صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 114464
تحميل: 4718

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114464 / تحميل: 4718
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

للأغراض الزائدة على ذات الواجب، كما عن الإمامية والمعتزلة، والحكماء ينكرونه جداً ويقولون: إنّ الغرض من فعله، نفس ذاته المقدّسة. والأشعريون ينكرون الغرض من أصله في أفعاله تعالى، ولكنّهم يجعلون صفاته زائدةً على ذاته، فيصح لهم إثبات اختياره من هذه الناحية، كما اعترف به كلام الأسفار المتقدّم.

ومسألة تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة، مسألة مهمة عويصة طويلة الذيل جداً، ومع ذلك أُهملت في الكتب الكلامية، ولكنّنا سنستوفي بحثها في المقصد الخامس إن شاء الله تعالى، وسنبرهن من العقل والقرآن على صحته، لكنّ الشأن في الابتناء المذكور، فإنّ الفعل - بناءً على زيادة الداعي على الذات - وإن كان ممكناً بالنسبة إلى الذات المذكورة، من حيث الصدور واللاصدور، كما ذكره في الأسفار، وهو يبطل مذهب الفلاسفة من نفي إمكان الفعل بالنسبة إلى الذات، لكنّه لا يثبت مذهب المتكلّمين، ما لم يتحقّق مقدورية الداعي المذكور، فإنّا لو فرضنا أنّ الداعي غير مقدور كان الفعل الصادر عنه - صدور المعلول عن علّته التامة - أيضاً غير مقدور، فأين الاختيار؟

وقد ذهب جمع كثير إلى إرجاع إرادته تعالى إلى العلم بالمنفعة والمصلحة، ولعلّه المشهور بين العدلية، ومن الواضح أنّ العلم - سواء كان عين ذاته، أو زائداً عليها وقائماً بها من الأزل - غير مقدور للواجب.

وخلاصة المقال: أنّ مجرّد إمكان الفعل صدوراً وتركاً، بلحاظ ذاته تعالى من حيث هي، لا يفي بإثبات اختيار الواجب، الذي يصرّ عليه المتكلّمون، فإنّه بمعنى له أن يفعل وله أن لا يفعل، وهذا إنّما يتحقّق في فرض مقدورية الدّاعي، وأمّا ما ادّعاه شركاء الفن وغيرهم، من الضرورة على أنّ الدّاعي لا يدعو إلاّ إلى معدوم، فهو ممّا لا سبيل لنا إلى تصديقه؛ إذ يمكن الالتزام بهذا الداعي - وهو علمه بما في الفعل من المصلحة - والقول مع ذلك بضرورة صدور الفعل عنه من جهة أدلة الحكماء الآتية، فإنّ الله قديم الذات وقديم العلم، فهو عالم أزلاً بأنّ الشيء الفلاني فيه مصلحة مثلاً، فهذا العلم القديم بما أنه علّة يستلزم قِدم المعلول. نعم لو بنينا على قول الفلاسفة من نفي الداعي، فلا يمكن أن نذهب إلى اختياره تعالى في أفعاله، كما يرومه الكلاميون، اعتماداً على ما سيجيء من دلائلهم في هذه المسألة ومسألة حدوث العالم، كما ستعلم وجهه في الدليل الثاني من أدلّة الحكماء.

السادس: الظاهر من كلام المحقّق الطوسي قدّس سره، أنّ وقوع تخلّف الفعل عن الفاعل معتبر في مفهوم الاختيار، لكنّه غير مدلّل، بل الملاك هو إمكانه إمكاناً وقوعياً، وأمّا نفس التخلّف خارجاً فهو غير معتبر، نعم هنا شيء آخر وهو أنّ الممكن الوجود هل يمتنع قِدمه أو لا؟ وسيأتي بحثه

١٢١

في مسألة حدوث العالم، لكن القول بامتناعه لا يشهد على اعتبار التخلّف في الاختيار؛ إذ استحالة قِدم الممكن في نفسه شيء، ومنافاته لمفهوم الاختيار شيء آخر، ولا ربط بينهما أصلاً.

هذا ما يتعلّق بجهات البحث وتصوير المدّعى، ولنرجع الآن إلى بيان أدلّتهم فنقول: استدل الفلاسفة على دعواهم بوجوه، وإليك بيانها وتوضيحها:

الأَوّل: إنّ الواجب كما تجب ذاته تجب صفاته، فهو واجب في ذاته وصفاته، وحيث إنّ القدرة من أوصافه تعالى، فلا يعقل تفسيرها بالإمكان والصحّة.

أقول: هذه عمدة ما ينهدم به بناء المتكلّمين، نعم الأشعري يعتذر بإمكان الصفات القديمة، القائمة بذاته تعالى، الزائدة عليها، وعدم وجوبها، فهذا الوجه لا يهمّه كما هو واضح، إلاّ أنّ الكلام في صحّة هذا الاعتذار، وستعلم أنّ لبّ القول بإمكان الصفات، ليس إلاّ التزاماً بمذهب الماديين، وأمّا الاعتزالي فيمكنه التخلّص من هذه العويصة، بما يقول في غير هذا المقام، أو يُنسب إليه من إنكار الصفات رأساً، ونيابة الذات منابها في آثارها، فمعنى كونه تعالى قادراً، أنّ ذاته تفعل وتترك بلا إيجاب ذاتي.

أقول: ويرد عليه أنّ النيابة المذكورة عين قول الدهريين، كما ستقف عليه في المقصد الرابع إن شاء الله، فالشبهة باقية على حالها، ولا وزن لهذين الجوابين المذكورين، فلابدّ الالتزام إمّا بإيجابه ونفي الإمكان عن قدرته، أو بعدم وجوب قدرته. والفلسفي يستريح بقبول الشقّ الأَوّل، كما أنّ الأشعري والاعتزالي يبنيان على الثاني؛ وحيث إنّ الإمامي يرى بطلان الشقّين معاً، فيحتاج إلى طريق ثالث، لكنّني لم أرَ ذكراً له في كتبهم الموجودة عندي، بل هذه الشبهة قد أُهملت في الكتب الكلامية رأساً، مع أنّها ذات أهمّية جداً، ومغزاها أنّ القول بالاختيار المختار عند المتكلمين، لا يجامع القول بعينية الصفات، كما عليها الإمامية والحكماء. والتحقيق في الجواب: أنّ القدرة ليست هي نفس صحّة الصدور واللاصدور كما في الحيوان، فإنّ القدرة فيه من الكيفيات النفسانية؛ لأنّها صفة قائمة بذوات الأنفس، فكذا في الواجب؛ وحيث إنّ كنه الواجب وذاته يمتنع الاكتناه والإحاطة بها، استحال معرفة قدرته أيضاً، لكن يلزمها صحّة الفعل والترك، فالقدرة ليست نفس الصحّة المذكورة، لا في المخلوق ولا في الخالق، بل هي صفة تستوجب الصحة المذكورة (1) .

فنقول: إنّ الله تعالى قادر لِما استخدمناه من الدلائل، وستدري أنّ قدرته عين ذاته؛ وحيث

____________________

(1) نقل العلاّمة قدّس سره في شرح قواعد العقائد / 40: أنّ القادر عند أوائل المعتزلة مَن كان على صفة لأجله عليها يصح منه الفعل. ونفاة الأحوال قالوا: هو الذي يصحّ منه أن يفعل وأن لا يفعل.

أقول: الثاني باطل كما عرفت، والأَوّل صحيح لكنّ الصفة نفس ذاته.

١٢٢

اتّفق الباحثون من المتكلّمين والحكماء - كاتّفاق العقل والنقل - على امتناع إدراك حقيقته وعرفان ذاته، امتنع الإحاطة بحقيقة قدرته، لكن نعلم أنّ الصحّة المذكورة من لوازم قدرته وشؤون سلطانه، فإذن لا منافاة بين القول باختياره والقول بعينية صفاته، فإذن لا يكون مانع من الالتزام بها. هذا، وللمتكلم أن يرجع ويقول على سبيل النقض: إنّ تفسير القدرة بأن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، لا يجامع القول بعينية الصفات كما عليه الفلاسفة؛ إذ مرجعها حينئذٍ إلى ضرورة المشيّة واللامشيّة، وليست المشيّة عندهم إلاّ العلم بالعناية، ولا نتعقّل من مفهوم العلم إلاّ الانكشاف والإراءة، ولا يلتزم عاقل بأنّ الانكشاف نفس ذاته الواجبة، وأنّ حقيقة الواجب هو الكشف! فلابدّ أن يقولوا: إنّ الكشف لازم علمه تعالى.

الثاني: إنّ إرادته عين ذاته الواجبة فهي أيضاً واجبة، وعليه فالفعل أيضاً واجب بالنسبة إلى ذاته، ولا يمكن التخلّف أصلاً؛ لأنّه من تخلّف المعلول عن علّته التامّة، يظهر ذلك من الأسفار وحواشيها للسبزواري.

أقول: المنقول من معظم متكلّمي الإمامية ورؤساء المعتزلة، أنّ إرادته تعالى هو علمه بما في الفعل من المصلحة والمنفعة، ويعبّرون عنه بالداعي، وعليه فيتوجّه عليهم أنّ علمه عين ذاته تعالى، وتعلّقه بالأشياء ضروري، فيكون تحقّق الفعل أيضاً ضرورياً؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

وهذا هو الإيجاب الذي يدّعيه الفلاسفة، وأمّا الأشاعرة فهم وإن يروا زيادة إرادته على ذاته، لكنّهم يقولون بتعلّقها بأحد طرفي الفعل لذاتها، فلا يتحقّق اختياره تعالى على مذهبهم أيضاً، فالإرادة لازمة لذاته تعالى صادرة عنه بالإيجاب، وهي لذاتها متعلّقة بأحد طرفي الفعل، وهذا عين الإيجاب، وما أجاب في المواقف (1) بأنّ الوجوب بالاختيار، لا ينافي الاختيار، فهو مزيّف بعدم تعقّل الاختيار له تعالى على هذا المسلك.

والإنصاف أنّ ما قاله المتكلّمون في إرادته تعالى، يصام اختياره المفسّر بالصحّة المذكورة.

ثمّ إنّ عينية الإرادة مع الذات وإن توجب ضرورة الفعل وبطلان الصحّة المذكورة، إلاّ أنّها لا تثبت قِدم العالم؛ لأنّها ليست هي العلم فقط، بل العلم بالمصلحة، ولعلّها غير متحقّقة في الأزل، أو إنّ قِدم الممكن غير ممكن، فإثبات قِدم العالَم موقوف على إمكان قِدم الممكن وتحقّق المصلحة، كما لا يخفى.

لكن الذي يبطل هذا الوجه، هو ما ذهبنا إليه من حدوث إرادته تعالى، وعدم

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 69.

١٢٣

قِدمها، ووجوبها، وعينيتها، مع الذات الأحدية الواجبة، فهذه العويصة المهمّة منحلة على أُصولنا بلا تكلف.

الثالث: إنّ الواجب الوجود واجب من جميع جهاته، فكيف يعقل الصحّة في حقه؟ ذكره صاحب الأسفار والسبزواري وغيرهما ممّن تقدّمهما.

أقول: إن أرادوا بذلك وجوب القدرة له تعالى، وعدم إمكان انفكاكها عن الذات، فهو ممّا لا خلاف فيه لأحد، حتى من الأشعري القائل بإمكان صفاته، فإنّه يرى ضرورة ثبوت القدرة الممكنة له تعالى، وإن أرادوا بذلك إثبات وجوب القدرة في نفسها وأنّها واجبة، فهذا وإن كان حقاً متيناً وبه اعتقد الإمامية، إلاّ أنّ القاعدة المستدلّ بها لا تفي بإثبات ذلك، كما يظهر لمَن لاحظها، وإن أرادوا بذلك نفي إمكان أفعاله بالنسبة إليه تعالى، وأنّها تصدر عنه تعالى ضرورةً ووجوباً، ولا يعقل الإمكان في حقه مطلقاً سواء في أفعاله وأوصافه، فهذا وإن كان هو مفاد القاعدة، لكنّنا نردّه بأنّ القاعدة المذكورة باطلة لا أساس لها أبداً، كما سلف بحثها مفصّلاً.

الرابع: ما سلف في عبارة الأسفار وإليك بيانه الآخر، قال: ثمّ إنّك إذا حقّقت حكمت بأنّ الفرق بين المريد وغير المريد - سواء كان في حقّنا أو في حقّ الباري تعالى - هو ما أشرنا إليه، فإنّ إرادتك ما دامت متساوية النسبة إلى وجود المراد وعدمه، لم تكن صالحةً لرجحان أحد ذينك الطرفين على الآخر، وإذا صارت إلى حد الوجوب لزم منه الوقوع، فإذن الإرادة الجازمة حقّاً يتحقّق عند الله... إلخ.

أقول: هذا مأخوذ من كلام الرازي في محكي المباحث المشرقية، كما نقله هو في بعض فصول بحث إرادة الله تعالى، واللاهيجي أيضاً في مبحث إرادته تعالى من شوارقه، وجوابه: أنّ الوجوب الناشئ من قِبل الإرادة والاختيار، لا ينافي الاختيار بل يؤكّده، وهذا خارج عن محل الكلام كما هو واضح للمبتدئين، وأمّا وجوب الإرادة نفسها فقد أشرنا إلى أنّ إرادته تعالى كإرادة بقية الفاعلين حادثة، كما سيأتي بحثهما.

الخامس: ما ذكره أيضاً صاحب الأسفار بقوله: وممّا يدلّ على ما ذكرنا - من أنّه ليس مَن شرط كون الذات مريداً وقادراً إمكان أن لا يفعل - أنّ الله تعالى إذا علم أنّه يفعل الفعل الفلاني في الوقت الفلاني، فذلك الفعل لو لم يقع لكان علمه جهلاً، وذلك محال، والمؤدّي إلى المحال محال، فعدم وقوع ذلك الفعل محال فوقوعه واجب... مع أنّ الله مريد وقادر عليه.

أقول: وهذا التلفيق من مثله عجيب جداً، أَلم يعلم أنّ هذا الدليل لو تمّت دلالته على مرامه، لعمّ جميع الفاعلين من الحيوان وغيره؟ فيبطل الاختيار رأساً، ولا يصحّ تفسير القدرة بصحّة الصدور واللاصدور حتى في القادر، الذي يفعل بداع زائد على ذاته، وقدرة زائدة على ذاته، مع

١٢٤

أنّه صرّح - في غير مورد - بصحّة التفسير المذكور في غير الواجب.

وحلّ هذه الشبهة، أنّ الله كما يعلم بصدور الفعل عن نفسه أو عن غيره، كذلك يعلم بصدوره عنه اختياراً، وأنّ تركه ممكن له ذاتاً ووقوعاً، فلو فرضا عدم إمكان الترك للزم جهله تعالى وهو محال، والمستلزم للمحال محال.

ثمّ إنّ هذه الشبهة مشهورة ذكرها الجبريون في قِبال العدلية، وسنرجع إليها في مباحث المقصد الخامس إن شاء الله.

السادس: ما ذكره هو أيضاً، من أنّ الفاعل قادراً، إنّما يكون فاعلاً بالفعل حال صدور الفعل عنه، وفي تلك الحال يستحيل أن يصدق عليه أنّه شاء أن لا يفعل فلم يفعل... إلخ.

أقول: وهذا منه غريب وخبط عظيم، فقد خُلط عليه محلّ البحث؛ ولذا أصرّ على أنّ هذا الوجه يثبت مرامه، ولا يدري أنّ الوجوب الناشئ عن الإرادة بعد تحقّقها اختياراً، غير وجوب الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل، كيف والأَوّل عامّ يشمل جميع الفاعلين، والثاني خاصّ بمَن كان فعله لا لصفة زائدة ولا لداعٍ زائد، كما صرّح به مراراً؟ وإنْ كان اكتفى في بعض كلماته، بصدور الفعل عن علم وإرادة في صدق المختار، ولو في غير الله تعالى، بل ادّعى أنّه لا يقال مثل هذا الفاعل في العرف العامّي ولا الخاصّي: إنّه فاعل غير مختار.

أقول: بطلانه واضح؛ لأنّ إطلاق المختار على مثله اصطلاح فلسفي، والعرف لا يقول له المختار قطعاً، كما اعترف به ابن سينا وغيره أيضاً.

السابع: قد ثبت قِدم العالَم في طبيعيات الفلسفة، وهو لا يمكن إلاّ عن مُفيض تام الفاعلية. نقله المحقّق الطوسي عن الحكماء في محكي شرحه على الإشارات ردّاً على الرازي.

أقول: هذا الوجه باطل صغرى وكبرى. أمّا الصغرى؛ فلِما يأتي من حدوث العالم بشراشره، وأمّا الكبرى؛ فلِما تقدّم من أنّ المعتبر في مفهوم المختار، هو إمكان تخلّف فعله عنه، لا وقوعه خلافاً لشركاء الفن أو معظمهم، فقِدم العالَم لا يكشف عن صحّة مقصودهم، كما أنّ حدوثه على نحو مطلق لا يدلّ على اختياره، كما يأتي إن شاء الله.

الثامن: الاختيار بالمعنى الذي يعتقده المتكلّمون، يستدعي زيادة الداعي الذي يفعل بوجوده ولا يفعل بعدمه، وليكون الفعل بالنسبة إلى ذات الفاعل ممكن الصدور واللاصدور، وهي - أي زيادة الداعي على ذاته - تستلزم الاستكمال المحال في حقّه تعالى. يستفاد من الأسفار والشوارق.

أقول: استلزام الاستكمال باطل جداً، كما ستعرفه في المقصد الخامس إن شاء الله.

وأعجب من ذلك ما ذكره ابن سينا على ما في الأسفار: عند المعتزلة أنّ الاختيار يكون

١٢٥

بداعٍ أو بسبب، والاختيار بالداعي يكون اضطراراً، واختيار الباري وفعله ليس بداعٍ، انتهى. وقَبِله صاحب الأسفار أيضاً فكرّره في كتابه.

أقول: وهذا الكلام عندي لا يستحقّ ردّاً ولا جواباً؛ لأنّه مثل أن يقال: إذا كانت الشمس طالعة فالليل موجود!

التاسع: إنّ تعلّق القدرة بأحد الضدّين، إمّا لذاتها بلا مرجّح فيستغني الممكن عن المرجّح، فإنّ نسبة ذات القدرة إلى الضدّين على السوية، فيلزم سدّ باب إثبات الصانع؛ لجواز ترجّح وجود الممكن حينئذٍ على عدمه، وأيضاً يلزم قِدم الأثر؛ لأنّ الواجب وقدرته وتعلّقها أزلي مع أنّ أثر المختار حادث، وإمّا لا لذاتها بل بمرجّح خارجي، ولا يجب الفعل مع ذلك المرجّح وإلاّ لزم الإيجاب، بل كان جائزاً هو وضدّه، فيحتاج إلى مرجّح آخر ويلزم التسلسل في المرجّحات.

العاشر: إنّ إرادة الله وقدرته، متعلقتان من الأزل إلى الأبد، بترجّح الحادث المعين، وإيجاده في وقت معيّن، والتغيّر في صفاته محال، فوجود ذلك الحادث في ذلك الوقت واجب، فهو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار. نقلهما بعضهم عن الفلاسفة (1) .

الحادي عشر: إنّ ما لم يجب لم يوجد، فلابدّ من أن يكون الله تعالى موجباً - بكسر الجيم - فإنّه موجِد، وليس موجَباً - بفتح الجيم - كما زعم المتكلمون وينسبونه إلى الحكماء. يظهر ذلك من كلام السبزواري المتقدّم.

أقول: أمّا الوجه التاسع فنختار وجوب الفعل، ولكن ليس هذا من الإيجاب المتنازع فيه كما مرّ غير مرّة؛ ضرورة جريان هذا الوجوب في جميع الفاعلين، بخلاف الثاني، فإنّه لا يشمل الفاعل من الحيوان.

وبالجملة: الكلام في وجوب الفعل عليه من جهة وجوب إرادته له وجوباً ذاتياً، لا في وجوبه الناشئ من تعلّق إرادته، وإن كانت غير ذاته بل كانت ممكنةً أو حادثة، وهذا ظاهر لا ستر عليه. وأجاب الناقل ومَن تبعه عنه بشيء أسخف من أصل الشبهة، ولا يليق بنا أن نتعرّض له، ومنه ظهر بطلان الوجه الأخير أيضاً، وأنّ الله تعالى على مذهبهم فاعل موجَب - بفتح الجيم - ولا يُستشم منه رائحة الاختيار له تعالى لا عقلاً ولا عرفاً، فإصرار السبزواري وغيره على أنّه موجِب - بالكسر - لا موجَب - بالفتح - واستيحاشهم من التصريح بما هو صميم مذهبهم من إيجابه وعدم اختياره، شيء عجيب جداً، لا ندري ما الذي دعاهم إلى إخفاء مسلكهم في هذا المقام؟

____________________

(1) شرح المواقف 3 / 44، 46.

١٢٦

هذا كلّه بناءً على تمامية القاعدة القائلة: إنّ ما لم يجب لم يوجد في الأفعال الاختيارية المباشرية، وأمّا بناءً على عدم تماميتها فالأمر واضح، وأمّا حديث لزوم التسلسل في المرجّحات، فليس إلاّ دليلاً آخر على تلك القاعدة ونفي الأولوية، وسنرجع إليها في المقصد الخامس.

وأمّا الوجه العاشر فجوابه: أنّ قدرته متعلّقة بجميع التروك والأضداد، فليس الترجّح مستند إليها، وإلاّ لزم التناقض والجمع بين الضدين، بل هو مستند إلى إرادته، التي ليست هي إلاّ إحداثه، وتعلّق الإرادة بهذا المعنى من الأزل محال، بل تعلّق القدرة بالفعل قديم غير مستلزم للوقوع، وتعلّق الإرادة حادث وموجب للوقوع لكنّها قابلة للتغيّر، فافهم جيداً.

ويناسب المقام مباحث أُخر، سنتعرض لها إن شاء الله في مباحث الإرادة، وحدوث العالم، وتعلّل أفعال الله بالأغراض؛ إذ هذه المباحث لها اشتراك وارتباط شديد كما يعرفه الراسخون.

هذا ما استدلّ به أصحاب الفلسفة لإثبات مرامهم، ولم ندع شيئاً منه مهملاً، وقد دريتَ أنّ الإنصاف العقلي يحكم بعدم تمامية دلالة دلائلهم، بل وبعضها خارج عن محلّ النزاع رأساً، فحينئذٍ إن تمّ أدلة المتكلّمين على مذهبهم لَما كان بأساً ومانعاً من الالتزام به، وكذا لو ثبت من الشرع ما يدلّ عليه؛ إذ المسألة قابلة للتعبّد الشرعي ولا محذور فيه أصلاً، فإنّ الاختيار وهو كيفية القدرة، ممّا لا يتوقّف عليه حجّية كلام الشارع حتى يلزم الدور ونحوه، فالآن نرجع إلى أدلّتهم، فقد استدلّوا على مذهبهم بوجوه:

الأَوّل: لو لم يكن مختاراً للزم إمّا قِدم العالَم أو حدوث القديم، وكلا الأمرين محال، فيمتنع المقدّم المذكور بامتناع التالي. بيان الملازمة: أنّ أثر الموجب لا ينفكّ عنه، فهو وأثره مقارنان في الخارج، فإذا لم يكن الواجب مختاراً جاز تأخّر فعله عنه، ولوجب تحقّقهما - أي الله والعالَم - إمّا في الأزل أو في الحدوث، وأمّا بطلان التالي فامتناع حدوث الواجب واضح، كما أنّ حدوث العالم مبيّن كما يأتي في محلّه. وبالجملة: أنّ حدوث العالم دليل على اختيار خالقه.

الثاني: إنّ الإيجاب الذي اصطلح عليه الحكماء باسم الاختيار نقص؛ لعدم تمكّنه حينئذٍ من الترك أو الفعل، بل صدور أحد الطرفين واجب عليه، والنقص عليه محال اتّفاقاً وعقلاً، كما يأتي بحثه إن شاء الله في المقصد الآتي.

الثالث: إنّه لو لم يكن مختاراً للزم أحد الأمور الأربعة: إمّا نفي الحادث بالكلّية، أو عدم استناده إلى المؤثّر، أو التسلسل، أو تخلّف الأثر عن المؤثّر الموجب التام، وبطلان اللوازم دليل بطلان الملزوم. بيان الملازمة: أنّه إمّا أن لا يوجد حادث أو يوجد، فإن لم يوجد فهو الأمر الأَوّل، وإن وجد فإمّا أن لا يستند إلى موجد أو يستند، فإن لم يستند فهو الثاني، وإن استند فإمّا أن لا

١٢٧

ينتهي إلى قديم أو ينتهي، فإن لم ينتهِ فهو الثالث أي التسلسل؛ وذلك لأنّه إذا استند إلى مؤثّر غير قديم ولا منتهٍ إليه، فلابدّ هناك من مؤثّرات حادثة غير متناهية مع كونها مترتّبةً مجتمعة، وهو تسلسل محال اتّفاقاً؛ وإن انتهى فلابدّ قديم يوجب حادثاً بلا واسطة من الحوادث؛ دفعاً للتسلسل فيها، سواء كانت مجتمعةً أو متعاقبة، فيلزم الرابع.

الرابع: إنّه تعالى لو لم يكن مختاراً لاستحال تغيّر الموجودات، وتبدّل الكائنات بالمرة، فإنّه يتبع تغيّر العلّة وتبدّلها، وهو في حقّ الواجب مستحيل، فثبت أنّه مختار.

الخامس: إنّه لو كان موجِباً لوجب تحقّق جميع الموجودات الممكنة، في درجة واحدة، بلا تقدّم وتأخر بينها، فإنّها متساوية النسبة إلى العلّة، أعني بها ذاته المقدسة، والتخصيص الواقع يكون ترجيحاً بلا مرجّح، بل ترجّحاً من دون مرجّح.

السادس: الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مثل قوله تعالى: ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1) ، وقوله: ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (2) ، وقوله: ( إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) (3) ، وقوله: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (4) وأمثالها من الآيات الصريحة في المدعى.

السابع: الأخبار المتواترة عن النبي الأعظم وآله الكرام (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، مثل ما ورد في أنّه يمحو ويثبت، ويقدّم ويؤخّر وله البداء، ونحو ذلك.

الثامن: الضرورة الدينية على اختياره، بل تقدّم عن العلاّمة الحلي قدّس سره أنّه الفارق بين الإسلام والفلسفة، بل ادّعى الجرجاني والقوشجي والأصبهاني اتّفاق المليّين قاطبةً على ذلك كما مرّ.

هذا ما وقفنا عليه في كتبهم من الأدلّة على اختياره تعالى.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل، فهو موقوف على ثبوت أمرين، الأَوّل: حدوث العالم كما هو ظاهر، الثاني: إمكان أزلية الممكن؛ إذ لو استحال وجود الممكن في الأزل، وتحتّم مسبوقية الممكن بالعدم، لَما كشف حدوث العالم عن الاختيار.

وبالجملة: حدوث العالم بمجرّده، وإن كان يبطل قول الفلاسفة بقِدمه، إلاّ أنّه لا ينفع المتكلّمين ما لم يحرز إمكان أزليته، حتى يكون عدم تحقّقه مستنداً إلى إرادة الفاعل دون المانع

____________________

(1) إبراهيم 14 / 19.

(2) النحل 16 / 40.

(3) الحج 22 / 14.

(4) الرعد 13 / 39.

١٢٨

في نفس المفعول، وستعرف إن شاء الله في محلّه امتناع أزليته، فهذا الدليل - بما له من الاشتهار - غير تام، وأنّ الحدوث لا يثبت الاختيار، كما أنّ الاختيار أيضاً لا يدلّ على الحدوث، خلافاً لِما توهّمه الرازي في محكي شرح الإشارات، فإنّا قد ذكرنا إمكان مقارنة فعله معه من حيث هو مختار.

وأمّا الوجه الثاني، فأجاب عنه الفلاسفة بمنع عقد الوضع، وأنّ صدور الفعل مع العلم والإرادة ليس بإيجاب، وإن لم يكن هناك التمكّن من تركه، بل ذكروا أنّه كمال الاختيار وأفضل أنحاء الصنع، بل لا اختيار إلاّ لمَن يفعل لذاته بذاته، وأمّا مَن يفعل لداعٍ زائد فهو مضطرّ في صورة الاختيار، فالواجب - عزّ مجده - موجب بكسر الجيم لا بفتحه.

أقول: إنكار الإيجاب مع نفي التمكّن تناقض بحت وتهافت واضح، ومهما قالوا في توجيهه وتصحيحه، فلا يخلو هو من جهالة أو تجاهل أو إغفال، ولا يكون الواجب على مذهبهم، إلاّ موجَباً بفتح الجيم لا بكسره، وتحريف الكلم عن مواضعه غير نافع، فالصحيح أن يمنع عقد الحمل، وأنّ الإيجاب المذكور ليس بنقص، بل هو ممّا أثبته الأدلة العقلية المتقدّمة.

وأمّا الوجه الثالث، فإتمام شقّه الرابع موقوف على حدوث العالم بشراشره، وإلاّ أمكن ردّه بوجود ممكن قديم مختار يؤثّر في الحوادث، وهو معلول الواجب الموجب، أو الالتزام بوجود حوادث غير متناهية على ما ذكره أرباب الفلسفة.

وبالجملة: هذا الوجه راجع إلى الوجه الأَوّل ولا مزية له غير الزيادة في العبارة.

وأمّا الوجه الرابع والخامس، فصحّتهما موقوفة على بطلان ما ذكره الفلاسفة، في ارتباط الحادث بالقديم؛ إذ لو صحّ ما ذكروه لا يبقى مجال لهما، على أنّ القابل في نفسه أيضاً قاصر عن التحقّق في مرتبة واحدة.

وأمّا الوجه السادس، فيمكن أن يجاب عنه بأنّ مفاد الآيات المذكورة وقوع الفعل عند إرادته، وهذا ممّا لا خلاف فيه لأحد، وإنّما الكلام في تحديد إرادته وأنّها واجبة أو لا، وهل للواجب قبل وجود الفعل تمكّن من تركه أو لا؟ لكن الإنصاف أنّ القرآن - بظواهره لا بنصوصه - يدلّ على اختياره تعالى، فإنّ مَن أُلقي عليهم خطابات القرآن - وهم عامّة الناس - لا يفهمون من بعض الآيات المذكورة وأمثاله إلاّ التمكّن المذكور، لكن لا حجّية للظهور في قبال الأدلة العقلية، فهذا الوجه موقوف على عدم تمامية شيء من دلائل الفلاسفة.

وأمّا الثامن فالإنصاف أنّه غير بعيد، فإنّ اختياره تعالى - بنحو يدعيه المتكلّمون - ممّا ارتكز في أذهان المسلمين، رجالهم ونسائهم، جاهلهم وعالمهم، صغيرهم وكبيرهم، وهذا الارتكاز لا يكون مستنداً إلاّ إلى الدين وطريقة الشارع، فالثابت من الدين هو ذلك، وقد عرفت

١٢٩

أنّ ما قيل في امتناعه وبطلانه كان مزيّفاً ضعيفاً، فإذن يتعيّن تعييناً تعبّدياً لا عقلياً التديّن والاعتقاد بهذا المسلك؛ لِما مرّ في فوائد المدخل من إقرار العقل بتصديق قول المعصوم.

خلاصة المقال في تنقيح المقام

قد استبان ممّا ذُكر أنّ النظرية الفلسفة المذكورة لا تتمّ إلاّ بأُمور:

1 - كون إرادته عين ذاته، وإلاّ كان الفعل بالنظر إلى ذاته المقدّسة ممكن الصدور واللاصدور.

2 - كون الغرض من فعله نفس ذاته، وإلاّ لكان وجوب الفعل بلحاظ ذلك الغرض دون ذاته.

3 - قِدم العالم إذا أمكن أزلية الممكن.

فإذا لم يثبت واحد من هذه الأُمور فقد انهدم بناؤهم من أساسه، ولكن لا يلزم منه صحّة قول المتكلّمين، كما يظهر من مراجعة ما سبق، نعم إذا ثبت حدوث العالم وأزلية الممكن، ثبت اختياره تعالى؛ إذ عدمه في الأزل مستند حينئذٍ إلى إرادته تعالى، فيكون الواجب متمكّناً من الفعل والترك، فتأمل.

فمجرّد بطلان قول الفلاسفة لا يكشف عن صحّة قول المتكلّمين، فإنّها موقوفة على إمكان صدور الفعل وعدمه بالنسبة إلى ذاته تعالى، وإلى داعيه، وعدم كون الإرادة واجبة، نعم الوجوب الناشئ من الإرادة - المسمّى بالوجوب السابق - لا ينافي الاختيار، فإذن اختياره تعالى وإن كان ثابتاً من جهة الشرع كما مرّ، إلاّ أنّه غير ثابت من جهة العقل؛ لِما عرفت من عدم تمامية أدلّة أرباب الكلام.

هذا، والذي يدلّ على حقية مذهبهم هو قاعدة الملازمة المتقدّمة، فإنّ القدرة الواجبة - التي تستلزم التمكّن وصحّة الصدور واللاصدور - ممكنة الثبوت للواجب؛ لِما عرفت من بطلان دلائل الفلاسفة، فهي إذن ثابتة له، فهو قادر مختار أي له أن يفعل وله أن لا يفعل.

ويمكن أن يستدلّ أيضاً، بأنّ الاختيار بهذا المعنى كمال للقادر بلا شك، وأنّ ما يزعمه أهل الفلسفة نقص له، وحيث إنّه جامع لجميع الكمالات، بل لا كمال إلاّ وهو معطيه ولا سبيل للنقص إليه، فهو مختار بالمعنى الذي أثبته الكلاميون لا غير، والله الهادي.

تنبيه

اختياره بهذا المعنى وإن ادّعاه المتكلّمين بأجمعهم، بل مرّ أنّه ضروري من دين الإسلام، لكنّه لم يتديّن به - حقّ التديّن - إلاّ الطائفة الإمامية، الذين أخذوا أُصولهم وفروعهم من آل محمد (صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، فإنّ الاعتزاليين قالوا بالثابتات الأزلية، والأشعريين بالقدماء

١٣٠

الثمانية، ولا شك أنّ الواجب بالنسبة إليها موجَب، كما صرّح به أنفسهم، فتأمل.

فأعظم الله جزاء الإمام الصادق من أئمة أهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث أدّب أتباعه على سلوك صراط الحق ونهج الصدق.

الناحية الثالثة: في عموم قدرته

المدّعى: أنّ الواجب الوجود قادر على كلّ ممكن (1) تحقّق في الخارج أم لا، والدليل على ذلك وجوه:

1 - إنّ الممكن - كما علمت ممّا مضى - لا يقتضي الوجود ولا العدم ولو بنحو الأولوية، بل هما متساويان إليه، يوجد لوجود المرجّح ويعدم بعدم المرجّح، فإذن هو محتاج إلى غيره في الوجود والعدم، هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى، أنّ الممكن لا يعقل أن يبقى على حالة الاستواء في الخارج؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين، وإنّما هي بلحاظ نفسه، وعليه فكل ممكن إمّا موجود وإمّا معدوم، وقد قرّرنا أنّ كل موجود محتاج إلى وجود المرجّح، وكلّ معدوم مفتقر إلى عدمه، وليس هذا المرجّح إلاّ إرادة الواجب عزّ اسمه؛ لانتهاء سلسلة الموجودات إليها، فيستنتج من هذه المسائل، أنّ الممكنات بأسرها محتاجة إلى الله تعالى أزلاً وأبداً، وأنّ الله هو المفيض القابض، وحيث تقدّم أنّ فاعليته تعالى بنحو الاختيار والتمكّن دون الجبر والإيجاب، فقد اتّضح أنّه قادر على كلّ ممكن، وكلّ ممكن مقدور له، وهذا دليل إنّي متين قوي على المطلوب.

2 - إنّ القدرة ثابتة له في الجملة على ما مرّ، وبما أنّها عين ذاته المقدّسة، فهي غير محدودة، فإنّ التناهي من خصائص الإمكان ونواقض الوجوب، كما يأتي في المقصد الثالث إن شاء الله، وعليه فقد ثبت عدم تناهي قوته وقدرته، وهذا هو معنى عمومها وتعلّقها بكل ممكن، فتدبّر.

3 - القدرة العميمة ممكنة الثبوت له تعالى، وما أمكن في حقّه وجب كما سلف.

4 - العجز - ولو في بعض الموارد - نقص، وهو ممتنع عليه. ذكره بعضهم.

5 - لو لم يكن قادراً على الإطلاق لكان محتاجاً - ولو في مورد - إلى غيره، فهو إن كان ممكناً لزم الدور، فإنّ الممكن في حدوثه وبقائه، وفي وجوده وأفعاله، محتاج إلى الواجب، وإن

____________________

(1) قال مَن في قلبه مرض في مختصر تحفة الاثني عشر / 81: إنّ الله قادر على كل شيء، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي والشريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية في ذلك، فإنّهم قالوا: إنّ الله لا يقدر على عين مقدور العبد.

أقول: النسبة كاذبة، كما تعرف من مراجعة الصفحة الآتية، في الوجه التاسع، وقد ذكرنا في المطلب الثالث من عنوان تنوير عقلي:: 36 مراد العلَمينِ: الشيخ الطوسي والسيد المرتضى قدّس سرهما.

١٣١

كان واجباً فأدلة التوحيد تنفيه.

أقول: هذا الوجه ينفي المحتاج إليه دون الحاجة، ولا ملازمة بينهما قطعاً.

6 - إنّ علم الواجب فعلي، فإنّه عين ذاته، التي هي عين حيثية العلّية لكلّ شيء، وعلمه تعلّق بكلّ شيء، فقدرته تعلّقت بكلّ شيء. ذكره السبزواري في شرح المنظومة، وكذا الوجه الآتي.

وفيه: ما يأتي من أنّ إرادته زائدة على ذاته.

ويرد أيضاً على قوله: (وعلمه تعلّق بكل شيء) أنّه مصادرة محضة، فإنّ تعلّق علمه الفعلي، الذي هو إرادته بشيء فرع مقدوريته، وكون الواجب قادراً عليه وهو أَوّل الكلام، وإن شئت فقل: إنّه مستلزم للدور؛ بداهة توقّف الإرادة على شمول القدرة، فلو عُكس لدار، فافهم.

7 - إنّ الإيجاد فرع الوجود، وإذ لا وجود حقيقي للممكنات في ذواتها؛ إذ الممكن من ذاته أن يكون ليس، وله من علّته أن يكون أَيس، فلا إيجاد حقيقي لها، فإذن كما لا وجود إلاّ وهو ترشّح من لديه، كذلك لا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم.

أقول: هذا بيان متين، لكن مع أنّه أخص من المدّعى - حيث لا يجري في الممكن غير الموجود - راجع إلى الوجه الأَوّل.

8 - ما قيل إنّه المشهور، من أنّ المقتضي للقدرة هو الذات لوجوب استناد صفاته إلى ذاته، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان؛ لأنّ الوجوب والامتناع يحيلان المقدورية، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات على السوية، وإذا ثبت قدرته على بعضها تثبت على كلها.

ويُزيّف بأنّ مجرّد كون الإمكان مصحّحاً لا علّة موجبة، غير كافٍ لإثبات المقدورية؛ لاحتمال توقّفها على شرط مفقود، وإن أُريد من المصحّح العلية، فيفسده أنّ الإمكان علّة للاحتياج دون المقدورية، وإلاّ كانت العلل الموجبة مؤثّرات بالاختيار.

9 - الضرورة المذهبية والإجماع والكتاب والسنّة بأجمعها تدل على ذلك، ذكره بعض المتكلّمين من أصحابنا.

أقول: الاستدلال بالنقل لا محذور فيه في المقام كما يظهر بالتدبّر، غير أنّ الإجماع التعبّدي غير متحقّق قطعاً، كما يظهر وجهه ممّا سبق، وأمّا الكتاب فيحتمل أن قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) ونحوه ناظر إلى كلّ شيء موجود، فيكون أخص من المدّعى، نعم قوله تعالى: ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ

____________________

(1) فاطر 35 / 1.

١٣٢

الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) يمكن أن يكون شاملاً للمقام، لكنّه ظهور غير قطعي. وأمّا الضرورة فهي غير بعيدة، فتأمل.

مطالب مهمّة

المطلب الأَوّل:

قد نسبوا الخلاف في هذه المسألة إلى طوائف من الناس، وأنّهم ينكرون عموم قدرة الله تعالى على كل ممكن.

أقول: الظاهر أنّه لا مخالف في المقام أصلاً، وأنّ الكلّ متّفقون على الكلّية المذكورة، وإنّما نزاعهم في امتناع بعض الأشياء وعدمه، فالبحث صغروي، وبعبارة واضحة: أنّ قدرته تعالى لا تتعلّق بالواجب والممتنع، فإنّ ضرورة الوجود أو العدم يبطل تعلّق القدرة، التي هي ما تلزمه صحة الصدور واللاصدور، فمتعلّقها هو الممكن لا غير، فيقال: هذا ممكن، وكل ممكن مقدور لله تعالى، والكبرى كما أنّها قطيعة عقلاً وفاقية قولاً، والصغرى مختلف فيها، وهذا الخلاف ليس بعزيز، بل هو منتشر في كثير من المسائل العلمية، إذا تقرّر ذلك فإليك بيان تلك الموارد، التي وقع الخلاف في إمكانها وامتناعها:

المورد الأَوّل: عدم صدور الكثير من الواحد الحقيقي، فلا يمكن أن يصدر عن الواجب البسيط أكثر من شيء واحد بلا توسّط أمر آخر، ادّعاه الحكماء وأصرّوا عليه، وأنكره أرباب الكلام وشدّدوا عليهم النكير، وإليك بيان هذه القاعدة المشهورة بـ (الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد) من كتاب الأسفار: قال مؤلّفها (2) :

البسيط إذا كان ذاته بحسب الحقيقة البسيطة علّةً لشيء، كانت ذاته محض علّة ذلك الشيء، بحيث لا يمكن للعقل تحليلها إلى ذات وعلّة؛ لتكون علّيتها لا بنفسها من حيث هي، بل بصفة زائدة، أو شرط، أو غاية، أو وقت، أو غير ذلك، فلا يكون مبدأ بسيطاً بل مركّباً، فالمراد من المبدأ البسيط، أنّ حقيقته التي بها يتجوهر ذاته هي بعينها كونه مبدأً لغيره، وليس ينقسم إلى شيئين يكون بأحدهما تجوهر ذاته، وبالآخر حصول شيء آخر عنه، كما أنّ لنا شيئين نتجوهر بأحدهما، وهو النطق ونكتب بالآخر هو صفة الكتابة، فإذا كان كذلك صدر عنه أكثر من واحد، ولا شك أنّ معنى مصدر كذا غير معنى مصدر غير كذا - فتقوّم ذاته من معنيين مختلفين، هو خلاف المفروض، فافهم هذا ودع عنك الإطنابات التي ليس فيها كثير فائدة، وإيّاك أن تفهم من لفظ

____________________

(1) يس 36 / 81.

(2) الأسفار 2 / 214.

١٣٣

الصدور وأمثاله الأمر الإضافي، الذي لا يتحقّق إلاّ بعد شيئين؛ لظهور أنّ الكلام ليس فيها، بل كون العلّة بحيث يصدر عنها المعلول، فإنّه لابدّ أن تكون للعلّة خصوصية، بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن دون غيره، وتلك الخصوصية هي المصدر في الحقيقة، وهي التي يعبّر عنها بالصدور، ومرّة بالمصدرية، وطوراً بكون العلّة بحيث يجب عنها المعلول؛ وذلك لضيق الكلام عمّا هو المرام، حتى أنّ الخصوصية أيضاً لا يراد بها المفهوم الإضافي، بل أمر مخصوص له ارتباط وتعلّق بالمعلول المخصوص، ولا شك في كونه موجوداً ومتقدّماً على المعلول المتقدّم على الإضافة العارضة لهما، وذلك قد يكون نفس العلّة إذا كانت العلّة علّةً لذاتها، وقد يكون زائداً عليها، فإذا فرض العلّة بما هي به علّةً بسيطاً حقيقياً، يكون معلوله أيضاً بسيطاً حقيقياً، وبعكس النقيض، كلّ ما كان معلوله فوق واحد ليس بعضها بتوسّط بعض، فهو منقسم الحقيقة إمّا في ماهية أو في وجود، انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر ردّاً على الرازي: إنّ المصدرية بالمعنى المذكور نفس ماهية العلة البسيطة، والماهية من حيث هي ليست إلاّ هي، فإذا كان البسيط الحقيقي مصدراً لـ «1» مثلاً، ولِما ليس «1» مثلاً، كانت مصدريته لِما ليس «1» غير مصدريته لـ «1» التي هي نفس ذاته، فتكون ذاته غير ذاته وهذا هو التناقض.

قال تلميذه في شوارقه (1) : إنّ الفاعل المستقل إذا كان واحداً من جميع الجهات، بحيث لا يكون فيه كثرة الأجزاء، ولا كثرة الوجود والمهية، ولا يكون متّصفاً بصفة حقيقية زائدة في الخارج، أو اعتبارية زائدة في العقل، ولا يتوقّف فعله على شرط وآلة وقابل، فلا يمكن أن يصدر عنه في مرتبة واحدة إلاّ معلول واحد، سواء كان الفاعل موجباً أو مختاراً اختياره وإرادته نفس ذاته، والحكماء يسمّون مثل هذا المختار الفاعل بالرضاء، وأمّا إذا كان إرادته واختياره زائدةً على ذاته، وهو الذي يسمّونه الفاعل بالقصد فهو خارج عمّا نحن فيه؛ لأنّ فيه اثنينية بالفعل، سواء تعدّد إرادته أو تعلّقها أو لا، فلا يكون واحداً من جميع الجهات.

أقول: لو سلّمنا هذه القاعدة، وفرضنا صحّة دليلها كما هو الصحيح، لم يصحّ إجراؤها في المقام؛ لأنّ فاعليته تعالى - كما سيأتي في محلّه - بالعلل الغائية الزائدة على ذاته، وإن شئت فقل: الممكن لابدّ من مسبوقية وجوده بعدمه، ولا ربط ولا سنخية بين الوجود البحت والعدم المحض، وإنّما يوجِد الواجب ما يوجده بلا ربط واقتضاء ذاتي، بل من أجل المصالح والغايات، فحينئذٍ الواجب الوجود عزّ اسمه غير مشمول لهذه القاعدة باعتراف الفلاسفة، فتدبّر جيداً.

هذا، وقد مرّ أنّ الفلاسفة لم يقدروا على إثبات أنّ ماهيته إنيّته، فمن هذه الجهة أيضاً لا

____________________

(1) الشوارق 1 / 191.

١٣٤

يمكن إجراء القاعدة على الواجب، هذا كله بناءً على مسلك العدلية أو معظمهم، وأمّا بناءً على مسلك الأشاعرة القائلة بزيادة الصفات فالأمر أوضح، لكن الالتزام بمقالة الحكماء أسهل وأهون من الميل إلى هذه النظرية الرديئة الباطلة، بمراتب بالقياس إلى النواميس العقلية.

وأمّا ما قيل، من أنّ في القرآن ألف آية أو قريب منه تدل على بطلان المقالة المزبورة، فهو ممنوع، فتدبّر جيداً.

المورد الثاني: القبائح فإنّها غير مقدورة لله تعالى؛ إذ إتيانها مع العلم بقبحها سفه، وبدونه جهل، وكلاهما محال على الله سبحانه، نسبوه إلى النظام وأتباعه.

أقول: وكان هذا المسكين لم يعلم أنّ مفاد هذا البيان أنّها لا تصدر عنه لحكمته، لا أنّها غير مقدورة، فالقبيح مقدور له تعالى، فيمكنه إدخال الأنبياء في النار مثلاً، لكنّه لا يفعل لمخالفته لحكمته البالغة.

وأمّا ما أجاب به الأشعريون من أنّه لا قبح بالنسبة إليه، فله التصرّف في ملكه كيف يشاء، فهو في سخافته كأصل الشبهة، كما ستعرفه في محله إن شاء الله.

المورد الثالث: الإتيان بمثل أفعالنا فإنّها إمّا طاعة أو معصية أو سفه، والكل محال.

أقول: إذ لا آمر له تعالى ليصدق الطاعة والمعصية في حقّه، وهو عالم فلا يتصوّر السفاهة فيه، نقل هذا عن البلخي ومَن تبعه، وفيه: أنّ المحال هو صدق هذه العناوين أي الطاعة والمعصية لا نفس الأفعال، نعم لابدّ من اشتمالها على مصلحة، ولكن المصلحة لا تستلزم عنوان الطاعة بلا إشكال، وإنّما هو في أفعالنا بلحاظها إلى أمر الله تعالى، نعم لا يمكن له أن يفعل مثل جملة من أفعالنا المحتاجة إلى الجسم كالتكلّم، والتفكّر، والتحرّك، والركوع، والسجود ونحوها، وذلك واضح ولعلّهم أيضاً أرادوا ذلك.

المورد الرابع: الإتيان بعين مقدورنا ومفعولنا، بعين دليل التمانع المذكور في مبحث التوحيد. نسب ذلك الجبائيينِ وأتباعهما. ويزيّف بأنّ التأثير في فرض مزاحمة قدرة العبد وربّه، مستند إلى إرادة الله تعالى فإنّها أقوى، وهذا واضح بل مشاهد في تزاحم إرادتي الممكنينِ، فإذا حرّك أحد جسماً إلى جانب، والآخر حرّكه إلى جانب آخر، يكون الترجيح مع الأقوى، نعم هاهنا شيء آخر وهو أنّ الله تعالى لا يمكنه الإتيان بعين أفعالنا، وإلاّ لم تكن الأفعال أفعالنا بل هي أفعاله، وهذا مثل عدم قدرته على إيجاد ابن زيد من غير زيد، أو إيجاد العرض بغير معروضه، وهكذا، فمعنى أنّه قادر على جميع الأشياء، أنّه قادر عليها إمّا بلا واسطة أو بواسطة، وهذا بيّن جداً.

المورد الخامس: ما علم الله عدم وقوعه لاستحالة وقوعه، وكذا ما علم أنّه يقع لوجوبه.

١٣٥

نقله في الشوارق، وقد تقدّم جوابه في بحث اختياره. قال شيخنا المفيد قدّس سره (1) : إنّه سبحانه قادر على ما علم أنّه لا يكون ممّا لا يستحيل كاجتماع الأضداد، ونحو ذلك من المحال، وعلى هذا إجماع أهل التوحيد إلاّ النظام وشذاذ من أصحاب المخلوق. انتهى.

المورد السادس: الشرور بحجّة أنّ الواحد لا يكون خيّراً وشرّيراً، فلو كان الله قادراً على الشرّ - كما هو قادر على الخير - لكان خيّراً وشرّيراً، والقائل به المجوس.

أقول: مع أنّه لا دليل على بطلان التالي في الفاعل المختار نمنع الملازمة؛ إذ مجرّد تعلّق القدرة على الشرّ لا يوجب كون القادر شرّيراً، وإنّما الشرّير مَن يفعل الشرّ لا مَن يقدر عليه، ولعلّ هذا ضروري، فالواجب الحكيم قادر على الخير والشر بقدرة تامّة، لكنّه لا يريد الشرور ولا يفعلها البتة.

تنوير عقلي

حديث الشرور ذو إعضال شديد، قد تحيّرت فيه الأنظار والآراء، ومجمله أنّ الشرور متحقّقة في الكون تحقّقاً محسوساً لكل أحد، فوقع البحث في استنادها وتعيين منبعها، وللناس فيه مذاهب ومسالك:

فمنهم مَن أنكروا وجود الواجب الصانع؛ بدعوى أنّ فاعل العالَم لو كان مدبّراً حكيماً لَما صدر عنه هذه الشرور، فأسندوا العالَم إلى المادة، وهم الماديون.

ومنهم مَن أثبتوا مع الله خالقاً آخر، فأسندوا الخيرات إلى الله والشرور إلى ذلك الآخر، وهم الثنوية، فقال المجوس منهم: (2) إنّ فاعل الخير يزدان، أي الله، وفاعل الشر أهرمن، أي الشيطان.

وقالت الديصانية والمانوية منهم: إنّ فاعل الخير هو النور، وفاعل الشر هو الظلمة، ولعلّ حجّتهم في ذلك ما نقلناه عن الماديين.

ومنهم مَن أسندوا الشرور كلّها إلى الله الحكيم كاستناد الخيرات إليه فقالوا: إنّه تعالى خالق الجميع؛ ولذا أجابوا عن شبهة المجوس بالتزام التالي، وأنّه تعالى خالق للخيرات والشرور كلها، وإنّما لا يطلق لفظ الشرّير عليه، كما لا يُطلق عليه لفظ خالق القردة والخنازير مع كونه خالقاً لهما؛ وذلك لأحد الأمرين: إمّا لعدم التوقيف من الشرع وأسماء الله توقيفية، وإمّا لأنّه يوهم أن يكون الشر غالباً في فعله كما يقال: فلان شرّير، أي ذلك مقتضى طبعه (3) .

____________________

(1) أوائل المقالات / 23.

(2) ظاهر بعضهم كصريح آخر: أنّ الثنوية تشمل المجوس والمانوي والديصانية، لكنّ المذكور في تبصرة العوام أنّ الديصانية والمانوية من أقسام المجوس، وأنّ الثنوية غير المجوس فلاحظ. وأمّا تفصيل عقائدهم فلا ربط له بالمقام.

(3) شرح المواقف 3 / 51.

١٣٦

انتهى، وهم الأشاعرة.

وهذه الطوائف الثلاث بأسرها قد ضلّوا ضلالاً مبيناً، وخسروا خسراناً كبيراً، أمّا شبهة الماديين فسيأتي وجه حلها، وأمّا أهرمن المجوس وظلمة المانوية والديصانية، فإن كانتا ممكنتين فلابدّ من استنادهما واستناد أفعالهما إلى الله تعالى، وإن كانتا واجبتين، فأدلة التوحيد تدفعهما، وأمّا توهّم الأشعريين فهو سخيف جداً؛ لِما سيأتي من أنّ الله تعالى لا يفعل القبائح العقلية، فإنّها لا تليق بالحكيم، ولعمري إنّ هذا - أي عدم صدور الشر من الله الحكيم - ممّا أودعه الله في الفطرة البشرية؛ فلذا لم ينكره أحد غير هؤلاء المخالفين للنواميس العقلية.

ولذا أشرك المجوس، وكفر الماديون، ولم ينكروا حكمة الخالق القديم، واستحيوا من استناد الشرور إليه.

فإن قلت: لا موجود إمكاني إلاّ وهو معلول له تعالى، إمّا بلا واسطة أو بواسطة، والكلّ من عند الله وهو خالق كلّ شيء، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العظيم، فما تقول أنت في إسناد الشرور؟ وهل يمكن إسنادها إلى غير الواجب؟ فإن أجبت بالنفي فهو مذهب الأشعري، وإلاّ فهو مذهب المجوس أو المادي.

قلت: قد أجابوا عن هذا بوجهين:

الأَوّل: ما نقل عن أفلاطون من أنّ الشرّ عدمي، والعدم لا يحتاج إلى علّة: فالشرور الواقعة في العالم لا تقتضي فاعلاً حتى يتكلّم فيه، فبهذا يُدفع جميع ما لزم الماديين والثنوية والأشعرية.

أقول: أمّا الصغرى فقد اعتنى بها الفلاسفة جداً، وأوضحوها بذكر أمثلة (1) ومن جملتها القتل، فإنّه شرّ عند العقلاء، فقالوا: إنّ شريّته ليست من جهة قدرة القاتل عليه، ولا من جهة حركات أعضائه فإنّهما كمال له، ولا من جهة قطع الآلة فإنّه أيضاً كمال لها، ولا من حيث قبول العضو المقطوع للتقطيع لأنّه أيضاً كمال له، بل هي من جهة إزالة الحياة، وهي عدمية. نعم كل واحد من هذه المذكورات شرّ بالعرض لا بالذات؛ لِما عرفت من أنّه خير كذلك، وهكذا النار فإنّها خير بالذات شرّ بالعرض، فالشر بالذات لا يكون إلاّ عدمياً.

وقد ادّعى عليها - أي على عدمية الشرّ - الضرورة بعضهم، ولشارح حكمة الإشراق عليها برهان ذكره صاحب الأسفار معتمداً عليه، والظاهر أنّ اهتمام الفلاسفة بذلك؛ إنّما هو لأجل اعتبار السنخية في العلّة والمعلول عندهم؛ إذ لو كان الشر وجودياً لامتنع استناده إلى الخير

____________________

(1) وللمحقّق الطوسي كلام في توضيح ذلك نقله اللاهيجي في شوارقه 1 / 48 عن شرح الإشارات، ولصاحب الأسفار أيضاً كلام مفصّل في ذلك.

١٣٧

المحض، وهو الله الواجب، وإذا قيل لهم: إنّ العدم لا أثر له والشر مؤثّر، يقولون: إنّه ليس عدماً صرفاً بل عدم ملكة وله تأثير كالعمى ونحوها.

الثاني: ما نقل عن أرسطو - وقيل: إنّه تفاخر به - من أنّ الأشياء على خمسة احتمالات: ما لا خير فيه، وما لا شرّ فيه، وما يتساويان فيه، وما خيره غالب، وما شره غالب، وذات الواجب بالذات لمّا لم يمكن أن تصير مبدأ للشر، وجب أن لا يصدر عنها إلاّ قسمان من هذه الأقسام، أي ما لا شريّة فيه، وما خيريته غالبة، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير.

أقول: أمّا الوجه الأَوّل فبعد تسليم الصغرى وعدم المناقشة فيه، فيرد عليه: أنّ الممكن كما يحتاج في وجوده إلى إرادة الواجب، كذلك في عدمه إلى عدمها، فعدم الممكن مستند إلى عدم إرادته، فيعود الإشكال وأنّه تعالى لِمَ ما أراد كذا حتى لا يتحقّق الشر؟ فإرجاع الشرّ إلى العدم لا يجدي عن دفع الإشكال.

وأمّا الوجه الثاني فهو بمجرّده غير مفيد؛ لأنّه لم يخرج عن حدّ المدّعى بعد فهو مصادرة. هذا، والظاهر من جماعة من الفلاسفة جعل الوجهين وجهاً واحداً، فالشر عدم محض وليس بأمر وجودي حتى لا يصحّ صدوره من الواجب من أجل عدم السنخية. وأمّا الشرور بالعرض فهي وإن كانت أُموراً وجودية، لكن غير صادرة عنه تعالى بالقصد الأَوّل بل بالعرض،فإنّها غالبة الخيرية وإيجادها لأجل غلبة خيرها على شرها، وأمّا الشرور بالذات فهي مستندة إلى عدم إرادته، والواقع منها القسمان المتقدّمان لا غير، فإنّ الشرور التي تلحق الأشياء هي في أنفسها خيرات، وبالقياس إلى بعض الأشياء شرور، كوجود النار والماء، والسيف والسنان، والسبع والحية، وغيرها من الذوات، وكوجود الغضب والشهوة، والجُربزة والشيطنة، وغيرها من الصفات، وكوجود الضرب والطعن والقتل وغير ذلك من الأفعال.

أقول: لا شكّ في أنّ جملةً كثيرة من الموجودات - التي توجب الشر لبعض الأشياء الأُخر - خيرات في نفسها، وبها ينتفع غيرها انتفاعاً أكثر ممّا يترتّب عليها من الشر المذكور، إلاّ أنّ الإشكال لا يُدفع بهذا المقدار، فإنّه يقال: إنّ إحراق النار لثوب الفقير ممكن والله سبحانه قادر على منع تأثيرها، فلِمَ لم يمنعه؟ وكذا وقوع الطفل في النار، أو غرق شاب في الماء مثلاً، فإنّ إيجاد النار أو الماء مثلاً لأجل المنافع الكثيرة، لا يوجب استحالة منع تأثيرهما في توليد الشر في بعض الموارد، وهذا ما يقال: من أنّ الذي يغلب خيره على شره، لِمَ لم يوجد عن الباري على وجه لا يعتريه شرّ أصلاً؛ حتى يكون الموجودات كلها خيرات محضة؟

وأمّا ما أُجيب عنه وارتضاه صاحب الأسفار (1) - من أنّه لو كان كذلك لكان الشيء غير

____________________

(1) الأسفار، المجلد الثاني، الموقف الثامن، الفصل السادس.

١٣٨

نفسه؛ إذ كان هذا القسم غير ممكن في هذا القسم من الوجود... إلى أن قال: فإذا قلت: لِمَ لا يوجِد النار التي هي أحد أنواع هذا القسم على وجه لا يلزمها شر، فكأنّك قلت: لِمَ لم يجعل النار غير النار؟ ومن المستحيل أن يجعل النار غير النار، ومن المستحيل أن يكون النار ناراً، وتمس ثوب ناسك، ولا مانع من الحريق، ولا تحرقه. انتهى - فهو قعقعة، ويظهر فساده ممّا أشرنا إليه آنفاً فلاحظ.

وقال في مورد آخر من هذا الفصل: وأكثر مَن يطوّل حديث الخير والشر، ويستشكل الأمر يظن أنّ الأُمور العظمية الإلهية، من الأفلاك وما فيها، إنّما خُلقت لأجل الإنسان، وأنّ الأفعال الإلهية منشؤها إرادة قُصدت بها أشياء وأغراض، على نحو إرادتنا وأغراضنا في الأفعال الصادرة عنّا بالاختيار، ولو تأمّل هذا الجاهل المحجوب عن شهود العارفين أدنى تأمّل، لدرى أنّ الأمر لو كان كما توهّمه، ولم يكن هناك أحكام مضبوطة، وعلوم حقّة إلهية، وضوابط ضرورية أزلاً وأبداً، ما كان أحوال أولياء الله في الدنيا على هذا الوجه من المحن الشديدة... إلى آخر ما لفّقه ممّا لا فائدة في نقله.

وقد دريت أنّ الله تعالى فاعل مختار، وسيأتي أنّ أفعاله تابعة للأغراض على ما يقتضيه البرهان، فلا ضرورة له في إيجاد شيء أبداً، فإذن بقي الأشكال على حاله، وملخّصه أنّ المصلحة النوعية لشيء، لا تجوّز وقوع الشرّ منه من حيث الحكمة، ما دام تأثير الشيء موقوفاً على إذنه تعالى.

فالصحيح أن يقال: إنّ كلّ شرّ يستند إلى الله تعالى، له مصلحة زائدة على أصل المصلحة النوعية في نفس الموجود المسمّى بالشر بالعرض، مثلاً أنّ للنار مصلحةً هامّة نوعية، وفي إحراقها ثوب أحد، أو ولد آخر، مصلحة أُخرى للمتضرّر والمغموم أو لطف لأجنبي، لكن مع العِوض للمالك أو الوالد، وهكذا.

وهذا العِوض أكثر فائدة للمتضرّر من ضرره، وهذا الكلام ممّا لابدّ منه لوجوه:

الأَوّل: إنّ صدور الشرّ منه تعالى - ولو في مورد مع الاختيار والقدرة على دفعه - قبيح، والقبح غير جائز عليه.

الثاني: إنّ أفعاله معلّلة بالأغراض الراجعة إلى نفع غيره، فلابدّ من عائدة في الشرّ المذكورة راجعة إلى مَن ابتُلي بالشر المذكور، كما سيأتي تفصيله في بحث الأعراض من المقصد الخامس إن شاء الله.

الثالث: إنّ صدور الشر عنه ترجيح المرجوح على الراجح، أو ترجيح بلا مرجّح وهو باطل، فتلخّص أنّ الموجود في العالم هو ما لا شرّ فيه، أو ما فيه شرّ أقلّ من خيره، وهذا الشر

١٣٩

أيضاً لابدّ له من مصلحة شخصية، ويمكن أن يقال: إنّ الشرور الواقعة من سوء أفعال العباد الاختيارية لا مصلحة شخصية فيها، أو لا ملزم لها ولو دائماً سوى المصلحة العامّة في جعل الإنسان مختاراً؛ لكي لا تبطل التكاليف والتشريعات، فإنّ المضطرّ لا يجوز تكليفه، فتأمّل.

ثم إنّه بعد ما ثبت لزوم المصلحة في أفراد الشرور، لا مانع من إمكان موجود كان شره أكثر من خيره، كما لا يخفى وجهه على المتأمل، فتدبّر جيداً.

ثمّ إنّ جميع ما ذكرنا واضح بحمد الله، فشبهة الشرور مندفعة، غير أنّ مسألة خلود الكافرين في العقاب أمر مشكل، كما سيأتي توضيحه في بحث تعلّل أفعاله بالأغراض، وما أُجيب عنه (1) من تجسّم الأعمال باطل.

المطلب الثاني:

قد دريت أنّ القدرة إنّما تتعلّق بالممكن وحده دون الواجب والممتنع، فإنّ الشيء إذا كان ضروري الوجود أو العدم ولا يمكن تغيّره، استحال أن يتعلّق به القدرة التي هي بمعنى صحّة الفعل والترك؛ بداهة تصادم الصحّة والضرورة، فذات واجب الوجود وصفاته الذاتية خارجة عن دائرة قدرته، بل لا قدرة على مطلق الذاتيات، فلا يكون زوجية الأربعة، وإمكان الماهيات، وفقر الموجودات الممكنة، وأمثالها بمقدورة أصلاً، وكذا شريك الباري واجتماع النقيضين ونحوهما.

كلّ ذلك ظاهر، وأمّا قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2) إمّا منصرف إلى الشيء الممكن من الأَوّل بحيث لا يشمل لفظ الشيء الضروريات، أو هو مخصّص به على تقدير الشمول اللفظي، ولا فرق في ذلك التخصّص والتخصيص بين أن يعبّر بعدم القدرة، وبين أن يعبّر بعدم قابلية المحل، فإنّ الضروري ممّا لا يتعلّق به قدرة القادر، سواء كان عدم التعلّق من جهة العجز أو من نقص القابل، فإنكار التخصيص على الثاني كما توهّمه صاحب الأسفار (3) لا وجه له.

وممّا ذكرنا كلّه ظهر أنّ إدخال العالم كلّه في بيضة، مع عدم تصغير العالم ولا تكبير البيضة، محال غير قابل لتعلّق القدرة الأزلية به، وقد دلّ عليه مرسلة ابن أبي عمير عن الإمام الصادق عليه‌السلام (4) قال: إنّ إبليس قال لعيسى ابن مريم عليه‌السلام : أَيقدر ربّك على أن يدخل الأرض

____________________

(1) المجيب صاحب الأسفار ناسباً جوابه إلى الفلاسفة، وسيأتي وجه بطلانه في مسألة بطلان الجبر والتفويض.

(2) النور 24 / 45.

(3) الأسفار، مباحث الشرور.

(4) البحار 4 / 142.

١٤٠