صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 114359
تحميل: 4710

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114359 / تحميل: 4710
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

1 - إنّها صفة في قبال سائر الصفات من دون رجوعها إلى العلم.

2 - إنّها علمه بالأصلح، فتكون هي واجبة عين ذاته تعالى.

3 - إنّها الإيجاد والإحداث فتكون حادثةً.

أمّا الوجه الأَوّل فقد اختاره بعض الأجلاّء من أهل المعقول والمنقول قال: (ومن البيّن أنّ مفهوم الإرادة كما هو مختار الأكابر من المحقّقين، هو الابتهاج والرضا وما يقاربهما مفهوماً، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا، والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى؛ إنّا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامين في الفاعلية، وفاعليتنا لكل شيء بالقوة؛ فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أمور زائدة على ذواتنا من تصوّر الفعل، والتصديق بفائدته، والشوق الأكيد، المميلة جميعاً للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات، بخلاف الواجب تعالى، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان، وجهات القوّة والنقصان، فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة، وحيث إنّه صرف الوجود، وصرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج، وذاته مرضي لذاته أتمّ الرضا.

وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - وهي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، فإنّ مَن أحبّ شيئاً أحبّ آثاره، وهذه المحبّة الفعلية، هي الإرادة في مرحلة الفعل، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين (سلام الله عليهم) بحدوثها....

والوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتية بالعلم بنظام الخير وبالصلاح: أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختيارياً، وهو ليس العلم بلا رضا، وإلاّ كانت الرطوبة الحاصلة بمجرّد تصوّر الحموضة اختياريةً... وكذلك ليس الرضا بلا علم، وإلاّ كانت جميع الآثار والمعاليل الموافقة لطبايع مؤثّراتها وعللها اختياريةً، بل الاختياري هو الفعل الصادر عن شعور ورضا.

فمجرّد الملاءمة والرضا المستفادَينِ من نظام الخير والصلاح التام لا يوجب الاختيارية، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختيارياً منه تعالى، هو العلم بنظام الخير، لا أنّ الإرادة فيه تعالى بمعنى العلم بنظام الخير.

وهذا الذي ذكرنا مع موافقته للبرهان مرموز في كلمات الأعيان، بل مصرّح به في كلمات جملة من الأركان...). وقال أيضاً: (إنّ حقيقة إرادته تعالى في مرتبة ذاته ابتهاج ذاته بذاته... فهو صرف الخير، والخير هو الملائم اللذيذ الموجب للابتهاج والرضا، فهو صرف الرضا والابتهاج، كما كان صرف العلم والقدرة... إلخ) (1) .

أقول: ومن جملة الأركان الفيلسوف الشهير صاحب الأسفار، والسبزواري في شرح

____________________

(1) نهاية الدراية شرح كفاية الأُصول 1 / 164.

٢٠١

منظومته وحاشية الأسفار، ففي الأسفار: الإرادة والمحبّة معنى واحد كالعلم، وهي في الواجب عين ذاته، وهي بعينها عين الداعي. وقال في فصل آخر: بل هو مبتهج بذاته وعاشق لذاته، ويلزم من هذا الابتهاج ويترشّح منه حصول سائر الخيرات والابتهاجات... إلخ، لكنّه صرّح غير مرّة أيضاً، بأنّ إرادته هو العلم بالنظام الأتم، ونسبه إلى مذهب الحكماء كما يظهر لمَن لاحظ مبحث القدرة والإرادة من إلهيات أسفاره.

لكنّ الحقّ أنّ الإرادة ليست نفس الشوق والابتهاج كما عرفت، بل ولا ملزومة له كما في الأفعال العادية من تحريك الأعضاء، وكثير من الأفعال العبثية والجزافية، وكما في تناول الأدوية وغيرها، كما صرّح به في الأسفار أيضاً.

وأمّا ما تصوّره في حقّ الواجب المجرّد القديم من الابتهاج، ففيه: أنّ الابتهاج والرضا وما يقاربهما مفهوماً غير معقولة في حقّه؛ لبراءته عن الجسم والجسمانيات، ولا يفي دليل لإثبات الابتهاج في حقّه، ولا مجال لقياس الواجب على الممكن بوجه. أمّا إن أُريد بالابتهاج معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا، فلابدّ من بيانه وذكر برهانه، وأنّى لهم بذلك، هذا مع أنّ الفعل الاختياري لا يتحقّق بمجرّد العلم والرضا، فإنّ مَن تصوّر الحموضة تصوّراً قهرياً، وحصلت الرطوبة في فمه، لا يقال: إنّه حصّل الرطوبة باختياره وإن كان راضياً ومائلاً بحصولها، فالإنصاف أنّ ما ذكره هذا المدقّق الجليل لا يتمّ قطعاً.

وأمّا القول الثاني فقد عرفت قائله، وما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته وجوه:

1 - ما ذكره المحقّق الطوسي في التجريد، من أنّ الإرادة ليست زائدةً على الداعي؛ وإلاّ لزم التسلسل على تقدير حدوثها، أو تعدّد القدماء بناءً على تقدير قِدمها.

أقول: إلزام التسلسل على حدوث الإرادة معروف ومشهور وقد ذكره الكثيرون، وربّما أُجيب عنه بأجوبة غير دافعة عنه، لكن هذا الإلزام عندي هيّن جداً؛ إذ المراد بالإرادة الحادثة هو الإيجاد والإحداث لا غير، ومن الضروري أنّ الإيجاد فينا وفيه تعالى لا يحتاج إلى إيجاد آخر، نعم هو يحتاج إلى مرجّح وهو علمه بالأصلح.

2 - الإرادة الواجبة له ممكنة، فهي ثابتة له بالقاعدة الملازمة.

وفيه: أنّها إمّا الابتهاج فقد عرفت عدم تعقّله في حقّه تعالى، وإمّا العلم بالصلاح والخير فسيأتي أنّه غير مؤثّر، فلا يصلح تفسير الإرادة به فإنّها مؤثّرة، وإمّا ما ندركه نحن من أنفسنا فهو ممتنع في حقّ الواجب المجرّد، ولا معنى معقول لها غير هذه الثلاثة، فإذن، الصغرى باطلة في هذا القياس.

3 - إنّ الإرادة إن كانت من الصفات الذاتية فتمّ الدست، وإلاّ فإن كانت قديمةً لزم تعدّد

٢٠٢

القدماء، الذي يقول به الأشعريون وهو فاسد يقيناً، وإن كانت حادثةً فإمّا في غير محل، وإمّا في محل هو غيره تعالى، فهو باطل كما لا يخفى.

وإن كان حالّةً فيه تعالى لزم كونه محلاً للحوادث، وهو ممتنع كما سندلّل عليه، فبطلان هذه الشقوق يعيّن المطلوب.

أقول: إرادته الحادثة قائمة به تعالى قياماً صدورياً لا قياماً حلولياً، وسيأتي بيان توضيح أقسام القيام في مبحث التكلّم إن شاء الله.

وبالجملة: المِلّيون بأسرهم يقولون بفاعليته تعالى، وأنّه فعّال وكلّ فعل قائم بفاعله، وليس هذا من الحلول، وكونه تعالى محلاًّ للحادثات بشيء، والإرادة ليست إلاّ نفس الإيجاد، وهذا واضح.

كيف يؤثّر العلم؟

الذي يدور عليه هذا القول ويقوم به هو كون علمه تعالى فعلياً، فإذا ثبت ذلك فقد تمّ المطلوب، ولابدّ من تسليم أنّ إرادته هي علمه بنظام الخير والأصلح، وإلاّ فالمصير إلى القول الثالث متعيّن.

فنقول: الذي نتعقّله من مفهوم العلم، هو ما به انكشاف الأشياء وجلاؤها عن العقل، وأمّا كونه ذا تأثير فليس ببيّن، فلابدّ من تبيينه بالبرهان، وإنّي كلّما تصفّحت مظانّه لم أجد منهم دليلاً على ذلك أصلاً، لا في مباحث الأعراض، ولا في مبحث أقسام الفاعل، ولا في الإلهيات، سوى أمثلة ذكروها مثل علم المهندس، فإنه يتصوّر البِناء أَوّلاً ثمّ يوجده على وِفق علمه، فهذا العلم فعلي؛ إذ المعلوم تابع له دون العكس كما في الانفعالي.

قال في الأسفار: ولا استبعاد في كون العلم نفسه سبباً لصدور الأشياء ووجودها، كالماشي على جدار دقيق العرض إذا تصوّر السقوط يسقط بتصوّره، وعدّ من هذا القبيل تأثير بعض النفوس بالهمّة والوهم، وكذا إصابة العين التي عُلم تأثيرها بإخبار الوحي والسنة، من قوله تعالى: ( وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ) (1)، ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (العين تُدخل الرجل القبر والجمل القِدر)، وإذا جاز أن يكون العلم الضعيف البشري مؤثّراً في وجود المعلوم، فأَولى أن يجوز ذلك في العلم الأزلي لمُنشِئ العالَم من العدم الصرف. انتهى.

والإنصاف أنّ ذلك منهم عجيب! يفرّعون جملةً من البحوث المهمّة في الإلهيات، على أصل من الأُصول المهمّة العقلية الاعتقادية، ولا يقدرون على إثباته، فيكتفون بذكر مثال واستشهاد

____________________

(1) القلم 68 / 51.

٢٠٣

وقياس ضعيف، ثمّ يدّعون أنّ الفلسفة تحصيل الحقائق، ويطعنون على غيرهم بالتقليد والمسامحة في ناموس البرهان والاستدلال! أَليس علم المهندس أيضاً انفعالياً أُخذ من مشاهداته الخارجية غالباً؟ نعم هو بالنسبة إلى هذا العمل سابق، لكنّه لا تأثير له تماماً، وإنّما هو من مقدّمات إرادة ذلك العمل، وإلاّ فالبِناء لا يوجد ولو تصوّره البنّاء ألف مرّةً.

وبالجملة: إن أرادوا أنّ العلم في طريق العمل، فهذا ممّا لا شكّ فيه لعاقل؛ إذ كل عمل اختياري لابدّ له من تصوّر وتصديق ولو ارتكازاً، ونحن نقر إقراراً ضرورياً أنّ علمه تعالى بالصلاح هو المرجّح لأفعاله، وبه يترجّح وجوداتها على أعدامها، وبعض أطوارها على الأُخر؛ وإن أُريد أنّه المؤثّر التامّ - كما قالوا ذلك في علم الله سبحانه، وسمّوه الفاعل بالعناية - فقد عرفت أنّه محض الدعوى، والمثال الذي ذكروه لا يفي به، بل الوجدان على خلافه.

وأمّا المثال الثاني ففيه: أنّ تصور السقوط ممّن قام على جدار عالٍ، علم واحد موجود في الخائف المدهوش الذي يسقط به، وفيمَن اعتاد القيام عليه بكثرة التكرار لا يسقط به كالبنّاء فوق الأبنية والجدران العالية، ولو كان علة لم يختلف كما اعترف به بعض أفاضلهم أيضاً، بل الصحيح أنّه لا علم في المثال المفروض؛ إذ الصاعد على الجدار يُحتمل سقوطه، ونفس هذا الاحتمال يولّد الخوف في قلبه، وهذا الخوف هو الذي يسبّب سقوطه، فهو لا يستند إلى العلم، فتأمل.

وأمّا تأثير النفس وإصابة العين فهما وإن كانا ثابتين في الجملة، لكن المقام منهما أجنبي بلا خفاء فيه.

فإذن، قد تحصّل أن ما تسالموا عليه من تقسيم العلم إلى الفعلي والانفعالي، وجعل الأَوّل علّة المعلوم لا تابعاً له، أمر خيالي فاسد جداً لا واقع له أبداً.

ومنه يظهر أنّ القول الثاني في تفسير إرادته كالقول الأَوّل منهدم الأساس، وما فرّع عليه ساقط أيضاً، فإذن، لابدّ من الرجوع إلى القول الثالث، وهو أنّ علمه تعالى غير علّة للممكنات، بل العلّة هو الإيجاد المسمّى بالإرادة، وأمّا القصد فلا يعقل في حقه كما يتصوّر في حقنا؛ ولذا قلنا: إنّ إثبات الإرادة لله القديم نقلي لا عقلي.

وممّا يدلّ على أنّ إرادته تعالى ليست راجعةً إلى علمه، وأنّ علمه ليس بفعلي - زائداً على ما ذكرنا - وجهان:

الأَوّل: إنّه يعلم نفسه ويعلم الضروريات، كلزوم الإمكان للممكن، والزوجية للأربعة ونحوهما، ويعلم امتناع الممتنعات، مع أنّ علمه بهذه الأُمور لا يكون بفعلي ومؤثّر قطعاً، ولا يمكن أن يتفوّه به عاقل جزماً، فمطلق علمه ليس بفعلي، فلئن كان، فهو علمه بالممكن الأصلح،

٢٠٤

فإذن، نسأل من أين جاءت هذه السببية والتأثير؟ أَليس علمه تعالى شيئاً واحداً لا اختلاف في حقيقته؛ لأنّها عين الذات المقدّسة، فإذا لم يكن التأثير مستنداً إلى العلم نفسه، وإلاّ لم يتعلّق بالضروريات الآبية عن التأثير المذكور مع أنّ علمه متعلّق بها اتّفاقاً، فلابدّ من استناده إمّا إلى نفس الأصلح، وهذا هو معنى كون الشيء مؤثّراً ومتأثراً، ومعنى إثبات عجز الإله، ومعنى الترجّح بلا مرجّح، ومعنى إنكار فاعلية الحقّ بتاتاً؛ وإمّا إلى تعلّق العلم بالأصلح، وهذا أيضاً باطل؛ إذ التعلّق المذكور اعتباري محض وهو لا يصير منشأ للتأثير، كيف ولو كان كذلك لكان تعلّق علمنا بالأصلح أيضاً مؤثّراً؟ وهو كما ترى.

الثاني: إنّ الله تعالى يعلم كلّ شيء كما مرّ، فيعلم الشرّ والظلم والكفر والقبايح بما هي شرّ وظلم وكفر وقبايح، بلا فرق بين علمه بها، وعلمه بالعدل والإيمان والخير والمحاسن أصلاً، بل يعلم الجميع مع أنّه تعالى لعدله وحكمته لا يريد الطائفة الأُولى أبداً، فيُعلم أنّ إرادته غير علمه، فتأمل.

وأمّا ما أجاب عنه في الأسفار وأطال، فيظهر ضعفه من نفس هذا التقريب، فلا نطوّل بذكره ونقده، فقد ثبت حينئذٍ ثبوتاً قطعياً، أنّ إرادته هو إحداثه وإيجاده لا غير، فإنّ بطلان القولين الأَوّلين يعيّن الالتزام بهذا القول، إذ لا شقّ رابع.

وهذا القول هو الذي اختاره ثقة الإسلام الكليني، (1) والشيخ الأجلّ الصدوق، (2) والشيخ الأعظم المفيد، (3) حيث قال: إنّ إرادة الله تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله، وإرادته لأفعال خلقه أمره بالأفعال، وبهذا جاءت الآثار عن أئمة الهدى من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مذهب سائر الإمامية إلاّ مَن شذّ منها عن قرب، وفارق ما كان عليه الأسلاف (4) ، وإليه يذهب جمهور البغداديين من المعتزلة، وأبو القاسم البلخي خاصّةً، وجماعة من المرجئة، ويخالف فيه من المعتزلة البصريون، ويوافقهم على الخلاف فيه المشبّهة وأصحاب الصفات انتهى.

قوله: نفس أفعاله، أي نفس إيجاداته فلا تغفل.

فظهر أنّ هذا القول هو مختار الإمامية في الأعصار الأُولى، غير أنّ المتأخّرين منهم أو جماعة من المتأخّرين عدلوا عنه إلى القول بأنّها العلم بالمصلحة، ولعمري إنّ هذا القول لا يجامع القول باختياره تعالى أصلاً، كما أشرنا إليه سابقاً أيضاً.

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 109.

(2) توحيد الصدوق / 11.

(3) أوائل المقالات / 19.

(4) فما في الكتاب المنسوب إليه المسمّى بـ (نكت الاعتقاد) من تفسيرها بعلمه الموجب لوجود الفعل غير صحيح عنه، فتأمّل.

٢٠٥

وأظن أنّ القائلين به من متكلّمي الإمامية جماعة غير كثيرة، على خلاف ما مرّ من المجلسي رحمه‌الله من نسبته إلى مشهورهم أو جميعهم، ويدلّ على ما ذكرناه أو يؤيّده، أنّ السيّد المرتضى الرازي رحمه‌الله ذكر، في باب الحادي والعشرين من كتابه تبصرة العوام في عداد معتقدات الإمامية: أنّ الله مريد بالإرادات الحادثة، فنسب حدوثها إلى الإمامية قاطبةً، واختاره من متأخّري المتأخّرين جمع كثير، كصاحب مجمع البحرين، وصاحب الفصول، وصاحب تفسير لوامع التنزيل وسواطع التأويل، (1) وصاحب كفاية الموحّدين قدّس سرهم، وسيدنا الأُستاذ المحقّق الخوئي - دام ظله العالي - وغيرهم، بل المظنون أنّه مختار معظم الأخباريين من أصحابنا، حتى أنّ المحدّث الجزائري جعل حدوث الإرادة - في محكي شرح التهذيب (2) - موارد التعارض بين العقل القطعي الدالّ على قِدمها، والشرع الدالّ على حدوثها، وما توهّمه هذا المحدّث الجليل ضعيف جداً.

وبالجملة: إنّ هذا القول كما يقتضيه العقل يدلّ عليه ظاهر الكتاب وصريح السُنة أيضاً، أمّا القرآن المجيد، فإليك بعض آياته الكريمة:

1 - ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .

2 - ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (4) . فكلمة (إذا) تدلّ على حدوث الإرادة، فإنّ الصفات الذاتية يستحيل تحقّقها في وقت دون وقت.

3 - ( ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ) (5) .

4 - ( إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ) (6) .

5 - ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (7) . وجه الدلالة واضح، وقد مرّ في أَوّل هذا المقصد ما يوضّح المقام إيضاحاً تامّاً.

وأمّا السنّة فإليك ما بلغه جهدي من الروايات:

1 - صحيحة صفوان قال: قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ قال: فقال: (الإرادة من الخلق الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله تعالى فإرادته

____________________

(1) لوامع التنزيل وسواطع التأويل 7 / 8.

(2) الحاكي هو المحقّق الآشتياني في حاشية الرسائل / 35.

(3) يس 36 / 82.

(4) النحل 16 / 40.

(5) عبس 22.

(6) الأحزاب 33 / 17.

(7) البقرة 2/ 185.

٢٠٦

إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروي ولا يهم ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفية عنه، وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ، ولا نطق بلسان، ولا همّة، ولا تفكّر، ولا كيف لذلك كما أنّه لا كيف له) (1) .

2 - صحيحة ابن أُذينة عن الصادق عليه‌السلام قال: (خلق الله المشيئة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة) (2) ومعنى هذه الرواية على مسلكنا: أنّه تعالى أوجد الأشياء، وأعطى لها الوجود بإيجاده، وأمّا هذا الإيجاد فهو صادر عنه تعالى بنفسه لا بإيجاد ثانٍ كما هو واضح، وكأنّ الرواية ناظرة إلى إبطال التسلسل المتوهّم المتقدّم.

3 - صحيحة محمد بن مسلم عنه عليه‌السلام قال: (المشيئة مُحدَثة) (3) .

4 - صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال: قلت: لم يزل الله مريداً؟ قال: (إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد) (4) .

5 - رواية بكير بن أعين قال: قلت: لأبي عبد الله عليه‌السلام : علم الله ومشيئته مختلفان أو متّفقان؟ فقال: (العلم ليس هو المشيئة، أَلا ترى أنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء الله، ولا تقول: سأفعل كذا إن علم الله، فقولك: إن شاء الله، دليل على أنّه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، وعلم الله سابق المشيئة) (5) . وفي التوحيد: (وعلم الله سابق للمشيّة) (6) .

أقول: وهذه الرواية الشريفة ناصّة على بطلان القول الثاني، فيتعيّن القول الثالث كما يدلّ عليه قوله: (وعلم الله سابق للمشيئة).

6 - صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا عليه‌السلام : (المشيئة والإرادة من صفات الأفعال، فمَن زعم أنّ الله لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد) (7) .

أقول: لأنّه يستلزم إيجابه وقِدم العالَم.

7 - رواية أبي سعيد القماط قال: قال أبو عبد الله عليه‌السلام : (خلق الله المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة) (8) .

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 109.                                       (2) أُصول الكافي 1 / 110.

(3) أُصول الكافي 1 / 110.                                       (4) أُصول الكافي 1 / 109.

(5) أُصول الكافي 1 / 109.                                       (6) التوحيد / 144.

(7) البحار 4 / 145.                                              (8) البحار 4 / 145.

٢٠٧

ولعلّ المراد بالقبلية: القبلية الرتبية؛ ولذا يقال: أوجد فوجد ولا يُعكس، وعلى أيّ، فالرواية تدلّ على حدوث الإرادة وهو المطلوب، ويُحتمل أن تكون المشيئة بمعناها الآتي.

8 - حديث الإهليلجة المعروف حيث قال الرضا عليه‌السلام في جواب الطبيب: (إنّ الإرادة من العباد: الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل، وأمّا من الله عزّ وجلّ فالإرادة للفعل إحداثه، إنّما يقول: كن فيكون بلا تعب وكيف) (1) .

9 - رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه‌السلام (2) ففيها: (كان - عزّ وجلّ - ولا متكلّم ولا مريد، ولا متحرّك ولا فاعل، جلّ وعزّ ربّنا، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه) (3) .

10 - رواية الهاشمي الطويلة المشتملة على مباحثة الرضا عليه‌السلام مع أهل المِلل، ففيها قال عمران: فأيّ شيء غيره؟ قال الرضا عليه السلام: (مشيئته واسمه وصفته وما أشبه ذلك، وكل ذلك محدث مخلوق مدبّر)، وقال عليه‌السلام فيها أيضاً: (واعلم: الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة) (4) .

11 - رواية النوفلي الهاشمي (5) المتقدّم عنه عليه‌السلام في مناظرته مع سليمان المروزي، وللإمام عليه‌السلام كلام طويل في هذه الرواية، في إبطال قِدم الإرادة، وكونها من صفات الذات، وكونها نفس العلم، وكونها نفس الأشياء، كما قال به جمع من أصحاب الفلسفة، وقسّموا الإرادة إلى الذاتية والفعلية، ولعمري إنّ الرواية بطولها وتشديدها حجّة ساطعة على مرادنا، وكأنّ الإمام عليه السلام كان ناظراً إلى أقوال الفلاسفة فردّ عليهم، فلاحظها والله الهادي.

12 - صحيحة يونس عن الرضا عليه‌السلام ففيها (6) : قلت: فما معنى شاء؟ قال: (ابتداء الفعل. قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه) وفي رواية الهاشمي عن الكاظم عليه‌السلام ، أيضاً تفسير معنى شاء بابتداء الفعل (7) .

13 - رواية ابن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام قال فيها: (أتدري ما المشيئة؟ فقال: لا، فقال:

____________________

(1) البحار 3 / 196.                                  (2) البحار 5 / 31.

(3) التوحيد، الباب 64.                                (4) التوحيد، الباب 64.

(5) التوحيد، الباب 65.                                (6) مرآة العقول 1 / 104، والبحار 5 / 122.

(7) الكافي 1 / 150.

٢٠٨

همّه بالشيء، أَوَ تدري ما أراد؟ قال: لا، قال: إتمامه على المشيئة) (1) .

أقول: لعلّ المراد بالهمّ هو ابتداء الفعل كما يفهم من قوله: إتمامه، ومن تصريح الرواية المتقدّمة بذلك، وإلاّ فالهمّ عليه محال، وقد صرّح به في الروايات المتقدّمة أيضاً.

وأمّا الفرق بين المشيئة والإرادة فسيأتي بحثه إن شاء الله.

هذا ما وقفنا عليه من الروايات الدالة على حدوث الإرادة، ولم أجد روايةً - ولو ضعيفة السند والدلالة - على أنّها قديمة، أو عين ذاته تعالى، أو هي راجعة إلى العلم، مع أنّ الصفات الذاتية مصرّح بها في روايات كثيرة، عن أهل العصمة والنبوّة سلام الله عليهم أجمعين.

وأمّا ما ذكره بعض الأماجد (2) من آل كاشف الغطاء - من أنّ الإرادة في لسان أهل البيت تُطلق على معنيين: الخلق الإيجاد، ثمّ العلم حسبما استقصينا من أحاديثهم، واستشهد للثاني برواية نقلها عن الكافي - فهو ممنوع، والموجود في الكافي مغاير لِما نقله في كتابه، على أنّ استعمال الإرادة في العلم أحياناً، لا يُسمن ولا يغني من شيء أصلاً كما لا يخفى، ولا سيما بعد ما صرّح في الرواية الخامسة بتغايرهما.

إزاحة وإنارة

قد تحصّل أنّ الروايات صريحة كما هي الأكثر، أو ظاهرة غاية الظهور في حدوث الإرادة، وجملة منها صحيحة الإسناد، فلا يعتريها شكّ وارتياب، غير أنّ جماعةً من الباحثين كالمحقّق الداماد على ما في الأسفار، والمحدّث المجلسي في البحار ومرآة العقول، وصاحب الأسفار في شرحه على الكافي، والفيض الكاشاني في الوافي، والفيّاض اللاهيجي في الشوارق وگوهر مراد، والشيخ المحقّق محمد حسين في نهاية الدراية وتحفة الحكيم، وغيرهم في غيرها أغمضوا أعينهم عن صراحة هذه الروايات، فوجّهوها بتوجيهات باردة، وحملوها على محامل بعيدة فاسدة، بل بعضها مخالف لصراحة بعض الروايات المذكورة.

وإنّي لا أرى فائدةً في إيرادها وإبطاله، فالمنصف إذا راجعها ولاحظها بالقياس إلى الروايات يجدها موهومةً موهونة، والعجب أنّ الأئمة عليهم‌السلام بيّنوا صفات الذات وعينيتها معها، ولكن لمّا وصل بيانهم إلى الإرادة لم يبيّنوها؛ لعدم استعداد الأذهان كما يقول بعض هؤلاء، أو أنّهم عليهم‌السلام بيّنوا الإرادة الفعلية، وأهملوا ذكر الإرادة الذاتية، مع أنّه لا أثر إلاّ في أوهام هذا القوم. وإن تعجب فعجب من المجلسي قدّس سره، فإنّه مع جموده الجميل على ظواهر الروايات، كيف ترك

____________________

(1) البحار 5 / 122.

(2) الدين والإسلام 1 / 188.

٢٠٩

النصوص، وأصرّ على تأويلها والعصمة لأهلها؟!

تتمة

ثمّ إنّك - بعد ما دريت معنى الإرادة تقدر على تطبيق جملة كثيرة من الآيات الكتابية عليه (1).

نعم ربّما يعسر تفسير بعض الآيات المشتملة على هذه المادة - الإرادة والمشيئة - بهذا المعنى كقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ) (2) ، وقوله: ( وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) (3) ، وقوله: ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) (4) وغيرها، فإنّ تنزيلها على الإحداث، والإيجاد، والفيض، وإعمال القدرة، وإنفاذ القوّة، إلى غير ذلك من الألفاظ المترادفة بعيد جداً، فلك أن تحملها على القصد للمشاكلة لإرادتنا، كما في قوله تعالى ( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) فنسب الإرادة إلى الجدار مع أنّه لا قصد له أصلاً، وإن أبيتَ عن ذلك فلابدّ لك أن تحملها على المعنى الثاني للإرادة، فإنّ لها معنيين كما يأتي إن شاء الله، فكن على بصيرة من أمرك.

____________________

(1) الآيات المتضمّنة للفظة الإرادة والمشيئة تزيد على المِئة والستّين، على ما استخرجناها من القرآن الحكيم.

(2) المائدة 5 / 1.

(3) البقرة 2 / 253.

(4) هود 11 / 107.

٢١٠

الفريدة الثانية

في أسباب فعله تعالى

المسألة الأُولى: في اللوح

المسألة الثانية: في فَرق المشيئة والإرادة

المسألة الثالثة: في الكراهة والاختيار

المسألة الرابعة: في الإرادة التكوينية والتشريعية

المسألة الخامسة: في القدر

المسألة السادسة: في القضاء

خاتمة: في آراء الناس في القضاء والقدر

٢١١

الفريدة الثانية

في أسباب فعله تعالى

علمه تعالى بالمصلحة في وجود شيء مرجّح لإيجاده بالاختيار كما عرفت، فليس لفعله تصوّر وتصديق، وشوق وقصد، ولا غيرها، سوى علمه المخصوص، وأنت إذا أخذت الفَطانة بيدك تعلم أنّ اعتبار المصلحة المذكورة؛ لأجل الحذر عن اللغوية والعبثية فقط، وإلاّ فهو فاعل مختار يمكنه فعل ما يشاء.

هذا بالنظر إلى القضاء العقلي، وأمّا بالنسبة إلى البيان الشرعي فلفعله تعالى أسباب وهي: المشيئة، والإرادة، والقدر، والقضاء، كما تدلّ رواية علي بن إبراهيم الهاشمي (1) قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول: (لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى. قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل، قلت: ما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه. قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له).

في الرواية سقط يظهر من رواية يونس - غير المعتبر - عن يونس عن الرضا عليه‌السلام ... (ولكن لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى، أتدري ما المشيّة يا يونس؟ قلت: لا. قال: هو الذِكر الأَوّل، وتدري ما الإرادة؟ قلت: لا. قال: العزيمة على ما شاء، وتدري ما التقدير؟ قلت، لا، قال: هو وضع الحدود من الآجال، والأرزاق، والبقاء، والفناء، وتدري ما القضاء؟ قلت: لا. قال: هو إقامة العين ولا يكون إلاّ ما شاء الله في الذكر الأَوّل) (2) .

وحسنة يونس (3) حيث قال يونس: لا يكون إلاّ بما شاء الله وأراد وقدّر وقضى، فقال الرضا: (لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى).

ورواية حمزة بن حمران (4) ففيها قوله: وإنّهم لا يصنعون شيئاً من ذلك، إلاّ بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره. فقال الصادق عليه‌السلام : (هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي). ورواه الصدوق

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 150.

(2) البحار 5 / 117.

(3) الكافي 1 / 158.

(4) بحار الأنوار 5 / 162.

٢١٢

بسند آخر عنه عن الصادق عليه‌السلام (1) ، والبرقي في محاسنه بسند ثالث عنه مضمراً لكنّ فيه (2) : (ولا يكون إلاّ ما شاء الله وقضى وقدّر وأراد فقال... إلخ).

ورواية معلّى بن محمد قال (3) : سئل العالم: كيف علم الله؟ قال: (علم وشاء وأراد وقدّر وقضى وأمضى، فأمضى ما قضى، وقضى ما قدّر، وقدّر ما أراد، فبعلمه كانت المشيئة، وبمشيئته كانت الإرادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الإمضاء، والعلم متقدّم على المشيئة، والمشيئة ثانية والإرادة ثالثة: والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء... فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيئة في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها، والقضاء بالإمضاء هو المبرم... فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيئة عرف (من التعريف) صفاتها، وحدودها، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها، وبالتقدير قدّر أقواتها (عن التوحيد أوقاتها) وعرف أَوّلها وآخرها... إلخ).

ورواية هشام بن سالم المروية عن المحاسن (4) قال: قال أبو عبد الله عليه‌السلام : (إنّ الله إذا أراد شيئاً قدّره، فإذا قدّره قضاه، فإذا قضاه أمضاه).

ورواية ابن إسحاق المتقدّمة قال: قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام ليونس مولى علي بن يقطين: يا يونس: (لا تتكلّم بالقدر، قال: إنّي لا أتكلّم بالقدر ولكن أقول: لا يكون إلاّ ما أراد الله وشاء وقضى وقدّر. فقال: ليس هكذا أقول ولكن أقول: لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى، ثمّ قال: أتدري ما المشيئة؟ فقال: لا، فقال: همّه بالشيء، أو تدري ما أراد؟ قال: لا. قال: إتمامه على المشيئة، فقال: أَوَ تدري ما قدّر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء، ثمّ قال: إنّ الله إذا شاء شيئاً أراده، وإذا أراده قدّره، وإذا قدّره قضاه، وإذا قضاه أمضاه... إلخ) (5) .

ورواية حريز وابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال: (لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء، إلاّ بهذه الخصال السبع: بمشيئة، وإرادة، وقدر، وقضاء، وإذن، وكتاب، وأجل، فمَن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة فقد كفر) (6) .

ورواية زكريا بن عمران عن موسى بن عفر عليه‌السلام قال: (لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلاّ بسبع: بقضاء، وقدر، وإرادة، ومشيئة، وكتاب، وأجل، وإذن، فمَن زعم غير هذا فقد

____________________

(1) بحار الأنوار 5 / 36.                               (2) بحار الأنوار 5 / 41.

(3) أُصول الكافي 1 / 148.                           (4) البحار 5 / 121.

(5) البحار 5 / 122.                                  (6) أُصول الكافي 1 / 149.

٢١٣

كذب على الله، أو ردّ على الله عزّ وجلّ) (1) .

تعقيب وتحصيل

قد تحصّل من هذه الروايات وغيرها المستفيضة (2) ، أنّ أسباب فعله تعالى هي المشيئة، والإرادة، والقدر، والقضاء، بالترتيب المذكور، من تقدّم المشيئة على الإرادة، المتقدّمة على القدر، السابق على قضائه، على عكس ما اشتهر بين الناس من تقدّم القضاء على القدر، وهذا الترتيب مستفاد من صراحة بعض الروايات، وظهور بعضها الآخر، وأمّا ما في بعضها من خلافه، فهو محمول على مجرّد بيان الأُمور المذكورة، وعدم النظارة إلى حيثية الترتيب كما لا يخفى، ومِثله ما في بعض أدعية شهر رمضان من قولهم عليهم‌السلام : تقضي وتقدّر.

وأمّا الإذن والأجل والكتاب المزبورة في الروايتين الأخيرتين، فيمكن أن يُحمل الأَوّل منها - وهو الإذن - على قدرته أو علمه أو إمضائه، فعلى الأَوّلين يرجع إلى ذاته، وعلى الثالث فهو فعله أي إرادته بالمعنى المتقدّم.

وأمّا الأجل فهو داخل في القدر وتخصيصه بالذكر لعلّه للاهتمام، وأمّا الكتاب فلعلّ المراد به كتابة الأشياء في اللوح المحفوظ، كما نطق به القرآن قبل السُنة على ما يأتي إن شاء الله، فلا شيء سبب لفعله تعالى وراء هذه الأُمور الأربعة.

ثمّ إنّه لا شك - حسب دلالة هذه الروايات - أنّ المشيئة والإرادة اللتينِ هم من أسباب فعله تعالى، غير الإرادة المتقدمة في الفريدة الأُولى، التي هي نفس إيجاده وإحداثه، فإنّها بعد القضاء، والتي وقعت في سلسلة أسباب الفعل تتقدّم على الإمضاء، الذي هو إيجاده بمراتب كما عرفت.

وهذا فليكن مفروغاً عنه مقطوعاً به، بلحاظ هذه الروايات، ومن هنا ينقدح أنّ لإرادته تعالى معنيين: أحدهما الإيجاد، والثاني ما ستعرفه هنا.

إذا تقرّر ذلك فنقول: الظاهر أنّ المشيئة بمعنى ذكر أصل إيجاد الشيء في علمه تعالى فقط، أو في اللوح المحفوظ أيضاً، كما هو الأظهر المدلول عليه بقوله عليه السلام: (الذكر الأَوّل)، والإرادة هو تثبيته وتقريره وتتميمه في علمه أو في اللوح أيضاً، فنسبة الإرادة إلى المشيئة في اللوح نسبة المؤكّد - بالكسر - إلى المؤكّد بالفتح، وإن شئت فقل: إنّ المشيئة تشبه التصوّر في حقّنا، والإرادة الشوق فينا من وجه، وإن كان التشبيه غير كامل.

وأمّا القدر فهو بمعناه اللغوي، وهذا بمنزلة التصديق بالنفع فينا، وعليه فسببيته لأفعاله

____________________

(1) المصدر نفسه.

(2) أسانيد أكثرها ضعيفة، وبحث المتن مبنيّ على فرض الاطمينان بصدور بعضها، كما هو غير بعيد.

٢١٤

تعالى عقلية لا تعبّدية محضة؛ إذ الفاعل المختار ما لم يتصوّر الشيء بحدوده لا يطلبه؛ لعدم ترتّب غرضه عليه بعد، كما لا يخفى.

وأمّا ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) ، من تفسير القضاء والقدر بالأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه والخذلان لمَن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وأنّ كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره بأعمالنا... إلخ، فهو لا ينافي ما ذكرنا؛ لأنّ مصداق القدر في الأفعال الاختيارية للمكلّفين من وجهتها التشريعية ليس إلاّ ذلك، فكأنّ الإمام عليه‌السلام لم يكن في مقام بيان تقدير الأفعال بما هي تكوينية، بل بما هي متعلّقة للتكليف، كما يظهر من ملاحظة صدر الرواية، ولا شك أنّ جميع ما ذكره عليه‌السلام قدر وقضاء.

وبالجملة، حمل الأمر والنهي وغيرهما - في هذه الرواية - على القضاء، ليس من الحمل الذاتي والحصر المفهومي، بل من الحمل الشائع الصناعي.

وأمّا القضاء فهو الحكم البتّي المستتبع للإمضاء غالباً، فهو بمنزلة القصد فينا، وإنّما قلنا غالباً؛ للجمع بين هذه الروايات ونحوها، وبين ما دلّ على أنّ الدعاء - وكذا غيره - يردّ القضاء.

والخلاصة: أنّه يُكتب في اللوح المحفوظ أَوّلاً أنّ الشيء الفلاني يوجد، ثمّ يكتب توكيده وإتمامه، فكأنّ الأَوّل مقتضٍ لوجود الشيء والثاني شرطه، ثمّ يُكتب حدوده من خواصه وأَوّله وآخره وغيرها من تشخّصاته، ثمّ يُكتب الحكم البتّي على إيجاده، فالأَوّل هو المشيئة، والثاني هو الإرادة، والثالث هو القدر، والرابع هو القضاء، والخامس أعني - الإيجاد والإمضاء - هو الإرادة المبحوث عنها في الفريدة الأُولى.

قال الأديب الطريحي في مجمع البحرين في كلمة المشيئة: قال بعض أفاضل العلماء: المشيئة والإرادة والقدر والقضاء كلّها بمعنى النقش في اللوح المحفوظ، وهي من صفات الفعل لا الذات... إلخ.

وسيأتي مزيد تصحيحه أيضاً، ثمّ إنّ إتقان هذه الفريدة وإيضاحها، موقوف على البحث عن مسائل مهمّة أخرى لا يمكن إهمالها، فنقول وبالله الاعتصام:

المسألة الأُولى: في اللوح

المستفاد من الكتاب والسُنة أنّ لله - في عالم الكون - كتاباً ذكر فيه جميع الأشياء بتفاصيلها، وقد اشتهر اسمه - على حدّ تفسير القرآن المجيد - باللوح المحفوظ، وإليك نبذة من

____________________

(1) بحار الأنوار 5 / 96، 126.

٢١٥

الآيات الكريمة في هذا الشأن:

1 - ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً ) (1) .

2 - ( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (2).

3 - ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ ) (3).

4 - ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (4).

5 - ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (5).

6 - ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) (6).

والآيات في ذلك كثيرة جداً، وتصوّر هذا الكتاب في عصر الكمبيوتر أصبح سهلاً.

فثبت أنّ هذا اللوح قد ذُكر فيه جميع الأشياء؛ لمصالح هو سبحانه أعلم بها منّا.

والروايات الواردة حول الموضوع من طريقنا وطريق العامّة أيضاً كثيرة، ربّما يبلغ عددها العشرين، كما نقلها العلاّمة المجلسي قدّس سره، في كتاب السماء والعالم من بحار الأنوار، وإليك بعضها وهو ما رواه علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال: (أوّل ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة)، وفي صحيح البخاري قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كلّ شيء).

تتمّة

قال المجلسي قدّس سره: ثمّ اعلم أنّ الآيات والأخبار تدلّ، على أنّ الله خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات، أحدهما: اللوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلاً، وهو مطابق لعلمه تعالى.

والآخر: لوح المحو والإثبات، فيُثبت فيه شيئاً ثمّ يمحوه لحِكم كثيرة... إلخ (7) .

____________________

(1) النبأ 78 / 29.

(2) النمل 27 / 75.

(3) الحج 22 / 70.

(4) سبأ 34 / 3.

(5) هود 11 / 6.

(6) البروج 85 / 21، 22.

(7) البحار 2 / 136، كتاب بدء الخلق، في آخر رواية حصين بن عمران.

٢١٦

أقول: قوله تعالى: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1) يدلّ على اللوحين المذكورين، فإنّ اللوح المحفوظ قد كتب فيه كلّ شيء، فلا يغيب عنه ذكر شيء كما مرّ، فهذا المحو والإثبات لابدّ أن يكونا في لوح آخر، ففي صحيحة حفص ابن البختري، وهشام بن سالم، وغيرهما، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في هذه الآية ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) قال: فقال: (وهل يُمحي إلاّ ما كان ثابتاً، وهل يُثبت إلاّ ما لم يكن؟) (2) ، فهذه الصحيحة دالة على تغاير اللوحين، فإنّ المحو بعد الإثبات، والإثبات بعد المحو، لا يكونان في اللوح المحفوظ؛ لِما عرفت من ضبط كلّ شيء فيه بوجهه الكامل من الأَوّل، فلا موضوع للتغيّر والتبدّل، فتحصّل أنّ الإثبات والمحو في لوح، وأُمّ الكتاب لوح آخر، وهو اللوح المحفوظ، ومثل هذه الصحيحة رواية الأرمني عن العسكري عليه‌السلام (3) ، ومرسلة العيّاشي عن جميل عن الصادق عليه‌السلام (4) .

وممّا يدل على وجود اللوحين مرسلة عمّار بن موسى، كما رواه العياشي عن الصادق عليه‌السلام ، سئل عن قول الله: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ... إلخ ) قال: (إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء وثبت، فمن ذلك الذي يرد الدعاءُ القضاءَ، وذلك الدعاء مكتوب عليه: الذي يرد به القضاء، حتى إذا صار إلى أُمّ الكتاب لم يغنِ الدعاء فيه شيئاً) (5) ، فهذا ما أحرزنا دلالته على وجود اللوحين، فما ذكره المجلسي قدّس سره من دلالة الآيات والأخبار عليه: منظور فيه، فإنّا لم نجد من الكتاب والسُنة غير ما ذكرنا.

تنبيه

اللوح عن الفلاسفة، هو العقل المفارق كما تقدّم في كلام المحقّق الطوسي قدّس سره، وعرّفه في الأسفار وغيره بالنفس الكلية الفَلكية، قال بعض أفاضلهم (6) : إن كنّا بحثنا عن اللوح من جهة العقل، فالبرهان يثبت في الوجود أمراً نسبته إلى الحوادث الكونية نسبة الكتاب إلى ما فيه من المكتوب، ومن البديهي أنّ لوحاً جسمانياً لا يسع كتابة ما يستقبل نفسه وأجزائه، من الحالات والقصص، في أزمنة غير متناهية، وإن كبر ما كبر، فضلاً عن شرح حال كلّ شيء في الأبد الغير المتناهي، وإن كنّا بحثنا من جهة النقل، فالأخبار نفسها تؤوّل اللوح والقلم إلى مَلَكين من

____________________

(1) الرعد 13 / 39.

(2) أُصول الكافي 1 / 146.

(3) البحار 4 / 115.

(4) المصدر نفسه / 118.

(5) البحار 4 / 121.

(6) البحار 4 / 131.

٢١٧

ملائكة الله.. إلخ.

وقال الصدوق في اعتقاداته: اعتقادانا في اللوح والقلم أنّهما مَلَكان انتهى.

ويظهر من المجلسي في السماء والعالم من كتاب بحاره الميل إليه وقال: إذ يمكن كونهما مَلَكين، ومع ذلك يكون أحدهما آلة النقش والآخر منقوشاً فيه.

أقول: ومستندهما في ذلك روايتان (1) : الأُولى ما عن سفيان الثوري عن الصادق عليه‌السلام قال فيه: (فنون مَلَك، يؤدّي إلى القلم، وهو مَلَك، والقلم يؤدّي إلى اللوح، وهو مَلَك... إلخ).

الثانية: رواية إبراهيم الكرخي قال: سألت جعفر بن محمد عليهما‌السلام عن اللوح والقلم فقال: (هما مَلَكان) (2) .

أقول: ولكنّهما ضعيفان من حيث السند فلا اعتداد بهما، ولعلّه لأجل هذا قال شيخنا المفيد (3) : وأمّا مَن ذهب إلى أنّ اللوح والقلم مَلَكان فقد أبعد بذلك، ونأى به عن الحقّ؛ إذ الملائكة عليهم‌السلام لا تسمّى ألواحاً ولا أقلاماً، ولا يُعرف في اللغة اسم مَلَك ولا بشر لوح ولا قلم. انتهى.

أقول: والإنصاف أنّ حقيقة اللوح والقلم غير ثابتة شرعاً، فلا ينبغي البناء على طرف دون طرف، وإنّما الثابت شرعاً أصل وجودهما، فإنّ الخبرين المتقدّمين مع ضعف سنديهما لا يخلوان عن المعارض أيضاً، فلاحظ تفسير البرهان فالصحيح التوقف.

قال بعض العامّة (4) : اللوح المحفوظ عند جمهور أهل الشرع جسم فوق السماء السابعة، كُتب فيه ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، كما يُكتب في الألواح المعهودة، وليس هذا بمستحيل؛ لأنّ الكائنات عندنا متناهية، فلا يلزم عدم تناهي اللوح المذكور في المقدار، وأمّا عند الفلاسفة فهو النفس الكلّي للفَلَك الأعظم، يرتسم فيه الكائنات ارتسام المعلوم في العالِم. انتهى.

أقول: ما نسبه إلى الجمهور فتوىً لابدّ له من الدليل، وأمّا ما ذكره من نفي الاستحالة، فهو مزيّف بأنّ الكائنات متناهية عندنا من طرف أَوّل، وأمّا من طرف آخر، فهي غير متناهية بالضرورة الإسلامية القائمة على خلو المكلّفين في الجنة والنار.

نعم ما ذكره الحكماء أيضاً دعوى بلا دليل، ولا سيما بعد ظهور بطلان الأفلاك الموهومة

____________________

(1) البحار 14 / 76.

(2) البحار 14 / 76.

(3) شرح عقائد الصدوق / 29.

(4) شرح المواقف 3 / 77، الحاشية.

٢١٨

المذكورة في هذا الأعصار.

فإذا علمت اللوح وما فيه فقد هان عليك تصديق ما ذكرنا، من أنّ الأسباب الأربعة المذكورة، إنّما هي بكتابتها في اللوح دون مجرّد تقرّرها في العلم القديم، كما يشهد له عدّ العلم في قِبال الأُمور المذكورة في رواية المعلّى، وهذا هو مختار العلاّمة الحلي قدّس سره في شرح التجريد.

وبالجملة، هذا وإن لم يكن بجزمي من ملاحظة الروايات المتقدّمة بنفسها غير رواية المعلّى، إلاّ أنّه ممّا يقتضيه الاعتبار العقلي الناشئ من تلك الروايات وغيرها، ويمكن أن يستشهد له بصحيحة عبد الله بن سنان (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال: سمعته يقول: (إنّ القضاء والقدر خَلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء)؛ إذ لا معنى لكونهما مخلوقين إلاّ كونهما مكتوبين؛ إذ تقرّر حدود الأشياء في العلم والحكم عليها لا يسمّى مخلوقاً، فهذه الرواية كقوله تعالى: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (2).

وأمّا ما احتمله المجلسي رحمه‌الله من ضمّ حرف الخاء - أي صفتان من صفات الله - فهو مرجوح، لقوله عليه‌السلام : (والله يزيد في الخلق ما يشاء) فإنّه بمنزلة كبرى منطبقة على قوله (خَلقان)، ومن الظاهر أنّ صفاته غير مخلوقة، ولا قابلة للزيادة والنقصان.

ثمّ إنّ المجلسي قد نقل هذه الرواية عن التوحيد عن عبد الله بن سلمان، لا ابن سنان كما في النسخة الموجودة عندي من التوحيد، ورواه أيضاً عن تفسير القمي عن حمران عن الصادق عليه‌السلام ، وعن البصائر عن جميل عنه عليه‌السلام فلاحظ (3) فتدبّر والله العالم.

المسألة الثانية: في فرق المشيئة والإرادة

وفيها أقوال:

1 - إنّه لابدّ من تحقّق معنى في نفس الفاعل المختار منّا بعد العلم وقبل الفعل، وهذا المعنى من حيث ارتباطه بالفاعل يسمى مشيئة، ومن حيث ارتباطه بالفعل يسمّى إرادة، ذكره بعض سادة العصر (4) .

2 - الفرق بين المشيئة والإرادة بالكلية والجزئية والتقدّم والمقارنة، وكذا الفرق بين القضاء والقدر على المشهور، وأمّا في الأخبار فالقضاء بمعنى الحكم والإيجاب، فيُأخّر عن القدر.

____________________

(1) توحيد الصدوق، الباب 59.

(2) الرعد 13 / 39.

(3) البحار 5 / 120 و 112.

(4) أُصول الكافي 1 / 150، الحاشية.

٢١٩

ذكره المحدّث الفيض (1) والمحقّق صاحب الفصول في مبحث نفي الجبر والتفويض من كتابه.

3 - المشيئة قصد الفعل أو تركه على نحو كان نسبتها متساويةً، والإرادة تعلّقه بالفعل أو الترك بخصوصه، قال به بعضهم (2) وذكر أنّ هذا الفرق مأخوذ ممّا روي عن الرضا عليه‌السلام .

4 - ما قيل (3) من أنّه لا فرق بينهما إلاّ عند الكرامية، حيث جعلوا المشيئة صفة واحدة أزلية يتناول ما شاء الله بها من إحداث محدَث، والإرادة حادثة محدَثة متعدّدة تعدّد المرادات.

5 - لا فرق بينهما في العبد، وأمّا في حق القديم فالمشيئة بمعنى التقدير، نُقل عن جماعة من القدماء.

أقول: للإرادة والمشيئة - كما عرفت منا - معنيان: الإيجاد والإحداث والنقش في اللوح، وإن كان نفس هذا النقش أيضاً إحداثاً لكنّه ليس إحداثاً لوجود الشيء خارجاً.

أمّا المعنى الأَوّل، فالظاهر المطابق لمدلول الروايات الأُولى اتحادهما فيه، فهما مترادفان، ويدلّ عليه الاستعمالات القرآنية أيضاً، ويشهد له ما عن الرضا عليه‌السلام ، واعلم أنّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة كما مرّ.

وأمّا المعنى الثاني، فالروايات الثانية ناصّة على اختلافهما فيه كما عرفت، وذكرنا أنّ نسبة الإرادة إلى المشيئة نسبة المؤكِّد إلى المؤكَّد بالفتح، ونسبة الشرط إلى المقتضي.

وبالجملة، المشيئة ذكر وجود الشيء في اللوح، والإرادة ذكر تأكيده والعزيمة عليه، فالأقوال الخمسة كلها لا ترجع إلى أساس صحيح.

فإنّ الأَوّل إن تمّ لتمّ في حقنا دون الباري.

والثاني ضعيف جداً؛ إذ المشيئة والإرادة كلتاهما متساويتان، من حيث الجزئية والكلية والتقدّم على الفعل كما عرفت. والظاهر أنّ هذين العَلَمينِ لم يلتفتا إلى تعدّد معنى الإرادة، فحسبا أنّها بمعنى الإيجاد مطلقاً، وهذا الاستظهار من عبارة الفصول أقوى.

وأمّا الثالث، فهو شيء عجيب فإنّه أطلق المشيئة على التردّد ولا شك في بطلانه، وأعجب إسناد قوله إلى الرواية، فإنّك قد لاحظت الروايات على ما مرّ، ولا يوجد فيها إشعار به.

وأمّا الرابع؛ فلِما دلّلنا على بطلان قِدم المشيئة، مع أنّ الفرق المذكور دعوى بلا شاهد، ومثله القول الخامس، فلا تُطلب الحقيقة إلاّ من أهلها.

____________________

(1) الوافي 1 / 114.

(2) شمع اليقين / 16.

(3) كما نقله في الشوارق 2 / 259.

٢٢٠