافة في قوام الفعل، فهي ذاتية لا محالة.

4 - كلّ ما وقع تحت قدرته فهو من الصفات الفعلية، وما لم يقع فهو من الصفات الذاتية؛

____________________

(1) وأمّا الصدق والعدل، وأن لا يجوز سلبهما عن الله تعالى في شيء من الأوقات عند الناس، إلاّ أنّ سلبهما بسلب منشائهما، فيقال: إنّه لم يكن متكلّماً ومعاملاً أزلاً فلا يكون صادقاً وعادلاً.

١١١

والسر في ذلك واضح، فإنّ الخارج عن القدرة ليس إلاّ الواجب.

5 - كلّ صفة أمكنة وقوعها تحت الإرادة فهي فعلية، وإلاّ فهي ذاتية، ويظهر وجهه ممّا سبق.

وأمّا قوله تعالى: ( وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) (1) ، وقوله عليه‌السلام : (شاء - أي الله - أن لا يكون شيء في ملكه إلاّ بعلمه) حيث تعلّق المشية بالقدرة وبكون الشيء معلوماً له تعالى، مع أنّ القدرة والعلم من الصفات الذاتية، فلابدّ من توجيههما بوجه مقبول.

6 - كلّ صفة وقعت في حيّز ألفاظ دالّة على الحدوث والإمكان فهي فعلية لا محالة، ومن الألفاظ المذكور: سوف، سين الاستقبال، جملة من حروف الجر، عسى، ونظائرها، الفاء العاطفة الدالة على الترتيب، ثمّ، إذا، إن، لو، وغير ذلك.

قال الله تعالى: ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ ) (2) ، ( سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ ) (3) ، ( لِيُضِلَّ قَوْماً ) (4) ، ( عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (5) ، ( ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى ) (6) ، ( إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ ) (7) ، ( فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) ، ( وَلَوْ شِئْنَا ) (8) .

وأمّا قوله تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ ) (9) ، وقوله: ( إِلاّ لِنَعْلَمَ ) (10) وأمثاله فسيأتي ما يتعلّق به في مبحث علمه إن شاء الله.

ثمّ إنّ هذا الميزان الأخير السادس - لمكان اتخاذه من ظواهر الألفاظ - ظني غير قطعي، إذا تقرّر ذلك فلنبحث في هذا المقصد عن المواقف الثلاثة: الموقف الأَوّل: في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية، والموقف الثاني: في صفاته الثبوتية المدحية التي لم يذكرها العلماء، والموقف الثالث: في صفاته الثبوتية الفعلية الجمالية.

____________________

(1) الشورى 42 / 29.

(2) المائدة 5 / 54.

(3) التوبة 9 / 71.

(4) التوبة 9 / 109.

(5) التوبة 9 / 102.

(6) المؤمنون 23 / 45.

(7) النحل 16 / 40.

(8) الأعراف 7 / 176.

(9) الأنفال 8 / 23.

(10) البقرة 2 / 143.

١١٢

الموقف الأَوّل

في صفاته الثبوتية الذاتية الكمالية

الفصل الأَوّل: في قدرته

الفصل الثاني: في علمه

الفصل الثالث: سمعه وبصره

الفصل الرابع: في حياته

١١٣

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

الناحية الأُولى: في إثبات أصل القدرة

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

مطالب مهمّة

١١٤

الفصل الأَوّل

في قدرته تعالى

والكلام فيه من نواحٍ ثلاث:

الناحية الأُولى:

في إثبات أصل القدرة

فنقول: إنّ ما يدل على ذلك وجوه:

الأَوّل: إنّ القدرة الواجبة لا تستحيل على الذات الواجبة الوجود قطعاً، فهي إذن ثابتة له؛ لِما مرّ من قاعدة الملازمة.

الثاني: إنّ هذه الكائنات المشهودة، تدل على أنّ الله الذي أوجدها قادر بأتم قدرة، أمّا الصغرى - وهي كون الواجب خالقاً لها - فقد مرّ إثباتها في المقصد الأَوّل بأكمل بيان، وقد عرفت في المدخل أيضاً، أنّ الكائنات الممكنة محتاجة إلى فيضه حدوثاً وبقاءً، وأمّا الكبرى فهي من الأوّليات البديهية، وهذه الحجة أقوى الحجج وأتمّها وأظهرها بلا ريب.

الثالث: القدرة الممكنة متحقّقة في الخارج حسّاً ووجداناً، وهي تقتضي القدرة الواجبة؛ إذ كلّ ما بالغير لابدّ وأن ينتهي إلى ما به الغير دفعاً للدور أو التسلسل، ولا تُعقل القدرة الواجبة إلاّ للذات الواجبة، ثمّ إنّ اختلاف ما بالغير عمّا به الغير سنخاً ونوعاً، وإن كان ممكناً، إلاّ أنّ ما به القدرة لا يكون إلاّ قدرة، كما يظهر وجهه للمتأمّل.

الرابع: العجز نقص، والنقص عليه محال، فهو قادر؛ لعدم واسطة بين القدرة والعجز، إلاّ أنّ المدّعى أظهر من الكبرى بمراتب.

الخامس: اتّفاق الملل والنحل، وإجماع الأنبياء، والآيات القرآنية، والروايات المتواترة، تدل على أنّ الله قادر. ذكره بعض المتكلمين.

أقول: اتّفاقهم وإجماعهم من جهة الأدلة العقلية المتقدّمة لا أنّه تعبّدي، على أنّ المطلوب ليس أمراً محسوساً يصحّ فيه التواتر، وحجّية قول النبي بل نبوّته، وحجية القرآن وصدقه، موقوفة على قدرته تعالى، كما سيأتي في محلّه، فلو توقّف إثبات القدرة عليها للزم الدور.

السادس: ما في المنظومة وشرحها للسبزواري من قوله: (وكونه تعالى نوراً على القدرة

١١٥

دلّ؛ لأنّ الفياضيّة لازم النور، وهذا النور عين المشيّة والشعور) (1) .

أقول: وسيأتي أنّ المشيّة ليست عين وجوده، على أنّ الاستدلال أيضاً غير واضح، فهذا الوجه أيضاً غير تام عندنا.

لا يقال: القادر على الفعل قادر على الترك، وإلاّ كان موجباً؛ ضرورة تساوي القدرة إلى الطرفين، لكن العدم غير مقدور؛ لأنّه أزلي، ولأنّه نفي محض لا يصلح لأن يكون أثراً.

فإنّه يقال: القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل، لا أن يفعل العدم، وأمّا أزلية العدم فهي لا تنافي القدرة؛ لأنّ استمراره بيد القادر، والشبهة سخيفة جداً؛ لأنّها تبطل القدرة مطلقاً، مع أنّها وجدانية ومحسوسة في الحيوان.

الناحية الثانية: في كيفية القدرة وتفسيرها

وهذه مسألة هامّة جداً، وقد أصبحت من أهم معارك الآراء الفلسفية والأنظار الكلامية، والتضارب فيها شديد جداً بحيث نسبت طائفة إلى الجهل والضلال، وابتليت فرقة بالتكفير والتفسيق.

وتصوير النزاع في هذه المسألة:

أنّ الواجب الوجود هل يتمكن من ترك الفعل أو لا؟ وإن شئت فقل: إنّ ما يصدر عنه هل هو واجب منه أم لا؟ بل يمكنه الترك والفعل معاً، فلا وجوب للفعل منه، وإنّما الوجوب بعد تعلّق إرادته، فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وبكلمة أوضح بياناً: لا شك عند الموحّدين أنّ الله مختار في خلقه وفعله، لكن هل اختياره من سنخ اختيار الحيوان، الذي هو بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، أم لا بل هو من سنخ آخر؟

المتكلّمون على الأَوّل، والفلاسفة على الثاني، وحيث إنّ البحث عنه مهم جداً، نبدأ بنقل ما أفاده الباحثون من الطرفين فيها؛ حتى تتّضح المسألة المذكورة حقّ وضوحها، ولنكن حين الاستدلال والاختيار على بصيرة تامّة من أمرنا.

فنقول: قال الفيلسوف الشهير في أسفاره (2): إنّ للقدرة تعرفينِ مشهورين:

أحدهما: صحّة الفعل ومقابله أعني الترك.

وثانيهما: كون الفاعل في ذاته، بحيث إنّ شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

والتفسير الأَوّل للمتكلمين والثاني للفلاسفة، ومن المتأخّرين من ذهب إلى أنّ المعنيين

____________________

(1) منظومة السبزواري / 172.

(2) الأسفار، المجلد الثاني، الفصل الأَوّل من الموقف الرابع، (الطبعة القديمة).

١١٦

متلازمان بحسب المفهوم والتحقّق، وأنّ مَن أثبت المعنى الثاني يلزمه المعنى الأَوّل قطعاً؛ وذلك لأنّ الفاعل إذا كان بحسب ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، كان لا محالة من حيث ذاته - مع عزل النظر عن المشيّة واللامشيّة - يصح منه الفعل والترك، وإن كان يجب منه الفعل إذا وجب المشية، والترك إذا وجب اللامشيّة، فلزوم الفعل ووجوبه من تلقاء دوام المشية ووجوبها، لا ينافي صحّة الترك على تقدير اللامشيّة، وكذلك قياس مقابله في الاعتبارين.

أقول: ما ذكره غلط وخبط، فإنّ الصحة والجواز في الفعل ومقابله، مرجعهما الإمكان الذاتي، وتحقّقه مستحيل فيه تعالى؛ فإنّه وجوب بلا إمكان، وإنّما يجوز تلك النقائص عند مَن يجعل صفاته زائدةً على ذاته كالأشاعرة، أو يجعل الداعي على صنعه وإيجاده أمراً مبايناً، فيكون ذاته بذاته مع قطع النظر عن هذه الزوائد؛ صفةً كانت أو داعياً، جائز المشيئة واللامشيئة صحيح الفاعلية واللافاعلية، وأمّا عند مَن وحّده وقدّسه عن شوائب الكثرة والإمكان، فالمشية المتعلّقة بالجود والإفاضة عين ذاته بذاته، بلا تغاير بين الذات والمشيئة خارجاً وذهناً، بلا اختلاف حيثية تقييدية وتعليلية، فصدق القضية الشرطية القائلة: إن شاء فعل، لا ينافي وجوب المقدّم، وضرورة العقد الحملي له ضرورة أزلية دائمة، وكذا الشرطية القائلة: إن لم يشأ لم يفعل، لا ينافي استحالة المقدّم امتناعاً ذاتياً، وضرورة نقيضه ضرورة أزلية، فعلم أنّ التفسير الثاني صادق عند الحكماء دون الأَوّل، ولا تلازم بينهما إلاّ في القادر الذي يكون إرادته زائدةً على ذاته، وأمّا الواجب فلكونه فوق التمام، وبذاته البسيطة الحقة يفعل ما يفعل، لا بمشيئة زائدة، ولا بهمة عارضة، لازمة أو مفارقة، فهو بمشيئته وعلمه ورضائه وحكمته، التي هي عين ذاته يفيض الخير ويجود النظام، وهذا أتم أنحاء القدرة، وأفضل ضروب الصنع، ولا يلزم من ذلك جبر كفعل الماء في تبريده... إلخ انتهى كلامه مع تغيير ما.

وقال الحكيم السبزواري: لا يلزمنها - أي القدرة - حدوث ما انفعل، أي الحدوث الزماني في المقدور القابل للأثر، خلافاً للمتكلّمين، فاعتبروا في مفهوم القدرة انفكاك متعلّقها وقتاً ما عن الذات - (وبعضهم اعتبروا في القدرة إمكان الترك إمكاناً ذاتياً، وبعضهم إمكانه إمكاناً وقوعياً، والإمكان الوقوعي ما لا يلزم من فرض وقوعه محال، والحال أنّ فيه محالاً كلّ المحال؛ لأنّ عدم المعلول كاشف عن عدم علّته، كعدم العقل الأَوّل أو عدم الفعل مطلقاً؛ وبعضهم اعتبروا الوقوع في الترك، وفيه: أنّه تخلّف المعلول عن العلّة التامّة) (1) - وقد عرّفوا قدرته بصحّة الفعل والترك، وهو باطل؛ إذ الصحّة هي الإمكان، وواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، فالقدرة كون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل... فالحق تعالى

____________________

(1) هذه الجملة مذكورة في حاشية شرح المنظومة، ونحن أدرجناها في المتن، بين قوسين.

١١٧

موجِب - بسكر الجيم - أي فاعل يجب فعله بقدرته وأخياره، وهذا على مذهب الحكيم حيث يقول: الشيء ما لم يجب لم يوجد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - أي فاعلاً يجب فعله لا بقدرته واختياره كالمضطر، تعريض إلى مَن نسب إلى الحكماء إطلاقهم الموجب عليه بهذا المعنى، بأنّه حرّف الكلمة عن موضعها (1) ... إلخ.

وقال المحقّق الطوسي قدّس سره في قواعد العقائد: والقادر هو الذي يصحّ منه أن يفعل الفعل ولا يجب، وإذا فعل فعلاً باعتبار (اختيار ظ) وإرادة لداع يدعوه إلى أن يفعل، ويقابله الموجب، وهو الذي يجب أن يصدر عنه الفعل ويجب أن يقارنه فعله؛ لأنّه لو تأخّر الفعل عنه لَما كان صدور الفعل عنه واجباً؛ إذ لم يصدر عنه في الحال المتقدّم على الصدور. والمتكلّمون يقولون بأنّ الباري تعالى قادر، إذا كان فعله حادثاً غير صادر عنه في الأزل، ويلزم القائل بالقِدم كون فاعله موجباً.

والحكماء يقولون: كل فاعل فَعل بإرادةٍ مختارٌ، سواء قارنه الفعل في زمانه أو تأخّر عنه، وموضع الخلاف في الداعي، فإنّ المتكلّمين يقولون: إنّه لا يدعو الداعي إلاّ إلى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده، بعد الداعي بالزمان، أو تقدير الزمان، ويقولون: إنّ هذا الحكم ضروري والحكماء ينكرونه (2) انتهى.

قال الحكيم اللاهيجي في شوارقه: إنّه تعالى قادر مختار، بمعنى أنّه يتمكّن من الفعل والترك، بمعنى أنّه تعالى بحيث قد يتخلّف عنه الفعل، فإنّ القدرة بهذا المعنى هو المتنازع فيه بين المتكلمين والحكماء، وأمّا القدرة بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالم وتركه بالنظر إلى ذاته تعالى، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين... إلى أن قال: فالنزاع إذن ليس في معنى القدرة، الذي هو المفهوم الشرطي، بل في وجوب وقوع مفهوم المقدّم وعدم وجوبه (3) .

قال العلاّمة الحلي قدّس سره في ضمن كلام له: لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادراً، ويكون موجباً، وهذا هو الكفر الصريح؛ إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة إنّما هو هذه المسألة (4) !

قال في شرح المواقف: أي يصح منه إيجاد العالم وتركه، فليس شيء منهما لازماً لذاته بحيث يستحيل انفكاكه عنه، وإلى هذا ذهب الملّيون كلّهم، وأمّا الفلاسفة فإنّهم قالوا: إيجاده

____________________

(1) شرح المنظومة / 172.

(2) شرح قواعد العقائد / 39.

(3) الشوارق 2 / 210 - 211.

(4) إحقاق الحق 2 / 116.

١١٨

للعالم على النظام الواقع من لوازم ذاته، فأنكروا القدرة بالمعنى المذكور... وأمّا كونه تعالى قادراً بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فهو متّفق عليه بين الفريقين... (1) إلخ.

قال القوشجي في شرح التجريد: ذهب الملّيون قاطبةً إلى أنّ تأثير الواجب في العالم بالقدرة والاختيار، على معنى أنّه يصح منه فعل العالم وتركه، وذهب الفلاسفة إلى أنّ تأثيره فيه بالإيجاب (2) انتهى.

وكذا الإصبهاني في شرحه مطالع الأنظار على طوالع الأنوار.

وقال بعض الفضلاء السادة في شرحه على نهج البلاغة: وقيل: هو (أي القادر) كون ذاته بذاته في الأزل، بحيث يصحّ منه خلق الأشياء فيما لا يزال على وِفق علمه بها، وهي عين ذاته، وقيل: هي - القدرة - علمه بالنظام الأكمل من حيث أنّه يصحّ صدور الفعل عنه، وقيل: هي عبارة عن نفي العجز عنه، وقيل: هي فيض الأشياء عنه بمشيئته التي لا تزيد على ذاته، وهي العناية الأزلية (3) انتهى.

تعقيب تحصيلي

هذه نبذة من كلماتهم في المسألة، وهي تدلّك على حقيقة القولين المذكورين دلالةً واضحة، ولمزيد تنقيح البحث نذكر ما يستفاد من هذه التعابير، وهو أُمور:

الأَوّل: إنّ البحث ليس بلفظي كما توهم، ولا ملازمة بين القولين أصلاً كما زعم، فإن المتكلّمين يعتبرون الصحّة التي هي الإمكان في تعريف القدرة، والفلاسفة ينكرونها أشدّ الإنكار.

فالتعريف الأَوّل - وهو صحّة الفعل والترك - صحيح عند أصحاب الكلام، وباطل بزعم أرباب الفلسفة، وأمّا التعريف الثاني - وهو إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل - فهو ينطبق على كلا المسلكين، فإنّ صحّة الشرطية لا تنافي ضرورة المقدّم وامتناع التالي ولا إمكانهما، فالمتكلّم على الثاني والفلسفي على الأوّل.

الثاني: اعتراف الحكماء بصحة تعريف المتكلّمين، في الذي كان إرادته زائدةً على ذاته، وكان داعيه أمراً مبايناً، فإنّ الفعل بالنظر إلى ذاته من حيث هي ممكن الصدور والترك، والخلاف فيمَن كان إرادته وداعيه عين ذاته بلا فرق أبداً.

الثالث: ضرورة العالم بالنسبة إلى ذاته تعالى من حيث هي ذاته، وعدم إمكان تخلّفه عنها -

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 41.

(2) شرح التجريد / 348.

(3) منهاج البراعة 1 / 309.

١١٩

سواء كان إمكاناً ذاتياً أو وقوعياً- فضلاً عن وقوع الترك، كما ظهر من كلام الأسفار وشرح المنظومة، فما تقدّم من الشوارق من أنّ القدرة، بمعنى كونه بحيث يصحّ منه فعل العالَم وتركه بالنظر إلى ذاته، أو بمعنى كونه بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، فمتفق عليه بين الفريقين، ساقط جداً فإنّ فعل العالَم بالنسبة إلى ذاته تعالى ضروري عند الحكماء، فأين الاتفاق؟ نعم التعريف الثاني متّفق عليه بينهما على نحو ما عرفت.

الرابع: معنى اختيار الواجب عند الحكماء، هو صدور الفعل عنه مقارناً للعلم والرضاء فقط، ولا يعتبرون إمكان التخلّف فيه ولو إمكاناً ذاتياً، بل يرون امتناعه كما مرّ، وهذا بخلاف المتكلّمين، فإنّهم يرون وقوع التخلّف شرطاً في مفهوم الاختيار، كما يظهر من عبارة المحقّق الطوسي، أو إمكان التخلّف إمّا ذاتياً أو وقوعياً، كما نقله السبزواري عن بعضهم.

أقول: فالإيجاب عند الأَوّلين هو صدور الفعل من غير العلم والرضاء به، وعند الآخرين صدوره بلا جواز تخلّفه، فالحكيم إذا ادّعى أنّ الواجب القديم مختار يعني به: أنّه عالم بصدور فعله عنه، وليس كالشمس في إشراقها والنار في إحراقها. قال خاتم الفلاسفة في أسفاره: فإذن ما يقال من أنّ الفرق بين الموجب والمختار: أنّ المختار ما يمكنه أن يفعل وألاّ يفعل، والموجب ما لا يمكنه أن لا يفعل، كلام باطل؛ لأنّك قد علمت أنّ الإرادة متى كانت متساويةً لم تكن جازمةً، وهناك يمتنع حدوث المراد إلاّ عند مَن نفى العلّية والمعلولية بين الأشياء كالأشاعرة، ومتى ترجّح أحد طرفيها على الآخر صارت موجبةً للفعل، ولا يبقى حينئذٍ بينها وبين سائر الموجبات فرق من هذه الجهة، بل الفرق ما ذكرنا، من أنّ المريد هو الذي يكون عالماً بصدور الفعل الغير المنافي عنه، وغير المريد هو الذي لا يكون عالماً بما يصدر عنه -كالقوى الطبيعية- وإن كان الشعور حاصلاً، لكن الفعل لا يكون ملائماً، بل منافراً، مثل الـمُلجَأ على الفعل فإنّ الفعل لا يكون مراداً له... إلخ.

الخامس: محور النزاع ومناط البحث في المقام هو الداعي، فإنّه إن ثبت زيادته على ذاته تعالى تمّ قول المتكلّمين؛ إذ الفعل حينئذٍ بالنسبة إلى الذات من حيث هي ممكن الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار وهو واضح، أو لأنّ الداعي لا يدعو إلى المعدوم بالضرورة، كما نقله العلاّمة الطوسي عن المتكلّمين، بل تقدّم عن التفتازاني (1) أنّه متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين، وعليه فإنكار الحكماء في قول المحقّق الطوسي المتقدّم - حيث قال: والحكماء ينكرونه - راجع إلى الداعي نفسه، لا إلى عدم داعويته إلى المعدوم فتأمّل.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المراد بالداعي - كما يظهر من مسفوراتهم - هو إرادته التابعة

____________________

(1) تقدّم في الصفحة 81 من هذا الجزء.

١٢٠