صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 114361
تحميل: 4710

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114361 / تحميل: 4710
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العسكري: (الرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته، وبعباده الكافرين في الرِفق في دعائهم إلى موافقته)، فينافي ما تقدّم.

ويمكن أن يقال: إنّ شمول الرحمة الرحيمية للكافرين، إنّما هي من جهة دعوتهم إلى الإيمان والدين، فلا ترتبط بأُمور دنياهم، فلا منافاة بينهما.

فإذا ثبت ذلك فقد بانَ لك ضعف الفرقين المتقدّمينِ، نعم هذا الفرق يلائم القول الثاني، فإنّ الرحمة الرحمانية حيث لا تلازم الذات فهي منحصرة في الدنيا، والرحيمية حيث لا تنفكّ عنها فهي عامة في الدارين، ولكن سيدنا الأُستاذ - دامت أيام إفاداته - لم يرتضِ هذا الفرق وقال: لا مناصَ من تأويل هذه الروايات أو طرحها؛ لمخالفتها الكتاب العزيز، فإنّه قد استُعمل فيه لفظ الرحيم من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة كقوله تعالى:

1 - ( فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1) .

2 - ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (2) .

3 - ( إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (3) .

4 - ( رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) (4) .

5 - ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ) (5) .

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وفي بعض الأدعية والروايات: رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.

نقد كلام سيدنا الأُستاذ الخوئي

ثمّ قال - دام ظله الوارف -: ويمكن أن يوجّه هذا الاختصاص، بأنّ الرحمة الإلهية إذا لم تنتهِ إلى الرحمة في الآخرة فكأنّها لم تكن رحمةً، وما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب والخسران، فإنّ الرحمة الزائلة تندكّ أمام العذاب الدائم لا محالة، وبلحاظ ذلك صحّ أن يقال: الرحمة مختصّة بالمؤمنين أو بالآخرة، انتهى كلامه الشريف.

أقول: ومن الواضح أنّ الله لا يغفر للمشركين والكافرين، ففي كل آية ذُكرت صفة الغفور

____________________

(1) إبراهيم 14 / 36.

(2) الحجر 15 / 49.

(3) الحج 12 / 65.

(4) الإسراء 17 / 66.

(5) الأحزاب 32 / 24.

٢٦١

قبل صفة الرحيم، كانت صفة الرحيم مختصّة بالمؤمنين بشهادة السياق، وإن لم تكن تلك الروايات ثابتةً، ومنه ظهر عدم متانة الاستدلال بالآية الأُولى والثانية والثالثة التي هي العمدة.

أو نقول كما قال الصادق عليه‌السلام كما في تفسير الصافي في ذيل الآية الأُولى: (تقدر أن تغفر له وترحمه)، ولا شك أنّ الله قادر على أن يرحم الكفّار بالرحمة الرحيمية.

ثمّ إنّ شمول الرحمة الرحيمية لغير المؤمنين في هذه الآيات وغيرها، إنّما هو بالإطلاق أو بالعموم؛ إذ لم أجد آيةً دلّت على أنّ الله رحيم بالكافرين، ولا شك أنّ هذه الروايات صالحة للتقييد والتخصيص، كما هي من الضروريات الفقهية والمسلّمات الأُصولية في هذه الأعصار.

وأمّا ما أفاده من التوجيه، فهو إنّما يتمّ إذا كانت الرحمة بإطلاقها منفيّة عن الكافرين وثابتة للمؤمنين، والحال أنّه ليس كذلك بل المنفي هو الحصّة الخاصّة منها، فيلزم أن تكون الرحمة الرحمانية غير مندكّة أمام العذاب الدائم، وهو كما ترى فافهم.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الرحمة من صفات أفعاله تعالى، فإنّه بمعنى الفضل والجود والكرم ونحوها، فما في مشتقات كفاية الأُصول للمحقّق الهروي، وأنوار التوحيد لسبط النراقي - رحمهما الله - من عدّها من الصفات الذاتية، ممّا لا وجه له أبداً، كما أنّ ما يظهر من المحقّق الطوسي في تجريده، من أنّ وجوب الوجود يدلّ على ثبوت جوده أيضاً غير تام؛ بناءً على ما هو المختار عنده وعندنا من اختيار الواجب، فيمكن أن يكون الواجب غير رحيم وجواد.

نعم الذي يتخيّل ضرورة صدور فعله عنه له أن يدّعي ذلك كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ الرحمة والجود لا تنافي تعلّل أفعاله بالأغراض العائدة إلى غيره، بل تؤكّده خلافاً للفلاسفة، وسيأتي بحثه إن شاء الله الرحمن.

ثمّ إنّ الظاهر من العلاّمة الحلي (1) والقوشجي (2) في شرحهما على التجريد، إرجاع الرحمة والكرم والرضاء إلى الإرادة وهو غير صحيح، فإنّ الرحمة غير الإرادة قال الله تعالى: ( يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) . فتأمّل رحمنا الله وإيّاكم فإنّه رحمان رحيم.

____________________

(1) شرح التجريد للعلاّمة الحليّ / 185.

(2) شرح التجريد للقوشجي / 372.

٢٦٢

الفريدة السابعة

في أنّه جبّار وقهّار

٢٦٣

الفريدة السابعة

في أنّه جبّار وقهّار

فهو يجبر الخلق على الأُمور التي ليس لهم فيها اختيار، أو يجبر حالهم ويصلحها.

وأمّا القهر فهو إمّا بمعنى القدرة أو بمعنى الغلبة، قال أمين الإسلام الطبرسي (1) : والجبّار في صفة الله صفة تعظيم؛ لأنّه يفيد الاقتدار، وهو سبحانه لم يزل جبّاراً، بمعنى أنّ ذاته تدعو العوارف بها إلى تعظيمها، والفرق بين الجبّار والقهّار أنّ القهّار هو الغالب لمَن ناواه، أو كان في حكم المناوي بمعصيته إيّاه، ولا يوصف سبحانه فيما لم يزل بأنّه قهّار، والجبّار في صفة المخلوقين صفة ذمّ؛ لأنّه يتعظّم بما ليس له، فإنّ العظمة لله سبحانه، انتهى.

قال العلاّمة في شرح التجريد: فهو يجبر لِما بالقوة بالفعل والتكميل، كالمادة بالصور، وفسّر القهّار بمعنى أنّه يقهر العدم بالوجل والتأثير.

أقول: والمتحصّل أنّ الجبّار إن أُخذ من الجبران أو الغلبة، فهو من صفاته الفعلية، وإن أُخذ من العظمة ونحوها، كما في كلام الأمين الطبرسي، وشيخنا الأجلّ الصدوق، وغيرهما، فهو من الصفات الذاتية، وأمّا القهر فهو بمعناه الأَوّل من الثانية وبمعناه الثاني من الأُولى.

____________________

(1) مجمع البيان 1 / 299.

٢٦٤

الفريدة الثامنة

في رضائه وسخطه

٢٦٥

الفريدة الثامنة

في رضائه وسخطه

قد ثبت بالقرآن والسُنة اتّصافه بالرضاء والغضب والسخط، ولا شك أنّ هذه من الصفات النفسانية الممتنعة على الواجب المجرّد عن الجسم ولواحقه، وأمّا إرجاع الرضاء إلى الإرادة - ولا سيما إذا كانت من الصفات الذاتية - فهو فاسد جداً كما مرّ، والاستعمالات القرآنية لا تناسبه، وفي بعض الروايات: (شاءَ وأراد ولم يرضَ) إلاّ أن يراد به في الرواية الرضا التشريعي.

والحاصل: أنّ المستفاد من الظواهر الشرعية، كون هذه الصفات من الصفات الفعلية، وحينئذٍ لابدّ من العمل بالقاعدة الناطقة بـ (خُذ الغايات واترك المبادئ) فيحتمل أنّ رضاه ثوابه، وغضبه وسخطه، عقابه، كما تدلّ عليه الأخبار أيضاً. ويمكن استعمالها بمعنى إرادة الثواب والعقاب، بمعنى كتابتهما في اللوح أو في صحيفة أعماله، وهذا المعنى محتمل قوياً في جملة من موارد استعمالاته في الشريعة المقدّسة.

ثمّ إنّ الروايات الواردة في الباب ست (1) ، نذكر إحداها وهي ما رواه ثقة الإسلام الكليني (2) ، بإسناده عن هشام بن الحكم، في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ، فكان من سؤاله أن قال له فله رضاء وسخط؟ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : (نعم، ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، وذلك أنّ الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال؛ لأنّ المخلوق أجوف معتمل مركّب، للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه؛ لأنّه واحد، واحدي الذات، واحدي المعنى، فرضاه ثوابه وسخطه عقابه، من غير شيء يتداخله فيهيّجه وينقله من حال إلى حال؛ لأنّ ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين)، رضي الله عنّا وعنكم.

____________________

(1) لاحظ أُصول الكافي، البحار 4 / 66.

(2) أُصول الكافي 1 / 110.

٢٦٦

الفريدة التاسعة

في جملة من صفاته الفعلية الأُخر

٢٦٧

الفريدة التاسعة

في جملة من صفاته الفعلية الأُخر

فمنها: أنّه قيّوم. قال الصدوق (1) : القويم والقيام... من قمت بالشيء إذا وليته بنفسك، وتولّيت حفظه وإصلاحه. انتهى.

وعليه فهو من الصفات الفعلية. وقال العلاّمة في شرح التجريد: إنّه قائم بذاته مقيم لغيره، وعليه فهو من الصفات الذاتية باعتبار جزئه الأَوّل.

ومنها: أنّه واسع. قال الأمين الطبرسي (2): والواسع في صفات القديم اختُلف في معناه، وقيل: إنّه واسع العطاء أي المكرمة، وقيل: هو واسع الرحمة، ويؤيّده قوله تعالى: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) ، وقيل: إنّه واسع المقدور. انتهى.

وقيل: الواسع المحيط بكل شيء علماً، وقيل غير ذلك، فعلى بعض الوجوه صفة ذاتية، وعلى بضعها الآخر فعلية، والأمر سهل.

ومنها: أنّه نور. كما قال: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (3) ، قيل: النور ظاهر بنفسه مظهر لغير والله كذلك، وقيل: إنّه بمعنى المنور أي موجِد النور، ويؤيّده قوله تعالى: ( مَثَلُ نُورِهِ ) (4) فإنّ الإضافة تدلّ على المغايرة، وفي جملة من الروايات (5) أنّه بمعنى الهادئ، والمناسبة بين النور والهداية غير خافية، فهو من الصفات الفعلية، لكن في صحيح هشام بن سالم ورواية جابر المتقدّمين - في بحث صدقه - أنّه نور لا ظلمة فيه، فهو من الصفات الذاتية، ولعلّه حينئذٍ بمعنى الوجود أو الكمال، فللنور معنيان: الأَوّل الوجود والكمال والعظمة، والثاني الهداية، نوّرنا الله.

ومنها: أنّه وكيل. بمعنى أنّه قائم بأمر مخلوقه كما قال: ( وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) (6) ، وقد نفى

____________________

(1) البحار 4 / 201.

(2) مجمع البيان 1 / 275.

(3) النور 24 / 35.

(4) النور 24 / 35.

(5) البحار 4 / 15.

(6) النساء 4 / 81.

٢٦٨

الوكالة عن نبيّه الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال: ( قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) (1) ، قال الطريحي في مجمع البحرين عند قوله تعالى: ( أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ) (2)، أي معتمداً تكلون إليه أُموركم، وعلى الأَوّل فهي صفة فعلية، وعلى الثاني فهي صفة مدحيّة.

ومنها: أنّه لطيف. وقد ذُكرت له معانٍ ثلاثة: الأَوّل: أنّه ذو برّ وإحسان. والثاني: أنّه لطيف في فعله وتدبيره. الثالث: أنّه الخالق للأشياء اللطيفة. ففي الحديث الإهليلجية المعروف: قلت سمّيناه لطيفاً للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف ممّا خلق من البعوض والذرة وما هو أصغر منها، لا يكاد تدركه الأبصار والعقول؛ لصغر خَلقه من عينه وسمعه وصورته، وأنّه لطيف بخَلق يخلق اللطيف، كما سمّيناه قوياً بخلق القوي.

أقول: ولعلّ هذا منه عليه‌السلام تنبيه على وجود المكروبات والجراثيم المستكشفة في هذه الأعصار، بالآلات المخصوصة المستحدثة المعدومة في زمانه عليه‌السلام ، فهو من معجزاته سلام الله عليه وآله، وعلى آبائه الطاهرين، وأبنائه الطيّبين.

وفي نهاية البحث، إنّه تعالى كلّ يوم في شأن جديد، وإنّه فعّال لِما يشاء.

وإنّه لا حول ولا قوّة إلاّ به، وفي الحديث المعتبر سنداً: (يا مَن يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء أحد غيره)، فله صفات فعليه كثيرة.

____________________

(1) الأنعام 6 / 66.

(2) الإسراء 17 / 2.

٢٦٩

خاتمة في حدوث أفعاله

المقام الأَوّل: في نقل الأقوال

المقام الثاني: فيما استدلّ به لقِدم العالم

أدلّة حدوث العالم

النقل والحدوث

أَوّل ما خلقه الله

فناء العالم

تعدّد العوالم

استدراك

٢٧٠

خاتمة

في حدوث أفعاله

قد مرّ أنّ صفاته إمّا ذاتية وإمّا مدحية وإمّا فعلية، وهي نفس أفعاله تعالى، والمقصود هنا أنّ فعله بتمامه هل هو حادث أم لا؟ بل منه ما هو قديم ومنه ما هو حادث؟ وهذا هو النزاع المعروف بحدوث العالَم وقِدمه.

والمراد بالحدوث هو المسبوقية بالعدم لا بالغير فقط وإن لم يكن مسبوقاً بالعدم، فإنّه ليس من الحدوث في شيء، نعم اصطلح الفلاسفة على ذلك، ولا مشاحّة في الاصطلاح، فالحدوث عندهم مرادف للإمكان الذاتي، والحاصل أنّ مرادنا بالحدوث هو معناه الواقعي، وهو المسبوق بالعدم، والكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأَوّل: في نقل الأقوال

1 - حدوث ما سوى الله وصفاته، فالأشياء صادرة عنه تعالى بعد أن لم تكن أصلاً، هذا هو مذهب المتكلّمين قاطبةً، بل ادّعى غير واحد اتّفاق الملّيين عليه، بل نُسب إلى جمع من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة، وقيل: إنّ القول بقِدم العالَم وأزلية الحركات ظهر بعد أرسطو (1) ، ولكن ستعرف أنّ حدوث العالَم بمعناه الواقعي ممّا لم يلتزم به فِرقة غير الشيعة الإمامية، فيما أعلم.

2 - قِدم السماوات بذواتها وصفاتها إلاّ الحركات والأوضاع، فإنّهما قديمتان بالنوع فقالوا: إنّ الفَلكيات قديمة بموادّها، وصورها الجسمية والنوعية، وبمقاديرها وأشكالها، وغيرهما من الأعراض، وأمّا العنصريات فقديمة بموادّها وبصورها الجسمية بنوعها، وبصورها النوعية بجنسها، وأمّا الصور المشخّصة في هذه الصور الجسمية، والنوعية، والأعراض المختصة، فهي حادثة، حكي عن أرسطو، ومَن وافقه ومنهم الفارابي، وابن سينا وغيرهما.

أقول: ولا شك في أنّهم قائلون بقِدم العقول أيضاً، بل مرّ التزامهم بقِدم الصور المرتسمة في

____________________

(1) البحار 14 / 49.

٢٧١

ذاته تعالى، التي جعلوها مناط علمه بالأشياء، وسمّوها بالعلم التفصيلي.

3 - قِدم العالم ذاتاً وحدوثه صفةً، نسب إلى جماعة، لكن اختلفوا في هذه الذات القديمة فقيل: إنّه ماء، وقيل: إنّه بخار، وقيل غير ذلك.

4 - ما ذهب إليه صاحب الأسفار ومَن تبعه، من قِدم العقول وحدوث الطبائع من جهة الحركة الجوهرية، لكن هذا الحدوث حدوث فردي وليس بنوعي؛ لئلاّ يلزم انقطاع الفيض وإمساك الجود، كما صرّح به نفسه والسبزواري في شرح المنظومة، وعلى هذا القول يتمّ القياس المعروف: إنّ العالم متغيّر، وكل متغيّر حادث، ولا يرد عليه حينئذٍ منع الصغرى في الذوات واختصاصها بالصفات.

5 - ما ذكره السيد الداماد من حدوث العالّم بأجمعه، لكنّه حدوث دهري، وأوضحه السبزواري في شرح منظومته وإليك ملخّصه: إنّ كل موجود فلوجوده وعاء، أو ما يجري مجراه، فوعاء السيّالات كالحركات والمتحرّكات هو الزمان سواء كان بنفسه أو بأطرافه، وما يجري مجرى الوعاء للمفارقات النورية هو الدهر، وهو كنفسها بسيط مجرّد عن الكمية والاتّصال ونحوها، وما يجري مجرى الوعاء للحق وصفاته وأسمائه هو السرمد، فمعنى الحدوث الدهري: أنّ عالَم المُلك (1) مسبوق بالعدم الدهري؛ لأنّه مسبوق بوجود الملكوت الذي وعاؤه الدهر سبقاً دهرياً.

وإن شئت فقل: إنّ وجود عالم المُلك مسبوق بعدمه الواقعي الفَلكي الواقع في عالم الدهر، بمعنى أنّه ليس بموجود بالوجود الدهري، فهو حينئذٍ معدوم بذلك الوجود، بل هو موجود بوجود عالَم المُلك كما قيل، وهكذا حال الدهر بالنسبة إلى السرمد.

والحاصل: أنّ العالم عنده مسبوق الوجود بالعدم الواقعي الدهري، لا الزماني الموهوم كما يقول المتكلّم، ولا العدم المجامع الذي في مرتبة الماهية فقط، كما ينسب إلى بعض الفلاسفة.

6 - ما ذكره السبزواري في شرح المنظومة من الحدوث الأسمى، وهو غير واضح، وشرحه بعض الأفاضل بما يرجع إلى نفي العالَم رأساً.

المقام الثاني: فيما استدلّ به لقِدم العالَم

وهو وجوه لكنّا نذكر أهمّها، وهو أنّه إذا لاحظنا الواجب أَزلاً في طرف وجميع ما عداه - بحيث لا يشذّ عنه شيء - في طرف آخر، فحينئذ إمّا أن يكون الواجب سبحانه علّةً تامة لشيء ما أم لا، وعلى الأَوّل يلزم قِدم ذلك الشيء المعلول؛ ضرورة استحالة تخلّف المعلول عن

____________________

(1) وهو عالَم الناسوت ويقال له: عالم الشهادة أيضاً.

٢٧٢

علّته التامة، وعلى الثاني توقّف وجود الأثر - وهو العالَم - على شيء آخر، فهذا مع كونه خُلفاً يرد عليه أنّ هذا الشيء إن كان قديماً فقد ثبت أيضاً قِدم العالَم، وإن كان حادثاً فلابدّ له من مرجّح حادث، وإلاّ لكان الحادث غير حادث، ثمّ ننقل الكلام إلى ذلك المرجّح الحادث في احتياجه إلى مرجّح آخر حادث، وهكذا إلى غير النهاية، فيلزم قِدم العالَم من وجود حوادث لا أَوّل لها.

وإن شئت فقل: إنّ العالَم بماله من الشروط الحادثة المذكورة بحيث لا يشذّ عنها شيء، إذا لاحظنا الواجب إليه فهو إمّا علة تامة له أم لا، الأَوّل يُثبت المطلوب، والثاني يوجب نفي وجود العالَم أزلاً وأبداً.

أقول: وهذا أقوى دليلهم في هذا المقام، وقد أجاب عنه المتكلّمون بوجوه عديدة، وبجوابات مختلفة، وإليك بيان بعضها:

الجواب الأَوّل: ما هو المشهور بين المتكلّمين (1) ، من أنّ الفلاسفة إنّما يقولون بقِدم العالَم؛ لزعمهم لزوم توسّط أمر ذي جهتي استمرار وتجدّد بين الحادث اليومي والقديم؛ لئلا يلزم التخلّف عن العلة التامّة.

ونحن نقول: إنّه الزمان ولا يلزم القِدم؛ لكونه أمراً اعتبارياً انتزاعياً، وأدلة وجوده مدخولة، ولا نقول بانتزاعه من موجود ممكن حتى يلزم القِدم أيضاً، بل هو منتزع من بقائه تعالى (2) ، فكما أنّهم يصحّحون ربط الحادث بالقديم بالحركة والزمان، كذلك نصحّحه أيضاً بالزمان، وكون الزمان مقدار حركة الفًلك ممنوع، بل نعلم بديهة أنّه إذا لم يتحرّك الفَلك مثلاً، يتوهّم هذا الامتداد المسمّى بالزمان، والقول بأنّه لعلّه من بديهة الوهم لا يصغى إليه.

ثمّ إنّ الزمان وإن كان وهمياً إلاّ أنّه ليس باختراعي، بل هو نفس أمري؛ ومثل هذا الوهمي يصحّ أن يكون منشأ للأمور الموجودة، لا بأن يكون فاعلاً لها بل دخيلاً فيها.

وحاصل هذا الجواب: أنّا نختار أنّه ليس في الأزل مستجمعاً لشرائط التأثير.

قولهم: فلابدّ له من مرجّح حادث.

قلنا: هو تمام قطعة من الزمان يتوقّف عليها وجود العالم، ويرتبط به الحادث بالقديم، على نحو ما التزمه الفلاسفة في الحركة.

____________________

(1) السماء والعالَم / 57.

(2) هذا هو المسمّى بالزمان الموهوم، وهو الامتداد الموهوم المنتزع من بقاء الواجب، وأمّا الزمان المتوهّم فهو الامتداد الموهوم غير المنتزع من بقاء الواجب، فالموهوم ما لا فرد لا يحاذيه، ولكن له منشأ الانتزاع، والمتوهّم ما لا فرد له ولا منشأ لانتزاعه، ويجعلون هذا الزمان وعاءً لعدم العالَم، فيقولون: إنّ العالَم حادث زماني وليس بقديم.

٢٧٣

وما قيل: من امتناع انتزاع الزمان من بقاء الواجب؛ لعدم المناسبة بين الأمر التدريجي وما لا تدريج فيه أصلاً، وإنّما هو منتزع من الحركة القطعية التي هي أمر تدريجي غير قارّ.

فجوابه: أنّ اعتبار المناسبة المذكورة غير بيّن ولا بمبيّن على نحو الإطلاق، وعلى فرض تسليمه فهو غير منحصر فيما نفهمه؛ لاحتمال وجود مناسبة خفيّة علينا، أَلا ترى أنّ أكثر الانتزاعيات - كالزوجية والفردية والفوقية والتحتية وغيرها - يُنتزع من محالّها، ولا يحكم وجداننا بتحقّق مناسبات تفصيلية بين كلّ منتزع وما يُنتزع منه؟

لا يقال: البقاء ينتزع من الزمان فلو عُكس لدار.

فإنّه يقال: إنّ الزمان المزبور يُنتزع من نفس وجود الواجب الذي لا يعرضه العدم، فتوقّف البقاء عليه لا يستلزم محذوراً.

فإن قلت: لو انتزع الزمان منه لكان صفةً له، كما هو شأن سائر ما يُنتزع منه، مثل العلم والإرادة والقدرة والخلق وغيرها، مع أنّه لا يتّصف به لا بالحمل مواطاةً وهو ظاهر، ولا اشتقاقاً فإنّه ليس بزماني.

قلنا: لا نسلّم أنّ كلّ ما يُنتزع من شيء يجب أن يكون صفةً له؛ لأنّ مناط الوصفية هو وجود العلاقة الناعتية بينهما، واستلزام الانتزاع لهذه العلاقة غير بيّن ولا بمبيّن، ولو سلّم فنقول: إنّ ما ورد من أنّه تعالى ليس بزماني ولا بمكاني معناه: أنّه كما لا يحيط به مكان حتى يكون ظرفاً له مشتملاً عليه، كذلك لا يحيط به زمان حتى يتقدّم عليه جزء من ذلك الزمان، ويتأخّر عنه جزء آخر منه، فيكون وجوده مقارناً لحدّ خاصّ من الزمان مسبوقاً بحدّ آخر منه خالٍ عن وجوده.

وأمّا مقارنة الحقّ القديم للزمان، وتحقّقه معه في نفس الأمر من الأزل إلى الأبد، فلا شكّ في صحّته ووقوعه، وهذا المقدار كافٍ فيما نحن بصدده.

وأمّا عدم اتّصافه بالمكان؛ فلعدم تحقّق كلا المعنيين المفروضين في الزمان هناك، فليس المكان محيطاً به ولا مقارناً له، ثمّ إنّ ما ورد شرعاً، من أنّه قديم أزلي سرمدي أبدي دائم وغيرها، يشهد بأنّه تعالى زماني بالمعنى الثاني، وليس فيه مانع.

الجواب الثاني: ما استظهره المجلسي قدّس سره من أكثر قدماء الإمامية واختاره هو أيضاً وقال: إنّه في غاية المتانة، وهو مبني على عدم صحّة انتزاع الزمان منه تعالى، وعلى أنّه ليس بزماني مطلقاً.

ومحصّله: أنّا لا نسلّم تخلّف المعلول عن العلّة في فرض حدوث العالَم، فإنّ التخلّف إنّما يتصوّر لو كان العلّة زمانيةً، ووجدت العلّة في زمان ولم يوجد المعلول معه في ذلك الزمان، وهنا لعلّ العلّة والمعلول كليهما لم يكونا زمانيين، أمّا العلّة فانتفاء الزمان عنها واضح، وأمّا

٢٧٤

المعلول فالكلام في الصادر الأَوّل، وهناك لم يوجد زمان ولا زماني أصلاً.

وبالجملة: إذا كانت العلّة والمعلول كلاهما زمانيين يجب أن يجمعها آن أو زمان، وإلاّ فلا، ونظيره التخلّف المكاني، فإنّه لو كانا مكانيين يتصوّر الاجتماع والافتراق والمماسة واللامماسة، وأمّا إذا لم يكن أحدهما أو كلاهما مكانيين لم يتصوّر أمثال هذه الأُمور، وكذا إنّما يتصوّر الترجيح بلا مرجّح، إذا تحقّق زمان وقع أمر في جزء منه دون جزء، وصدر المعلول عن العلّة مرّة ولم يصدر مرة أُخرى، فإذا فرضنا الزمان معدوماً، فلا يجري فيه أمثال هذه الأوهام الكاذبة الحاصلة من الأُلفة بالزمان والمكان.

فصاحب هذا القول يقول: بأنّ الزمان والحركات وسلسلة الحوادث كلّها متناهية في طرف الماضي، وأنّ جميع الممكنات ينتهي في جهة الماضي في الخارج إلى عدم مطلق ولا شيء بحت، لا امتداد فيه، ولا تكمّم، ولا تدريج، ولا قارية، ولا سيلان.

ويقرب من هذا القول أو يرجع إليه، ما أفاده المحقّق الطوسي قدّس سره في تجريده.

ومحصّله: أنّ الحدوث اختصّ بوقت الإحداث؛ لانتفاء وقت قبله، فلا معنى لطلب الترجيح فيه.

أقول: لكنّ السؤال يتوجّه إلى نفس الوقت المذكور، وأنّه لِمَ وجد في هذا الحدّ دون سابقه؟ إلاّ أن يقال: لا تدرّج ولا امتداد قبل الوقت المذكور حتى يُسأل عن الترجيح، فتأمل.

الجواب الثالث: ما قيل من عدم تحقّق جميع ما لابدّ منه في وجود العالم في الأزل، إذ من جملته تعلّق الإرادة بوجوده في الأزل، ولم تتعلّق الإرادة بوجوده في الأزل، بل وجوده فيما لا يزال من الأوقات الآتية؛ لحكمة ومصلحة.

الجواب الرابع: النقض بالحادث اليومي، فإنّ هذا الوجه لو تمّ لأبطل الحادث مطلقاً، إذ نقول حينئذٍ: هل الواجب علّة تامّة لشيء ما أم لا؟ فعلى الثاني ينتفي العالَم، وعلى الأَوّل نأخذ الصادر الأَوّل، ونقول: الواجب مع هذا الصادر إمّا أن يكون علّةً تامّة لشيءٍ ما ممّا عداهما أم لا، ويلزم قِدم الصادر الثاني، وهكذا ينتهي إلى الحادث اليومي فيدخل في سلسلة القدماء، وهذا خلف.

الجواب الخامس: ما ذكره المستحلّون للترجيح بلا مرجّح، من أنّ الفاعل المختار يتمكّن من إيجاد فعل بلا مرجّح وداعٍ.

إلى غير ذلك من الأجوبة التي لا حاجة إلى نقلها.

لكنّ الخامس باطل كما مرّ في مبحث الترجيح بلا مرجّح، وقد عرفت أنّ الحقّ هو التفصيل الثاني.

والرابع فيه بحث طويل الذيل.

٢٧٥

والثالث ممنوع؛ إذ الامتداد الوهمي المذكور عدم بحت، لا تأثير له في توليد المصلحة في طرف المفعول، فإن كان أصلح فهو كذلك أزلاً، فلا يُقاس بالحوادث الزمانية التي يختلف صلاحها وفسادها باختلاف الزمان.

والثاني يصعب قبوله؛ إذ بعد تمامية فاعلية الواجب، وكونه علّةً تامّة، لا يتصوّر تخلّف المعلول عنه، وقدماء الإمامية لم يثبت منهم تجويز هذا المعنى، وعبارة المجلسي المتقدّمة أيضاً غير ظاهرة حقّ الظهور في هذه النسبة إليهم، بل الظاهر منها هو نفي الزمان الموهوم عنه تعالى، فلاحظ.

والأَوّل أُورد عليه، بامتناع انتزاع الأمر التدريجي عن مَن هو بريء من التدرّج والسيلان، اللهم إلاّ أن يقال: إنّ الوجهين المذكورين - الأَوّل والثاني - وإن لم يكونا بثابتين، لكنّهما يوجبان الاحتمال المنافي للدليل المتقدّم، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

تحقيق وتفنيد

هذا الذي ذكره الفلاسفة، وتشعّب المتكلّمون في جوابه إلى شعب، مجرّد تلفيق لا واقع له أصلاً، بل السؤال المذكور فيه غلط لا مسرح له في المقام.

توضيح ذلك: أنّ ما عنه التأثير على قسمين: الفاعل المختار والعلّة الموجبة، والأَوّل كالحيوان؛ إذ له أن يفعل وله أن لا يفعل، والثاني كالأسباب الطبيعية، والسؤال المذكور في الدليل المزبور إنّما يتمشّى على الثاني، فإنّ المؤثّر الطبيعي إمّا علّة تامّة، كالنار بالنسبة إلى الحرارة، والشمس بالنسبة إلى النهار، وإمّا ليس كذلك بل مقتضٍ له يتوقّف تنجّز أثره على شرط أو أمر آخر، كالنار بالقياس إلى الإحراق، والشمس إلى التسخين، وأمّا الفاعل المختار فمهما بلغ شوقه إلى إيجاد الفعل الملائم له فهو متمكّن من الفعل والترك، ولا يجب الفعل عنه أصلاً، فإنّ الوجوب السابق باطل في أفعاله، فالفعل موقوف على إعمال قدرته لا على شوقه.

إذا تقرّر ذلك فنقول: إنّا قد قرّرنا سابقاً أنّ الله تعالى ليس بعلّة موجَبة بفتح الجيم، وحقّقنا أيضاً أنّ إرادته ليست هو علمه بالأصلح، أو نفس ذاته ابتداءً، بلا رجوعها إلى العلم، بل هي حادثة؛ فحينئذٍ له أن فعل وله أن لا يفعل، والسؤال المذكور لا مجرى له في حقّه تعالى كما عرفت، ولنا أن نختار كلاًّ من الشقين فنقول: إنّه تعالى كان مستجمعاً لجميع شرائط التأثير، وعلةً تامة، بمعنى أنّه غير محتاج إلى شيء بحيث إن شاء لفعل، أو نقول: إنّه ليس مستجمعاً لشرائط التأثير، وليس بعلّة تامة، ونعني به أنّ الفعل غير صادر عنه؛ لأنّه لم يرده ولا يمكن صدوره عنه اضطراراً وإيجاباً.

فهذا السؤال - بعد تمهيد الأُصول السالفة الحقّة من اختياره تعالى وحدوث إرادته - ممّا لا

٢٧٦

مجال له أبداً من جهة الحكمة النظرية وأحكام العقل العلمية، نعم يمكن أن يقرّر الاستدلال من وجهة الحكمة العملية فيقال: الواجب وإن كان مختاراً غير أنّ إهمال الأصلح أو الصالح قبيح منه، وهو لحكمته البالغة لا يفعله وإن كان قادراً عليه، بل مرّ أنّ صدور الأكمل أو الكامل لازم عنه، فهذا السؤال له وجه ولا يدفعه الوجوه المتقدّمة، كما هو مسلّم عند مَن أنصف من نفسه.

ولكن هؤلاء القوم لو تركوا العصبية والعناد، وامتنعوا من السب والطعن، وأسكتوا غضبهم لنجيبهم، بأنّ قِدم الممكن ممتنع، والممتنع المحال لا يعقل صدوره عن الواجب؛ إذ لا قابلية له لتعلّق القدرة الكاملة العميمة الواجبة به، فأين ترك الجود وإمساك الفيض؟ وأين البخل؟ ومع الغض عمّا قلناه آنفاً أين تخلّف المعلول عن العلّة؟ فإنّ الشيء إذا كان ممتنع الوجود لا يصير معلولاً أبداً، وهذا ظاهر.

وأمّا توضيح الجواب فسيمرّ عليك إن شاء الله، فانتظر، وهذا الجواب يكفي لإبطال جميع الوجوه المستدلّ بها على قِدم العالَم.

أدلّة حدوث العالم

أكثر المتكلّمون دلائلهم على حدوث ما سوى الله، وقد نقل أكثرها صاحب الأسفار في آخر إلهيات كتابه الأسفار، وأجاب عنه حسب ما اقتضى تفكيره الفلسفي، وهاهنا وجوه أُخر نذكرها نحن مع وجه واحد من تلك الدلائل، فمنها ما في المواقف وغيرها (1) من أنّ العالَم فعل الفاعل المختار، والقديم لا يستند إلى المختار كما مرّ، فينتج من الشكل الثاني أنّ العالَم ليس بقديم.

أقول: الصغرى برهانية عندنا كما دريت في مبحث الاختيار، وأمّا الكبرى فهي مسلّمة بين المتكلّمين والفلاسفة، فإنّ القصد لا يتعلّق إلاّ بالمعدوم بالضرورة، لكن قد عرفت أنّ ما استدلّ لتصحيحها غير تمام، وسيأتي ما يتعلّق به.

ومنها: ما دلّ على استحالة مطلق ما لا نهاية له في جانب الماضي، من برهان التطبيق وغيره، لكنّنا أشرنا فيما مضى إلى أنّه عندي غير تمام.

ومنها: ما ذكره العلاّمة المجلسي قدّس سره (2) ، من أنّ الجعل لا يتصوّر في القديم؛ لأنّ تأثير العلّة إمّا إفاضة أصل الوجود، وإمّا إفادة بقاء الوجود واستمرار الجعل الأَوّل، والأَوّل هي العلّة الموجِدة والثاني هي المبقية، والموجود الدائمي محال أن تكون له علّة موجودة، كما تحكم به

____________________

(1) شرح المواقف 2 / 494.

(2) السماء والعالَم / 52.

٢٧٧

الفطرة السليمة، سواء كان بالاختيار أو بالإيجاب، لكنّ الأَوّل أوضح وأظهر، وممّا ينبّه عليه أنّ في الحوادث المشاهدة في الآن الأَوّل تأثير العلّة، هو إفاضة أصل الوجود، وفي كل آن بعده من آنات زمان الوجود تأثير العلّة، هو إبقاء الوجود واستمرار الجعل الأَوّل، فلو كان ممكن دائمي الوجود، فكل آن يُفرض من آنات زمان وجوده غير المتناهي في طرف الماضي فهو آن البقاء واستمرار الوجود، ولا يتحقّق آن إفاضة أصل الوجود، فجميع زمان الوجود هو زمان البقاء، ولا يتحقّق آن ولا زمان للإيجاد وأصل الوجود قطعاً... لو كان... قديماً لزم أن لا يحتاج إلى علّة أصلاً، أمّا الموجِدة فلِما مرّ، وأمّا المبقية فلأنّها فرع الموجِدة.

إنارة عقليّة

لا ريب في أنّ ما سوى الله تعالى ممكن كما تنطق به أدلة التوحيد، وهذا ممّا اتّفق عليه الفريقان، وكلّ ممكن فهو حادث لا محالة، فالعالَم حادث وهذا هو المطلوب.

أمّا الكبرى فنقول في تصحيحها: إنّ الممكن مفتقر في تحقّقه إلى مؤثّر بالضرورة، ولا يعقل أن يوجد حال وجوده؛ فإنّه من تحصيل الحاصل المحال، فلابدّ أن يوجد حال لا وجود له، فيكون وجوده مسبوقاً بلا وجوده، وهذا هو معنى الحدوث.

وقرّره في الأسفار هكذا (1) : تأثير المؤثّر إمّا حال عدمه، أو حال حدوثه، أو حال بقائه، والأَوّلان يفيدان الدعوى، والثالث باطل؛ لأنّه يلزم تحصيل الحاصل وهو محال.

ثمّ قال: والجواب، أنّا نختار أنّ التأثير في حال الوجود والبقاء، قوله: ذلك إيجاد للموجود أو إبقاء للباقي، قلنا: ليس الأمر كذلك، وإنّما كان كذلك لو كان الفاعل يعطيه وجوداً ثانياً، وبقاءً مستأنفاً وليس كذلك، بل الفاعل يوجده بنفس هذا الإيجاد؛ لأنّ تأثير الفاعل في شيء عبارة عن كونه تابعاً له في الوجود، واجب الوجود بعلته.

ثمّ الذي يدلّ على أنّ التأثير يجب أن يكون في حال الوجود وجوه:

أحدها: إنّه لو بطل أن يكون التأثير في حال الوجود، وجب أن يكون إمّا في حال العدم، ويلزم من ذلك الجمع بين الوجود والعدم، وذلك ممتنع، أو لا في حال الوجود ولا في حال العدم، فيلزم من ذلك ثبوت الواسطة بينهما، وذلك أيضاً باطل.

ثانيها: إنّ الإمكان - في كلّ ممكن - علّة تامّة للاحتياج؛ لِما يحكم هذا العقل بأنّه أمكن فاحتاج، فلو لم يحتج حال البقاء لزم إمّا الانقلاب في الماهية، أو تخلّف المعلول

____________________

(1) لاحظ أواخر فن ربوبياتها.

٢٧٨

عن العلّة التامّة.

ثالثها:... إنّ صفاته زائدة على ذاته، قديمة موجودة بإيجاد الذات إيّاها عند الأشاعرة، فهي مادة النقض عليهم.

رابعها: إنّه لو استغنى الممكن في حال بقائه عن المؤثّر، فلزم أنّه لو فرض انعدام الباري لم ينعدم العالّم، ولزمهم أن لا ينعدم شيء من الحادث، وذلك باطل قبيح شنيع، لكن بعضهم التزموه... إلخ.

خامسها: إنّ الدليل منقوض عليهم باحتياج الحوادث في الأعدام الأزلية إلى العلة؛ إذ الممكن كما لا يوجد بنفسه لا ينعدم بذاته، فيلزم عليهم إعدام المعدوم، انتهى كلامه.

أقول: هذا الجواب بماله من الدلائل المذكورة لا يرجع إلى محصّل، فإنّ ما اخترعه من عند نفسه، من تفسير التأثير بكون المتأثّر تابعاً للمؤثّر في الوجود، لا يرجع إلى معنى معقول، بل معنى التأثير هو الإصدار والإبداع والإيجاد وما شئت فسمِّه، وهذا الإيجاد إمّا بنحو الترشّح، كما في النار والحرارة وغيرها من الأسباب الطبيعية، وإمّا بنحو التكوين لا من شيء، كما في الحيوان وأفعاله الاختيارية.

وهذا التكوين مستلزم لعدم الفعل قبله كما هو المحسوس، وحيث إنّ الواجب فاعل مختار عند الملّيين كما مرّ، فتكون أفعاله - كأفعال الحيوان - مسبوقةً بالعدم، بل ويمكن حينئذ دعوى الضرورة على حدوث العالَم، فإنّ أفاعيلنا المشاهدة مسبوقة بالعدم، وإنّما توجد بعد عدمها، والتأثير في حال عدمها لا في حال وجودها، فكذا أفعال الواجب؛ إذ لا فرق بين أفعالنا وأفعاله تعالى من هذه الناحية، وليست للقصد الكائن فينا مدخلية في هذا المعنى حتى يتفاوت الحال، كما لا يخفى.

ولب المرام وخلاصة المقال: أنّ الممكن إن كان موجوداً قبل الإيجاد فهو ترجّح بلا مرجّح، وإن كان معدوماً فهو الحدوث المدّعى ولا شق ثالث بالضرورة.

وبالجملة: لو لم نقدر على دعوى أن كلّ ممكن يوجده المؤثّر حادث، بدعوى أنّ تأثير العلل الموجبة في معاليلها، هو متابعة المعلول علته في الوجود وترشّحه عنه - كما ذكره المستدلّ - وهو لا يستلزم حدوث المعلول إذا كانت علته قديمةً، مع أنّ الدعوى المذكورة منظور فيها، فلا شك في قولنا: إنّ كل ممكن يوجده الفاعل المختار فهو حادث، وإلاّ لزم تحصيل الحاصل، بل ندّعي أنّه محسوس، وحيث إنّ خالق الممكنات بأسرها هو الواجب المختار، فيثبت أنّ كلّ ممكن حادث فافهم واغتنم.

والمتحصّل: أنّ حدوث العالم مبني على اختياره تعالى، لا أنّ اختياره مستفاد من حدوث

٢٧٩

العالَم، كما يزعم أكثر المتكلّمين أو جميعهم.

هذا ما يرجع إلى نفس الجواب، أمّا ما استدلّ به من الوجوه الخمسة، فنقول:

إنّ الوجه الأَوّل، خلاف المحسوس في أفعالنا، وتحليل المقام: إنّ العدم في قولنا: الإيجاد حال العدم، أُخذ على نحو الظرفية دون الشرطية، فنفس الإيجاد يخرجه من العدم، فلا يجتمع السلب والإيجاب.

والوجه الثاني عجيب؛ إذ مَن يقول بأنّ الإمكان ليس بعلّة الاحتياج؟ وما هو ربطه بالمقام؟ وقد سلف تحقيق افتقار الممكن في البقاء في محلّه فلاحظ.

وبالجملة: علّية الإمكان للحاجة لا تنافي اشتراط العدم في المفعول، كيف وإيجاد الموجود بوصف كونه موجوداً محال؟ لأنّه من تحصيل الحاصل، مع أنّ الإمكان ثابت له مع وصف الموجودية المذكورة.

وأمّا الوجه الثالث، فإن تمّ فهو نقض على مقلدي الأشعري وغيرهم، كما أفاد المستدلّ.

وأمّا الوجه الرابع، فقد ظهر جوابه من جواب الثاني.

وبالجملة: الدليل المتقدّم لا ينافي احتياج الممكن في بقائه حتى يلزم من إثباته بطلانه.

وأمّا الوجه الأخير فجوابه: إنّ الممكن ما لا يقتضي الوجود ولا العدم بحسب ذاته عند العقل، وأمّا بحسب الخارج فإن تحقّق مؤثّره فهو موجود وإلاّ فهو معدوم، فالإعدام غير الإيجاد؛ إذ الثاني أمر واقعي خارجي؛ ولذا لا يمكن تعلّقه بالموجود كما دريت، وأمّا الإعدام فهو أمر عقلي محض، وهو في الخارج عبارة عن عدم الإيجاد، فلا معنى للسؤال عن أنّ إعدام الممكن حال وجوده أو حال عدمه؟ حتى يلزم من الشق الثاني تحصيل الحاصل كما قصده المُورِد، بل هو عدم فعل المؤثّر، فلا تأثير ولا تأثّر.

وبالجملة: عدم المعلول من جهة عدم الإيجاد لكن بالاستناد العقلي، لا الخارجي كما في الإيجاد، فالموردان مختلفان فلا معنى للنقض، فافهم.

فإذن، تحصّل أنّ العقل حاكم والحس شاهد، بأنّه يشترط في الفعل الاختياري تقدّم العدم عليه لا تقدّماً رتبياً وحده كما زعمه السبزواري (1) ، بل تقدّماً فكياً واقعياً لا يجامع المتقدّم المتأخّر أصلاً.

نعم، إنّ صاحب الأسفار عقد باباً في الأمور العامّة من كتاب أسفاره (2) ، وأورد فيه ثمانية أوجه على عدم اشتراط العدم في الفعل، وأصرّ على دلالتها على مطلوبه، لكن يظهر من كلامه

____________________

(1) الأسفار 2 / 390، الحاشية.

(2) الأسفار 2 / 383.

٢٨٠