صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 114450
تحميل: 4717

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114450 / تحميل: 4717
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يكون بأسباب، والمعرفة ما يكون بمشاهدة، فالعلم لا يتغيّر البتة وإن كان جزئياً، فإن علمنا بأنّ الكسوف غداً يكون مركّباً من علم ومشاهدة، ولو كان غداً لم يكن مشار إليه، بل كان معلوماً بأسبابه لم يكن إلاّ علماً كلّياً.

ولم يكن يجوز أن يتغيّر، ولم يكن زمانياً، فإنّ كلّ علم لا يُعرف بالإشارة وبالاستناد إلى شيء مشار إليه كان بسبب، والعلم بالمسبّب ما دام السبب موجوداً، لكن العلم الذي يتغيّر هو أن يكون مستفاداً من وجود الشيء ومشاهدته، فواجب الوجود تعالى منزّه عن ذلك؛ إذ لا يعرف الشيء من وجوده فيكون علمه زمانياً ومستحيلاً ومتغيّراً. انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

واعلم أنّه كما يصحّح العلم بالجزئيات المتغيّرة من هذا الطريق، كذلك يصحّح العلم بالجزئيات المتشكّلة أيضاً، فإنّ إدراك المتشكّلات إذا لم يكن من سبيل الجزئية المستندة إلى الإشارة والإحساس، بل من سبيل التخصيص بصفات مستندة إلى مبدأ نوعه في شخصه، لا يستدعي الانطباع في آلة جسمانية، كما قاله اللاهيجي في شوارقه، وقال أيضاً: إنّ نفي علمه تعالى عن الجزئيات على وجه الجزئية، عبارة عن نفي الإحساس بها عنه، كما هو صريح كلام الشيخ، ولا يلزم من نفي الإحساس بالشيء نفي العلم به (1) .

أقول: وللمتكلّمين في جواب هذه المقالة أقوال:

الأَوّل: ما قيل من أنّ العلم إضافة محضة، والتغيّر الحاصل فيه لا يستلزم التغيّر في نفس الذات، بل التغيّر في مفهوم اعتباري وهو جائز، وإدراك المتشكّل إنّما يحتاج إلى آلة جسمانية إذا كان العلم حصول الصورة، وأمّا إذا كان إضافةً فلا.

أقول: وهذا المجيب نسي مذهبه في صفاته تعالى، من أنّها صادرة عنه تعالى أزلاً وقائمة به، وإلاّ لم يقل: إنّه اعتباري محض، وأيضاً أَليس الممكن القديم عندهم مستنداً إلى الموجب دون المختار كما مرّ؟ أَوَ ليس القديم يمتنع عليه العدم والزوال؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته؟ فكيف سوّغ تغيّر العلم؟! وأيضاً العلم بزعمه قائم به تعالى قيام العرض بمحله، فلو تغيّر وتجدّد للزم كونه تعالى محلاًّ للحوادث، وهو باطل عقلاً واتّفاقاً.

الثاني: ما عن أكثر الأشاعرة ومشايخ المعتزلة (2) ، من أنّ العلم بأنّه وجد الشيء والعلم بأنّه سيوجد واحد، فإنّ مَن علم أنّ زيداً سيدخل البلد غداً، فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم أنّه دخل البلد الآن، إذا كان علمه هذا مستمراً بلا غفلة مزيلة له، وإنّما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدّد يعلم به أنّه دخل الآن؛ لطريان الغفلة عن الأَوّل، والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة، فكان

____________________

(1) وكأنّ هذا القول مصادم لكونه تعالى بصيراً وسميعاً.             (2) شرح المواقف 3 / 62.

١٦١

علمه بأنّه وُجد عين علمه بأنّه سيوجد.

أقول: ويظهر من المحدّث المجلسي قدّس سره أيضاً اختيار هذا المذهب (1) ، وبرهن عليه بأنّ العلم بالقضية، إنّما يتغيّر بتغيّرها، وهو إمّا بتغيّر موضوعها أو محمولها، والمفروض عدمه. نعم يمكن أن يشار إليه إشارة خاصّة بالموجود حين وجوده ولا يمكن في غيره، وتفاوت الإشارة إلى الموضوع لا يؤثر في تفاوت العلم بالقضية، بل هو راجع إلى تغيّر المعلوم.

أقول: والحق أنّ العلم بأنّه سيوجد غير العلم بأنّه وُجد، كما برهن عليه أبو الحسين البصري الاعتزالي (2) ، بل يمكن أن يقال: إنّ هذا الجواب هو عين الالتزام بالإشكال، فإنّ الحكماء ما نفوا علمه بالجزئيات مطلقاً، بل على وجه جزئي، وأمّا على النحو الكلي فهم قائلون به من أجل؛ أنّ العلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، كما اتّضح من كلام ابن سينا المتقدّم. وهذا الجواب لا يُثبت أكثر من العلم الكلي، فتدبّر.

الثالث: إنّ العلم صفة حقيقية ذات إضافة، وتغيّر المعلوم لا يؤثر في العلم بل في إضافته، فالمتغيّر هو إضافة العلم المتعلّقة بالمعلوم لا نفس العلم، كما ذكره المحقّق الطوسي قدّس سره وغيره، وشبّهه العلاّمة (3) بالقدرة حيث إنّ تغيّر المقدور وفقدانه لا يوجب تغيّر القدرة، بل هي على حالها وإنّما المتغيّر به هو نسبة القدرة إلى المقدور المذكور.

أقول: تغيّر العلم تابع لتغيّر المعلوم لا محالة، فإنّ العلم إمّا حصولي، وإمّا حضوري، أمّا الثاني فالعلم والمعلوم شيء واحد، ولا يعقل الانفكاك بينهما، وأمّا الأَوّل فإن كانت الصورة بعد تغيّر مطابقها باقيةً فهي كذب، وإلاّ فقد ثبت المطلوب، فحديث كونه ذا النسب لا نفس النسب لا يفيد أصلاً.

ثمّ إنّ للمحقّق الطوسي قدّس سره كلاماً حول المسألة لا بأس بذكره، قال في محكي شرح رسالة العلم (4) : وأمّا علم الباري بالجزئيات ففيه خلاف بين المتكلّمين والفلاسفة؛ وذلك أنّ المتكلّمين قالوا: إنّ الباري تعالى يعلم الحادث اليومي، على الوجه الذي يعلم أحدنا أنّه موجود في هذا الوقت، ولم يكن موجوداً قبله، ويمكن أن يوجد أو لا يمكن، ثمّ إذا انتبهوا بوجوب التغيّر للعلم بالمتغيّرات حسب تغيّرها، التزم بعضهم جواز التغيّر في صفات الله تعالى أو في بعضها، فقال القائلون بالإضافات فقط: إنّ تغيّر الإضافات في الله جائز عند جميع العقلاء كالخالقية

____________________

(1) البحار 4 / 72.                                                (2) لاحظ شرح المواقف 3 / 63، وغيره.

(3) شرح التجريد / 176.                               (4) الشوارق 2 / 256.

١٦٢

والرازقية الإضافة إلى كلّ شخص. وقال غيرهم: يجوز أن يكون ذاته محلاًّ للحوادث، كما جوّز طائفة من الحكماء كونه محلاًّ للحوادث، قابلاً للصور المعلومات الغير المتغيّرة، ولم يجوّز (1) التغيّر في صفاته في هذا الوضع، وأنكر التغيّر أصلاً وقال: العلم بما سيوجد هو العلم بوجوده عين وجوده، إلى أمثال ذلك من المتمسّكات الواهية.

أمّا الحكماء فالظاهريون المنتسبون إليهم قالوا: إنّه تعالى عالم بالجزئيات على الوجه الكلّي لا على الوجه الجزئي، فقيل لهم: لا يمكن أن ينكر وجود الجزئيات على وجه الجزئية المتغيّرة، وكلّ موجود فهو في سلسلة الحاجة إلى الباري تعالى، الذي هو المبدأ والعلّة الأُولى، وعندكم أنّ العلم التامّ بالعلّة التامة يستلزم العلم التام بمعلولها، وأنّ علم الباري تعالى بذاته أتمّ العلوم، فأنتم بين أن تعترفوا بعلمه تعالى بالجزئيات على وجه الجزئية المتغيّرة، وبين أن تقرّوا بانثلام إحدى المقدمات المذكورة؛ إذ من الممتنع أن يُستثنى من الأحكام الكلّية العقلية بعض جهاتها الداخلة فيها، كما يستثنى في الأحكام النقلية بعضها لتعارضها الأدلة السمعية، فهذه على المذاهب المشهورة... إلخ.

أقول: ما ذكره ابن سينا ونُقل عن أكثر الحكماء، من نفي علمه بالجزئيات على وجه جزئي، مبني على كون علمه تعالى حصولياً وبارتسام الصور، وعلى هذا يلزم التكثير في علمه أيضاً، وما أجيب عنه يشكل الاعتماد عليه، ولكن أسلفنا أنّ المستفاد من الأدلة، أنّ الله عالم أزلاً بجمع الأشياء إلى الأبد فقط، وأمّا كيفية هذا العلم فقد ذكرنا أنّها غير معلومة لنا، ولا يمكن إدراكها للممكن المحدود، فإنّ الإحاطة بعلمه عين الإحاطة بذاته المقدّسة، وهي مستحيل اتّفاقاً وبرهاناً.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى إنّا سنبرهن على إبطال العلم الحصولي، الذي تخيّله هذا القائل وأصحابه في مستأنف القول إن شاء الله، فإذن، لا موقع لهذا المسلك. ولعلّ ما ورد في الكتاب والسُنة من اتّصافه تعالى بالسميع والبصير يدفع هذا القول صريحاً فتأمل.

وخلاصة المقال: أنّ علمه تعالى ليس بحصولي ولا بحضوري، بل إنّه عالم بالأشياء قاطبةً، وعلمه عين ذاته، فلابدّ حينئذٍ من أن لا يوجب تغيّر المعلوم، إلاّ تغيّراً في ناحية الإضافة والنسبة لا في العلم نفسه، كما في الجواب الثالث، فالجواب المذكور صحيح، لكن بعد إنكار انحصار العلم في الحصولي والحضوري، وإقامة البرهان على عموم علمه.

الثامن: إنّه لا يعلم الأشياء قبل وجودها، نسبه الشهرستاني في المِلل والنِحل (2) إلى

____________________

(1) في العبارة سقط قطعاً واشتباه لفظي أيضاً، ولم يحضرني المصدر نفسه.

(2) الفصل لابن حزم (الهامش) 1 / 35.

١٦٣

هشام بن عمرو الغوطي القدري، والأصم من أصحابه، وأنّهما اتّفقا على أنّ الله تعالى يستحيل أن يكون عالماً بالأشياء قبل كونها، ومنعا كون المعدوم شيئاً. ونسبه إلى هشام بن الحكم وزرارة أيضاً.

أقول: لا يجوز للمسلم المحقّق وللباحث المدقّق الاعتماد على كتاب الشهرستاني، فإنّه مشحون بالافتراءات والاشتباهات التي لا يمكن المسامحة فيها، وقد غلب عليه التعصّب فنسب إلى مخالفيه في مذهبه ما نسب، ونحن لا نحتمل أنّ زرارة قال بهذه المقالة الرديئة، ولا هشام بن الحكم بعد انقطاعه إلى الإمام الصادق عليه‌السلام ، كيف وهو الذي يروي لنا عن الصيقل، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، عن عيسى بن منصور، عن جابر الجعفي، عن الباقر عليه‌السلام : (أنّ الله علم لا جهل فيه، وحياة لا موت فيه، ونور لا ظلمة فيه) (1) ؟!

فإذا علم من إمامه أنّ العلم عين ذات الباري تعالى، فكيف يعتقد حدوث علمه؟ وأيضاً قد مرّ روايته عن الصادق عليه‌السلام ، بأنّ الله يعلم الحوادث قبل وجودها، لكن الشهرستاني لا يلتفت إلى ذلك، بل يريد أن يخترع مذهباً باسم الهشامية، ومذهباً باسم الزرارية وهكذا تكثيراً لفِرق الشيعة؛ لأغراض غير خافية على المتأمّلين، وإلاّ فهشام وزرارة ويونس ومؤمن الطاق وأمثالهم من الأجلاّء والأعيان، ليسوا إلاّ من الفِرقة الإمامية المعتقدين بإمامة الاثني عشر إماماً من آل محمد (صلى الله عليه وعليهم)، ولا وجود للهشامية والزرارية وأمثالهما من المذاهب المتخيّلة في خيال الشهرستاني، ومَن قلّده من متكلّمي الأشاعرة وغيرها.

ومن هنا لا جزم لنا ولا ظن، بأنّ هشام بن عمرو الغوطي والأصم قالا بنفي علمه تعالى، غير أنّ الشيخ الأعظم المفيد قدّس سره نقل هذا القول عن الغوطي المذكور كما تقدّم، بل إنّ العلاّمة الحلي قدّس سره نقل (2) عن جمع من قدماء المتكلّمين، أنّه تعالى لا يعلم الموجود الزماني إلاّ عند وجوده، وهذا هو الذي اختاره السهروردي المقتول رئيس الفلاسفة الإشراقيين، قال اللاهيجي في شوارقه (3) : نفى صاحب الإشراق العلم المقدّم على الإيجادات كلّها مطلقاً، وأبطل العناية رأساً زعماً أنّ قبل كون الموجودات ووجودها ذهناً وخارجاً، كيف يتصوّر تحقّق العلم بها؟ فإنّ العلم بها لا يتصوّر بدون وجودها ذهناً أو خارجاً؛ ضرورة عدم تمايز المعدومات الصرفة، ولا يمكن وجود الموجودات قبل وجودها، أمّا خارجاً فظاهر، وأمّا ذهناً فللزم الكثرة في ذاته تعالى، فليس للواجب علم فعلي أصلاً. انتهى.

____________________

(1) بحار الأنوار 4 / 84 نقلاً عن توحيد الصدوق.

(2) شرح قواعد العقائد / 45.

(3) الشوارق 2 / 224.

١٦٤

وقال أيضاً: إنّه - يعني صاحب الإشراق - بعد إبطال العناية، جعل النظام المشاهد في عالَم الأجسام لازماً عن النظام الواقع فيما بين المفارقات العقلية الطولية والعرضية، وأضوائها المنعكسة عن بعضها إلى بعض، وجعل ذلك بدلاً عن العناية في سببية النظام، صرّح بذلك في حكمة الإشراق.

أقول: وعلى قول هذا الإشراقي يبطل فاعليته تعالى الاختيارية، فإنّ المختار عند الفلاسفة هو الذي يسبق علمه فعله، وهذا الرجل ينكر سبق علمه، فيكون الله موجباً لا مختاراً، هذا مع أنّ هذا القول ينافي ما تسالم عليه الفلاسفة من عينية علمه لذاته تعالى.

وأمّا مَن حاول أن يصلح هذا القول ويدفع عنه الشناعة، فما أتى بشيء غير أن فضح نفسه، نعم ذكر السبزواري في حاشيته على الأسفار وفي شرح منظومته، أنّ هذا الإشراقي غير منكر للعلم الإجمالي، فإنّه متّفق عليه بين الإشراقيين والمشّائيين، وإنّما المنفي عنده العلم التفصيلي، لكن هذا شيء ذكره من جهة حسن ظنّه بهذا القائل، وإلاّ فهو صرّح في مطارحاته بإنكار العلم الإجمالي أيضاً، كما نقله صاحب الأسفار اعترف به، وكذا اللاهيجي في شوارقه، وأمّا ما ذكره هذا الموجّه - أي السبزواري في حاشية الأسفار - من أنّ مراده بالعلم الإجمالي الذي أنكره غير الإجمالي الكمالي، بل شيء آخر فهو أعرف بتوجيهه، بل في الأسفار في بحث مراتب علمه تعالى: نسبة إنكار العناية إلى أتباع الإشراقيين عموماً.

أقول: وكأنّ الله سبحانه وتعالى طبع على قلب هذا الظلماني، حيث ما التفت إلى أنّ صدور العقول الطولية والعرضية التي تدبّر نظام العالم المتقن، أقوى دليل على علمه تعالى قبل صدورها.

وأنت إذا علمت مقالة هذا الرجل الذي يتّبعه الفلاسفة الإشراقيون، ومسلك ابن سينا الذي يقلّده المشّاؤون فيما تقدّم وما سيأتي من صوره المخترعة، وقول صاحب الأسفار، الذي اقتدى به أرباب الفلسفة المتعالية حول بسيط الحقيقة، وحول جسميته تعالى، كما سننقله في المقصد الثالث إن شاء الله، تعلم أنّ ما يقولون حول فلسفتهم من إتقان مسائلها، ووصول أربابها إلى الكشف والشهود قعقعة.

ثمّ إنّ مسألة تحقّق علمه أزلاً، وعدم تحقّق المعلوم خارجاً وذهناً مع امتناع انفكاكهما، قد مرّ حلّها بوجه قطعي عقلي إجمالي، ونقلي تفصيلي، والإنصاف أنّ مسألة علمه تعالى مطلقاً ذات مصاعب كثيرة، قلَّ مَن يمكنه الوصول إليها.

وممّن نُسب إليه هذا القول جهم بن صفوان وأصحابه، قالوا: إنّ الله لا يعلم الشيء قبل

١٦٥

وقوعه، وعلمه حادث لا في محل (1) ، وكذا أبو الحسن البصري على ما استفيد من كلامه (2) ، وممّن قال بهذا القول الشيخ أحمد الأحسائي على ما يظهر من كلماته في شرح العرشية وشرح المشاعر، وبعض كلماته صريح في ذلك، وكذا من كلامه في محكي شرح رسالة الكاشاني (3) ، وحاصل ما استفدناه من كلامه من الدليل تصحيح دعواه وجوه:

الأَوّل: إنّ العلم في الواجب والممكن عين المعلوم، فلا يعقل تقدّم العلم على معلومه، وحيث لا معلوم موجَد في الأزل فلا علم به أيضاً.

الثاني: إنّ علمه عين ذاته، فكما أنّ تحقّق الممكنات في ذاته في الأزل محال فكذا العلم بها محال؛ لِما مرّ من وحدة العلم والمعلوم.

الثالث: شرط العلم المطابقة مع المعلوم وتطبيقه عليه، وبما أنّ علمه عين ذاته، لا يعقل تطبيقه على المعلوم الممكن، بل بينهما مباينة صرفة.

الرابع: إنّ علمه بالأشياء أزلاً يستلزم أزلية الحوادث، وبطلان التالي يكفي لبطلان المقدّم.

الخامس: إنّه تعالى غير محدود، فإذا كان عالماً بما سواه أزلاً، يلزم أن يعلم تحديد نفسه كي يمتاز عن غيره، وفساد الثاني يكشف عن بطلان الأَوّل.

السادس: قوله تعالى: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ... ) (4) ، وقوله تعالى: ( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ) (5) ، قال: فأخبر أنّه تعالى لا يعلم له شريكاً، ووجود شيء من كلّ ما سواه في الأزل محال، كوجود الشريك للباري، فكما جاز أنّه لا يعلم له في الأزل شريكاً، جاز أنّه لا يعلم في الأزل غيره.

أقول: ومثلهما قوله تعالى: ( وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ... ) (6) .

السابع: رواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام (7) قال: سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول: (لم يزل الله - عزّ وجلّ ربّنا - والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته لا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصَر، والقدرة ذاته ولا مقدور، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم، وقع العلم منه على المعلوم، والسمع

____________________

(1) الأنوار النعمانية وشرح المشاعر، وقد تقدّم حكايته عنه في كلام المفيد.

(2) لاحظ شرح المواقف 3 / 64.

(3) الحاكي هو صاحب كفاية الموحّدين في المجلّد الأَوّل منها.

(4) يونس 10 / 18.                                               (5) الرعد 13 / 33.

(6) الأنفال 8 / 23.                                               (7) أُصول الكافي 1 / 107.

١٦٦

على المسموع، والبصر على المبصَر، والقدرة على المقدور... إلخ).

ورواية حمّاد بن عيسى (1) قال: سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت: لم يزل يعلم؟ قال: (أنّى يكون ذلك ولا معلوم، قال: قلت: فلم يزل الله يسمع؟ قال أنّى يكون ذلك ولا مسموع. قال: قلت: فلم يزل الله يبصر؟ قال: أنّى يكون ذلك ولا مبصَر. ثمّ قال: ولم يزل الله عليماً سميعاً بصيراً ذات علامة سميعة بصيرة).

أقول: هذه الوجوه واضحة البطلان لائحة الفساد، بل لا ينبغي صدورها عن أصاغر أهل العلم، ولمزيد الوضوح نقول:

أمّا الوجه الأَوّل، ففيه ما مرّ من أنّ علمه عين ذاته، ولكن له نسبة إلى المعلومات، فما ذكره من اتّحاده مع المعلوم غير صحيح، بل لا نسلّمه في العلم الممكن فضلاً عن العلم الواجب، وأمّا أنّه كيف يعلم الشيء قبل وجوده؟ فقد تقدّم بيانه.

وأمّا الوجه الثاني، فقد اتّضح بطلانه من إبطال الوجه الأَوّل، مع أنّ لازمه هو نفي علمه مطلقاً حتى فيما لا يزال، فإنّ تحقّق الكثرة فيه تعالى محال أبداً وأزلاً، والاعتذار بأنّ انكشاف الحادث بالعلم الذاتي مردود بأنّ هذا يؤدّي إلى بطلان فاعليّته الاختيارية، بل مآله إلى قول المادين، وأنّ مَن لا علم سابق له على فعله بفعله كيف يوجد مثل هذا النظام المحكم المتقن؟

وهذا الكلام جارٍ على الوجه الثالث أيضاً، مع أنّه مزيّف بأنّ معنى المطابقة والوقوع هو انكشاف الشيء عند العالم، لا المطابقة والوقوع الخارجيين، كوقوع شيء مادي على شيء مادي آخر، فإنّه ممّا لم يتوهّمه إلاّ جاهل.

وأمّا الوجه الرابع، فقد ظهر ضعفه ممّا مرّ أيضاً.

وأمّا الوجه الخامس، فالملازمة بين المقدّم والتالي فاسدة جداً، مع أنّها لو تمّت لعمّت حتى في ما لا يزال.

وأمّا الوجه السادس، فعدم العلم في الآيات الكريمة كناية عن عدم الوجود، فإنّ عدم علمه تعالى بشيء يكشف عن عدم وجوده، وهذه التعابير بمنزلة أن يقال بأنّ الله يعلم عدم شريك له، ويعلم أنّه لا خير فيهم، كيف وقد نفى الله الشريك عنه، وأنّه واحد لا شريك له؟ فلو كان غير عالم به لَما نفاه بل سكت عنه. والإنصاف أنّ هذا منه تجاهل لأغراض هو أعلم بها منّا، وليس بجهالة، فإنّ المسألة واضحة جدّاً، وأيضاً قد مرّ أنّ القرآن ينادي، بأنّ الله يعلم الحوادث قبل وقوعها.

وأمّا الوجه السابع، فبعد ضعف الخبرين سنداً، ودلالة الأخبار المتواترة على تعلّق علمه

____________________

(1) البحار 4 / 72.

١٦٧

بالأشياء أزلاً قبل وجوداتها، يُحمل الأَوّل منهما على الوقوع الشهودي المسبوق بالتعلّق الأزلي لا المسبوق بالجهل، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام والقدرة على المقدور؛ إذ لا شكّ في لزوم اعتبار القدرة قبل الشيء، وضرورة بطلان وجودها بعد وجود المقدور، فافهم واغتنم، وكأنّ الرواية ناظرة إلى بطلان قول مَن نفى علمه تعالى بالأشياء الجزئية بما هي جزئية، فإنّه اكتفى بالعلم الكلّي دون الجزئي كما مرّ، والثاني منهما على نفي العلم المستلزم لوجود المعلوم، لا على نفي مطلق العلم؛ ولذا صرّح الإمام عليه‌السلام - على تقدير صحّة الرواية - بأنّه تعالى ذات علامة، وأنّ العلم ذاته.

فقد تلخّص أنّ الله تعالى عالم أزلاً بجميع الأشياء وأحوالها وخصوصياتها. نعم، إنّه تعالى غير عالم بالأشياء أزلاً على نحو ظرفية الأزل للأشياء، وهذا من قبيل القضية السالبة بانتفاء الموضوع، بل هو عالم بعدمها أزلاً وبوجودها في أوقاتها، فالأزلي هو العلم دون المعلوم، فإن كان مراد الأحسائي هذا المعنى - كما ربّما يظهر من بعض كلماته - فهو ممّا لا شك فيه عندنا.

ثمّ إنّه ربّما يورد على القول بتعلّق علمه أزلاً بالحوادث، بأنّه يستلزم وجوبها، وإلاّ لجاز ألاّ يوجد فينقلب العلم جهلاً.

أقول: وجوابه ما مرّ منّا في مبحث القدرة.

التاسع: إنّه لا يعلم الأُمور الحاضرة، وشبّهوه بكونه تعالى قادراً قالوا: كما إنّه لا يقدر على الموجود فكذلك، لا يعلم الموجود. نسبه ابن الراوندي إلى معمّر بن عبّاد أحد شيوخ الأشاعرة، كما نقله الأحسائي في شرح العرشية (1) ، وقد دريت أنّ الممكن حدوثاً وبقاءً محتاج إلى فيض ربّه والتفات خالقه، فكيف لا يعلم مَن خلق؟ فهذه الآراء الخبيثة والأنظار السخيفة، كلّها مخالفة للعقل والشرع، والصحيح ما عرفت منّا وله الحمد.

واعلم أنّ أكثر هذه الأقوال المنحرفة عن الحق، إنّما نشأت من قياس علمه تعالى بعلمنا، وعلى هذا لا جواب مقنع لها، وهؤلاء القائلون الذين ضلوا وأضلوا، نسوا وغفلوا عن استحالة الإحاطة بكنه الواجب اللامحدود لإنسان محدود وجوده وعلمه.

الجهة الرابعة: في بيان العلم الإجمالي للحكماء

قسّم جماعة كثيرة من الفلاسفة علم الواجب إلى الإجمالي والتفصيلي، بل يظهر من السبزواري أنّ هذا التقسيم ممّا اتّفق عليه الكل، حيث قال (2) : والعلم الإجمالي الكمالي المتّفق

____________________

(1) شرح العرشية / 62.

(2) شرح المنظومة / 164.

١٦٨

عليه بين الإشراقي والمشّائي، حيث يقول الإشراقي: إنّ نفس وجود الذات علم إجمالي مقدّم على العلم التفصيلي، الذي هو وجود الأشياء، ويقول المشّائي: إنّ علو الأَوّل ومجده ليس بهذه الصور المرتسمة، بل بذاته التي هي علم إجمالي سابق عليها، وإنّما كان أجمالياً؛ لأنّ وجود الذات واحد بسيط، فلا يمكن أن ينكشف به الأشياء المتخالفة تفصيلاً عندهم. انتهى.

فقد جعلوا العلم الإجمالي عين ذاته الواجبة، وأمّا التفصيلي فهو زائد على ذاته تعالى عندهم، فالواجب الوجود عالم بالأشياء إجمالاً في مرتبة ذاته بعلم هو عين ذاته تعالى، وتفصيلاً بعد ذلك إمّا قبل وجود الأشياء كما عليه المشّاؤون، أو حين وجودها كما عليه الإشراقيون.

وأمّا إثبات العلم التفصيلي في مرتبة ذاته تعالى، بحيث يكون العلم المزبور عين ذاته فلم يتيسّر لأحد من الفلاسفة، بيد ما مرّ من طريق بسيط الحقيقة، كما ادّعاه صاحب الأسفار ومَن تبعه، أو الالتزام بوجود الأشياء أزلاً في محالّها، كما تقدّم عن جماعة منهم، لكن قد عرفت أنّ الأَوّل مع بطلان أساسه ليس مفاده إلاّ العلم الإجمالي، وأمّا الثاني فلم يدلّ عليه دليل متين بل كان عليه سؤال صعب كما مرّ.

وأمّا ما يقال من امتناع العلم الذاتي التفصيلي من جهة بساطته تعالى - كما نقله السبزواري في كلامه المتقدّم عن المشّائي - فهو مبني على كون علمه تعالى حصولياً وبارتسام الصور في ذاته، وقد مرّ تزييف ذلك، وقلنا: إنّ الإحاطة بذلك محال عقلاً، فالعلم التفصيلي الذاتي غير ممتنع في حقّه.

وأمّا الدليل على هذا العلم الإجمالي، فهو أنّه تعالى عالم بذاته، فإنّه الخالق للعالمين بذواتهم، فكيف لا يكون هو عالماً بذاته، ومعطي الكمال لا يكون فاقده؟ وقد ثبت أنّ العلم بالعلّة علم بالمعلول، فإنّ علمه بذاته التي هي علّة لكل شيء علم بكل شيء إجمالاً، هذا مع أنّ سلب العلم عنه في مرتبة ذاته نقص، والنقص غير جائز عليه تعالى، لكنّك دريت فيما تقدّم أنّ الوجه الأَوّل غير متين عندنا، والوجه الثاني لا يختصّ بالإجمالي بل يثبت التفصيلي أيضاً، بل وكذا الوجه الأَوّل على تقدير تماميته، فتأمل جيداً.

ثمّ إنّ لبيان هذا العلم الإجمالي وتصويره تقاريب ثلاثة، على ما وجدته في كلماتهم:

الأوّل: ما ذكره المحقّق الطوسي قدّس سره في محكي شرح الرسالة (1) : كما أنّ الكاتب يُطلق على مَن يتمكن من الكتابة، سواء كان مباشراً للكتابة أو لم يكن، وعلى مَن باشرها حال المباشرة باعتبارين، كذلك العالم يُطلق على مَن يتمكّن أن يعلم، سواء كان في حال استحضار المعلومات

____________________

(1) الشوارق 2 / 234 و 245.

١٦٩

أو لم يكن، وعلى مَن يكون مستحضراً لها حال الاستحضار باعتبارين، والعالِم الذي يكون علمه ذاتياً فهو بالاعتبار الأَوّل؛ لأنّه بذلك الاعتبار لا يحتاج في كونه عالماً إلى شيء غير ذاته، والعلم بهذا الاعتبار شيء واحد. انتهى.

ولعلّ هذا هو مختار اللاهيجي في كتابه (گوهر مراد) حيث قال (1) : ليكن علمى كه عين ذات است بمعنى عالميت است وآن بودن ذاتست بحيثيتى كه هر گاه معلوم متحقق شو بوجود عينى يا بوجود ظلى، هر آئينه منكشف باشد بر او، واين معنىدر واجب متحققست خواه معلوم متحقق باشد وخواه نه، پس واجب در مرتبه ذات نيز عالمست باين معنى با آنكه تحقق معلوم در آن مرتبه ممتنع است وعد تحقق معلوم منافى عالميت ومستلزم عدم علم واجب نيست، ليكن تحقق إضافة عالميت كه عبارت است از تعلق علم بمعلوم موقوفست بر تحقق معلوم چه تحقق اضافه فرع تحقق طرفين است لا محاله. انتهى.

أقول: أمّا ما ذكره المحقّق الطوسي قدّس سره فيرد عليه: أنّه لا يُخرج الواجب عن حد الجهل، غايته أنّه عالم بالقوة، مع أنّها ممتنعة في حق القديم البريء عن المادة ولواحقها، كيف وقد مضى أنّ صفاته الواجبة ثابتة له فعلاً بمجرّد عدم امتناعها؟ وبمثله نردّ قول اللاهيجي أيضاً، فإنّه يرجع في المآل إلى أنّه غير عالم في مرتبة ذاته تعالى بالأشياء، فأمثال هذه التقارير لا تغني ولا تسمن.

الثاني: ما ذكره ابن سينا في كتبه (2) قال: نفس تعقّله هو وجود الأشياء عنه، ونفس وجود هذه الأشياء نفس معقوليتها. وقال: ليس علوّ الأَوّل ومجده هو أن يعقل الأشياء، بل علوّه ومجده بأن يفيض عنه الأشياء معقولةً، فيكون بالحقيقة علوه ومجده بذاته لا بلوازمه التي هي المعقولات، وقال أيضاً في محكي الشفاء: ثمّ يجب لنا، أن نعلم أنّه قيل للأوّل: عقل، قيل على المعنى البسيط الذي عرفته في كتاب النفس، وأنّه ليس فيه اختلاف صور مترتبة متخالفة، كما يكون في النفس، فهو كذلك يعقل الأشياء دفعةً واحدة، من غير أن يتكثّر بها في جوهره، أو يتصوّر في حقيقة ذاته بصورها، بل يفيض عنه صورها معقولةً، وهو أَولى بأن يكون عقلاً من تلك الصور الفائضة عن عقله؛ لأنّه يعقل ذاته وأنّها مبدأ كلّ شيء، فيعقل من ذاته كلّ شيء. انتهى.

أقول: المفهوم من هذه الكلمات وغيرها أنّ كمال الواجب، هو كونه بحيث يفيض عنه هذه الصور المعقولة، فالعلم الإجمالي الذي هو عين ذاته تعالى، هو علمه بذاته الذي هو علّة فيضان

____________________

(1) گوهر مراد / 197.

(2) لاحظ الأسفار والشوارق وغيرهما.

١٧٠

الصور المعقولة عنه، ومفاد هذا الكلام عند الغور والتعمّق أنّه لا علم ذاتي له تعالى بما سواه، فهو يعلم ذاته بذاته، وأمّا ما سواه فهو غير معلوم له بعلمه الذاتي، بل بالصور المعقولة الفائضة عنه.

هذه هي فلسفة ابن سينا وغيره من المشّائين، اللهم إلاّ أن يقال: إنّ ذاته الأحدية مشتملة على جميع الأشياء بحذف حدودها، فيكون علمه بذاته علم بما سواه إجمالاً، كما مرّ في بيان مقالة صاحب الأسفار، لكن هذا القائل غير متوجّه إلى هذه الجهة، ومع فرض توجّهه إليها فقد دريت أنّها باطلة فلا تنفعه، وبالجملة: لم يتحصّل لنا من كلامه بيان معقول لعلم الواجب الذاتي الإجمالي بما سواه.

الثالث: ما نقلوه (1) عن أكثر متأخّري الفلسفة، وتوضيح مذهبهم بإيراد مثال في علم الإنسان فإنّ له أقساماً ثلاثة:

أحدها: أن له يكون له مَلَكة تحصل من ممارسة العلوم والإدراكات بقدر، ويتمكّن بحصول تلك المَلَكة من استحضار الصور العقلية التي كان اكتسبها من قبل، متى شاء بلا تجشّم كسب جديد، وإن كان تلك العلوم والإدراكات غير حاضرة في نفسه؛ إذ ليس في وِسعها أن تعقل الأشياء معاً.

ثانيها: كونه بحيث يورد عليه مسائل كثير دفعةً، فيحصل له علم إجمالي بجواب الكلّ، ثمّ يأخذ بعده في التفصيل شيئاً فشيئاً، فهو يعلم من نفسه يقيناً أنّه يحيط بالجواب جملةً، ولم يفصّل في ذهنه بترتيب الجواب، ثمّ يخوض في الجواب مستمدّاً من الأمر البسيط الذي يدركه من نفسه، فهذا العلم الواحد البسيط فعّال للتفاصيل.

ثالثها: أن يكون علومه وصوره العقلية تفصيلية زمانية، على سبيل الانتقال من معقول إلى معقول على سبيل التدريج، فأثبتوا القسم الثاني الذي هو متوسّط بين الصورتين للواجب تعالى وقالوا: إنّه العلم الإجمالي الذاتي المقدّم على وجود الأشياء. نعم إنّ هذه الحالة البسيطة الخلاّقة للمعقولات المفصّلة مَلَكة وصفة زائدة في النفس، وفي الواجب ذاته بذاته، وهل هذا صحيح ليس فيه القوّة، أو لا بل هو حالة متوسّطة بين الفعلية المحضة والقوة المحضة؟ فيه كلام بين الشيخ الإشراقي وصاحب الأسفار، وبين اللاهيجي والسبزواري، فالأَوّلان على الثاني، والأخيران على على الأَوّل.

وكيفما كان، فقد استدلّوا على وجود هذا العلم، بأنّ الواجب مبدأ مجعولاته المتميّزة في الخارج، ومبدأ تمييز الشيء يكون علماً به؛ إذ العلم ليس إلاّ مبدأ التمييز. أقول: وفيه: أنّ العلم وإن كان مبدأ التمييز، إلاّ أنّ مبدأ التمييز علم دائماً، فهو غير مبيّن، ولعلّ هذا مراد الحكيم

____________________

(1) الناقل هو صاحب الأسفار، وصاحب الشوارق، والسبزواري، وغيرهم قدّس سرهم.

١٧١

الشيرازي، حيث أورد على الحجة بأنّها مبنيّة على انعكاس الموجبة الكلّية كنفسها فلاحظ.

فقد تلخّص: أنّ ما تخيّلوه من تقسيم العلم إلى الإجمالي والتفصيلي، وجعل الأَوّل عين ذاته تعالى ضعيف البنيان، منهم الأساس، باطل الأركان، وسيأتي أنّ ما ذكروه حول العلم التفصيلي أيضاً لا يبتني على ركن وثيق، فإذن وجب الرجوع إلى ما قرّرناه من أنّ الله عالم بجميع الأشياء أزلاً قبل وجودها تفصيلاً، وسنبرهن على أنّ هذا العلم عين ذاته المقدّسة.

وأمّا كيفية هذا العلم، وأنّه كيف يتعلّق بالمعلوم؟ فهي خارجة عن قدرة نفوسنا وسلطة علومنا ( وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (1) .

وحيث إنّ هذا العلم عين ذاته فقد امتنع كونه حصولياً أو حضورياً؛ لامتناع اتّحاد الصور أو الموجودات الخارجية مع الذات الواجبة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومَن قال بأحدهما فإنّما هو في علمه التفصيلي الزائدة على ذاته بزعمه كما ستعرفه.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي لا يكفي لتحقيق هذا النظام الأجمل الموجود، فإنّه يقتضي العلم التفصيلي المتقدّم كما لا يخفى. وهذا الإشكال يجري في التقريب الأَوّل بلا خفاء.

وأمّا في الثاني؛ فلأنّا نقول: إنّ القائل به وإن يسند النظام إلى الصور المذكورة؛ إلاّ أنّها أيضاً تحتاج في صدورها عن الواجب إلى علم سابق عليها، وما قيل: من أنّ علمه بذاته يكفي لصدورها فهو ممّا لا برهان عليه.

وأمّا في الثالث؛ فلأجل أنّ العلم المفروض مجمل وبسيط، فلا يفي لفاعليته التامّة الكاملة الاختيارية، فتأمّل.

الجهة الخامسة: في العلم التفصيلي للحكماء.

معلومية الشيء إمّا بمجرّد حضور ذاته وعدم غيبتها، أو بتوسّط صورته، والأَوّل هو العلم الحضوري، والثاني هو العلم الحصولي، وكلا العلمينِ فينا متحقّق، فإنّا نعلم ذاتنا بنفس ذاتنا، والصور المرتسمة في أذهاننا بنفس تلك الصور، ونعلم الأشياء الخارجية بصورها وهذا واضح، وإنّما الكلام في العلم التفصيلي الثابت للواجب تعالى، وأنّه حصولي أو حضوري؟

فيه خلاف شديد، فذهب أرسطو وغيره وتوابع المشّائين - منهم الشيخان: أبو النصر الفارابي وابن سينا، وتلميذه بهمنيار وكثير من المتأخرين - إلى الأَوّل وتخيّل ارتسام صور الممكنات في ذاته تعالى وحصولها فيها، وسلك السهروردي (بل في الأسفار: وحكم بصحة هذه الطريقة كل مَن أتى بعده) الثاني وأنّ الأشياء - سواء كانت مجرّدات أو مادّيات، مركّبات أو

____________________

(1) الإسراء 17/ 85.

١٧٢

بسائط - بوجوداتها الخارجية مناط علمه تعالى وعالميته بها، قال في الأسفار: فعلمه تعالى عنده - الشيخ الإشراقي - محض إضافة إشراقية، فواجب الوجود مستغنٍ في علمه تعالى بالأشياء عن الصور، وله الإشراق والتسلّط المطلق، فلا يحجبه شيء عن شيء، وعلمه وبصره واحد؛ إذ علمه يرجع إلى بصره، لا أنّ بصره يرجع إلى علمه كما في غير هذه القاعدة... إلخ.

وأمّا المحقّق الطوسي فلم يوافق السهروردي كلّياً، فإنّه - أي السهروردي - أجرى هذه القاعدة في الأجسام والجسمانيات كلّها، وإنّ حضور ذواتها كافٍ في أن تعلم بالإضافة الاشراقية، والمحقّق المذكور لم يكتفِ بذلك، بل جعل مناط علمه بالأجسام والجسمانيات ارتسام صورهما في المبادئ العقلية والنفسية، فالقاعدة عنده مختصّة بتلك المبادئ، كما في الأسفار، لكن السبزواري جعل القولين واحداً فلاحظ.

وكيف ما كان، فبيان هذا القول نأخذه من عبارة المحقّق الطوسي، في محكي شرح رسالة العلم (1) قال قدّس سره: والحق أنّه ليس من شرط كلّ إدراك أن يكون بصورة ذهنية؛ وذلك لأنّ ذات العاقل إنّما يعقل نفسه بعين صورته التي بها هي هي، وأيضاً المدرِك للصورة الذهنية إنّما يدركها بعين تلك الصورة لا بصورة أُخرى، وإلاّ لتسلسل (2) ، ولزم مع ذلك أن يجمع في محلّ واحد صوراً متساوية في الماهية مختلفة بالعدد فقط،وذلك محال،فإذن، إنّما يحتاج في الإدراك إلى صورة المدرَك، أمّا الاحتياج إلى صورة ذهنية فقد يكون لكون المدرَك غير حاضر عند المدرِك، وعدم الحضور يكون إمّا لكون المدرَك غير موجود أصلاً، أو لكونه غير موجود عند المدرِك، أي يكون بحيث لا يصل إليه الإدراك البتة؛ وذلك إنّما يكون بسبب شيء من الموانع العائدة، إمّا إلى المدرِك نفسه،أو آلة الإدراك أو إليهما جميعاً.

ثمّ قال: وإدراك الأَوّل تعالى إمّا لذاته فيكون بعين ذاته لا غير، ويتّحد هناك المدرَك والمدرِك والإدراك ولا يتعدّد إلاّ بالاعتبارات التي تستعملها العقول؛ وإمّا لمعلولاته القريبة، فيكون بأعيان ذوات تلك المعلومات؛ إذ لا يتصور هناك عدم حضور بالمعاني المذكورة أصلاً، ويتّحد هناك المدركات والإدراكات ولا يتعدّدان إلاّ بالاعتبار ويغايرهما المدرك، وإمّا لمعلولاته البعيدة كالماديات والمعدومات التي من شأنها إمكان أن يوجد في وقت، أو أن يتعلّق بموجود، فيكون بارتسام صورها المعقولة في المعلولات القريبة، التي هي المدركات لها أَوّلاً وبالذات، وكذلك إلى أن ينتهي إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدرِكيها؛ وذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر، والمدرِك للحاضر يدرك لِما يحضر معه، فإذن لا يعزب عن علمه

____________________

(1) الشوارق 2 / 226.

(2) أقول: والتسلسل المذكور ممنوع؛ لانقطاع السلسلة بانقطاع الالتفات في غيره تعالى.

١٧٣

مثقال ذرة، في الأرض، ولا في السماء، ولا أصغر، منها ولا أكبر، فيكون ذوات معلولاته مرتسمة بجميع الصور؛ وهي التي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين، وتارة باللوح المحفوظ ويسمّيهما الحكماء بالعقول الفعّالة. انتهى.

وقال في شرح الإشارات - في ضمن كلامه -: ولا تظننّ أنّ كونك محلاً لتلك الصورة شرط في تعقّلك إيّاها، فإنّك تعقل ذاتك مع أنّك لست محلاً لها، بل إنّما كان كونك محلاً لتلك الصورة شرطاً في حصول تلك الصورة، الذي هو شرط في تعقّلك إيّاها، فإن حصلت تلك الصورة لك بوجه آخر غير الحلول فيك، حصل التعقّل من غير حلول فيك... إلخ.

أقول: والإنصاف أنّ هذا الظن لم يظهر دفعه، فالبيان غير وافٍ لإثبات مذهبه، وبالجملة: إنّ الحصول الذي يكفي في تحقّق العلم على ما هو المسلّم، إنّما الحصول المتحقّق في ضمن الاتحاد، كما في علم ذاتنا بذاتنا، أو القيام كما في قيام الصور بذهننا قياماً حلولياً، وأمّا كفاية مطلق الحصول على أيّ نحو كان في ذلك، فممنوع كما ذكره المحقّق اللاهيجي أيضاً (1) .

أقول: وممّا يزيّف هذا لزومه خلو الواجب عن العلم التفصيلي أبداً؛ إذ الموجودات بأسرها لا تجتمع في زمان، فهو لا يعلم جميع الأشياء في وقت من الأوقات، إلاّ أن يلتزم بتحقّق الأشياء أزلاً في مواطنها الحادثة كما مرّ بحثه، وقد علمت أنّه أيضاً غير ثابت، هذا مع أنّ فعل الفاعل المختار لابدّ من مسبوقيّته بالعلم، وقد مرّ أنّ العلم الإجمالي لا يكفي لذلك.

وأمّا ما أورده صاحب الأسفار على هذا القول من الإيرادات الثمانية، فهو لا يخلو عن كلام، فإنّه بين ما يتوجه على نفس السهروردي لا على القول نفسه، وبين ما هو غير وارد، وبين ما هو غير ظاهر في نفسه؛ ولذا لم يعتنِ بها السبزواري، فاختار هذا القول في المنظومة زائداً على ما اختاره من مذهب هذا المورد، لكن الحقّ بطلان المذهبين معاً كما عرفت، والله الهادي.

نقل ونقد

استدلّ الشيخ الإشراقي على هذا القول بقاعدة الملازمة حيث قال - على ما في الأسفار -: إنّ كلّ ما هو كمال مطلق للموجود من حيث هو موجود، فيجب له، وإذا تحقّق شيء منه في معلومه فتحقّقه له أَولى، وكلّ ما هو أَولى فهو واجب له بالضرورة، وإذا صحّ العلم الإشراقي للنفس ففي الواجب الوجود أَولى، فيدرك ذاته لا بأمر زائد عليها، ويدرك ما سواه بمجرّد إضافة الإشراق عليها... إلخ.

وأمّا المحقّق الطوسي فله دليل آخر، ومحصّله: أنّ ذاته تعالى علّة لِما سواه، وعلمه بذاته

____________________

(1) الشوارق 2 / 228.

١٧٤

عين ذاته، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بالمعلول، وحيث إنّ العلّة - أي ذاته تعالى وعلمه بها - واحدة، فالمعلول - هو ما عداه والعلم به - أيضاً واحد؛ ضرورة عدم صدور الكثير عن الواحد.

أقول: وهذا أحسن من الوجه الأَوّل كما لا يخفى، لكنّ الوجهين ضعيفان: أمّا الأَوّل فبعد ما عرفت منافي عموم علمه، لا يبقى له مجال بالضرورة. وأمّا الثاني ففيه:

أَوّلاً: منع جريان قاعدة استلزام العلم بالعلّة العلم بالمعلول كما مرّ.

وثانياً: منع قاعدة عدم صدور الكثير عن الواحد، كما سبق.

وأَمّا القول الأَوّل - أعني تفسير علمه التفصيلي بالعلم الحصولي - فمجمله: أنّ العلم إمّا فعلي وإمّا انفعالي، والأَوّل ما يكون سبباً لوجود المعلوم في الخارج، سواء كان سبباً ناقصاً - كعلم البنّاء، حيث إنّه يصوّر في ذهنه لقوةٍ خيالية صورة البيت، ثمّ تصير تلك الصورة محرّكةً لأعضائه حتى يوجد البيت في الخارج، فإنّ علمه هذا يفتقر في إيجاد البيت إلى آلة وزمان خاصّ وشرائط أُخرى - أو سبباً تامّاً كعلم الباري بالعالم، فإنّ مجرّد علمه به كافٍ لوجوده، فصدور الأشياء عن الباري جلّ اسمه في الخارج بأنّها عُقلت أَوّلاً فصدرت، وتعقّله تعالى إيّاها ليست بأنّها وجدت أَوّلاً فعقلت؛ لأنّ صدورها عن عقله لا عقله من صدورها، فالواجب يعلم ذاته فيفيض صور الأشياء عنه معقولةً؛ لأنّها من لوازم ذاته، فعلمه بما سواه من جهة هذه الصور وهي علمه العنائي الموجب للنظام، وهذه الصور صادرة عنه تعالى مرتسمة في ذاته الواجبة.

واستدلّ له بأنّه تعالى يعلم ذاته وذاته سبب للأشياء، والعلم بالسبب التامّ للشيء يوجب العلم بذلك الشيء، فذاته تعلم جميع الأشياء في الأزل، لكنّ الأشياء كلّها غير موجودة في الأزل بوجود أصيل، فلو لم تكن موجودةً بوجود علمي لم يتحقّق العلم ضرورة استدعائه المعلوم، ولا يعقل تعلّقه بالمعدوم الصرف، فظهر كون الأشياء موجودةً بالوجود العقلي الصوري عند الباري قبل وجودها الخارجي.

ثمّ إنّ هذه الصور إمّا منفصلة عن الباري فيلزم المُثُل الأفلاطونية، وإمّا بأن تكون أجزاء لذاته فيلزم التركيب في ذاته، وكلاهما محالان؛ أو بأن تكون زائدةً على ذاته لكنّها متّصلة بها مرتسمة فيها، وهو المطلوب.

أقول: قد تقدّم أنّ الله عالم بالأشياء أزلاً بالعلم الذي هو ذاته كما برهنّا عليه، وأمّا أنّه تعلّق بالصور أو بالذوات الموجودة في مواطنها، فهذا ممّا لا سبيل لنا إلى تعقّله كما مرّ، فنقول حينئذٍ: إنّ هذا الدليل مدخول، فإنّ علمه بالأشياء عين ذاته لا الصور الفائضة عنه، وأيضاً نُقض بالقدرة الواجبة الأزلية؛ لأنّها مثل العلم صفةٌ ذات إضافة تتعلّق بالمقدورات، ولا شك أنّ قدرته تعالى شاملة لجميع الممكنات أزلاً مع عدم وجودها في الأزل، ولا يمكن دفعه بالصور الأزلية،

١٧٥

فإنّ ذوات الأشياء الخارجية مقدورة بأنفسها كصورها، فلابدّ من تحقّق نفس هذه الموجودات أزلاً وإلاّ لم يتحقّق القدرة.

وأمّا ما أجاب عنه الحكيم الشيرازي في أسفاره، بأنّ القدرة وإن سُلّم جريان الدليل فيها، وأنّ حكمها حكم العلم في اقتضاء الطرفين، لكن لا نسلّم تخلّف الحكم في القدرة؛ إذ كما في العلم لا يلزم وجود المعلوم بعينه الخارجي، بل يكفي وجوده بصورته، فكذلك لا يلزم وجود المقدور بعينه الخارجي بل وجوده بصورته، وذلك الوجود الصوري كما أنّه معلوم له كذلك مقدور صادر عنه، فواضح البطلان؛ لِما صرّح المورد من أنّ المقدور بوجوده الخارجي مقدور، فحضور صورته لا يكفي لمقدورية ذاته الخارجية، وهذا واضح جداً.

لكن الإنصاف أنّ هذا النقض غير متين، فإنّ القدرة - على ما عرفت منّا تفسيرها - لا تقضي وجود المقدور ولو بصورته كما نشاهد ذلك في أنفسنا، فإنّا قادرون على أُمور غير موجودة خارجاً، من غير أن تقوم قدرتنا بصور تلك الأُمور.

وأمّا العلم فلابدّ له من شيء يتعلّق به، سواء كان عيناً خارجياً أو صورةً ذهنية، فإنّه يستلزم الانكشاف عن العالم، والمعدوم الصرف لا انكشاف له، وأمّا ما أورده عليه في الأسفار، فهو لا يرجع إلى أساس صحيح، فلاحظ ولا نطوّل المقام بذكره وردّه.

هذا ما يرجع إلى الدليل، وأمّا الدعوى نفسها فهي مزيّفة من وجوه:

الأَوّل: ما أفاده المحقّق الطوسي قدّس سره في محكي شرح الإشارات، من أنّ ارتسام الصور الممكنة في ذاته تعالى يوجب تكثّره وهذا باطل، وأمّا ما أجاب عنه المحقّق الشيرازي في أسفاره، والمحقّق اللاهيجي في شوارقه و (گوهر مراد)، وصرّح الشيخ ابن سينا نفسه، بأنّ حصول الكثرة بالترتيب السببي والمسبّبي، فلا ينثلم بها الوحدة، كما في الفعل حيث إنّه تعالى يوجد الكثير بالترتيب، مع أنّه لا يصدر الكثير عن الواحد، فهو عجيب من هؤلاء الباحثين، فإنّ الترتيب وإن كان يمنع الكثرة في مسألة الإيجاد، ولا يصادم القاعدة القائلة بعدم صدور الكثير عن الواحد، إلاّ أنّه لا يرتبط بالمقام؛ إذ بعد الالتزام بارتسام الصور المطابقة للأشياء الخارجية في ذاته تعالى، لابدّ من فرض تكثّر الذات حسب تكثّر الصور، سواء كان حصولها بالترتيب أو بغير الترتيب، وهذا قريب من البداهة، ولمّا كان تجزّي الباري وتركّبه محالاً كان هذا القول أيضاً محالاً.

الثاني: إنّه يلزم كونه تعالى موصوفاً بصفات زائدة على ذاته غير إضافية ولا سلبية، مع أنّه باطل باتّفاق من الإمامية والفلاسفة، فإنّهم يعتقدون العينية، وهذا أيضاً ممّا أورده المحقّق الطوسي قدّس سره على هذا المدّعى، وأنت بعد ما عرفت بطلان العلم الإجمالي المزعوم المتقدّم، تعلم

١٧٦

أنّ جواب هؤلاء المتقدّمين عن هذا الاعتراف لا يرجع إلى محصّل.

الثالث: إنّ هذه الدعوى ترجع عند التحقيق إلى قول الأشاعرة القائلين بزيادة الصفات القديمة القائمة بذاته تعالى، فيبطله ما يبطلها، والأُصول المتقدّمة تفسد ما يمكن أن يجاب عن هذا الرجوع.

الرابع: إنّ مدار هذا القول على العلم الفعلي، وإنّ علم الواجب بذاته يوجب فيضان هذه الصور عنه، وسيأتي في مبحث الإرادة إن شاء الله بطلانه، وإنّ علمه تعالى ليس بفعلي بأن يكون علةً لفعله، ولا بانفعالي بأن يكون صورةً حاصلة من المعلوم، فإنّ علمه عين ذاته كما سيأتي برهانه، والصور لا تكون ذات الواجب الوجود فإنّها مخلوقة له؛ ولأنّها عَرض فلا يمكن اتّحادها مع الواجب، فإذن، عُلم أنّ علمه تابع للأشياء في التعلّق والإضافة، لا في أصل تحقّقه، وبالجملة: علمه تعالى ليس بحضوري، ولا بحصولي، ولا بفعلي، ولا بانفعالي، ولا بإجمالي، ولا بتفصيلي، ممّا اصطلحوا عليه.

ثمّ إنّ لصاحب الأسفار وجوهاً من الإيراد على قول المشّائين القائلين بارتسام الصور في ذاته، لكنّها غير واردة عليهم إلاّ الواحد منها بناءً على أصالة الوجود فراجع.

هذا تمام كلامنا حول الأقوال المهمّة الدائرة على علمه تعالى، وبيان ما هو الحق في المقام، والحمد لله، وقد عرفت إلى هذه الأقاويل نَشَأت من قياس علم الواجب بعلمنا أملاً، ومن عدم الالتفات إلى استحالة فهمنا بحقيقته، فإنّه تعالى وصفاته الذاتية.

الجهة السادسة: حول البداء

قد ظهر أنّ مذهب الإمامية طبقاً للبراهين العقلية، والآيات القرآنية، والسُنة القطعية، هو عموم علمه تعالى بالأشياء، وأنّه لا يتصوّر الجهل والبداء في حقّه أصلاً، كما دريته درايةً كاملة.

وأمّا ما ورد في روايات أهل العصمة والطهارة، من إثبات البداء له تعالى فهو بمعنى الإبداء، أي أبدى الله شيئاً كذا، للناس بعدما أخفاه عليهم، وهذا أمر معقول لا غبار عليه، وقد تقدّمت رواية البزنطي عن الرضا عليه‌السلام في الجهة الثانية القائلة بكفر مَن اعتقد تعلّق علمه بالشيء بعد كونه.

وممّا يدل على مرادنا أيضاً رواية أبي بصير وسماعة (1) : (مَن زعم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في شيء لم يعلمه أمس، فابرؤوا منه)، ورواية ابن سنان عنه أيضاً (2) : (إنّ الله يقدّم ما يشاء، ويؤخّر

____________________

(1) بحار الأنوار 4 / 111.

(2) بحار الأنوار 4 / 121.

١٧٧

ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وعنده أُمّ الكتاب، وقال: فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في علمه، إنّ الله لا يبدو له من جهل).

وروى الصدوق في عقائده (1) عن الصادق عليه‌السلام : (مَن زعم أنّ الله بدا له من شيء بداء ندامة، فهو عندنا كافر بالله العظيم). وصحيحة عبد الله بن سنان (2) عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : (ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له). ورواية عمرو (3) عنه عليه‌السلام : (إنّ الله لم يبدُ له من جهل)، لكن الذين طبع الله على قلوبهم، ولا يخافون الله، ولا يستحيون من الناس، ينسبون إلى الإمامة القول البداء، أي ظهور الشيء لله تعالى بعد خفائه عليه، سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا يوجد من الإمامية قائل بذلك، فضلاً عن أن يكون ذلك معتقد جميعهم.

ثمّ إنّنا نذكر جملةً من كلمات بعض علمائنا الأعلام؛ توضيحاً للمراد / وتعميماً للانتفاع، وردّاً على هؤلاء المتقوّلين، فنقول: قال شيخنا الأَجلّ المفيد (336 أو 338 - 413) في كتابه أوائل المقالات (4) :

أقول: في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله، من الإفقار بعد الإغناء، والإمراض بعد الإعفاء، والإماتة بعد الإحياء، وما يذهب أهل العدل خاصّة من الزيادة في الآجال والأرزاق، والنقصان منها بالأعمال، فأمّا إطلاق لفظ البداء فإنّما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله عزّ وجلّ، ولو لم يرد به سمع أعلم صحّه، ما استجزتُ إطلاقه (5) ، كما أنّه لو لم يرد على سمع، بأنّ الله يغضب ويرضى ويحب ويعجب لَما أطلقت ذلك عليه سبحانه، ولكنّه لمّا جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول، وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف، وإنّما خالف مَن خالفهم في اللفظ دون ما سواه... وهذا مذهب الإمامية بأسرها انتهى.

وله كلام طويل آخر في توضيح هذه المسألة، في شرحه على عقائد الصدوق رحمه‌الله حيث قال: فالمعنى في قول الإمامية: بدا لله في كذا، أي ظهر له فيه، ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه، وليس المراد منه تعقّب الرأي ووضوح أمر كان قد خفي عنه... إلخ.

ونظيره كلام الشيخ الصدوق، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وغيرهم من أعيان الطائفة

____________________

(1) العقائد للصدوق / 73.                            (2) الكافي 1 / 148.

(3) الكافي 1 / 148.                                  (4) أوائل المقالات / 53.

(5) أقول: ففي صحيح البخاري 4 / 146 بإسناده عن أبي عمرة، أنّ أبا هريرة سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأعمى وأقرع بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم، فبعث إليهم مَلَكاً، فأتى الأبرص...) إلخ.

١٧٨

وأعاظم الملّة قدّس الله أسرارهم (1) .

ولسيدنا الأُستاذ العظيم الفقيه الأُصولي العلاّمة الخوئي - دام ظله - كلمةً حول معنى البداء وتحليله في مدخل تفسيره (البيان) ينبغي نقل بعضها تتميماً للفائدة، قال - دام ظله الوارف - (2) : ثمّ إنّ البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنّما يقع في القضاء غير المحتوم، أمّا المحتوم منه فلا يتخلّف، ولابدّ من أن تتعلّق المشيئة بما تعلّق به القضاء، توضيح ذلك: أنّ القضاء على ثلاثة أقسام:

الأَوّل: قضاء الله الذي ام يُطلع عليه أحداً من خلقه، والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه، ولا ريب أنّ البداء لا يقع في هذا القسم، بل ورد في أخبار كثيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ البداء إنّما ينشأ من هذا العلم.

الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بأنّه سيقع حتماً، ولا ريب في أنّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء، وإن افترق عن القسم الأَوّل بأنّ البداء لا ينشأ منه.

الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيّه وملائكته بوقوعه في الخارج، إلاّ أنّه موقوف على أن لا تتعلّق مشيئة الله بخلافه، وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (3) .

وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة... إلى أن قال: والبداء إنّما يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بلوح المحو والإثبات، فلا يستلزم نسبة الجهل إلى الله تعالى.

فالقول بالبداء هو الاعتراف الصريح، بأنّ العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه، وأنّ إرادة الله نافذة في الأشياء أزلاً وأبداً، بل وفي القول بالبداء يتّضح الفارق بين العلم الإلهي وبين علم المخلوقين، فعلم المخلوقين - وإن كانوا أنبياء أو أوصياء - لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى، فإنّ بعضاً منهم - وإن كان عالِماً بتعليم الله إيّاه - بجميع عوالم الممكنات - لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه، فلا يعلم إلاّ ما أخبره الله على نحو الحتم.

والقول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله، وطلبه إجابة دعائه منه، وكفاية مهمّاته وتوفيقه للطاعة، وإبعاده عن المعصية، فإنّ إنكار البداء والالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة - كما يراه اليهود ومَن يحذو حذوهم - يلزمه يأس المعتقِد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه، فإنّ ما

____________________

(1) لاحظ الجزء الرابع من البحار وتعاليقه.

(2) البيان / 271.

(3) الرعد 13 / 39.

١٧٩

يطلبه العبد من ربّه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه، فهو كائن لا محالة، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسّل، وإن كان قد جرى القلم بخلافه، لم يقع أبداً ولم ينفعه الدعاء، فيترك التضرّع إلى خالقه.

وهذا هو سرّ ما ورد في روايات كثيرة (1) عن أهل البيت عليهم‌السلام ، من الاهتمام بشأن البداء، كقول الصادق عليه‌السلام في رواية هشام بن سالم: (ما عُظّم الله عزّ وجلّ بمثل البداء)، وقوله عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم: (ما بعث الله عزّ وجلّ نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار بالعبودية، وخلع الأنداد، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء).

والسرّ في هذا الاهتمام، أنّ إنكار البداء يشترك بالنتيجة مع القول، بأنّ الله غير قادر على أن يغيّر ما جرى عليه قلم التقدير، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنّ كلا القولين يؤيّس العبد من إجابة دعائه، وذلك يوجب عدم توجّهه في طلباته إلى ربّه، مع أنّ القرآن يحثّ العبد بالتوجّه إلى ربّه.

أقول: ولنِعم ما قال الصادق عليه‌السلام في رواية مالك الجهني (2) : (لو عَلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر، ما فتروا عن الكلام فيه). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، الذي كل يوم هو في شأن.

الجهة السابعة: في أنّ معلوماته أكثر من مقدوراته

قد ثبت ممّا تقدّم أنّ معلوماته تعالى أكثر من مقدوراته، فإنّ علمه تعالى يشمل الممكنات، والضروريات، والممتنعات، وجميع المفاهيم الاعتبارية والانتزاعية، وأمّا قدرته فهي تختصّ بالممكنات، فحينئذٍ يمكن أن يتوهّم أحد أنّ هذا ينافي ما عليه الإمامية والحكماء، من عينية صفاته مع ذاته تعالى، وعينية كلّ صفة مع صفة أُخرى خارجاً؛ إذ لو أنّ القدرة والعلم أمراً وحداً لَما تفارقا في كثير من الموارد.

وجوابه: أنّ الاختلاف لا يرجع إلى الصفة بل إلى المتعلّق، فإنّ الأشياء بين ما يقبل المقدورية وبين ما لا يقبلها، حينما يقبل جميعها المعلومية، فإذن، لا منافات بين أكثرية المعلومات وعينية قدرته مع علمه جلّ جلاله، كما لا منافاة بين العينية المذكورة، وثبوت الإضافة للعلم والقدرة دون الحياة، فإنّ اتّصافه بالحياة والموجودية، لا يتوقّف على شيء، ولا تعلّق لهما بشيء، وذلك يرجع إلى اختلاف المفاهيم، فإنّ مفهوم الحياة والوجود مغاير لمفهوم العلم والقدرة حتى في الواجب الوجود، وإنّما الوحدة في جانب المصداق والخارج.

____________________

(1) ذكرها المجلسي في الجزء الرابع من البحار.

(2) أُصول الكافي 1 / 148.

١٨٠