صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 114349
تحميل: 4707

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114349 / تحميل: 4707
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثم إنّه يمكن أن يقال بوجود جامع غير مقصود في التواتر الإجمالي، ولو في بعض مواردها، كما في مثل الروايات الدالّة على حجية خبر الثقة أو العادل - كما قرّرناه بعد ذلك في آخر كتابنا (روح) - دون الجامع المقصود كما في التواتر المعنوي.

ومنها: الفطريات: وهي ما يحكم به العقل باعتبار أوسط لا ينفك عن الذهن عند تصوّر حدودها، كقولنا: الاثنان زوج؛ لأنّه منقسم بمتساويين، والانقسام المذكور لا يغيب عن الذهن بعد معرفة طرفي القضية، ويقال لها: قضايا قياساتها معها أيضاً.

ومنها: التجربيات: وهي ما يحكم به العقل بسبب مشاهدات متكرّرة مع انضمام قياس خفي، وهو أنّه لو كان اتّفاقياً لَما كان دائمياً أو أكثرياً، بل هناك سبب إذا علم وقوعه علم وجود المسبّب، كقولنا: الضرب مؤلم، والفرق بينها وبين الاستقراء هو هذا القياس كما ذكر بعضهم؛ ولذا لم يعتبروا الاستقراء، وربّما نوقش (1) في إفادة التجربة لليقين، إلاّ أنّه غير مسموع جزماً، نعم هي لا تنهض دليلاً على غير المجرّب.

ومنها: الحدسيات: وهي ما يحكم العقل به بواسطة حدس من النفس بمشاهدة القرائن، كالحكم بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس. والفرق بينها وبين التجربيات مع افتقار كلّ منهما إلى تكرار المشاهدة: أنّ الثاني يتوقّف على فعل يفعله الإنسان حتى يحصل المطلوب بسببه، فإنّ الإنسان ما لم يجرّب الدواء بتناوله، أو إعطائه غيره مرةً بعد أُخرى، لا يحكم عليه بأنّه مُسهِل مثلاً، وهذا بخلاف الحدس فإنّه غير موقوف على ذلك (2) .

ثمّ إنّ الحدس عبارة عن انتقال الذهن الدفعي من المبادئ إلى المطالب، وإن شئت فقل: إنّه حضور المبادئ في الذهن بلا مهلة وتراخٍ حين توجّهه إلى المطالب، وإحاطة النفس دفعةً واحدة على المطالب والمبادئ؛ ولذا أدخلوها في الضروريات دون النظريات الموقوفة على الفكر المعتبر فيها الحركة.

هذه هي القضايا الضرورية التي تقع مواد للبرهان القطعي، والأقوى منها هو: الأَوّليات، ثمّ المحسوسات، ثمّ الفطريات، ثمّ المتواترات، ثمّ الحدسيات، ثمّ المجرّبات، والمستدلّ بأحد هذه المبادئ يسمّى عندهم حكيماً، لكن الأَولى أن يُسمّى محقاً أو مبرهناً.

أقول: وهنا قسم سابع يمكن إدخاله في الضروريات المذكورة، وهو ما يحكم به الفطرة دون العقل، مثل قولنا: دفع الضرر واجب، فإنّه يذعن به مَن لا عقل له كالمجانين والحيوانات ونحوها، نعم تمييز الموارد في الجملة موقوف على إدراك العقل، وأمّا أصل الحكم فهو غير

____________________

(1) رهبر خرد / 232.

(2) لاحظ شرح المطالع / 334، وذكر العلاّمة الحلي فرقاً آخر بينهما في شرح التجريد / 139.

٢١

موقوف عليه؛ ولذا يجتنب من الضرر كلّ حسّاس مميّز. (فتأمّل).

هذه إحدى الصناعات الخمس.

وثانيها: الجدليات: وهي تتركب من المشهورات والمسلّمات. أمّا المشهورات: فهي قضايا تتّفق عليها الآراء، ويعترف بها عموم الناس؛ إمّا لمصلحة عامة كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح، أو لرقّة كقولنا: معاونة الفقراء محمودة، أو لحميّة كقولنا كشف العورة مذموم، أو لعادة كقولنا التلبس حسن، أو لأدب كقولنا: شكر المنعم لازم، وتسمّى بالشرائع غير المكتوبة في مقابل الشرائع المكتوبة الإلهية التي لا يعترف بها العموم.

ومن المشهورات ما يعترف به الأكثر أو الطائفة الخاصّة، كقبح ذبح البقر عند الهنود، فاعتراف العموم غير معتبر فيها.

والفرق بينها وبين الأَوّليات: اعتبار مطابقة الواقع في الثانية دون الأُولى؛ ولذا قد تجتمعان في مورد، وربّما تشتبه الحال فلا يُعلم أنّ القضية الفلانية من الأَوّليات أو من المشهورات، والتمييز بأحد الوجود الثلاثة:

الأَوّل: تجريد النفس من جميع الخاطرات، بحيث يحسب أنّه مخلوق الساعة، لم يشاهد أحداً، ولم يمارس عملاً، فإذن إن حكم على القضية بحكم فهي برهانية، وإن توقف فهي مشهورية.

الثاني: احتمال الكذب في المشهورات؛ إذ ربّ شهرة لا أصل لها، بخلاف الأَوّليات.

الثالث: اختلاف المشهورات حسب اختلاف العادات والآداب، دون الأَوّليات.

أقول: والكل غير مطرّد كما لا يخفى على اللبيب.

وأمّا المسلّمات: فهي قضايا مسلّمة عند الخصم، فيُستدلّ بها لإلزامه أو إرشاده، سواء كانت باطلةً عند المستدل أو صحيحةً. وللمسلّمات معنى آخر (1) وهو: المسائل المأخوذة من علم للاستدلال والتعليم بها في علم آخر، وبهذا المعنى تنقسم إلى المصادرات، والعلوم المتعارفة، والأصول الموضوعة. والمستدل بالمشهورات والمسلّمات يسمّى مجادلاً، غرضه إقناع القاصرين وإلزام المعاندين، وقد عرفت أنّ نسبة المسائل الكلامية إلى الجدل - كما صدرت عن جماعة من الحكماء - نسبة كاذبة لا أصل لها.

ثالثها: الخطابيات: وهي تلتئم من المقبولات والمظنونات. أمّا الأُولى فهي ما يؤخذ من العلماء والأولياء، وأمّا الثانية فهي ما يحكم به العقل حكماً راجحاً غير جازم كقولنا: هذا الجدار ينهدم لانتشار ترابه، وزيد فقير لاندراس لباسه، فهي أعم من المقبولات صدقاً، والمستدلّ بها

____________________

(1) عبارة (وللمسلّمات معنى آخر) اصطلاح منّا (المؤلّف).

٢٢

يسمّى خطيباً، غرضه إرشاد الناس إلى السعادة، وزجرهم عن الشقاوة والهلاكة. والخطابة وإن لا موقع لها في العلوم البرهانية، إلاّ أنّها أعظم شيء تأثيراً في نفوس العوام، فلابدّ من الاعتناء بها في علم الميزان.

رابعها: الشعريات: وهي تتألف من المخيّلات التي هي قضايا لا تذعن النفس بها، ولكن تنفعل بها ترغيباً أو تنفيراً، ولا سيما إذا كانت موزونةً، ويسمّى مستعملها شاعراً.

خامسها: السفسطيات: وهي تتركب من الوهميات والمشبّهات. الأُولى ما يحكم به الوهم في المعقولات قياساً على المحسوسات، مثل: كل موجود متحيّز. ويعرف كذبه بمساعدة العقل، وإلاّ لعدّت من الأَوّليات أو المشهورات، والثانية قضايا كاذبة شُبّهت بالقضايا الصادقة؛ لأجل الاشتباه اللفظي أو المعنوي. والمغالط يُسمّى سفسطياً إن كان في مقابل المبرهن، ومشاغباً إن كان في مقابل الجدلي.

ثم إنّ الاستدلال إمّا من العلة على المعلول، فهو برهان لمّي، وإمّا من المعلول على العلة أو من أحد المعلولين على الآخر، فهو دليل إنّي؛ وإمّا من العلة على نفسها فهو شبه لم، فما أُقيم على إثبات وجود الواجب وسمّوه باللّم فهو من شبه اللّم.

بقي هنا بحوث مهمة

البحث الأوّل: في عموم اعتبار الإدراكات العقلية:

فنقول: بعد الاعتراف بوجود الأشياء الخارجية، والسلامة من الأمراض اللاأدرية والسوفسطائية، يقع الكلام في أنّه هل يُعتمد على إدراكات العقل غير الحسّية؟ وهل يُصدّق العقل في أخباره الكلّية أم لا، بل المعتبر هو الإدراكات الحسية فقط؟

ذهب المتأخّرون من البحّاث الغربيين إلى الثاني؛ بحجّة أنّ المسائل العقلية الصرفة كثيراً ما يقع فيها الغلط والاشتباه، مع عدم ميزان يُفرّق به بين الصادقة والكاذبة، وأمّا المباحث الحسّية فهي ذات ميزان، فإنّ الإنسان إذا أدرك شيئاً بإحدى حواسّه، يعقبه بتكرير الأمثال وإعادة الأشباه؛ حتى يتّضح المقصود بحيث لا يمسّه شك ولا ترديد.

أقول: الدعوة المذكورة موهومة قطعاً، وهي مستوجبة حرمان الإنسان عن الحقائق الكلّية العقلية، وانحطاط النفس الناطقة عن معراج الكمال والفضيلة إلى هاوية النقصان والجهالة، والحجّة القائمة عليها مزيّفة:

أَوّلاً: بوقوع الخطأ في الحسّ أيضاً كما ذُكرت أمثلته في المطوّلات، فإذن يثبت قول الشكّاكين وإخوانهم بإنكار الحقائق الخارجية مطلقاً. وحلّ الإشكال: أنّ وقوع الاشتباه أحياناً

٢٣

لا يستلزم إلغاء سلطنة العقل في إدراكاته بوجه من الوجوه.

وثانياً: لِما عرفت من توقّف التجربة في إفادتها العلم بالأمر الكلّي على القياس الخفي المذكور، وهو أنّ هذا الأمر لو كان اتّفاقياً لم يكن أكثرياً أو دائمياً، لكنّه كذلك فهو ليس باتّفاقي. وهذا القياس عقلي لا حسّي، فإذا ألغينا حكم العقل في المعقولات، فقد أبطلنا أساس الأحكام الحسّية، وهو التجربة المذكورة، وهذا هو السفسطة.

وبالجملة: أنّ الحسّ لا يمكنه الإحاطة بالقضايا الكلية أبداً؛ إذ لا يناله إلاّ الأمر الجزئي مثل: إنّ الضرب الواقع على زيد كان مؤلماً لجزعه، وكذا الواقع على زيد وعمرو، وكل ذلك أُمور جزئية، فالحكم بأنّ كل ضرب دائماً مؤلم غير داخل في سلطان الحسّ أصلاً، ولازم هذا بطلان جميع العلوم الطبيعية؛ إذ لا يترتّب الآثار المطلوبة إلاّ على تلك الكلّيات، كقول الطبيب: كل مرض كذائي ينفعه الدواء الفلاني مطلقاً، بلا اعتبار زمان مخصوص، ومكان كذلك، وعنصر معيّن، وهكذا، فلابدّ من قبول حكومة العقل حتى ينتظم ناموس العلوم التجربية.

وثالثاً: لو انتهى صحّة الإدراكات الحسّية إلى التجربة فقط، لَما انقطع السؤال عن انتهاء التجربة نفسها وأنّها إلى ماذا تنتهي؟ وما هو المصدّق لها هل نفسها حتى يدور؟ أو غيرها كي يبطل قولهم من رأس؟ والإنصاف أنّ هذه النظرية الرديئة راجعة إلى مزعومة السوفسطائيين لا محالة.

البحث الثاني: في الفرق بين المسائل الضرورية والنظرية:

وهو من وجوه:

الأَوّل: ما ذكره العلاّمة قدّس سره (1)، من أنّ الضروري من التصوّر ما لا يتوقّف على طلب وكسب، ومن التصديق ما يكفي تصوّر طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجاباً أو سلباً، والمكتسب ضدّ ذلك فيهما.

أقول: لكنّه يختصّ بالأَوّليات من الضروريات ولا يشمل غيرها.

الثاني: ما ذكره الفاضل المقداد (2)، من أنّ المعلوم ضرورةً هو الذي لا يختلف فيه العقلاء، بل يحصل العلم به بأدنى سبب، ويزيّفه وقوع اختلافهم في الضروريات حتى في أَوّليّاتها، كما سيمرّ بك في هذا الكتاب إن شاء الله.

وما ذكره صاحب الشوارق (من أنّ البديهي عند مَن يرونه بديهياً لا يقع منهم الاختلاف،

____________________

(1) شرح التجريد / 136.

(2) شرح الباب الحادي عشر / 5.

٢٤

وأمّا بالنسبة إلى الآخرين فيجوز الخلاف فيه) (1) فهو سقيم؛ إذ كل مسألة عُلمت صحّتها لا يقع فيها الاختلاف من العالمين بها ولو كانت نظريةً غامضة، فلا أثر للميزان المذكور.

الثالث: ما في المواقف وشرحها، (2) من أنّ الضروري هو ما لا يكون تحصيله مقدوراً للمخلوق، فلم يكن الانفكاك عنه أيضاً مقدوراً، وذلك كالمحسوسات بالحواس الظاهرة، فإنّها لا تعرض بمجرد الإحساس المقدور لنا، وإلاّ لَما عرض الغلط، بل تتوقّف على أُمور غير مقدورة، لا نعلم ما هي؟ ومتى حصلت؟ وكيف حصلت؟

والكسبي ما يقابل الضروري، فهو العلم المقدور تحصيله.

والبديهي ما يثبته العقل بمجرّد التفاته إليه من غير استعانة بحسّ أو غيره، فهو أخصّ من الضروري، وأمّا النظري فهو ما يتضمّنه النظر الصحيح.

أقول: هذا مع أنّه تعريف بالأخفى، غير صحيح أيضاً، فإنّ الضروري مقدور بغض البصر، وإرادة النوم، وترك التجربة، والاستماع ونحوها، وما ذكره من التعليل عليل، على أنّ مغايرة النظري مع الكسبي ممّا لم يثبت في اصطلاحهم، مع أنّ تعريف النظري دوري كما لا يخفى.

والصحيح أن يقال: الضروري ما لا يحتاج في حصوله إلى الفكر والتروّي، بخلاف النظري.

البحث الثالث: في الحجج النقلية:

العقل يدرك الشيء بوجهه وتفصيله تارةً وبإجماله وعنوانه أُخرى، كما في الأدلة الإنّية، فإنّه يدرك العلّة من جهة معلولها إدراكاً إجمالياً فيذعن بها، فإذن، لا فرق في الأحكام العقلية بين التفصيلية والإجمالية أصلاً، من حيث تصديقه بها واعتماده عليها.

وتدخل في القسم الثاني أقوال الله تبارك وتعالى، وعباده المعصومين من الجهل والسهو والغلط والكذب، التي هي المناشئ لمخالفة الحكاية من الواقع، فإذا انتفت هذه الأُمور فالخبر صادق لا محالة، بل يضطر العقل إلى الحكم بصحّته وصدقه، وأنّه حق واقع وإن لم يحط بكنهه ولمّه. فالقضية القائلة: قول المعصوم صادق ومطابق للواقع، من الأَوّليات على حدّ قولنا: الممكن مفتقر.

وأمّا لزوم امتثال أمر الواجب القديم، والانبعاث على وِفقه، والانزجار عمّا نهى عنه، فهو إمّا عقلي من باب لزوم شكر المنعم فيدخل في المشهورات، أو فطري من باب دفع الضرر المحتمل وهو استحقاق العقاب، فيندرج في القسم السابع من البرهانيات كما مرّ، ومنه ينبثق

____________________

(1) الشوارق 1 / 126.

(2) شرح المواقف 1 / 60.

٢٥

وجوب إطاعة المعصوم الحاكي عن الله تعالى، وبالجملة لزوم الإطاعة ليس بشرعي وإلاّ لتسلسل فافهم.

هذا كلّه بحسب الكبرى، وأمّا الكلام بحسب الصغرى وتعيين قول مَن يجب امتثال حكمه - وهو الله سبحانه، ورسوله الأعظم، وأولو الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله - فنقول: لا يمكن مشافهة واجب الوجود عقلاً، ولا نزول الوحي إلى كلّ أحد قطعاً، بل ولا سبيل لنا إلى مواجهة المعصوم عليه‌السلام في هذه الأعصار ضرورةً، وعليه فينحصر تحصيل أقواله من الطرق التالية:

1 - الضرورة الدينية، وهي شهرة شيء بين المسلمين، رجالهم ونسائهم، خواصهم وعوامهم، بحيث يُفهم أنّ هذا الشيء ممّا قاله النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبالجملة ضروري الدين ما صار جزءً للدين، ولم يحتج إلى دليل بعد ثبوت أصل الدين، وهذا مثل وجوب الصلاة والصوم والزكاة وحقيقة المعاد ونحوها، وتلحق بها الضرورة المذهبية، فضروري المذهب ما أصبح جزءً لذلك المذهب، بحيث كان معلوماً لكل واحد من أهل ذلك المذهب، وهذا كوجوب الخمس على الأرباح وعصمة الأوصياء ونحوهما في مذهب الإمامية. وربّما سيأتي بعض أحكامها في بحوث المعاد إن شاء الله تعالى، وهذه الطريقة أقوم الطرق وأتقنها.

2 - التواتر: وقد دريت تفصيله.

3 - الخبر الواحد (أي غير المتواتر) المحفوف بالقرينة القطعية: وهذا في حكم التواتر لفرض إفادته اليقين بمدلوله.

4 - الإجماع: فإنّه طريق قويم إلى ما انعقد عليه من الشرعيات عند معظم المسلمين.

تفصيل وتحقيق

اختلف المسلمون في مناط حجّية الإجماع، أمّا الإمامية فلا يرون موضوعية لاتّفاق العلماء وإجماعهم على حكم من الأحكام، بل الملاك في اعتباره عندهم هو كشفه عن قول المعصوم أو رضائه، ثمّ اختلفوا في كيفية هذا الكشف، فالمنسوب إلى قدمائهم أنّ منشأ حجّية الإجماع هو دخول المعصوم في ضمن المجمعين، فإذا أجمع العلماء على شيء يُعلم أنّ المعصوم داخل فيهم وإن لم يُعرف شخصه بعينه، وأنت تعلم أنّ هذا أمر لا سبيل إلى إحرازه أصلاً.

ونُقل عن شيخ الطائفة رحمه‌الله أنّه اللطف، بمعنى أنّ العلماء إذا أجمعوا على حكم يجب أن يكون موافقاً لقول الإمام عليه‌السلام وإلاّ يجب عليه - لأجل قاعدة اللطف - الظهور أو إظهار مَن يبيّن الحق، فإذا لم يُحرز في المسألة المجمع عليها مخالفٌ يُستكشف منه رضى المعصوم عليه‌السلام به.

٢٦

وفي القوانين (1) ، والظاهر أنّ له - أي للشيخ الطوسي - موافقاً ممّن تقدّم وممّن تأخر في هذه الطريقة.

أقول: اللطف هنا ليس بمعنى التقريب إلى الطاعة والتبعيد عن المعصية، فإنّهما متأخران عن إثبات أصل التكليف، بل هو بمعنى بيان الأحكام كما يأتي شرحه في محلّه، لكن ستعرف أنّه لا دليل على وجوب اللطف على الله تعالى بكلا معنييه، وإن ادّعاه العدلية أو معظمهم، فهذا الإجماع المسمّى بالإجماع اللطفي يلحق بالإجماع الدخولي المتقدّم في الضعف، نعم هنا أخبار كثيرة (2) نقلها المحدّث الجليل المجلسي رحمه‌الله في بحار الأنوار (3) ، وهي تدل بظواهرها على مذهب هذا الشيخ الأعظم، ولا بأس بذكر واحد منها، وهو خبر أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال: (إنّ الأرض لا تبقى إلاّ ومنّا فيها مَن يعرف الحق، فإذا زاد الناس قال: قد زادوا، وإذا نقصوا منه قال: قد نقصوا، ولولا أنّ ذلك كذلك لم يُعرف الحق من الباطل). وحمل هذه الروايات على زمان الحضور بعيد جداً، ولكن مع ذلك لا يمكن الالتزام بمفادها كما لا يخفى، فلابدّ من توجيهها بوجه صحيح.

وممّا يرد على هذا القول أيضاً، أنّ مخالفة الإمام عليه‌السلام - على فرض خطأ العلماء - إن كانت مع تعريف شخصه الشريف فهذا ممّا لم يقع ولا يقع، وإن كانت بدونه فلا تفيد؛ إذ يحتمل أن يكون القول المخالف المذكور من غير الطائفة الحقّة فلا يعتنى به.

وربّما يقال: إنّ الظنون الحاصلة من فتاوى الفقهاء إذا تراكمت تتولّد منها صفة اليقين، كما يحصل القطع من الخبر المتواتر بعين هذا الملاك، لكنّه تقدّم اعتبار الحس في المتواتر، فالقياس في غير محله.

وأمّا ما قيل: من أنّ الإجماع يكشف عن حجّة معتبرة، بدليل أنّ عدالة المجمعين مانعة عن الفتوى بغير علم، فيردّه أنّه يكشف عن حجة معتبرة عندهم، لا عن حجّة لو وصلت إلينا لكانت معتبرةً عندنا؛ لاختصاص التعليل بالأَوّل دون الثاني.

وذهب المتأخّرون إلى أنّ اتّفاق العلماء المرؤوسين يكشف بطريق الحدس عن رأي رئيسهم، والظاهر أنّ هذا أقوى الطرق وأمتن التقارير، في كيفية كشف الإجماع عن رأي الإمام عليه‌السلام ، إلاّ أنّه لا يتم في عصر الغيبة وعدم تمكّن الإمام عليه‌السلام - ولو من جهة عدم إذن الله تعالى - من المباشرة مع المأمومين، لكن لا سبيل إلى إنكار هذا الوجه رأساً لاختلاف الأشخاص في

____________________

(1) القوانين 1 / 350.

(2) بل أدعى المحقّق القمي في قوانينه تواترها. لاحظ القوانين 1 / 350.

(3) لاحظ البحار: أَوائل المجلد السابع.

٢٧

حصول القطع لهم من ذلك، غير أنّ الدليل حينئذٍ لا يكون إلزامياً، ويعبّر عنه بالإجماع الحدسي.

هذا كلّه في الإجماع المحصّل، ومنه يُعرف حال الإجماع المنقول أيضاً.

وأمّا العامّة فهم يزعمون الموضوعية للإجماع، فهو حجّة عندهم بما هو إجماع، واستدلّوا عليه بوجوه:

منها: قوله تعالى: ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ) (1) . فإذا حرم اتّباع غير سبيل المؤمنين وجب متابعة سبيل المؤمنين، والإجماع هو سبيل المؤمنين.

وفيه: أَوّلاً: أنّه لا دليل على تخصيص المؤمنين بأهلّ الحل والعقد منهم.

وثانياً: عدم استفادة حرمة اتّباع غير المؤمنين بحياله وانفراده من الآية الكريمة، بل الظاهر منها أنّ اتّباع غير سبيل المؤمنين هو نفس مشاقّة الرسول، ومعنى الآية: ومَن يخالف الرسول في ما جاء به من الشريعة بعد إتمام الحجية عليه، نولِّه ما تولّى، وأين هذا من الإجماع؟ وإن شئت فقل: إنّ مخالفة الرسول من حيث هو رسول وبضميمة قوله تعالى: ( مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ) ليست إلاّ عدم امتثال الأحكام الشرعية، وهل سبيل المؤمنين إلاّ الشريعة فإذن نقول: إنّ ما أجمع عليه العلماء إن ثبت كونه من الشرع، فوجب متابعته من حيث إنّه ثابت في الكتاب والسُنة وإلاّ فلا، ولا دلالة للآية على لزوم اتّباع ما أجمع عليه عِدّة من العلماء. فاستدلال الشافعي بهذه الآية على حجّية الإجماع فاسد كما دريت، على أنّ فيه إشكالاً آخر كما ذكره الرازي في تفسيره فلاحظ.

ومنها: قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) (2) قالوا: وسط كل شيء خياره وعدله، فمَن عدَّله الله يكون معصوماً، فإجماعهم حجّة، وللرازي في تفسيره كلام طويل حول الآية.

أقول: الأُمّة المذكورة في الآية الشريفة يراد بها إمّا مجموع أفرادها من أَوّلها إلى يوم القيامة، أو كل واحد منها على نحو الانحلال، أو المخاطبون الحاضرون في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين نزول الآية، أو أهل كلّ زمان، ولا خامس في البين.

أمّا الاحتمال الأَوّل فلا يُثبت اعتبار الإجماع المذكور أصلاً؛ إذ لا يعقل إجماع جميع الأُمّة إلاّ في القيامة. لا يقال: جعلهم الله وسطاً لأجل الشهادة المبقية على هذا الاحتمال، فإنّه يقال: بحملها على الشهادة في القيامة لا في الدنيا، وقد ذهب إليه كثير من العامة كما يظهر

____________________

(1) النساء 4 / 115.

(2) البقرة 2 / 143.

٢٨

من تفسير الرازي:

وأمّا الاحتمال الثاني فبطلانه حسي، فإنّ المعاصي الواقعة من المسلمين غير خافية على أحد.

وأمّا الثالث فبطلانه اتّفاقي؛ إذ لم يخصّص أحد حجّية الإجماع بهؤلاء الحاضرين فقط. وأمّا الرابع فهو خارج عن قانون المحاورة وطاقة الدلالة.

هذا مع أنّ قول العادل إنّما ينهض حجة في الحسيات، وأمّا في الحدسيات فلا، بل لابدّ له من دليل خاص، فافهم.

ومنها: قوله تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (1) يدل بمفهومه على عدم وجوب الرد مع الاتّفاق.

أقول: ظاهر الآية أنّ الخطاب انحلالي، فمعنى الآية حينئذٍ: أنّ كل جماعة منكم - أقلّها اثنان - إذا تنازعتم في شيء... إلخ، فيكون مفهومه بناءً على ما تخيّلوه إذا لم يتنازع الخصمان - ولو كانا جاهلين - لم يجب الرد إلى الله ورسوله، بل مجرّد تركهما النزاع يكفي لنفوذ ما تصالحا عليه، وهذا قطعي الفساد. فإذن، لابدّ أن يكون عدم التنازع في مفروض الآية، مستنداً إلى دليل شرعي من كتاب أو سُنة، يعني إن جهلتم حكم شيء متنازع فيه فردوه إلى الله ورسوله وإن علمتموه فلا، وهذا لا ربط له بالإجماع كما هو ظاهر.

وأمّا الرازي فهو استدلّ على حجّية الإجماع بأَوّل هذه الآية، وهو قوله تعالى: ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (2) بحسبان أنّ أُولي الأمر هم أهل الحل والعقد دون الأئمة المعصومين، وقد أفرط في تقريره وتطويله، وكلامه بتمامه خبط وغلط، فلا يليق أن نطوّل المقام بإيراده وإبطاله، وببالي تأليف تعليقة مستقلّة على تفسيره، والتوفيق من الله المنّان. ومنها: الأخبار المنسوبة إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل: (لا تجتمع أمّتي على الخطأ. ولم يكن الله ليجمع أُمّتي على الخطأ. وكونوا مع الجماعة. ويد الله مع الجماعة)، بل ادّعي تواترها معنىً لكن الحاجبي والعضدي أنكرا التواتر في محكي كلامهما.

والجواب أنّها غير ثابتة من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو صحّت لَما دلّت على مرادهم، فإنّ الأَوّلين يعتبران اتّفاق جميع الأُمّة قاطبةً دون علمائهم، ولعلّ ما ورد في بعض رواياتنا من التمسّك بإجماع الأُمّة ينظر إلى ذلك (3) ، والأخيرين يحثّان على الاتّفاق المقابل للتفرقة، فتحصّل أنّ الإجماع ليس بدليل معتبر شرعاً، وما ذكره الخاصّة والعامة في وجهه غير تام، إلاّ إذا

____________________

(1) و (2) النساء 4 / 59.

(3) لاحظ أُصول الكافي 1 / 96، وبحار الأنوار 5 / 20 ويحتمل في بعضها إلزام الخصم.

٢٩

حصل اليقين منه من جهة الحدس.

تتمة

هل الخبر الواحد الجامع لشروط الحجية - المقرّرة في أُصول الفقه - يصح التعويل عليه في علم الكلام أم لا؟

فيه خلاف وكلام، والأكثر على الثاني بل عن ظاهر بعضهم نفي الخلاف فيه، والأظهر هو الأَوّل، فإنّ عمدة ما دلّ على حجية الخبر الواحد المذكور، هي السيرة العقلائية والأخبار المتواترة معنىً، وهما غير مختصتان بالفروع، فإنّ العقلاء كما يقبلون خبر الثقة في الأُمور العملية، كذلك يقبلونه في الأُمور الاعتقادية بلا شك، والأخبار المتواترة أيضاً غير مقيّدة، وما قيل في وجه التقييد غير متين، والتفصيل لا يناسب المقام (1) .

نعم تتوقّف حجيّته على أُمور:

1 - أن لا تكون المسألة ممّا يتوقّف عليه أصل الشرع وإلاّ لدار.

2 - أن لا يكون للعقل إلى مضمونه سبيل وإلاّ فلا موضوع للتعبّد به.

3 - أن لا تكون المسألة ممّا اعتبر العلم الوجداني في جواز الاعتقاد به شرعاً.

وفي الواقع التعويل على مستند هذا الخبر، وهو السُنة المدّعى تواترها والسيرة العقلائية القطعية، فليس هذا من العمل بالظن.

البحث الرابع: عمّا ينبغي أن يُجعل خاتمة لهذه الفائدة، وفاتحة لِما يأتي بعدها من المطالب.

فنقول: الصناعات الخمس ليست بأسرها مبادئ للبرهان القطعي والدليل العلمي، بل المبدأ له الضروريات منها وحدها، وإذن، لابدّ من رعاية تمييزها عن غيرها؛ لينتظم أمر الاستفاضة والإفادة في صقع تحصيل الحقائق والمعارف، لكن العلوم الموجودة التي ينالها فكر الإنسان لا تقدر على بيان هذا الميزان، فإنّ المنطق إنّما يفسّر مفهوم مواد الأقيسة، ويشرح أحكامها، ولا سلطان له على تشخيص المصداق وتعيين الأفراد؛ ضرورة أنّ انطباق مفاهيم المواد على مصاديقها ليس أمراً واضحاً، لا يمسّه الالتباس كما هو كذلك في الصور؛ ولذا لا يقع الاختلاف في أنّ القياس الفلاني من الشكل الأَوّل أو الثاني.

فإذن، لا مميّز بين الأقيسة وأنّ أيّاً منها برهاني، وأيّاً منها مشهوري وهكذا، ومن هنا ترى أحداً يدّعي أنّ هذا القياس برهاني، وهو شعري، والآخر يقول: إنّه خطابي، وهو برهاني وهكذا.

____________________

(1) لاحظ الأمر الخامس من الأُمور المذكورة في خاتمة مسألة الانسداد من كتاب الرسائل للشيخ الأنصاري رحمه‌الله .

٣٠

فمَن يطلب الحقّ، ولا يريد الضلالة والمِراء والعزّة، فلابدّ له من تصفية قلبه من الكدورات الخُلقية والعصبية الطائفية، وتطهير ذهنه عمّا مضى عليه مشايخه وآباؤه، فإنّ (الحقّ لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله)، فإذا أصلح سرّه وبنى تصحيح اعتقاده على الواقع - لا تطبيق الواقع على معتقده - فقد اهتدى إلى صراط الحق ومنهاج الصدق، قال الله تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (1) وأمّا إذا انحرف عن سبيل الإنصاف إلى حضيض الاعتساف، وتهيّأ للنقض والإبرام، وقول الهذر وحشو الكلام، فإياك والقرب منه، فإنّه من الذين قال الله تعالى في حقهم: ( لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ) (2) .

____________________

(1) العنكبوت 29 / 69.

(2) الأعراف 7 / 179.

٣١

الفائدة الرابعة

في وجوب النظر (1)

الكلام تارةً في أصل وجوب النظر، وأُخرى في أنّ الوجوب المذكور - على تقدير ثبوته - عقلي أو شرعي، لكن البحث في الأَوّل يغني عن الثاني فنقول:

والصحيح أنّه لا دليل على وجوب النظر في وجود واجب الوجود بما هو واجب، أو خالق أو غير ذلك من الحيثيات؛ إذ لا حكم للعقل بذلك، ولا سبيل للشرع وتعبّده إليه بلا شك.

وإنّما يجب ذلك من جهة وجوب دفع الضرر، فإنّ العاقل حينما يقرع سمعه قول أُناس - قليلين أو كثيرين - بعقاب أُخروي وعذاب دائمي لمَن أنكر المبدأ أو لم يعرفه ولم يعتقد به - وهذا النداء كان مسموعاً منذ صبيحة حياة البشر، وسيبقى قارعاً إلى غروب وجوده - يحتمل صدقه وكذبه قهراً، ولا سبيل له إلى تصديق أحد الطريفين قبل النظر.

فإذن، يتولّد احتمال الضرر المذكور في ذهنه، ويحصل له الخوف من احتمال صدق هذا القول، ولا طريق لدفعه غير النظر، فيجب لوجوب دفع الضرر فطرةً ولو كان محتملاً؛ وذلك لأنّ الإنسان - بل وكذا الحيوان وكل حسّاس - مجبول على حبّ ذاته، وينشأ من هذا الحب لزوم جلب المنافع ودفع المضار، وهذا الإلزام ليس من قِبل العقل، بل هو أمر فطري كما تدلّك عليه مشاهدة حال المجانين والصبيان والحيوانات، فإنّها تدفع الضرر عن نفسها، وتميل إلى منافعها وما هو يلائم أنفسها.

وإذا أعمل نظره وتفحّص عن الواقع، فقد أَمن من الضرر المذكور قطعاً، وتستريح نفسه من الخوف جزماً، فإنّه إن أدّى إلى الحقّ فقد فاز فوزاً عظيماً، وإن انجرّ إلى خلافه فهو مأمون

____________________

(1) قال الشيخ المفيد قدّس سره في أوائل المقالات: اتّفقت الإمامية على أنّ العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع، وأنّه غير منفك عن سمع ينبّه الغافل عن كيفية الاستدلال، وأنّه لابدّ في أَوّل التكليف وابتدائه في العالم من رسول، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أنّ العقول تعمل بمجرّدها من السمع والتوقيف، إلاّ أنّ البغداديين من المعتزلة خاصّةً يوجبون الرسالة في أَوّل التكليف.

أقول: هذا الذي نقل اتّفاق الإمامية عليه، هو عين ما اخترناه في هذه الفائدة، وإنّما ذكرناه؛ لئلا يظن تفرّدنا بالموضوع.

٣٢

معذور: أمّا في الدنيا؛ فلاعتقاده ببطلان احتمال العقاب والحساب، وأمّا في الآخرة؛ فلأنّ عقابه بلا بيان ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ للعَبِيدِ ) (1) .

وبالجملة: إذا كانت جهالته مستندةً إلى قصوره - كما هو المفروض - لا معنى لاستحقاقه العقاب المختصّ بالعامّة والمقصّر، كما إذا لم يتفحّص مع قدرته عليه، وإنكار القاصر في المقام - كما عن جمهور المتكلّمين - ضعيف سنستوفي بحثه إن شاء الله.

وهذا الذي ذكرنا ممّا لا ريب فيه، قلنا بالتحسين والقبيح العقليين أم لم نقل؛ إذ الوجوب المذكور ليس بحكم عقلي بل هو فطري (2) . لا يقال: كيف والعقلاء كثيراً ما يقدمون على ارتكاب الضرر لبعض الأغراض. فإنّه يقال: نعم، لكن إذا كان الضرر قليلاً، وأمّا إذا كان كثيراً فلا ولو كان محتملاً، وهل يمكن لعاقل أن يختار عذاباً دائمياً وعقاباً أبدياً؟ كلا.

وأمّا الوجوب الشرعي فلا مسرح له؛ إذ لا شرع في حق الجاهل إثباتاً حتى ينفذ الحكم في حقّه. وبالجملة حجية الخطاب موقوفة على اعتراف المخاطب بآمرية المتكلم، وهي غير حاصلة في المورد، وأمّا ما ورد في القرآن العزيز في ذلك، فهو إرشادي لا مولوي وسيأتي الفرق بينهما.

نقل ونقد

الذائع في كلام المتكلّمين وجوب معرفة الله سبحانه، بل ادّعى الجرجاني إجماع الأُمّة عليه في شرح المواقف (3) ، ولكنّهم اختلفوا في طريقه، فالإمامية والمعتزلة على أنّه العقل، والأشاعرة على أنّه الشرع. استدلّ الأَوّلون على قولهم بوجهين:

الأَوّل: إنّ المعرفة دافعة للخوف كما تقدّم، ودفع الخوف واجب، فتجب المعرفة أيضاً من باب المقدمة. ويردُّه ما بيّناه من أنّ دفع الخوف يحصل بالنظر، سواء أدى إلى المعرفة أم إلى الجهالة.

الثاني: إنّ شكر المنعم واجب عقلاً؛ لاستحقاق تاركه الذم عند العقلاء، بل قيل (4) ، إنّ

____________________

(1) فصلت 41 / 46.

(2) وربّما جعله بعضهم دليلاً على إثبات الصانع وقال ما محصّله: إنّ المؤمن بالله مأمون سواء وافق اعتقاده الواقع أم لا، وهذا بخلاف المنكر فإنّه على خطر عظيم.

أقول: وهذا منه شيء عجيب، نعم هذا المضمون مذكور في بعض رواياتنا، لكن المراد به ما ذكرنا، لاحظ أُصول الكافي 1 / 78.

(3) شرح المواقف 1 / 156.

(4) شرح التجريد للعلاّمة / 258.

٣٣

العقلاء بأسرهم يجزمون بوجوب شكر المنعم، وقيل (1) : إنّه متفق عليه بين الإمامية والمعتزلة، بل ادّعى بعضهم (2) الوجدان والفطرة الذاتية وضرورة جميع أهل الأديان والملل على وجوبه.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى أنّ كل عاقل يدرك أنّ ما به من النعم ليس منه ولا من مثله، بل هو من منعم غيره، فيجب معرفته حتى يتمكّن من شكره، وحيث إنّ المعرفة نظرية لا تحصل إلاّ بالنظر فوجب النظر والفحص، فإنّ مقدمة الواجب واجبة.

أقول: إنْ كان وجوب الشكر لاحتمال زوال النعم بتركه، ففيه منع هذا الاحتمال إلاّ شذوذاً، فإنّ الناظر يرى الكفّار والملحدين متنعّمين بالعافية والسعة، فكيف ينقدح الاحتمال المذكور في ذهنه؟ وعلى تقدير احتماله فلا نسلّم استحقاقه العقاب الأُخروي بتركه النظر والفحص؛ لعدم إتمام حجّة عليه في ذلك، ضرورة أنّ ما نبّهه عقله بترك الشكر هو زوال النعم الظاهرية فقط، فافهم جيداً.

وإن كان وجوبه لنفسه ولذاته، بحيث كان تركه قبيحاً في نفسه، ففيه:

أَوّلاً: ما ذكرناه من عدم استلزام استحقاق الذم استحقاق العقاب، فإنّ الأَوّل لا ينهض حجّةً على الثاني مع أنّه العمدة في المقام، فتأمّل.

وثانياً: إنّ وجوب شكر المنعم لا يستلزم وجوب المعرفة؛ لكفاية التخضّع قلباً للمنعم وإن كان مجهولاً بأوصافه، فيسقط الدليل.

وثالثاً: ما أفاده بعض الأعيان من أهل التدقيق (3) بقوله: ثمّ إنّ أصل وجوب الشكر عقلاً بحيث يستحق العقاب على تركه، لا يثبت إلاّ بإدخاله تحت قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، ومن البيّن عند التأمل أنّ شكر المنعم علماً وحالاً وعملاً (4) - وإن كان تعظيماً للمنعم وإحساناً إليه - إلاّ أنّه لا يثبت به إلاّ مجرّد الحسن واستحقاق المدح على فعله بمراتبه، وليس ترك كل إحسان ولا ترك الإحسان إلى المحسن ظلماً عليه، نعم الإساءة خصوصاً إلى المحسن ظلم، فيشتدّ قبحه بالإضافة إلى المحسن إليه، فالجهل بالمنعم، أو عدم التخضّع له قلباً، أو عدم القيام خارجاً بوظائف المجازاة بالإحسان، ليس إلاّ ترك ما حسن بذاته؛ إذ ليس من هذه الحيثية عقلاً فرق بين منعم ومنعم، والأمر في غيره تعالى كذلك، ففيه أيضاً من هذه الحيثية على ما مرّ، مضافاً إلى أنّ الاستناد في تحصيل المعرفة إلى وجوب شكر المنعم عقلاً، إنّما يجدي بعد الفراغ عن

____________________

(1) منهاج البراعة للخوئي 2 / 274.

(2) كفاية الموحّدين 1 / 7.

(3) نهاية الدراية في شرح الكفاية 2 / 155.

(4) يريد بالأَوّل معرفة المنعم، وبالثاني تخضّع القلب له، وبالثالث صرف النعمة لِما خلقت لأجله، كما صرّح به نفسه.

٣٤

انتهاء النعمة إلى مبدأ موجود؛ ليتحقّق موضوع شكر المنعم، ليجب عقلاً، فهو إنّما في معرفته من حيث كيفية وجوده وصفاته لا في التصديق بوجوده. انتهى كلامه.

أقول: ويمكن أن يناقش في الوجه الأوّل بأنّ شكر المنعم بالأنعام الجزيلة الكثيرة واجب، وتركه قبيح عند العقلاء كما هو واضح، لكن الوجه الثاني متين، وبالجملة: وجوب الشكر إنّما يتمّ إذا كان المنعم قابلاً للشكر، أي كان شاعراً حسّاساً وإلاّ فلا معنى له، فلابدّ أَوّلاً من تشخيص أنّ المنعم مَن هو، فيكون مفاد الدليل هو لزوم النظر دون المعرفة، فتفطّن.

واستدلّ الأشاعرة (1) على وجوب المعرفة بإجماع الأُمّة، وحيث إنّها لا تتيسّر من دون النظر والاستدلال فهو أيضاً واجب شرعاً، فإنّ الخطاب الشرعي وإن كان متعلّقاً بالمسبّب إلاّ أنّه لابدّ من توجيهه إلى السبب.

وربّما استدل بعضهم على وجوب النظر والمعرفة ببعض الآيات كقوله تعالى: ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) ، وقوله: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ) (3)، وأورد عليه بعضهم بأنّها تفيد الظن ولا اعتداد به، فالعمدة هو الإجماع.

أقول: لو سلّم حجّية الإجماع فهي أيضاً ظنّية، فإنّها استنبطت من ظواهر الآيات والروايات، وأمّا ما تفوّه به بعضهم (4) من دعوى الضرورة الدينية على اعتباره، فهو إفراط واختلاق.

ويرد على الاستدلال أيضاً أنّ المسبّب وإن كان غير مقدور بلا إيجاد سببه، إلاّ أنّه لا وجه لصرف التكليف المتعلّق به إلى سببه؛ ضرورة أنّ المقدور بالواسطة مقدور والسبب يجب من باب المقدمة عقلاً، ثمّ إنّ في هذا البيان تناقضاً واضحاً، حيث يدعون أَوّلاً وجوب المعرفة ثمّ يقولون بصرف الأمر إلى النظر؛ لأنّه المقدور فتكون المعرفة غير واجبة.

وعلى الجملة: الوجوب الشرعي - سواء تعلّق بالنظر أو المعرفة - غير معقول فإنّه متأخّر عن التصديق بنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المتأخرة عن التصديق بصفاته تعالى، المتأخّرة عن معرفة أصل وجوده، فما لم تثبت آمرية المتكلّم لا حجّية لأمره، فكيف يعقل الوجوب الشرعي في حق الجاهل بالله تعالى؟.

وملخّص الكلام: أنّه لا اعتبار بقول المجهول، ولا موضوع لوجوب معرفة المعلوم؛ لأنّها من

____________________

(1) المواقف وشرحها 1 / 157 وهكذا في غيرهما.

(2) يونس 10 / 101.

(3) محمّد 47 / 19.

(4) وهو الأيجي في شرح المواقف 1 / 159.

٣٥

تحصيل الحاصل الممتنع (1) ، ومنه ينقدح أنّ ما توهّمه جمع من الأشعريين (2) من عدم بطلان تكليف الجاهل، بدعوى أنّ شرط التكليف فهمه لا التصديق به، فإنّ الغافل مَن لا يفهم الخطاب، أو لم يقل له: إنّك مكلّف، لا مَن لا يعلم أنّه مكلّف. فهو غفلة عن الواضحات كما عرفت.

ثمّ إنّه يلزمهم إفحام الأنبياء عليهم‌السلام ؛ إذ لا وجوب قبل المعرفة كما عرفت، ولا معرفة إلاّ بعد النظر، فلو قال المكلّف: لا أنظر حتى أعرف، لَما كان للنبي عليه سلطان، فبهذه الطريقة الأشعرية يمكن فرار الناس من الديانة الإسلامية.

وبالجملة: مفاسد هذا القول كثيرة.

وأمّا الاستشهاد بقوله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3) على الوجوب الشرعي، بدعوى أنّ نفي العذاب قبل البعثة يكشف عن نفي الوجوب، فهو ضعيف، فإنّ الكاشف عنه نفى استحقاق العذاب دون نفي فعليته ووقوعه كما في الآية الكريمة، نعم مَن أنكر العفو والشفاعة، وجعل العذاب من لوازم المعصية، كان الاستدلال عليه متّجهاً من باب الجدل. هذا مع أنّه - على تقدير صحّته - لا ينفي الوجوب الفطري المتقدم؛ لأنّ الشاك لا يرى حجّيةً لهذه الشهادة، فافهم.

والصحيح أنّ ظاهر الآية هو الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع على الأُمم السالفة، دون العقاب الأُخروي كما يدل عليه ما بعد الآية: قال الله تعالى: ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا... فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ... ) الآيات (4) فالآية الكريمة أجنبية عن محلّ الكلام بالكلية.

تعقيب وتكميل

قضية الأدلة المتقدمة هي وجوب المعرفة، لأجل دفع الضرر، أو وقوع الشكر على ما يناسب حال المشكور المنعم، فهو وجوب غيري ليس بنفسي، وأمّا الوجوب الشرعي فقد دريت تعلّقه بالنظر دون المعرفة، كما صرّح به قائله، نعم هنا وجهان آخران يدلاّن على أنّ المعرفة واجبة وجوباً نفسياً:

الأَوّل: ما أفاده الأُصولي الشهير المحقّق الهروي في كفاية الأُصول قال: (نعم يجب

____________________

(1) وأمّا ما ذكره في القوانين 2 / 170 من لوم الدور من قولهم ففيه نظر فلاحظ.

(2) لاحظ شرح المواقف 1 / 158، وكلام ابن روزبهان في إحقاق الحق 1 / 161، وغيرهما.

(3) الإسراء 17 / 15.

(4) الإسراء 17 / 15، 16، 17.

٣٦

تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن، من باب وجوب المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب وصفاته أداءً لشكر بعض نعمائه) (1) . فقد جعل المعرفة نفسها شكراً له.

وأورد عليه بعض الأعيان من تلاميذه: (من أنّ هذه المعرفة ليست مصداقاً للشكر، بل ما هو مصداقه معرفة المنعم بما هو منعم لا بذاته؛ لأنّ الحيثية التعليلية - وهي النعمة لوجوب الشكر - حيثية تقييدية له، كما في جميع الأحكام العقلية، فلا تجب معرفة الذات لإنعامه نفساً، بل مرجعه إلى معرفة (هكذا) وجوب معرفة الذات مقدمة لمعرفته بالمنعمية، مع أنّ المقصود إثبات وجوب المعرفة نفسها) (2) .

أقول: أمّا ما ذكره في الكفاية فقد عرفت ما فيه، وأمّا ما ذكره هذا المحقّق، من إرجاع الحيثيات التعليلية إلى الجهات التقييدية في هذا المقام وغيره ففيه كلام؛ لإمكان رجوع الأُولى إلى الواسطة في الثبوت، والثانية إلى الواسطة في العروض.

الثاني:ما أفاده هذا المحقّق المذكور. قال:(لنا طريق برهاني إلى وجوب تحصيل معرفته تعالى، وهو أنّ كلّ عاقل بالفطرة السليمة يعلم أنّه ممكن حادث معلول، لم يكن مثله في الإمكان والحدوث...) (3) .

ومن البيّن بعد التصديق بوجود المبدأ، أنّ النفس في حدّ ذاتها قوّة محضة على إدراك المعقولات التي هي كمالها، وأشرف الكمالات النفسانية معرفة المبدأ بذاته وصفاته وأفعاله بالمقدار الممكن، فإنّ شرف كل علم وعقل بشرف معلومه ومعقوله، وأفضل موجود وأكمله وجود المبدأ، فمعرفة المبدأ أشرف كمال وفضيلة للنفس، وبها نورانيتها، وبها حياتها، كما أنّه بعدم المعرفة أو بما يضادها ظلمانيتها وموتها... إلخ، ولعلّ ما أفاده بعض الأفاضل (4) راجع إلى هذا المعنى، بل يمكن نسبة ذلك إلى جميع الفلاسفة أيضاً، كما يظهر من القوانين (5) أيضاً، لكنّه مع اختصاصه ببعض آحاد الناس وعدم جريانه في حقّ أغلب أفراد النوع، لا يثبت الوجوب المستتبع مخالفته استحقاق العقاب كما لا يخفى، مع أنّه المقصود لا غيره، إلاّ أن يتشبّث بحديث تجسّم الأعمال المزيّف عندنا، على نحو سيمرّ بك في المقصد الخامس إن شاء الله.

فالمتحصّل: أنّ المعرفة لم يثبت وجوبها النفسي بشيء من هذه الوجوه، والصحيح أن يقال: إنّ المعرفة واجبة شرعاً بالضرورة الدينية، وهل الغرض الأهم من إرسال الرسل وإنزال الكتب

____________________

(1) كفاية الأُصول 2 / 154.

(2) نهاية الدراية 2 / 155.

(3) نهاية الدراية 2 / 158.

(4) الدين والإسلام 1 / 28.

(5) القوانين 2 / 168.

٣٧

إلاّ ذلك؟ كيف ولولا وجوب المعرفة شرعاً لَما وجب النظر فطرةً، فإنّه نشأ من احتمال ترتّب العقاب على تركها، فلو كانت غير واجبة لم يطلبها النبي من الناس، فلم يتحقّق موضوع لزوم وجوب النظر وهو دفع الضرر، فإنّ ترك المعرفة إذن لا يستتبع عقاباً وعذاباً، فلم تحكم الفطرة بشيء.

ولعلّك تقول: إنّك قلت سابقاً بامتناع وجوب المعرفة شرعاً، فكيف تختاره هنا؟

لكنّنا نقول: الممتنع هو الوجوب الذي له داعوية نحو متعلّقه وباعثية إلى المطلوب، بلا توسّط حكم الفطرة بوجوب دفع الضرر، كما يزعمه الأشاعرة، وأمّا الوجوب الذي يتوسّطه الحكم المذكور فلا بأس به. بيان ذلك: أنّ الله تعالى أوجب المعرفة على المكلّفين ثبوتاً، فأمر نبيه بإبلاغها إلى الناس، والنبي يحذّر الناس بتركها ويهدّدهم عليه، والإبلاغ المذكور وإن لم يكن بحجّة على الناس أصلاً كما دريت، إلاّ أنّه يولّد احتمال الضرر في ذهنهم لإمكان صدقه، فتحكم الفطرة بدفع الضرر المذكور، ولا مدفع له إلاّ النظر فيكون واجباً.

ويتلخّص هذا البحث إلى أنّ المعرفة إن لم تكن واجبةً لا يبقى موضوع للحكم الفطري المذكور، فالوجوب الشرعي ليس بلغوٍ، وإنّ هذا الحكم الفطري إن لم يتوسّط ولم ينجِّز وجوب النظر، لم يثبت الوجوب الشرعي كما دريت، فلابدّ من اجتماعهما حتى يتمّ المقصود.

ثمّ إنّ الناظر إن أصاب فهو وإلاّ فهو معذور، لكن الحكم الشرعي بحاله لبطلان التصويب كما يأتي في محله إن شاء الله. هذا ما عندنا في هذا المقام، والله ولي الاعتصام.

تطبيق

قال الباقر عليه‌السلام - على ما في رواية زرارة -: (ليس على الناس أن يعلموا حتى يكون الله هو المعلّم لهم، فإذا أعلمهم (علّمهم) فعليهم أن يعلموا) (1) .

أقول: انطباقه على مسلكنا واضح، فإنّ وجوب النظر وإن كان فطرياً لكن تحقّق موضوعه موقوف على إعلام الله سبحانه؛ ضرورة أنّ العقل لا يحتمل الضرر بترك المعرفة ابتداءً.

وفي رواية عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أصلحك الله هل جعل في الناس أداةً ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال: (لا. قلت: فهل كُلّفوا المعرفة؟ قال: لا، على الله البيان ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) (2) ...) (3) .

أقول: أمّا صدر الرواية ففي معناه أخبار أُخر، وسيأتي بحثها - وهو بحث معضل - في

____________________

(1) بحار الأنوار 5 / 222.

(2) البقرة 2 / 286.

(3) أُصول الكافي 1 / 163.

٣٨

المقصد الخامس إن شاء الله، وأمّا قوله عليه‌السلام بنفي التكليف بالمعرفة فلعلّ المراد به، هو التكليف الابتدائي العقلي على نحو ما تقول به العدلية، فالرواية منطبقة على ما قرّرنا.

وقال الصادق عليه‌السلام - كما في رواية بريد بن معاوية -: (ليس له على خَلقه أن يعرفوا، وللخَلق على الله أن يعرّفهم، ولله على الخلق - إذا عرّفهم - أن يقبلوا) (1) .

أقول: موافقته لِما ذهبنا إليه واضحة، فافهم واغتنم، ولله الحمد.

____________________

(1) أُصول الكافي 1 / 164.

٣٩

الفائدة الخامسة

في جواز التقليد

الصورة الحاصلة في الذهن إمّا أن تتأثر بها النفس من قبض أو بسط - وإن كان خلافاها ثابتاً لدى العقل - أو لا، والأَوّل يسمّى تخييلاً، وعلى الثاني فإمّا أن تكون نسبتها متساوية الطرفين بحيث لا يرجّح أحدهما على الآخر، فتسمّى شكّاً، وإمّا أن لا تكون متساويةً، فإن لم يحصل القطع بأحد طرفيها تسمّى وهماً إن كان الطرف مرجوحاً، وظناً إن كان راجحاً؛ وإن حصل القطع بأحد طرفيها فإن كان عدمها فهي كذب، وإن كان وجودها فهي جزم، فإن طابق الواقع فهو يقين إن لم يقبل التشكيك، واعتقاد وتقليد إن قبله؛ وإن لم يطابق الواقع فهو جهل مركب.

إذا تقرّر هذا فنقول: المقدار اللازم في الاعتقاد بالمعارف هو الجزم؛ إذ به يرتفع احتمال الضرر، فلا يبقى حكم الفطرة بلزوم الفحص والنظر أبداً، فإذا جزم بطرف فهو في مقام أمين طابق الواقع أم أخطأه قبل التشكيك أم لا؛ ضرورة أنّ موافقة الواقع ليست أمراً اختيارياً، فاشتراطها - مع عدم الدليل عليه - هدم للقواعد المقرّرة عند العدلية.

وليس الطلب يستلزم الوصول في كلّ مورد، فإذا خالف الواقع قصوراً لا شيء عليه أبداً، وسيأتي مزيد إيضاح للمقام، كما أنّ احتمال اعتبار نفي قبول التشكيك موهون بعدم الدليل عليه، بل الدليل على خلافه كما يظهر ممّا مرّ.

وأمّا الاكتفاء بالظن مطلقاً، كما حكي (1) عن المحقّق الطوسي، والمقدّس الأردبيلي، وصاحب المدارك، والشيخ البهائي، والعلاّمة المجلسي، والمحدّث الكاشاني، وغيرهم قدّس الله أسرارهم، أو بالظن الناشئ من النظر والاستدلال كما نُسب إلى بعض، أو من الأخبار الآحاد كما نقل عن غَفَلة أصحاب الحديث، أو من التقليد مع كون النظر واجباً مستقلاً لكن تركه معفو عنه، فهو ممّا نطق الدليل المتقدّم على خلافه كما دريت.

فالمتحصّل: أنّ القولين المتقدّمين - اعتبار اليقين المصطلح، وكفاية الظن ولو مع التمكّن من تحصيل الجزم - في طرفي الإفراط والتفريط، وخير الأُمور أوساطها.

____________________

(1) القوانين 2 / 175، ورسائل الشيخ الأعظم الأنصاري 2 / 302.

٤٠