صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 114354
تحميل: 4710

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114354 / تحميل: 4710
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهنا خلاف آخر بينهم وهو جواز التقليد - أي قبول قول الغير بلا دليل - في أُصول الدين وعدمه، فالمشهور المعروف من مذهب أصحابنا هو الثاني، وذهب جماعة منهم المحقّق الطوسي إلى الجواز، وذهب طائفة إلى حرمة النظر (1) ، وفصّل سيّدنا الأُستاذ الحكيم - دام ظله - فجعل الأظهر القول الأَوّل مع خوف الضلال بدون النظر، والثالث مع خوفه به، والثاني على تقدير الأمن من النظر وعدمه (2) ، ولكنّه ليس مخالفاً للقول الآتي كما لا يخفى، لكن تنجّز هذا الحكم موقوف على التفات المكلّف إليه، فافهم.

وذهب صاحب القوانين والشيخ العلاّمة الأنصاري (3) - رحمهما الله - إلى كفاية حصول الجزم وإن كان من التقليد.

أقول: القائل بجواز التقليد إن أراد كفاية التقليد مطلقاً وإن لم يكن مفيداً للجزم فهو مقطوع الفساد عقلاً؛ لعدم زوال الخوف بمجرّد متابعة الغير والبناء على قوله، وشرعاً؛ لعدم صدق العلم عليه وعدم كون المقلّد عالماً بمجرّد تقليده، مع اعتباره في صحّة الإيمان كما ينطق به القرآن العزيز.

إلاّ أن يقال: إنّ هذا الكلام يتمّ في ما يتوقّف عليه الدين لا في غيره من المعارف، فإنّ ما دلّ على اعتبار التقليد في الفروع يشمل الأُصول أيضاً، فيكون الظن الحاصل منه أو البناء على ما يقول المقلَّد - بالفتح - علماً ومعرفة تعبّداً وتنزيلاً، فلا ينافيه العمومات النقلية الدالة على عدم اعتبار الظن ولزوم تحصيل العلم؛ ولذا ذكر سيدنا الأُستاذ الحكيم (4) - دام ظله - أنّ العمدة في منع التقليد في أمثال هذه المعارف هو الإجماع المستفيض النقل.

قلت: استناد الإجماع المذكور إلى الوجوه الآتية إن لم يكن معلوماً فلا أقل من كونه محتملاً، فهو ليس بإجماع تعبدي معتبر، وجواز التقليد في حقّ مَن يتمكّن من تحصيل الجزم، يَشكل استفادته من أدلة جواز التقليد الشرعية كما قرّرناه في محلّه، هذا مع أنّ المراد بالمقلَّد - بالفتح - هنا ليس هو المجتهد الجامع للشرائط المذكورة في الفقه؛ حتى يشمله الأدلة الدالة على حجّية التقليد في الفرع، بل كل مَن كان ثقةً وفائقاً بزعم المكلّف، وإن كان جاهلاً في الواقع، فيشمل الخطباء الواعظين والأبوين والمعلّم ونحوهم، كما يظهر من المحقّق القمي قدّس سره أيضاً، نعم مثل هذا التقليد لا يتيسر للمتفطنين الملتفتين إلى احتمال خطأ المقلّد المذكور؛ إذ لا يحصل لهم

____________________

(1) القوانين 2 / 167.

(2) مستمسك العروة (الطبعة الأُولى) 1 / 51.

(3) رسائل الشيخ 1 / 312.

(4) المستمسك 1 / 51.

٤١

الجزم كما يحصل للبسطاء.

فتحصّل أنّ إطلاقات أدلة التقليد إنّما تنتج جواز التقليد فيما إذا كان المورد قابلاً للتعبّد، وكان المقلّد - بالفتح - جامعاً للشرائط المقرّرة في علم الفقه، فتأمل جيداً. فالصحيح أن يعنون البحث هكذا: هل يجب تحصيل الجزم من الاستدلال والنظر، أم يكفي مجرّد الجزم المذكور وإن حصل من التقليد وقول الغير؟

ثمّ إنّ أكثر العلماء (1) يجعلون النظر شرط تحقّق الإيمان؛ لأنّ الإيمان عندهم عبارة عن المعرفة الحاصلة من الدليل لا التقليد، كما ذكره الشيخ الأنصاري (2) ، نعم ذكر الشيخ الطوسي قدّس سره أنّه واجب مستقل، ولو تركه المكلّف لا يستحق العقاب فإنّه معفو عنه، لكنّه ضعيف، والأقوى هو القول الثاني كما يظهر ممّا سبق، من أنّه لا موضوع للحكم الفطري مع الجزم المذكور، ولا حكم للشرع بتحصيل النظر والاستدلال.

والذي يزيد في إيقانك منه: أنّ أكثر الناس ولا سيما أهل البوادي - وبالأخص نساؤهم - لا يقدرون على إثبات العقائد، كمباحث التوحيد والنبوّة ونحوهما بالدليل، فالأمر يدور بين أن يلتزم بتخصيص العمومات، التي تمسّك بها المشهور بجمع من المستعدّين، أو تكفير هؤلاء الناس وإخراجهم عن الإسلام، وكذا في فرض قدرتهم على الاستدلال، فإنّهم يقلّدون آباءهم في ديانتهم بلا دليل.

لكن الأَوّل باطل؛ لأنّه يستلزم التخصيص الأكثر المستهجن، والثاني فاسد بالضرورة. لا يقال: فعلى هذا تلزم معذورية أكثر أهل الملل الفاسدة لصحّة تقليدهم، قلت: لا بأس بها إذا كانوا قاصرين لا مقصّرين كما أشرنا إليه سابقاً أيضاً.

وأمّا القول المشهور فاستدلّ له بوجوه:

1 - ما دلّ على تحصيل العلم كقوله تعالى: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ) (3) والخطاب وإن كان للنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن يجري على غيره أيضاً لوجوب التأسّي به، لقوله تعالى: ( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (4) أو للأولوية.

والعلم: هو الجزم الثابت المطابق للواقع، ومثله ما دلّ على طلب العلم، ووجوب التفقّه في الدين، ونحو قوله تعالى: ( مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (5) أي ليعرفون، وغير ذلك.

____________________

(1) القوانين 2 / 172.

(2) الرسائل 1 / 315.

(3) محمّد 47 / 19.

(4) الأحزاب 33 / 21.

(5) الذاريات 51 / 56.

٤٢

ومن الظاهر أنّ العلم لا يحصل من التقليد؛ لاحتمال الخطأ في قول المقلَّد - بالفتح - وللزوم التناقض في المسائل الخلافية، كما إذا قال أحد بقِدم العالَم والآخر بحدوثه، فإنّ اعتقاد القولين معاً تناقض، وترجيح أحدهما إن كان بمرجّحٍ فهو اجتهاد وإلاّ فهو محال؛ ولأنّ قول الغير لو أفاد علماً لكان العلم بصدقه إمّا ضرورياً أو نظرياً، والأَوّل باطل والثاني يستدعي إعمال النظر هو خلف.

أقول: هذا الوجه بتمامه غير صحيح؛ فإنّ التأسّي غير واجب على الإطلاق، والأولوية باطلة، وتفسير العلم المذكور في الكتاب والسُنة بما اصطلح عليه أهل المعقول غير مقبول، بل العلم عند أهل العرف والمحاورة هو: الجزم فقط كما ذكره المحقّق القمي وصاحب الفصول رحمهما الله أيضاً، ومنه تبيّن أنّ هذا الاستدلال لا ربط له بالمقام؛ إذ مفروض الكلام هو حصول الجزم للمقلّد فهو عالم عارف فقيه تكويناً كما لا يخفى.

وأمّا تفسير جملة ( لِيَعْبُدُونِ ) بـ (ليعرفون) فممنوع؛ لعدم دليل عليه من الأخبار وإن ادّعاه بعض الأعاظم.

وأمّا ما لُفّق في عدم إفادة التقليد علماً فيزيّف الأَوّل بخروجه عن المقام؛ لاختصاص الكلام بالغافلين والعوام الذين لا يختلج في صدورهم شك ولا احتمال، ولسنا نجوّزه في حقّ الملتفتين المتفطّنين لاحتمال الخطأ كما مرّ في صدر المسألة، ومنه ظهر فساد الثاني، فإنّ الاختلاف لا يحيّر الغافل، مع أنّه يختار أحد القولين؛ لأوثقية قائله، أو أقربيته نسباً وصحبة، إلى غير ذلك من المرجّحات غير الراجعة إلى الدليل.

والثالث موهون، فإنّ علم المقلِّد بصدق مقلَّده حدسي ناشئ من اعتقاده بأكمليته أو الاستيناس بطريقته، والإنصاف أنّ هذه الوجوه مخالفة للوجدان والعيان.

2 - ما دلّ على وجوب النظر كقوله تعالى: ( انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (1) ، وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ ) (2) ، وقوله تعالى: ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (3) إلى غير ذلك.

لكن الظاهر أنّها إرشادية إلى تحصيل الإيمان بالله، فإذا آمن به ولو عن تقليد كفى.

3 - ما دلّ على النهي عن اتّباع الظن، وجوابه واضح.

4 - ما دلّ على تحريم التقليد، مثل قوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ

____________________

(1) يونس 10 / 101.

(2) الروم 30 / 8.

(3) الأعراف 7 /176.

٤٣

بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (1) ، ومثل قوله تعالى: ( قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) (2) ، وقوله: ( أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) (3) ، وقوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (4) ، وقوله: ( قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) (5) ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وهذا عمدة الوجوه فيدلّ على منع التقليد مطلقاً، وإلاّ لَما استحقّ هؤلاء الكفار ذماً وعتاباً وعقاباً، بل لهم المعارضة بجوازه في الشرع، فما مرّ من أنّ اعتبار مطابقة الواقع - في الجزم المذكور - يصادم ناموس العقل وقانون العدل. والجواب التحقيقي عنه، عدم بقاء الجزم لهم بعد مقابلتهم للأنبياء المبعوثين من الله تعالى إليهم، بل الظاهر زواله بمشاهدة المعجزات وخوارق العادات الصادرة عنهم، فهؤلاء الكفّار إنّما بقوا على مسلك آبائهم؛ تعصّباً وعناداً كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: ( كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) (6) ، وقوله تعالى: ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ) (7) ، وغيرهما.

5 - الأخبار الدالّة على أنّ الإيمان هو ما استقر في القلب، مثل ما قاله الصادق عليه‌السلام - في جواب محمد بن مسلم حيث سأله عن الإيمان -: (إنّه شهادة أن لا إله إلاّ الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، وما استقر في القلوب من التصديق بذلك) (8) . ولا استقرار إلاّ لِما حصل باليقين، ولا يحصل إلاّ بالاستدلال، لكنّه بيّن الفساد؛ لعدم انحصار حصول الاستقرار بالاستدلال بل يحصّله التقليد أيضاً، ولا شكّ أنّ كل ما حصّله الاستدلال غير مستقرّ دائماً كما هو محسوس، ثم إنّ المناط في استقرار الإيمان واستيداعه شيء آخر لاحظ الروايات (9) ، ولعلّنا نعود إليه في بعض بحوث المعاد إن شاء الله.

____________________

(1) البقرة 2 / 170.                                    (2) الأعراف 7 / 70.

(3) الزخرف 43 / 21، 22.                          (4) الزخرف 43 / 23.

(5) الزخرف 43 / 24، 25.                          (6) البقرة 2 / 109.

(7) النمل 27 / 14.                                   (8) قوانين الأُصول 2 / 176.

(9) أُصول الكافي 2 / 416 - 420.

٤٤

6 - الإجماع، قال العلاّمة الحلي قدّس سره في الباب الحادي عشر: أجمع العلماء كافّة على وجوب معرفة الله، وصفاته الثبوتية والسلبية، وما يصح عليه وما يمتنع عنه، والنبوة، والإمامة، والمعاد، بالدليل لا بالتقليد، فلابدّ من ذكر ما لا يمكن جهله على أحد من المسلمين، ومَن جهل شيئاً من ذلك خرج عن رِبقة المؤمنين واستحقّ العقاب الدائم.

أقول: يُفهم من آخر كلامه أنّ الجاهل بالمعارف بالدليل - ولو كان عالماً بها تقليداً - كافر مخلّد في النار، وقد نقل الإجماع على عدم جوازه، عن السيموري والمبادي والقوشجي والعضدي (1) والحاجبي، بل وصف سيّدنا الأستاذ الحكيم - دام ظله - هذا الإجماع بالمستفيض النقل كما مرّ.

أقول: معقد هذه الإجماعات إمّا بطلان المعرفة الحاصلة من التقليد، وأنّها في حكم الجهالة من جهة العقاب والخلود، وإمّا عدم صحّة التقليد غير المفيد للعلم، وإمّا حرمة التقليد المفيد للجزم حرمة تكليفية محضة، ولا ربط لها بالإيمان فيكون المقلّد الجازم مؤمناً فاسقاً مثلاً. والظاهر أنّ معقد إجماع العلاّمة هو الأَوّل كما عرفت، لكن ذكر لي سيدنا الحكيم - دام ظله - شفاهاً أنّ معقد الإجماع المستفيض المذكور هو الشق الثاني، وهذا هو الذي استظهره المحقّق القمي قدّس سره من الأُصوليين، فلاحظ كلامه (2)، فعلى هذا الوجه لا بأس بهذا الإجماع المذكور بل لا حاجة إليه؛ لأنّ المدعى واضح كما تقدّم.

وأمّا الاحتمال الثالث فلا مضايقة عنه أيضاً، والمسألة حينئذٍ تكون فقهيةً لا ربط لها بالمقام، لكن الشأن في تحقّق الإجماع كما ستعرف.

وأمّا الاحتمال الأَوّل - كما هو ظاهر العلاّمة ومعقد إجماعه، وهو المنقول عن الشهيد والمحقّق الأَوّل والمحقّق الثاني أيضاً (3) بل هو المنقول عن المشهور كما مر - فهو ممنوع جداً موهون قطعاً:

أمّا أوّلاً: فلِما مرّ من عدم حجّية الإجماع إلاّ إذا كان مفيداً للقطع برأي المعصوم، ونحن لا نظن به ولو ظناً ضعيفاً بسبب هذا الإجماع المنقول.

وأَمّا ثانياً: فلاشتراط اعتباره بعدم استناده إلى دليل آخر ولو احتمالاً، وإلاّ فلا اعتبار به، بل لابدّ من النظر إلى ذلك الدليل، ومن المظنون قوياً استناد المجمعين في دعواهم الإجماع إلى الوجوه المتقدّمة وغيرها، فلا يكون الإجماع المذكور تعبّدياً.

____________________

(1) قوانين الأُصول 2 / 158.

(2) القوانين 2 / 162.

(3) رسائل الشيخ 1 / 311.

٤٥

وأَمّا ثالثاً: فلمخالفة جماعة جوّزوا الاكتفاء بالظن، أو قالوا بجواز التقليد المفيد للجزم، فلا يتمّ الإجماع المذكور، فافهم.

ورابعاً: ما مرّ منا من الدليل على كفاية مطلق الجزم ولو كان حاصلاً من التقليد.

ثمّ إنّ ما ادّعاه العلاّمة غير صحيح بمجموعه قطعاً، وقد تعرّض له الشيخ الأعظم الأنصاري قدّس سره أيضاً في آخر مباحث الانسداد من رسائله.

7 - إنّ الإيمان الحاصل من التقليد في معرض الزوال، فيجب تثبيته بالاستدلال دفعاً للضرر المحتمل أو المظنون.

أقول: الإيمان الحاصل من النظر أيضاً في معرض الزوال، فإنّ النظر لا ينفي المعرضية المذكورة بوجه، والمدّعي مكابر، وحله أنّ الجازم لا يرى تزلزلاً ومعرضية للزوال في نفسه، فهذا الشك ساقط.

والمتحصّل: لزوم تحصيل الجزم في الاعتقاد بالعقائد الدينية ولو من تقليد، ولا يعتبر حصوله من الاستدلال.

٤٦

الفائدة السادسة

حول الجاهل القاصر

في المعارف الاعتقادية

الحقّ تحقّق الجاهل القاصر في المعارف الدينية، فليس كلّ مَن لم يعتقدها مستحقاً للعذاب والعقاب، بل المعاقب هو المعاند للحق أو المقصّر فيه، وأمّا مَن قصر استعداده، وضاق تفكيره، أو استولى عليه الغفلة وسلطان البيئة، فجهل الحق، فهو معذور عقلاً وشرعاً.

والدليل على وجود القاصر المذكور هو الحس، فإنّا نشاهد كثيراً من المسلمين المخالفين لنا في الاعتقاد - ولا سيما نسائهم الساكنات في قعر بيوتهنّ - قاصرين عن تحقيق الحقّ وتحصيل الواقع، وكذا نعلم قطعاً أنّ عدداً كثيراً من سكان الهند وروسيا وغيرهما قاصرون، في جهلهم بالله العظيم، وشؤونه، ونبوّة نبينا الأعظم، وأوصيائه الكرام، وهذا ممّا لا يدخله ريب ولا احتمال، بل مزيد العناية في إثباته لغو وعبث، فإنّ العيان يغني عن البيان.

ولكن مع ذلك اتّفق الجمهور من المسلمين، على أنّ المصيب من المجتهدين المختلفين في العقليات التي وقع التكليف بها واحد، وأنّ الآخر مخطئ آثم، وخالف فيه شذوذ من أهل الخلاف كما في المعالم والقوانين (1) .

أقول: هذا الاتفاق على خصوص التخطئة وبطلان التصويب متين، وأمّا على استحقاق العقاب فلا، نعم نُسب إلى الجاحظ والعنبري معذورية القاصر (2) ، وهو الذي اختاره بعض المتأخّرين من علماء أُصول الفقه أيضاً، لكن الجمهور من المسلمين على خلافه، بل عن جماعة من الخاصّة والعامّة الإجماع على ذلك (3) فتأمّل، بل ادعى الفقيه الأعظم شيخ المجتهدين صاحب الجواهر الضرورة المذهبية على ذلك، حيث قال في ردّ كلام الشهيد الثاني - وهو أي كلام الشهيد - من غرائب الكلام المخالف لظاهر الشريعة وباطنها -: إذ من ضرورة المذهب عدم المعذورية في أُصول الدين التي منها الإمامة... وبالجملة لا يستأهل هذا الكلام ردّاً؛ إذ هو

____________________

(1) معالم الأُصول / 226، والقوانين 2 / 207.

(2) المواقف وشرحها 3 / 236.

(3) القوانين (الحاشية) 2 / 207، ورجال المامقاني (المدخل) 1 / 206.

٤٧

مخالف لأُصول الشيعة... إلخ (1).

أقول: وسيأتي من بعض العامّة أيضاً دعوى الضرورة على ذلك، هذا مضافاً إلى وجوه أُخر دلّت على ذلك:

فمنها: أنّ الله كلّف بالعلم ونصب عليه دليلاً فالمخطئ مقصّر آثم، نُقل هذا عن جماعة من أصحابنا، بل نُسب إلى الجمهور.

ومنها: قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (2)، فقد جعل الهداية على تقدير المجاهدة، فالضالّ لم يجاهد باختياره فهو مقصّر آثم.

ومنها: ما في المواقف وشرحها (3) من قوله: واعلم أنّ الكتاب والسُنة والإجماع يبطل ذلك - أي معذورية القاصر - بل نقول: هو مخالف لِما عُلم من الدين ضرورة؛ إذ يعلم قطعاً أنّ كفّار عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار لم يكونوا عن آخرهم معاندين، بل منهم مَن يعتقد الكفر بعد بذل المجهود، ومنهم مَن بقي على الشك بعد إفراغ الوسع... إلخ.

ومنها: قوله تعالى: ( مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (4) أي ليعرفون، فالمعرفة علّة غائية لخلقة الإنسان، وفرض وجود القاصر المذكور يوجب تخلّف المعلول عن العلة المذكورة؛ لانتفاء إمكان المعرفة في حقّه على الفرض، وهو لغو ينزّه عنه فعل الحكيم، ومثله قوله تعالى في الحديث القدسي: (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلقَ لأُعرف). نقله المحقّق الآشتياني في شرح الرسائل (5) .

ومنها: قوله تعالى: ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (6) ، وللقاصر على الله حجّة فلابدّ من عدمه. نقله في حقائق الأُصول (7).

ومنها: العمومات الدالّة على حصر الناس في المؤمن والكافر، مع ما دلّ على خلود الكافرين بأجمعهم في النار، بضميمة حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر، فيكشف ذلك عن تقصير كلّ غير مؤمن، وأنّ مَن تراه قاصراً عاجزاً عن العلم، قد تمكّن من تحصيل العلم بالحقّ ولو

____________________

(1) أوائل كتاب الشهادات.

(2) العنكبوت 29 / 69.

(3) شرح المواقف 3 / 236.

(4) الذاريات 51 / 56.

(5) شرح الرسائل / 288.

(6) النساء 3 / 165.

(7) حقائق الأُصول 2 / 214.

٤٨

في زمان ما، والعقل لا يقبّح عقاب مثل هذا الشخص. نقله الشيخ في رسائله (1) .

ومنها: قوله تعالى: ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (2) والفطرة هي المعرفة والتوحيد كما ورد في الروايات المفسّرة للآية الكريمة (3) ، ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كل مولود يولد على الفطرة)، فيُفهم أنّ المعرفة مرتكزة في النفوس البشرية لا تزول عنها إلاّ بصارف، وعليه فكيف يُفرض العجز عنها؟ نقله المحقّق الآشتياني بلا تعرّض لذكر الروايات المذكورة، مع أنّ الاستدلال بالآية الشريفة لا يتمّ إلاّ بها.

هذه هي الوجوه التي استخدمت لنفي الجاهل القاصر وأنّه غير متحقّق.

ثمّ إنّه لابدّ أن تعرف أنّ متكلّمي الأشاعرة وغيرها، وإن وافقوا الإمامية في عدم معذورية الجاهل، إلاّ أنّ الإمامية يقولون به من جهة نفي القاصر في الخارج، بخلاف الأشعريين فإنّهم قالوا به مع وجوده كما صرّح به صاحب المواقف وشارحها، على ما نقلناه في الوجه الثالث، والسر في ذلك: أنّ عقاب القاصر قبيح عقلاً، فإذا ثبت عقاب كلّ جاهل فلابدّ من إنكار القاصر جمعاً بين الأدلة، لكن الأشعري لمّا تظاهر بإنكار الأحكام العقلية لم يبالِ الالتزام بعذاب القاصر، وكأنّه ما سمع قوله تعالى: ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ) (4) وقوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ ) (5) وقوله: ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) (6) إلى غير من الآيات الكريمة الدالة على ذلك، بل لم يقفوا على ذلك حتى نسبوه إلى المسلمين، فقال قائلهم بلا استحياء: (أجمع المسلمون على أنّ الكفّار مخلّدون في النار أبداً، لا ينقطع عذابهم، سواء بالغوا في الاجتهاد والنظر في معجزة الأنبياء ولم يهتدوا، أو علموا نبوّتهم وعاندوا وتكاسلوا) (7) .

أقول: الإسلام والمسلمون - غير الأشعريين ومَن شابههم - بريئون من هذه الأباطيل، التي تسوّد وجه الإسلام في العالم كلّه، وتنافي رحمة الله الواسعة وفضله وعدله وحكمته الشاملة. بل نقل بعضهم (8) أنّ أطفال الكفار عند أكثرهم أيضاً يدخلون النار ويخلّدون، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً، ولصاحب الكفاية قدّس سره أيضاً في المقام كلام ينافي بظاهره قواعد

____________________

(1) الرسائل 1 / 312.

(2) الروم 30 / 30.

(3) لاحظ البحار 5 / 277.

(4) الأنفال 8 / 42.

(5) يونس 10 / 44.

(6) فصّلت 41 / 46.

(7) حاشية شرح المواقف 3 / 235.

(8) المصدر نفسه.

٤٩

العدلية (1) فلاحظ.

وكيف ما كان، الحس يدلّ على تحقّق الجاهل القاصر، ومعه لا استيحاش من ردّ الإجماعات المنقولة المتقدمة وإن كثر نقلها، ولضعف مدركها كما ستعرف، وأمّا دعوى الضرورة المذهبية كما تقدّمت عن صاحب الجواهر قدّس سره، فهي أمر غريب عن مثل هذا المقام العظيم والعلم الفخيم، ولعلّ العبارة ناظرة إلى غير ما استظهرناه (2) ، كيف وقد قال به جملة من الأعلام، كشيخنا البهائي على ما حكي عنه في قصص العلماء للتنكابني، وهو ظاهر الشهيد الثاني أيضاً، والشيخ الأنصاري، وصاحب الكفاية، وجملة من محشّي الرسائل والكفاية، والمحقّق القمي، وغيرهم من أرباب التحقيق والتدقيق من الأُصوليين.

فالعمدة هي هذه الوجوه، فنقول:

أمّا الوجه الأَوّل: فضعفه ظاهر؛ لمنع الصغرى وعدم ثبوت التكليف لجميع آحاد الناس حتى القاصر، بل التكليف مختصّ بالقادرين من الأَوّل والقاصر غير قادر، بل هذا الوجه مصادرة واضحة، ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) (3) .

والوجه الثاني: لو سلّم تفسير المجاهدة بالاستدلال يرد عليه: أنّ ترتّب الهداية على المجاهدة لا يدلّ على إمكان المجاهدة لكلّ أحد، والقاصر إمّا لنقص استعداده أو لعروض الغفلة ونحوها غير متمكن من المجاهدة.

والثالث: فاسد، بأنّ جواز قتله، ونجاسة، بدنه، وغير ذلك من الأحكام التكليفية والوضعية التعبدية، غير مقصودة بالمقام، ونحن نلتزم بها، والمقصود هو استحقاق العقاب والخلود في العذاب، وادّعاء الإجماع على ذلك كذب واضح.

والرابع: ضعيف بمنع التفسير المذكور كما تقدّم، والحديث مجهول السند، بل قال المحدّث الكاشاني: إنّه من مجعولات الصوفية مع أنّه يُنتقض بالمجانين والأطفال الذين يموتون قبل البلوغ، وأمّا تحقيق المقام فسيأتي إن شاء الله في مبحث تعلّل أفعاله بالأغراض.

وأمّا الخامس: فباطل إذ التكليف غير واجب على الله تعالى ليكون للقاصر حجة، نعم إذا أراد الله سبحانه عقابه وعذابه فيكون له حجّة عليه تعالى، لكنّا نقول بعدم عقابه وتعذيبه، مع أنّ النقض المتقدّم جارٍ هنا أيضاً.

____________________

(1) حقائق الأُصول 2 / 216.

(2) مثل عدم معذوريته في ترتّب الأحكام التعبّدية عليه.

(3) البقرة 2 / 286.

٥٠

وأمّا السادس: فساقط بما أفاده الشيخ الأنصاري قدّس سره (1) ، من وجود الأخبار المستفيضة الدالة على ثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر، ولا يخفى أنّ هذه الواسطة التي تخيّلها واصل بن عطاء الاعتزالي، ويمكن أن يقال بانصراف العمومات عن القاصرين فلا نحتاج إلى الاستدلال بالأخبار.

وأمّا السابع: ففيه النقض بالمجانين، والحلّ بأنّ الفطرة المذكور لا تنافي فقدان الشرط، أو طروء المانع كالغفلة، أو الاعتقاد الحاصل من البيئة على خلافها.

وربّما ذهب بعضهم إلى التفصيل (2) ، وإليه يميل المحقّق القمي قدّس سره حيث قال في ضمن كلامه: (نعم لو فصّل أحد وقال بذلك - أي بإنكار القاصر - في وجود الصانع مثلاً، أو ذلك مع وحدته، أو ذلك مع أصل النبوة، أو ذلك مع أصل الميعاد، لم يكن بعيداً؛ إذ الظاهر أنّ الأدلّة المذكورة ممّا يمكن فيها دعوى لزوم إصابة الحقّ النفس الأمري، وأمّا مثل تجرّده، وعينية الصفات، وحدوث العالم، ونفي العقول، وكيفيات الميعاد، فلا) (3) .

أقول: وربّما قيل بإنكاره في أصل وجود الصانع فقط، لكن كلّ ذلك يلحق بقول الجمهور في مصادمته الحس والعيان، ووضوح أدلة تلك الأُصول لا يوجب المكنة في قليل الاستعداد أو عظيم الغفلة، كما هو أوضح من أن يخفى.

ولنختم المقال بذكر رواية رواها الكليني قدّس سره في الكافي بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : (مَن لم يعرف شيئاً هل عليه شيء؟ قال: لا) (4) .

____________________

(1) الرسائل 1 / 313.

(2) روضة المسائل / 5.

(3) القوانين 2 / 159.

(3) القوانين 2 / 159.

(4) الكافي 1 / 164.

٥١

الفائدة السابعة

في الأمر المولوي والإرشادي

لا شك أنّ قضية قانون المولوية والعبودية لزوم امتثال أوامر الآمر على مَن دونه، فكل سافل موظّف بمتابعة مَن هو عالٍ عليه، ولزوم هذا التوظيف من المشهورات المسلمّة بين الكل للمصلحة العامة، ومنه يظهر أنّ أوامر الشارع واجبة الامتثال، كما أنّ مناهيه لازمة الاجتناب.

ولك أن تستند في ذلك إلى الحكم الفطري، وهو دفع الضرر المحتمل؛ لاستتباع مخالفة أحكامه عقابه وعذابه، وأمّا ما ذهب إليه جمع من الأُصوليين من دلالة نفس صيغة الأمر والنهي، على الوجوب والحرمة فهو محل بحث وخلاف، كما ذكرناه في تعليقتنا على كفاية الأُصول، فتحصّل: أنّ حمل الحكم على الندب أو الكراهة محتاج إلى قرينة حالية أو مقالية، وإلاّ فالأصل الأَوّل هو الإلزام.

لكن هذا إذا كان الحكم مولوياً، وأمّا إذا كان إرشادياً فهو بمنزلة الإخبار لا يستفاد منه الوجوب ابتداءً. والفرق أنّ الأَوّل يقصد منه البعث أو الزجر عن متعلّقه، والثاني يقصد منه الحكاية عن شيء كالمصلحة أو المفسدة، فالأَوّل وإن دلّ على مصلحة أو مفسدة لكن الدلالة المذكورة غير مقصودة ذاتاً، كما أنّ الثاني وإن كان موجباً للبعث والزجر لكنّه غير مرادٍ من الخطاب نفسه، ومثاله في العرفيات أمر الطبيب بشرب الدواء للمريض، ولا سيما إذا كان المريض عالياً، فإنّه إرشادي، أي إخبار عن مصلحة كائنة في شرب الدواء للمريض بلا قصد البعث والتحريك ابتداءً.

وأمّا في الشرعيات فله موارد:

منها: ما لا يمكن للشارع إيجابه؛ إمّا لعدم ثبوت مولويته بعد، كوجوب النظر على ما مرّ فلابدّ من حمل الأمر المذكور - إذا صدر عنه - على الإرشاد إلى الحكم العقلي الفطري؛ وإمّا لمحذور آخر كالتسلسل مثلاً، كما قالوه في مثل قوله تعالى: ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) فإنّ إطاعة الله سبحانه لو كانت واجبةً بوجوب شرعي، لكان إطاعة

____________________

(1) النساء 4 / 59.

٥٢

نفس هذا الوجوب محتاجةً إلى وجوب آخر، وهكذا حتى يتسلسل أو يدور، فلابدّ من الالتزام بكونه إرشادياً.

ومنها: ما كان العقل حاكماً به، ويكون الأمر الشرعي لغواً، كما إذا أوجب الصعود إلى السطح ثمّ أمر بنصب السلّم، فإنّ الأمر المذكور إرشاد إلى حكم العقل الحاكم بلزوم إتيان مقدمة الواجب، ولا أثر للأمر الشرعي في أمثال المقام.

ومنها: ما إذا ورد الأمر بأجزاء مركب واجب، فإنّه لا يكون نفسياً ولا غيرياً كما تقرّر في محله، فلابدّ من حمله على الإرشاد والإخبار عن الجزئية (1) ، وإنّ المركب المذكور لا يتمّ إلاّ به.

ومنها: إذا لم يكن الآمر في مقام الاستعلاء، وإنّما يأمر لمجرّد مصلحة للمأمور، كالأوامر الواردة في شرب الأدوية في الشرع، ومنها غير ذلك.

والمقصود التنبيه على ذلك؛ حتى لا يقع الباحث في الاشتباه والتحيّر، ويعلم أنّ البعث والزجر معلولان لنفس الأمر والنهي المولويين، وللعلم بالمصلحة والمفسدة في الإرشاديين، فتدبّر جيداً.

____________________

(1) إلاّ إذا قلنا بأنّه لبيان الوجوب الضمني التعبّدي دون الوجوب الاستقلالي.

٥٣

الفائدة الثامنة

في تقسيم المفهوم

المفهوم إمّا أن يكون مصداقه موجوداً خارجياً بنفسه، وإمّا أن يكون غير موجود كذلك، وإمّا أن يكون موجوداً أو معدوماً بغيره لا بنفسه، والأَوّل هو الواجب الوجود لذاته، والثاني هو الممتنع الوجود لذاته، والثالث هو الممكن، وأمّا احتمال كونه موجوداً ومعدوماً معاً لذاته أو لغيره، أو احتمال عدم كونه موجوداً ومعدوماً كذلك، فهو ساقط.

وهذه القسمة الحقيقة الثلاثية هي المعبر إلى علم الكلام ووصول المرام، وما ذكرنا في تقريرها سالم عمّا أورده صاحب الأسفار (1) على بعض التقارير الأُخر، نعم المقسم للواجب الذاتي والغيري والقياسي ليس الواجب الخارج من هذا التقسيم؛ بداهة اختصاصه بالواجب لذاته، بل المقسم المذكور الواجب بمفهومه الأعم اللغوي، وهكذا الحال في الممتنع.

ثمّ إنّ الدور، والتسلسل، والخلف، واجتماع الضدين، واجتماع المثلين، وغيرها من المستحيلات، راجعة إلى التناقض واجتماع الوجود والعدم، الذي امتناعه ضروري أَوّلي تصوراً وتصديقاً، وكل ما لا ينتهي إليه فليس للعقل سبيل إلى الحكم بامتناعه، فإذن، الأساس الأصيل والبناء القويم لجميع المباحث العقلية هو بطلان التناقض وامتناعه، وقد دريت أنّه ضروري أَوّلي، بل لا يمكن إنكاره من سليم العقل أبداً، بيد أنّ الفلاسفة الديالكتيكية أنكرت ذلك، فإنّ الذين اخترعوها بنوها على وقوع التناقض فضلاً عن إمكانه، وذكروا لإثباته أمثلةً فاقدة للوحدات المعتبرة في امتناعه؛ جهلاً منهم بالمباحث العقلية، وليتهم يدرون أنّ التناقض لو كان جائزاً لكان إنكار امتناعه باطلاً؛ إذ صحيح حينئذٍ أن يكون محالاً وغير محال ممكناً وغير ممكن! فهذا الإنكار ينجرّ إلى الإثبات، فافهم جيداً.

وأمّا الوحدات المعتبرة في التناقض فهي ثمانية كما قيل، بل نُسب إلى المشهور، قال شاعرهم:

در تناقض هشت وحدت شرط دان

وحدت موضوع ومحمول ومكان

____________________

(1) الأسفار 1 / 84.

٥٤

وحدت شرط واضافه جزء وكل

قوه وفعل أست در آخر زمان

وزيد عليها اختلاف الكم في المحصورات واختلاف الجهة في الموجّهات.

أقول: الوحدات أكثر من هذه المذكورات، مثل: وحدة الحال، والتمييز والرتبة، والغرض، والحمل، والوحدة وغير ذلك، بل ربّما يبلغ تعدادها إلى الثلاثين (1) والأخصر أن يقال: إنّ اجتماع الوجود والعدم محال؛ إذ فيه كفاية للمرام.

____________________

(1) لاحظ رهبر خرد / 180.

٥٥

الفائدة التاسعة

في خواصّ الواجب الوجود

اعلم أنّ لكلّ من الواجب والممكن خواصّ، وقد جرت عادتهم على بيانها بعد تقرير التقسيم المتقدّم، ونحن نتّبعهم في ذلك فنبدأ ببيان خواصّ الواجب وهي أُمور:

1 - إنّ إمكانه بالإمكان العام يكفي لثبوته وجوباً وضرورةً، ونسمّيه بقاعدة الملازمة، ولم نرَ مَن ذكرها في خواصّ الواجب مع أنّها مهمة ومفيدة جداً.

فنقول: الواجب إذا لم يكن بممتنع عقلاً يكون موجوداً وثابتاً، بلا حاجة إلى لمّية الثبوت والإثبات؛ وذلك لاستحالة الإمكان الخاصّ في حقّه، فإنّه قسيم للوجوب كما تقرّر في التقسيم الثلاثي المتقدّم، فالممكن الخاصّ لا يوجد إلاّ بعد علّته ثبوتاً، ولا يصدق بوجوده إلاّ بعد سببه إثباتاً وإن كان إمكانه معلوماً على كل تقدير، فإنّه لا يلازم فعليته ووجوده كما لا يخفى، وهذا بخلاف الواجب؛ حيث إنّ مجرّد إمكانه العام كافٍ في تحقّقه ثبوتاً وإثباتاً، فالواجب المفروض إمّا ممتنع أو متحقّق، وهذا لا يقتضي زيادة إيضاح.

وتجري هذه القاعدة في صفاته الواجبة أيضاً، فيقال: القدرة الواجبة - مثلاً - غير ممتنعة لمبدأ الواجب فهي ثابتة له وهكذا، نعم بناءً على القول بإمكان الصفات وزيادتها على الذات - كما عليه أُمّة الأشعري - لا مجرى لها فيها.

وقد استدلّ للقاعدة المذكورة أيضاً (1) ، بأنّ صفاته الذاتية متى صحّت وجبت؛ وإلاّ لافتقر في اتّصاف الذات بها إلى الغير، والافتقار عليه محال.

أقول: استحالة الافتقار - بهذا المعنى - أخفى من نفس المدّعى.

2 - إنّ الواجب الوجود واجب من جميع الجهات، قال في الأسفار (2) : المقصود من هذا أنّ الواجب الوجود ليس فيه جهة إمكانية، فإنّ كلّ ما يمكن له بالإمكان العام فهو واجب له.

أقول: الاستدلال عليه بوجوه:

____________________

(1) شرح الباب الحادي عشر / 16.

(2) الأسفار 1 / 122.

٥٦

الأوّل: ما تجشّم بإقامته صاحب الأسفار، وهو: أنّ الواجب تعالى لو كان له - بالقياس إلى صفة كمالية - جهة إمكانية بحسب ذاته بذاته للزم التركيب في ذاته، وهو محال، فيلزم أن يكون جهة اتّصافه بالصفة المفروضة الكمالية وجوباً وضرورةً لا إمكاناً وجوازاً.

أقول: إن أراد بالإمكان اللازم فيه تعالى الإمكان القياسي ففيه منع لزوم التركيب، وإلاّ لجرى في الامتناع القياسي أيضاً، وقد صرّح نفسه (1) ، بأنّ الامتناع بالقياس إلى الغير يعرض لكل موجود - واجباً كان أو ممكناً - بالنسبة إلى عدم معلوله أو عدم علّته.

وحلّه أنّ معنى الإمكان بالقياس، هو عدم وجوب الصفة له تعالى بالنظر إلى ذاته المقدّسة، مع إمكانها بالإمكان العام على ضدّ مفاد القاعدة، أعني بها وجوب الواجب من جميع الجهات، وأين هذا من التركيب؟ ولذا لو فرضنا الواجب متعدّداً كان كل واحد ممكناً بالقياس إلى الآخر وإلى معاليله، كما ذكره هو أيضاً، فلا ملازمة بين التركيب والإمكان المذكور.

ثمّ إنّ الأمر في الأفعال أوضح؛ لأنّا سنبرهن على تبعيتها للمصالح والأغراض الزائدة على ذاته تعالى، فلا يجب الفعل بالنسبة إلى مجرّد ذاته تعالى.

فإن قلت: لا معنى للإمكان القياسي بين العلة والمعلول.

قلت: نعم، بيد أنّ المقام ليس من هذا الباب، لأنّا نبحث عن الشيء الممكن قبل إيجاده، فنقول مثلاً: إنّ هذا الفعل المعدوم خارجاً بالفعل الموجود في الذهن، هل يجب بالنسبة إلى الواجب أم لا؟ فالاشتباه إنّما هو من جهة خلط ما في الذهن بما في الخارج فتفطّن.

ومنع الإمكان القياسي في هذه المرتبة أيضاً مصادرة واضحة؛ لأنّه المدّعى فتحصّل أنّ جميع ما يمكن أن يتعلّق به قدرته تعالى ممكن له - تعالى - بالإمكان القياسي بملاحظة ذاته ولا وجوب له أبداً، نعم يجب بالوجوب القياسي والغيري بلحاظ إرادته التابعة للأغراض الزائدة على ذاته تعالى.

وإن أراد من الإمكان القوة والاستعداد، كما يظهر من تلميذه اللاهيجي (2) في مقام الاستدلال على إثبات صفاته، ففيه: أنّه لا يعقل القوّة في حق الواجب بلا شك، ولكن إنكار الوجوب المذكور لا يؤدّي إلى لزومها فيه تعالى، وقد قال هذا المستدل - أي صاحب الأسفار - في ربوبيات كتابه رداً على استدلال المتأخّرين على عينية الصفات مع الذات: الأَوّل إنّا نقول: إنّ هاهنا اشتباهاً من باب آخذ القبول بمعنى الانفعال الاستعدادي مكان القبول بمطلق الاتّصاف، والبرهان لا يساعد إلاّ على نفي الأَوّل دون الثاني... - إلى أن قال -: والثاني إنّ الدليل

____________________

(1) الأسفار 1 / 159.

(2) سرمايه إيمان / 32.

٥٧

منقوض بالصفات الإضافية له تعالى كالمبدئية والسببية وغيرهما؛ لجريان الدليل بجميع مقدماته فيهما، فيلزم إمّا اتّصافه بتلك الصفات، أو عدم كونها زائدةً على الذات، وكلا القولين باطل... إلخ.

أقول: فعليك بتطبيق كلامه على المقام أيضاً.

وإن أراد من الإمكان العدم - كما هو الظاهر من كلامه في بيان برهانه العرشي على توحيده تعالى، حيث قال: بل يكون ذاته بذاته مصدقاً لحصول شيء وفقد شيء آخر من طبيعة الوجود ومراتبه الكمالية، فلا يكون واحداً حقيقياً، والتركيب بحسب الذات والحقيقة ينافي الوجوب الذاتي (1) ... إلخ بل هذا هو مراده جزماً - ففيه: أنّه لا دليل على امتناع مثل هذا التركيب، بل نمنع كون هذا تركيباً، فإنّ التركيب من الوجود والعدم، أو الوجدان والفقدان، أو الوجوب والإمكان، أو ما شئت فسمِّه ليس تركيباً واقعياً؛ إذ العدم أو الفقدان ليس شيئاً له مطابق في الخارج كما هو لائح.

وأمّا ما ذكره السبزواري في حاشيته على المقام - من أنّ شرّ التراكيب هو التركيب من الوجود والعدم؛ إذا كان العدم عدم الخير والكمال؛ إذ العدم سنخ آخر مقابل الوجود.... وأمّا التركيب من وجود ووجود فليس تركيباً واقعياً، إذا كان ما به الامتياز في الوجود بما هو وجود عين ما به الاشتراك - فهو من الشعريات.

ثمّ يمكن أن يقال بإرجاع الاحتمال السابق إلى هذا الاحتمال، وأنّ المراد بالقوة هو العدم. ثمّ إنّ هذا الدليل، وإن كان بظاهره مختصّاً بالصفات الكمالية، غير أنّ مراد المستدل تعميمه للصفات الإضافية أيضاً، والحق أنّ الأُولى عين ذاته، وليس للحق جهة إمكانية بالنسبة إليها كما يأتي بحثها في محلها، وأمّا الثانية فهي ممكنة له مع قطع النظر عن إعمال قدرته تعالى، فإنّ ما استدل على القاعدة المبحوث عنها في المقام غير تام، كما يظهر من بطلان هذا الوجه والوجوه التالية.

الثاني: ما لعلّه المشهور من أنّ ذاته لو لم تكن كافيةً فيما له من الصفات، لكان شيء من صفاته حاصلاً له من غيره، فيكون وجود ذلك الغير علّةً لوجود تلك الصفة فيه تعالى، وعدمه علّةً لعدمها، وحينئذٍ لا يكون ذاته تعالى إذا اعتبرت من حيث هي بلا شرط يجب لها الوجود؛ لأنّها إمّا أن يجب مع وجود تلك الصفة أو يجب مع عدمها، فإن كان الوجوب مع وجود الصفة المذكورة، لم يكن وجودها من غيره؛ لحصولها بذات الواجب من حيث هي هي بلا اعتبار حضور الغير، ولو جُعلت القضية وصفيةً لم يكن الوجوب له تعالى ذاتياً أزلياً، وإن كان مع عدمها لم يكن

____________________

(1) الأسفار 1 / 137.

٥٨

عدمها من عدم العلة وغيبتها، ولو جُعلت الضرورة مقيّدةً لم تكن ذاتيةً أزلية، وإذا لم يجب وجودها بلا شرط لم يكن الواجب لذاته واجباً لذاته، وهذا خلف.

أقول: في الأسفار زيادة على ذلك أتمّ بها نظم الاستدلال فلاحظ (1) .

هذا وكونه غير تام؛ لِما أُورد عليه من النقض بالنسب والإضافات اللاحقة لذات المبدأ بجريان الحجة المذكورة فيها، فيلزم أن يكون تلك الإضافات واجبة الحصول له تعالى بحسب مرتبة ذاته بلا مدخلية الغير فيها، وأن يمتنع تجدّدها وتبدّلها عليه تعالى، مع أنّ ذات الواجب غير كافية في حصولها؛ لتوقّفها على أُمور متغايرة متجدّدة متعاقبة خارجة عن الذات بالضرورة، وهذا ممّا لا خفاء فيه؛ ولذا اعترف به الشيخ ابن سينا في محكي الشفاء (2) حيث قال: ولا نبالي بأن يكون ذاته مأخوذةً مع إضافة ما ممكنة الوجود، فإنّه من حيث هي علة لوجود زيد ليست بواجبة الوجود بل من حيث ذاته. انتهى.

وقَبِله كثير من الأتباع كما قيل، فهذه الحجة أيضاً سقيمة وفيه إشكال آخر أيضاً تركناه مخافة التطويل.

وأمّا ما نسجه في الأسفار في إبرام هذا النقض فهو أليق بمقام الخطابة، بل كلّه مغالطة من باب أخذ ما في الذهن مكان ما في الخارج، كما نبّهنا عليه سابقاً فلاحظ وتأمل حتى يظهر لك الحال، نعم لو تمّ قاعدة كون بسيط الحقيقة كلّ الأشياء لصح بيانه، كما صحّحه السبزواري بها على ما يظهر من حاشيته على المقام، لكنّها مزيّفة جدّاً كما ستأتي في محلّها إن شاء الله، وسوف نهدم بنيانها ونخرّب أساسها.

الثالث: إنّ كلّ ما هو ممكن للواجب من الصفات توجبه ذاته، وكلّ ما توجبه ذاته فهو واجب الحصول، أمّا الكبرى فظاهرة، وأمّا الصغرى؛ فلأنّها لو لم تصدق لكان وجوب وجود بعض الصفات بغير الذات، فذلك الغير إن كان واجباً لذاته لزم تعدّد الواجب، وإن كان ممكناً فإمّا توجبه الذات، فيلزم كونها موجبةً للبعض الذي فرضناها غير موجبة إيّاه من الصفات؛ إذ الموجب للموجب موجب أَوّلاً، بل يكون وجوبه بموجب ثانٍ يوجبه وننقل الكلام إليه، فإمّا أن تذهب سلسلة الموجبات إلى غير النهاية، أو ينتهي إلى موجب يوجبه الذات ويلزم خلاف المفروض، والحاصل أنّ الذات لو لم توجب الصفات بأسرها لزم أحد الأُمور الممتنعة من، تعدّد الواجب، والتسلسل، وخلاف المفروض (3) .

____________________

(1) الأسفار 1 / 124.

(2) الأسفار 1 / 126.

(3) شرح الهداية / 149.

٥٩

أقول: يرد عليه - مضافاً إلى ابتنائه على زيادة الصفات القديمة الباطلة التي تتخيّلها الأشاعرة - أنّ لزوم هذه المحاذير إنّما هو في صورة تحقّق الصفة خارجاً، وأمّا إن قلنا بعدم تحقّقها له تعالى مع إمكانها فلا يلزم شيء منها كما ليس بسر، وأمّا الأفعال فخروجها عن مدلول الدليل المذكور ظاهر؛ لأنّها تابعة للإرادة دون الذات نفسها، والعمدة التي يترتّب عليها جملة من المسائل المختلف فيها، هو وجوب الأفعال الذي لا دلالة للدليل عليه، وأمّا وجوب الصفات وعينيتها مع الذات المقدّسة، فهو ممّا لا شبهة فيه كما سيأتي في المقصد الرابع.

الرابع: ما ذكره الحكيم اللاهيجي (1) وغيره، من أنّه لو لم يجب ما أمكن في حقّه، لزم افتقاره إمّا إلى نفسه فيلزم أن يكون الله فاعلاً وقابلاً، وإمّا إلى غيره فيلزم أيضاً ذلك المحذور لانتهاء غيره إليه.

أقول: بطلان كونه تعالى فاعلاً وقابلاً غير مبيّن بل مرّ منعه، بل هو أيضاً حقّق عدم بطلانه في مثل الشقّ الأَوّل في كتبه (2) ، هذا مع أنّه لو تمّ لَما جرى في أفعاله؛ فإنّ وجوبها بإرادته التابعة للمِلاكات الواقعية، فلا يلزم الافتقار.

فتحصل أنّ هذه القاعدة لم تثبت في خواصّ الواجب القديم.

3 - امتناع كونه جزءً للغير، فالأجزاء إمّا عقلية تحليلية مثل الجنس والفصل، وإمّا خارجية مقدارية كأجزاء السكنجبين مثلاً، وإمّا غير مقدارية - أي معنوية - نحو المادة والصورة، ولا يعقل أن يكون الواجب جزءً لغيره بجميع هذه المعاني.

أمّا عدم كونه جزءً عقلياً؛ فلأنّه موجود خارجي، وأمّا عدم كونه جزءً مقدارياً؛ فلأنّه ليس بمادي ولا كم له، فلا يعقل عروض المقدار له، وأمّا عدم كونه جزءً معنوياً؛ فلأنّ المحل ملتمس إلى الصورة في فعليتها، والصورة لابدّ لها من مادة تحلها، فكلاهما لا يناسب الوجوب. وإن شئت فقل: احتياج الحال إلى محله، إمّا في الوجود كما إذا كان عرضاً، أو في التشخّص إذا كان صورةً، وعلى كلا التقديرين يكون الحال ممكناً ولا سيما إن تشخّصه - تعالى - بنفس وجوده.

وأيضاً تحقّق التركّب بتأثير الأجزاء وتأثّرها بالضرورة، والواجب لا يتأثّر من غيره؛ وأيضاً المركّب إمّا واجب وإمّا ممكن، لا يصحّ الأَوّل؛ لِما يأتي من امتناع التركيب على الواجب، ولامتناع قوام الواجب بالممكن كما في صورة إمكان الجزء الآخر، ولا يصحّ الثاني؛ لاجتماع الوجوب والإمكان في شيء واحد؛ ضرورة أنّ المركب نفس الأجزاء، فتدبّر.

4 - استحالة التركيب عليه، أمّا تركّبه من الأجزاء الخارجية فبطلانه واضح؛ ضرورة

____________________

(1) لا يحضرني الآن موضع هذا الكلام في كتبه، نعم هو مذكور في الصفحة 16 من شمع اليقين لابنه الميرزا حسن.

(2) گوهر مراد / 193.

٦٠