أخبار الزمان

أخبار الزمان20%

أخبار الزمان مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 282

أخبار الزمان
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60186 / تحميل: 8809
الحجم الحجم الحجم
أخبار الزمان

أخبار الزمان

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فعلمنا من كلام الائمة عليهم رضوان الله معنى التمسك بهم بما لا ريبة فيه الا لمن ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون.

ومع هذا كله قلنا: وهل يدخل في أهل بيته نساؤه أو يتمحض ذلك بالصدق على ولدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففتشنا عن ذلك فوجدنا في صحيح مسلم برواية يزيد بن حيان عن زيد بن أرقمرضي‌الله‌عنه فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا وايم الله ان المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع الى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.

وهذه الرواية عن زيد بن أرقمرضي‌الله‌عنه تفسير رواية أخرى عنه في مسلم أيضا، فقيل لزيد: من أهل بيته، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: بلى ان نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم عليهم الصدقة بعده - الحديث.

وتبين أن معنى قوله: « بلى ان نساءه من أهل بيته » ان نساءه من أهل بيت سكناه الذين امتازوا بكرامات وخصوصيات كثيرة، لا من اهل بيت نسبه وانما اولئك من حرمت عليهم الصدقة، صرح بذلك الابي في شرح مسلم جمعاً بين الروايات، بل تصحيحاً للاستدراك في الرواية الواحدة بقوله: « ولكن أهل بيته » إلخ.

وهذا التحقيق في تفسير أهل البيت بالحديث الصحيح يعين المراد منهم في آية التطهير، مع نصوص كثيرة من الاحاديث الصحاح المنادية على أن المراد منهم الخمسة الطاهرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ولنا وريقات في تحقيق ذلك مجلد في دفترنا يجب على طالب الحق الرجوع اليه.

ولما وجدنا هذا في صحيح مسلم علمنا أنهم أبناؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاذا انضم الى ذلك ما ورد من الاخبار في الائمة الاثني عشر مما بسطنا أكثرها في المقامات الاربعة من كتابنا المسمى بـ « مواهب سيد البشر في حديث الائمة الاثني عشر » بالترتيب بسطناها.

٦١

وما اجتمع عليه السلف والخلف من غزارة علوم هذا العدد المبارك وخرقهم العوائد، وما اختصوا به من المزايا الباهرة من بين سائر الرجال الابطال من هذه الفئة الفائقة على معاصريها في كل عصر، تيقن بأنهم الاولى بصدق احاديث التمسك عليهم من غيرهم، وان كانت فيها الاشارة الى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به الى القيامة، كما أن الكتاب العزيز - وهو الثقل الاخر القرين بهم - كذلك قاله ابن حجر. وقال: و لهذا كانوا أماناً لاهل الارض كما جاء به الحديث، ويشهد لذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في كل خلف من امتي عدول من أهل بيتي. وقال: ثم أحق من يتمسك به منهم امامهم وعالمهم علي بن ابى طالب رضي الله تعالى عنه، ومن ثم قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: علي عترة رسول الله أي الذي حث على التمسك بهم، فخصه لما قلناه - انتهى كلامه.

ثم لما فرغنا من تخريج الحديث وما دل عليه، وما تعين فيه ممن هو المراد من أهل البيت، نظرنا في تعدد طرقه فوجدنا له طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً، وفحصنا أيضاً عن أنه أين ورد، فوجدنا في بعض طرقه قال ذلك بحجة الوداع وبعرفة، وفي آخر أنه قال بغدير خم، وفي آخر أنه قال بالمدينة في مرضهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي آخر أنه قال لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف. فعلمنا أن لهذا الحديث شأناً عظيماً، فانه لم يذكر وروده أحد من الرواة الّا في مشهد معتنى به غاية الاعتناء.

ولكنا طلبنا لهذه الروايات المتضادة في الورد جمعاً، فوجدنا قد سبق اهل الخبر بالهام الجمع فقال: ولا تنافى في ذلك، اذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن كلها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة، و في رواية عند الطبراني عن ابن عمررضي‌الله‌عنه ان آخر ما تكلّم به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اخلفوني في أهل بيتي » انتهى. فازداد بعد الجمع شأناً على شأن لترداده في هذه المشاهد بأجمعها - كما لا يخفى على من له

٦٢

حس.

واذ قد ثبت صحة هذا الحديث وما مرّ عليك ممّا ينوط به لفظاً ومعنى ودلالة، وانضمت اليه آية التطهير بتفسيرها التي يدل عليها الاحاديث الصحيحة فلا وجه لان يمتري من له أدنى انصاف في أن من صدق عليهم هذا الحديث والآية من غير شائبة، وهم الائمة الاثنا عشر من أهل البيت وسيدة نساء العالمين بضعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم الائمة الزهراء الطاهرة، على أبيها وعليها الصلاة والسلام، لا شائبة في كونهم معصومين، كالمهدي منهمعليه‌السلام بما يخصه من حديث قفاء الاثر وعدم الخطأ على ما تمسك به الشيخ الأكبررضي‌الله‌عنه »(١)

٢ - تحريف زيد بن أرقم الحديث

وبعد الاطلاع على هذا الكلام المتين، لا بد من التنبيه على أن ما جاء في صحيح مسلم من لفظ حديث الثقلين الذي اغتر به ابن تيمية، انما كان تصرفاً وتحريفاً من زيد بن أرقم عند القاء الحديث الى يزيد بن حيان والحصين بن سبرة وعمرو بن مسلم، وهذا غير مستبعد من مثل زيد بن أرقم الذي كتم حديث: « من كنت مولاه » عند ما استشهد به أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، كما أسلفنا ذلك في مجلد حديث الغدير، حتى ابتلاه الله بما دعا (ع) عليه به في دار الدنيا، والاخرة أدهى وأمر. بل عدم وجود « من كنت مولاه » في حديث الثقلين برواية مسلم - رغم كون سياقه شارحاً لقضية الغدير - يؤيد ذلك، مع ان تفسيره لفظ « اهل البيت » في هذا الحديث بـ « كل من حرم عليه الصدقة » انما هو تفسير من عنده، ولذلك قال الحافظ الكنجي الشافعي بعد حديث زيد ابن أرقم ما نصه:

« قلت: ان تفسير زيد « أهل البيت » غير مرضى، لانه قال:

__________________

(١). دراسات اللبيب في الاسوة الحسنة بالحبيب ٢٣١ - ٢٢٧.

٦٣

أهل البيت من حرم الصدقة. وهم لا ينحصرون في المذكورين، فان بني المطلب يشاركونهم في الحرمان، ولان آل الرجل غيره على الصحيح، فعلى قول زيد يخرج امير المؤمنينرضي‌الله‌عنه عن أن يكون من أهل البيت، بل الصحيح أن أهل البيت علي وفاطمة والحسنان رضي الله عنهم، كما رواه مسلم بأسناده عن عائشة ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ذات غدوة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين بن علي فأدخله، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً.

وهذا دليل على أن أهل البيت هم الذين ناداهم الله تعالى بقوله: « أهل البيت » وأدخلهم الرسول في المرط.

وأيضاً روى مسلم بأسناده أنه لمـّا نزلت آية المباهلة دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: « اللهم هؤلاء أهل بيتي »(١) .

هذا الى غيره من شواهد تحريفه في هذه الرواية، كما لا يخفى على الناظر البصير.

ومع ذلك فان الحق لا بدّ أن يعلو ويظهر، ولذلك فان زيداً نفسه قد روى حديث الثقلين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيه الامر بالتمسك بأهل بيتهعليهم‌السلام واتباعهم، والنهي عن التقدم عليهم والتخلف عنهم، كما لا يخفى على ناظر ( صحيح الترمذي ) و ( كتاب المصاحف ) لابن الانباري و ( المعجم الكبير ) للطبراني و ( المستدرك ) للحاكم و ( المناقب ) لابن المغازلي وغيرها.

٣ - الحديث عن جابر عند مسلم محرف

وأما تمسكه بحديث جابر الذي جاء في ( صحيح مسلم ) مدعياً بأن

__________________

(١). كفاية الطالب ٥٤.

٦٤

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأمر الّا بالتمسك بالكتاب، فهو أيضاً باطل واضح.

لان حديث جابر - وان جاء في مسلم محرفاً كما ذكر - جاء في رواية الترمذي، وفيه الامر الصريح بالتمسك بأهل البيتعليهم‌السلام . وهذا نصه:

« حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، نا زيد بن الحسن، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس انّي تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(١) .

ولقد كان الاحرى به ألا يتطرق الى هذا الحديث بلفظه الذي جاء في مسلم فضلا عن الاحتجاج به، ولكن « إذا لم تستح فاصنع ما شئت ».

٤ - دعوى ضعف « وعترتي فانهما لن يفترقا »

وأما قوله: « وأما قوله وعترتي فانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فهذا رواه الترمذي، وقد سئل عنه أحمد، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: انه لا يصح »، فيشتمل على غرائب وأباطيل:

الاول: يفيد كلامه أن أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتباع عترته جاء في رواية الترمذي خاصة، ومفهومه أنه لم يروه غيره، وقد علمت سابقاً رواية جمهور علمائهم حديث الثقلين الامر بتمسك واتباع الكتاب وعترته.

الثاني: يفيد كلامه أن رواية قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » خاصة بالترمذي، لكن قد علمت رواية أكثر علمائهم الكبار حديث الثقلين مشتملا على هذه العبارة، ومنهم: ركين الفزاري، وعبد الملك العزرمي، والاعمش، وابن اسحاق، واسرائيل بن يونس

__________________

(١). صحيح الترمذي ٢ / ٢١٩.

٦٥

السبيعي، وعبد الرحمن المسعودي، ومحمد بن طلحة اليامي، واليشكري، وشريك، والضبي جرير بن عبد الحميد، ومحمد بن الفضيل الضبي، وعبد الله ابن زهير الهمداني، وأبو أحمد الزبيري، وأبو عامر العقدي، وأسود بن عامر الشامي، ويحيى بن حماد الشيباني، وابن سعد، والمخرمي، وابن بقية الواسطي، وأحمد بن حنبل، وعبد بن حميد الكشي، وعباد بن يعقوب الاسدي، والجهضمي، والعنزي، والطريقي، والرقاشي، ومحمد بن أبي العوام الرياحي، والحكيم الترمذي، وعبد الله بن أحمد، والبزار، والقباني، والنسائي، وأبو يعلي، والطبري، والباغندي، والاسفراييني، والبغوي، وابن الانباري، وابن عقدة والجعابي، والطبراني، والقطيعي، والازهري، والذهبي، والحاكم والثعلبي، وأبو نعيم، وابن عساكر، والضياء المقدسي

الثالث: قوله « سئل عنه أحمد » لم نفهم معناه، وهل السؤال عن حديث يفيد القدح فيه؟ ألم يخرجه أحمد في مسنده كما تقدم؟ الم يخرجه في كتاب مناقب علي كما تقدم؟ ومن كان السائل؟ وما كان جواب أحمد عن هذا السؤال؟ وما المقتضى للاعراض عن إيراد جوابه؟

هذه أسئلة تتوجه الى كلامه.

وهنا نقول: ان جواب أحمد لا يخلو اما أنه كان تضعيفاً للحديث أو تصحيحاً له، وعلى كلا الحالين كان يجب عليه ذكر الجواب، لانه ان كان تضعيفاً فلم لم يذكره وهو يؤيد زعمه؟ وان كان تصحيحاً فلم أعرض عنه وأسقطه وهو خيانة؟

وعلي أي حال فان كلامه هذا عجيب جداً، ويكفي في الجواب عنه رواية الامام أحمد حديث الثقلين مصححاً اياه في ( المسند ) و ( المناقب ).

الرابع: وأما قوله « فضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا انه لا يصح » فكذب وزور، يأباه أقل الناس فضلا عن شيخ الإسلام!

وباختصار: انه لا يجد أحد - بعد الفحص والتتبع التام - أحداً ينكر هذا القسم من حديث الثقلين، وقد علمت سابقاً نسبة البخاري انكار أصل

٦٦

الحديث وتمامه الى أحمد، وكذلك طعن ابن الجوزي في الحديث من أصله الا أنه لم ينكر أحد منهم هذه الفقرة من الحديث، التي زعم ابن تيمية ان جماعة من أهل العلم قالوا انه لا يصح.

ولم لم يذكر ابن تيمية - رغم اطنابه في جميع المقامات وكثرة تكلمه في كل شيء - أهل العلم المضعفين لهذه الجملة من الحديث؟ وليته ذكر واحداً منهم - ان كان يطلب الاختصار ان هذا لعجيب.

ولقد علمت - والحمد لله - صحة هذا القسم من الحديث - ضمن حديث الثقلين - فيما تقدم من الكتاب، بل ثبت اجماعهم على صحته، بالاضافة الى تصريح جملة منهم بذلك، فراجع.

كلام آخر لابن تيمية

ومما هو جدير بالذكر هنا ان ابن تيمية قال في الجواب عن حديث الغدير بعد كلام له:

« ولما لم يذكر في حجة الوداع امامة علي ولا ما يتعلق بالامامة أصلا، ولم ينقل أحد لا بأسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر امامة علي بل ولا ذكر علياً في شيء من خطبه، وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام، علم ان امامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه، بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يذكر في امامته، والذي رواه مسلم ( في صحيحه ) انه بغدير خم قال: اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله. فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال: وعترتي أهل بيتي. اذكركم الله في أهل بيتي - ثلاثاً - وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري، وقد رواه الترمذي وزاد فيه: وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض.

وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة، وقالوا انها ليست من الحديث، والذين اعتقدوا صحتها قالوا انما تدل على ان مجموع العترة الذين هم بنو هاشم كلهم لا يتفقون على ضلالة، وهذا قد قاله طائفة من أهل

٦٧

السنة، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره.

والحديث الذي في صحيح مسلم اذا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قاله فليس فيه الا الوصية باتباع كتاب الله، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر باتباع العترة ولكن قال: « أذكركم الله في أهل بيتي »، فتذكير الامة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الامر به قبل ذلك من اعطائهم حقوقهم والامتناع من ظلمهم، وهذا أمر تقدم بيانه قبل غدير خم فعلم انه لم يكن في امامته [ فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر بشرع نزل اذ ذاك، لا في حق علي ولا في حق غيره لا امامته ولا غيرها ] »(١) .

الرد عليه من وجوه

والجواب عنه بوجوه:

الاول : قوله « لم يذكر في حجة الوداع امامة عليّ ولا ما يتعلق بالامامة أصلا، ولم ينقل أحد بأسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر امامة عليّ » مردود، اذ لا يخفى على المتتبع ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرر حديث الثقلين - بغض النظر عن غيره من النصوص - في حجة الوداع مراراً، وهذا يثبت امامة عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام

الثاني : قوله « ولا ذكر علياً في شيء من خطبه وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام » يكذبه ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اياه في خطبه في هذه الحجة ضمن أهل البيت.

هذا بالاضافة الى أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب في حجة الوداع خطبة خاصة ذكر فيها علياً وأثبت عصمته وأفضليته بها.

قال ابن الاثير ما نصه: « وبعث علي بن أبي طالب الى نجران ليجمع صدقاتهم وجزيتهم ويعود، ففعل وعاد ولقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة في

__________________

(١). منهاج السنة ٤ / ٨٥.

٦٨

حجة الوداع، واستخلف على الجيش الذين معه رجلا من أصحابه وسبقهم الى النبي فلقيه بمكة، فعمد الرجل الى الجيش فكساهم كل رجل حلة من البز الذي مع علي، فلما دنا الجيش خرج علي ليتلقاهم فرأى عليهم الحلل فنزعها عنهم، فشكاه الجيش الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام النبي خطيباً فقال: أيها الناس لا تشكوا علياً فهو لا خشن في ذات الله وفي سبيل الله »(١) .

ورواه أيضاً ابن هشام(٢) .

وأبو جرير الطبري(٣) .

الثالث : قوله « ان امامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه بل ولا حديث الموالاة وحديث الثقلين ونحو ذلك مما يذكر في امامته » مردود بما يأتي:

أولا - دعوى عدم ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امامة امير المؤمنينعليه‌السلام في حجة الوداع باطلة كما مر.

ثانياً - دعوى عدم ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا في شيء من خطبه فيها باطلة أيضا كما مر.

ثالثاً - دعوى كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمورا بالتبليغ العام - بمعنى أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امر بتبليغ كافة الاوامر الشرعية في حجة الوداع - ممنوعة، وذلك لعدم اشتمال خطبته على جميع الاحكام النازلة من اول بعثته الى حين حجته كما لا يخفى ذلك على من راجعها. سلمنا لكن لا دليل على ان ما بلغهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك بأمر الله لم يكن من الدين في شيء، اذ لا يتفوه بهذا الكلام ذو مسكة وشعور، لكن ابن تيمية لا يهمه إخراج حديث الغدير وحديث الثقلين من الدين المأمور بالتبليغ به، بل من الدين الاسلامي

__________________

(١). الكامل ٢ / ١٢٦.

(٢). السيرة النبوية ٢ / ٦٠٢ - ٦٠٣.

(٣). تاريخ الطبري ٢ / ٤٠١ - ٤٠٢.

٦٩

مطلقاً، وذلك لفرط بغضه وعداوته لاهل البيت وسيدهم امير المؤمنينعليه‌السلام .

رابعاً - دعوى عدم ذكر حديث الغدير في حجة الوداع من الاكاذيب الواضحة، يدل على ذلك مراجعة روايات ائمة مذهبه، وقد فصلنا ذلك في مجلد حديث الغدير.

خامساً - دعوى عدم ذكر حديث الثقلين في حجة الوداع جهل أو تجاهل، لما قد علمت سابقاً ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك يوم عرفة من حجة الوداع، وكذا يوم غدير خم ضمن خطبته، وبرغم أنك سمعت ايرادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له يوم عرفة نقلا عن ( صحيح ) الترمذي فان من المناسب نقل خطبته تلك بكاملها.

خطبة الغدير في العقد الفريد

قال ابن عبد ربه: « خطبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع:

« ان الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب اليه، ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، واستفتح بالذي هو خير.

أما بعد، يا أيها الناس! اسمعوا مني أبين لكم، فاني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقعى هذا.

أيها الناس! ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام الى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد، فمن كان عنده امانة فليؤدها الى الذي ائتمنه عليها. وان ربى الجاهلية موضوع، وان أول ربى أبدأ به ربى عمي العباس بن عبد المطلب. وان دماء الجاهلية موضوعة، وان أول دم أبدا به دم عامر بن ربيعة بن الحرث بن

٧٠

عبد المطلب. وان مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة والسقاية، والعمد قود، وشبه العمد قود، ما قتل بالعصا والحجر ففيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.

أيها الناس! ان الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.

أيها الناس! انما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، وانما الزمان قد استدار كهيئته في خلق الله السماوات والارض، وان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والارض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، الاهل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس! ان لنسائكم عليكم حقاً وان لكم عليهن حقاً، لكم عليهن الا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم الا باذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فان فعلن فان الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فان انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وان النساء عندكم عوار لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً.

أيها الناس! انما المؤمنون أخوة، فلا يحل لامرئ مال أخيه الا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض، فاني قد تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وأهل بيتي. الاهل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس! ان ربكم واحد، وان أباكم واحد، كلكم لادم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى. الاهل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب.

٧١

أيها الناس؟ ان الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز لوارث وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من دعا الى غير أبيه أو تولى الى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(١) .

هذا بالاضافة الى ظهور ذلك من روايات عديدة، فقد قال السمهودي بعد ذكر طرق حديث الثقلين: « وأخرجه الحافظ ابو محمد عبد العزيز بن الاخضر في ( معالم العترة النبوية ) وفيه ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك في حجة الوداع ».(٢)

وقال الحافظ الزرندي بعد أن روى الحديث: « روى زيد بن أرقمرضي‌الله‌عنه قال: أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حجة الوداع »(٣) .

ولقد أورد السمهودي في ( جواهر العقدين ) والشيخاني القادري في [ الصراط السوى ] رواية الزرندي المشار إليها.

وذكر الائمة الاعلام من محققي أهل السنة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك في حجة الوداع، وبذلك تنطق الروايات الماضية. فقد قال السمهودي(٤) في التنبيهات التي ذكرها بعد سياق حديث الثقلين: « خامسها - قد تضمنت الاحاديث المتقدمة الحث البليغ على التمسك بأهل البيت النبوي وحفظهم واحترامهم والوصية بهم، لقيامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك خطيباً يوم غدير خم كما في اكثر الروايات المتقدمة، مع ذكره لذلك في خطبته يوم عرفة على ناقته كما في رواية الترمذي عن جابر، وفي خطبته لما قام خطيباً بعد انصرافه من حصار الطائف كما في رواية عبد الرحمن بن عوفرضي‌الله‌عنه ، وفي مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت الحجرة من أصحابه كما

__________________

(١). العقد الفريد ٢ / ١١٠ - ١١١.

(٢). جواهر العقدين - مخطوط.

(٣). نظم درر السمطين ٢٢٣.

(٤). جواهر العقدين - مخطوط.

٧٢

سبق في رواية أم سلمة ».

وقال ابن حجر في ( الصواعق ) بعد نقل حديث الثقلين والتمسك بهما بطرق كثيرة، ثم ذكر أنها وردت عن نيف وعشرين صحابيا، قال: « وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة ».

وقال فيه بعد أن نقله عن أحمد: « وفي رواية ان ذلك كان في حجة الوداع ».

وقال الشيخاني القادري في ( الصراط السوي ) بعد ذكر حديث الثقلين برواية أبي سعيد: « قالوا أنه قال ذلك في حجة الوداع ».

وقد أثبت السندي في ( دراسات اللبيب ) - كما عرفت - أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ذكر حديث الثقلين في حجة الوداع.

الرابع : لقد ذكر ابن تيمية في كلامه هذا حديث الثقلين الذي جاء في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم، وقد علم أن زيدا قد حرف الحديث وتصرف فيه، لكن ابن تيمية لم تعط نفسه أن يكتفي بذلك فأكثر من تحريفه وبتره.

الخامس: يحسب ابن تيمية أن تفرد مسلم في اخراج حديث الثقلين واعراض البخاري عنه يحدث ضعفاً في الحديث، ولكنه لا يعلم أن عدم تخريج الحديث يعد من معائب البخاري وصحيحه، لا أنه يفيد ما تخيله.

على أنه لو أعراض البخاري ومسلم كلاهما عن حديث الثقلين ولم يخرجاه بل حتى لو طعناه فيه وضعفاه، فان ذلك لا يصغى اليه ولا يعتنى به، اذ لا قيمة له في مقابل رواية أولئك الاعلام الاعاظم هذا الحديث الشريف المتواتر.

ولقد علمت سابقاً - ولله الحمد - من ( المستدرك ) للحاكم أن لحديث الثقلين - بعض النظر عن سياق صحيح مسلم - ألفاظاً عديدة وطرقاً سديدة جاء كل منها صحيحاً على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وبالجملة فان اعراض البخاري عن إخراج حديث الثقلين على

٧٣

العلوم وسياق مسلم على الخصوص جناية كبيرة، اللهم الا أن يوجه اعراضه عن سياق مسلم بالخصوص، لأنه جاء محرفاً من زيد بن أرقم، ويدل عليه قول زيد نفسه في أول الحديث: « والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي » فلعل البخاري التزم جانب الاحتياط فلم يروه، لكن من المستبعد أن يستند أهل السنة - المعدلين لزيد بن أرقم وغيره من الصحابة - الى هذا التوجيه في مقابلة أهل الحق، ولو سلمنا ذلك فلا يبقى وجه يعتذر به لاعراضه عن الألفاظ والطرق التي رواها الحاكم في ( المستدرك ) وصححها على شرط الشيخين.

ومن هذا وأمثاله يعلم أن مسلماً قد يظهر طرفاً من الحق ولا يعرض عنه كالبخاري تماماً، وهذا هو السبب في تأخر رتبة كتابه عن رتبة كتاب البخاري عند أولئك المتعصبين المتعندين، الذين لا يروق لهم ذكر أى فضيلة لأهل البيتعليهم‌السلام ولأمير المؤمنينعليه‌السلام خاصة.

السادس: لقد نسب مرة أخرى رواية جملة: « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » الى الترمذي فقط، وقد علمت بطلانها قريباً، وأحرزت أنه قد رواها قبل الترمذي وبعده كثير من الحفاظ والمحدثين العظام، واصحاب الصحاح والآثار وشيوخ الحديث والرواية.

السابع : لقد طعن في جملة: « وانهما لن يفترقا » زاعماً طعن غير واحد فيها، رغم أنه لم يذكر أحد أولئك العلماء الذين طعنوا فيها، لكن قد أثبتنا سابقاً صحة هذه الفقرة من حديث الثقلين ايضاً، وبينا بطلان طعنه هذا وكذبه في دعواه هذه، عند رد كلام ابن الجوزي سابقاً، وكذا في دفع كلام ابن تيمية نفسه المتقدم قريباً.

ومع ذلك نقول: انه قد أخرج ابو عوانة هذه العبارة الكريمة ضمن حديث الثقلين برواية زيد بن أرقم في كتابه ( المسند الصحيح ) كما تقدم، وبالاضافة الى أن مجرد إخراج أبي عوانة دليل على صحتها - كما عرفت - لكون كتابه مستخرجاً على صحيح مسلم، فانه لا شك في صحتها، لاقتصار

٧٤

اصحاب المستخرجات على الروايات الصحيحة في زياداتهم على الصحيحين كما مر سابقاً عن كتاب ( تدريب الراوي ) للسيوطي.

وقال ابن الصلاح: « ثم ان الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل عليه أحد المصنفات المعتمدة المشتهرة لائمة الحديث، كأبي داود السجستاني وأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الرحمن النسائي، وأبي بكر ابن خزيمة، وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم منصوصاً على صحته فيها، ولا يكفي في ذلك مجرد كونه موجوداً في كتاب أبي داود وكتاب الترمذي وكتاب النسائي، وسائر من جمع في كتابه بين الصحيح وغيره، ويكفي مجرد كونه موجوداً في كتب من اشترط منهم الصحيح فيما جمعه ككتاب ابن خزيمة، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على كتاب البخاري وكتاب مسلم ككتاب أبي عوانة الأسفراييني، وكتاب أبي بكر الاسماعيلي، وكتاب أبي بكر البرقاني، وغيرها، من تتمة لمحذوف أو زيادة شرح في كثير من أحاديث الصحيحين، وكثير من هذا موجود في الجمع بين الصحيحين لابي عبد الله الحميدي »(١) .

وقال: « ثم ان التخاريج المذكورة على الكتابين يستفاد منها فائدتان: إحداهما علو الاسناد، والثانية الزيادة في قدر الصحيح لما يقع منها من ألفاظ زائدة وتتمات في بعض الأحاديث تثبت صحتها بهذه التخاريج، لأنها واردة بالأسانيد الثابة في الصحيحين أو أحدهما، وخارجة من ذلك المخرج الثابت. والله أعلم »(٢) .

وقال الزين العراقي: « ويؤخذ الصحيح أيضاً من المصنفات المختصة بجمع الصحيح فقط، كصحيح أبي بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة، وصحيح أبي حاتم محمد بن حيان البستي المسمى بالتقاسيم والأنواع، وكتاب

__________________

(١). علوم الحديث بشرح العراقي ٢٧ - ٢٨.

(٢). علوم الحديث ٣١.

٧٥

المستدرك على الصحيحين لابي عبد الله الحاكم، وكذلك ما يوجد في المستخرجات على الصحيحين من زيادة أو تتمة، فهو محكوم بصحته كما سيأتي في بابه »(١) .

وتعطينا هذه الكلمات والنصوص: أن الزيادات في المستخرجات صحيحة، وعلى هذا فلما كان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » موجوداً في كتاب أبي عوانة الأسفراييني مع حديث الثقلين فهو صحيح بلا ريب، ومعدود من كتاب صحيح مسلم، فإذا سلم ابن تيمية صحة حديث الثقلين الموجود في صحيح مسلم كان عليه الاعتراف بصحة تلك الجملة المذكورة لا إنكارها.

وأخرج امام المحدثين ابو عبد الله الحاكم حديث الثقلين في ( المستدرك على الصحيحين ) بروايات اشتملت على قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » وقال بعد كل واحدة منها: « صحيح الاسناد على شرط الشيخين ».

وقد بان لك من قول الزين العراقي المتقدم ان ( المستدرك ) من الكتب التي يؤخذ منها الزيادات الصحيحة على الصحيحين، فلا يبقى أي شك - عند أي منصف - في صحة قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المذكور، وظهر أنه صحيح كسائر الأحاديث التي اتفق الشيخان على صحتها، سواء أخرجاها أو لم يخرجاها. هذا بالاضافة الى حكم محمد بن طاهر المقدسي، كما في ( تدريب الراوي ) للسيوطي بقطعية صدور ما كان على شرط الشيخين وان لم يخرجاه.

فبالنظر الى ما تقدم وغيره لا مانع من دعوى التواتر في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض »، ويدل على ذلك ما مر في رواية استشهاد امير المؤمنينعليه‌السلام عن ابن عقدة والسخاوي والسمهودي

__________________

(١). شرح ألفية الحديث ١ / ٥٤.

٧٦

وغيرهم عن سبعة عشر رجلا من الصحابة في حديث الثقلين المشتمل على هذه الكلمة، ثم تصديق امير المؤمنينعليه‌السلام لهم وشهادته بصحة ما شهدوا عليه.

ومما لا ريب فيه أن هذا العدد كاف لدعوى تواتر الحديث، بل هذا العدد اكثر بكثير من عدد التواتر، لان ابن حجر المكي ادعى في ( الصواعق ) التواتر في صلاة أبي بكر في مرض النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بزعم وروده عن ثمانية من الصحابة، بل ادعى ابن حزم في ( المحلى ) في حرمة بيع الماء تواتر حديث الحرمة، وقد رواه أربعة من الصحابة.

فرواية سبعة عشر رجلا من الصحابة حديث: « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » يفيد تواتره قطعاً، ولهذا صرح المقبلي في ( ملحقات الأبحاث المسددة ) بعد أن ذكر حديث الثقلين باللفظ المشتمل على هذه الجملة، صرح بتواتره عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الثامن : قوله « والحديث الذي في صحيح مسلم إذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قاله فليس فيه الا الوصية باتباع كتاب الله، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك »، يفيد عدم جزمه بصحة ما في صحيح مسلم من حديث الثقلين، لان قوله « إذا كان النبي قد قاله » ظاهر في التشكيك بثبوت هذا أيضاً.

ان ابن تيمية يحاول كتم الحق وانكار الحقائق، ولكن سعيه يذهب ادراج الرياح. قال الله تعالى:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) .

التاسع: قوله « فليس فيه الا الوصية باتباع كتاب الله » خطأ واضح، لان عبارات العلماء الاعلام ومحدثيهم العظام صريحة في وصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتباع الكتاب وأهل البيت معاً، راجع منها ما تقدم من تحقيق السندي في ( دراسات اللبيب ).

وأما قوله « وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك »

٧٧

فلقد علمت من البيانات السابقة - والحمد لله - أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص باتباع كتاب الله فحسب، بل انه امر يوم عرفة وغيره باتباع أهل بيته الطاهرين مع كتاب الله، وكيف يأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باتباع كتاب الله تعالى فحسب وقد تحقق عدم افتراق الثقلين بنصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يردا عليه الحوض، وذلك ظاهر لا يحتاج الى مزيد بيان.

العاشر: قوله بعد ذلك: « وهو لم يأمر باتباع العترة ولكن قال أذكركم الله في أهل بيتي ».

والجواب عنه بوجوه:

أولا - ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر باتباع عترته في مواضع وخطب و وصايا لا تحصى كثرة، وفي حديث الثقلين أمر باتباعهم على وجه الخصوص، كما تقدم ذلك مراراً عديدة، وهو ثابت أيضاً في حديث صحيح مسلم - وان لم يكن يسلم من التحريف والاسقاط كما تقدم - وهذا بوحده كاف لاستيصال أصل الشبهة.

بل نقول: انه لو لم يكن في صحيح مسلم سوى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انّي تارك فيكم الثقلين » لكفى دليلا على وجوب التمسك بأهل البيتعليهم‌السلام كوجوب التمسك بكتاب الله، ويؤيد ذلك ما ذكره محققوهم في بيان وجه تسميه الكتاب والعترة بالثقلين: قال الأزهري في ( تهذيب اللغة ) على ما نقل عنه ابن منظور في ( لسان العرب ): « قال ثعلب: سيما ثقلين لان الأخذ بهما ثقيل، والعمل بهما ثقيل ».

وقال ابن الأثير في ( النهاية ): « سماها ثقلين لان الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ».

وقال السخاوي في ( استجلاب ارتقاء الغرف ): « انما سماهما بذلك إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما، فانه يقال لكل شيء خطير نفيس ثقل، وأيضاً فلان الاخذ بهما والعمل بهما ثقيل، ومنه قوله تعالى:( سَنُلْقِي عَلَيْكَ

٧٨

قَوْلاً ثَقِيلاً ) أى له وزن وقدر، أو لانه لا يؤدى الا بتكلف ما يثقل ».

وقال القاري في ( المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٩٣ ): « وفي ( شرح السنة ) سماهما ثقلين لان الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ».

الى غيرها من كلمات العلماء العظام من أهل السنة، فيكون معنى قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انّي تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما » انّي تارك فيكم أمرين الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل. وذلك ظاهر، فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر إذاً باتباع العترة كذلك.

ثانياً - لم يكن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أذكركم الله في اهل بيتي » مجرد تذكير للامة، بل امر باتباع العترة مع التأكيد عليه، وقد كررصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا التأكيد لمزيد الاهتمام بوجوب اتباعهم، وقد اعترف بهذا المعنى علماء أهل السنة الأكابر:

قال الزرقاني في ( شرح المواهب اللدنية ) بشرح حديث مسلم في شرح هذه الجملة: « قال الحكيم الترمذي حض على التمسك بهم، لان الأمر لهم معاينة، فهم أبعد عن المحنة ».

وقال المولوي مبين في ( وسيلة النجاة ) في شرحها: « أي اخشوا الله واحفظوا حقوقهم، واتخذوا طاعتهم ومحبتهم شعاراً لكم، فكما ان امتثال أحكام كتاب الله فرض فكذلك إطاعة اهل البيت والانقياد لأوامرهم بالجوارح والاركان، ومحبتهم والاعتقاد بهم بالقلب والجنان فرض ».

وقال القنوجي في ( السراج الوهاج ): « والأخذ بكتاب الله أن يتلوه آناء الليل والنهار، ويعمل بما فيه من الحلال والحرام وغيرهما مما اشتمل عليه، ولا يتخذه مهجوراً، والذكرى في أهل البيت أن يعرف فضلهم ويحترمهم بما يصل اليه يده ويجتنب أذاهم وحطهم، ويقتدى بهم فيما يوافق الكتاب السنة ويؤقرهم ويعززهم، لا سيما العلماء الصلحاء منهم، فإنهم بضعة الرسول ومضغة البتول وأحباء الله وأبناء رسوله ».

وقال فيه أيضاً: « تحريم الزكاة على اهل البيت لها موضع غير هذا

٧٩

الموضوع، والمقصود هنا بيان فضيلتهم وانهم قسيم كتاب الله في التعظيم والإكرام، وفي التسمية بالثقل وانه لا بد من الأخذ بهما، فإنهما لا يفترقان حتى يردا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض ».

وقال محمد أمين السندي في ( دراسات اللبيب ): « فحملنا قوله « أذكركم الله » على مبالغة التثليث فيه على التذكير بالتمسك بهم والردع من عدم الاعتداد بأقوالهم وأعمالهم وأحوالهم وفتياهم وعدم الأخذ بمذهبهم ».

ثالثاً - لقد أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الامة باتباع اهل بيته والتمسك بهم قبل يوم غدير خم وقبل حجة الوداع وبعدها، فزعم عدم تقدم ذلك - كما هو فحوى كلامه - من أبين الاباطيل.

رابعاً - قوله « وتذكير الامة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من اعطائهم حقوقهم والامتناع من ظلمهم » يفيد أن اتباع اهل البيتعليهم‌السلام ليس داخلا في حقوقهم التي أمرت الامة باعطائهم اياها. وان مخالفتهم ليست داخلة في ظلمهم الذي أمروا بالامتناع منها، وهذا جور عظيم وظلم كبير

خامساً - قوله « وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خم فعلم انه لم يكن في إمامته » لا ربط له بكون التذكير المذكور في حديث مسلم او في مطلق حديث الثقلين لم يكن في امامة أمير المؤمنينعليه‌السلام كما تفوه به هذا الناصب، وبما انه قد ثبت أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المواقع الجليلة والمواقف العظيمة قبل يوم الغدير وبعده، فان ما في صحيح مسلم المشتمل على بيان واقعة يوم غدير خم بالنسبة لأهل البيتعليهم‌السلام يلزم أن يكون في إيجاب طاعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ولزوم الانقياد له وفرض إمامته على الامة، وهذا واضح.

كلام للجاحظ في مدح أهل البيت

و اذ رأيت بطلان كلمات ابن تيمية ظهر لك انه لا ينبغي لمؤمن أن

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وهم أصحاب مدن وحصون، ومنهم قوم في رءوس الجبال والبراري، في خيم اللبود، وليس لهم عمل غير الصيد، ومن لم يصد شيئا ذبح دابته وأخذ دمها وشواه، وهم يأكلون الرخم والغربان وغيرها. وليس لهم دين، ومنهم من هو على دين المجوسية ومنهم من يتهود.

وملكهم الاكبر خاقان، وله سرير من ذهب وتاج ذهب ومنطقة ذهب ولباسهم الحرير، وقيل ان ملكهم الاعظم لا يكاد يظهر، وإن ظهر لم يقم بين يديه أحد، وفيهم مكر (١) وفيهم حقد، وشدة وبأس.

وللملك عندهم يوم توقد لهم فيه نار عظيمة ويأتي ويقف وهو مطل عليها، ويتكلم بهمهمة فيرتفع منها وهج عظيم، فان كان إلى الخضرة كان الغيث والخصب وإن كان إلى البياض كان الجدب، وإن كان إلى الحمرة كانت هراقة الدماء، وإن كان إلى الصفرة كانت علل ووباء، وإن كان إلى السواد دل على موت الملك أو على سفر بعيد، فان كان ذلك عجل بالسفر والعودة

ذكر مملكة الروم

وأما الروم فهم من بني عيصو والروم لقب لهم، فلما صار الامر إلى قسطنطين قال بالنصرانية وجمع الاساقفة على المعمودية (٢) ثم تفرقت النصارى بعده على الطبقات: البطريق والاسقف والقسيس والشماس والمطران والدمستق صاحب الفرق، وهم يفطرون يوم الاحد إذا صاموا، ويفطرون السبت من الظهر، ولا يتزوج الرجل عندهم الا واحدة ولا يتسرى عليها، ولا يشرب من الخمر حتى يسكر، والسكر عندهم حرام، وتعظيم الاحد عندهم، لان

__________________

(١) في ب: وفيهم سحر.

(٢) في ب: المعمورية.

١٠١

المسيح قام من قبره ليلة يوم الاحد، وارتفع إلى السماء يوم الاحد بعد اجتماعه مع الحواريين.

ولا يرون الاغتسال من الجنابة ولا الوضوء، وإنما عبادتهم بالنية ولا يأخذون القربان، ويقولون هذا لحمك ودمك، يعنون المسيح عيسى عليه السلام، ويعتقدون أنه ليس بلحم ولا خبز وإذا تفرقوا بعد أخذه قتل بعضهم بعضا، ولا يتكلم إذا أخذ القربان حتى يغسل فمه، ويورثون النساء جزئين والرجال جزءا، وليس لهم طلاق.

ومن سيرتهم أن لا يلبس أحد منهم خفين أحمرين إلا الملك، فان كان ولي عهد لبس فردا أحمر وفردا أسود، ولا يأكل ملكهم إلا على الموسيقى والالحان والغناء، وأكثر طعامهم الكرديانات والمرققات والاستبدناجات والسكباجات.

ولهم الارغن وفيهم الطب والحكمة وعمل الصناعات والحذق بالصور حتى أنهم ليصورون صورا يظهر عليها الحزن، ويصورون أخرى يظهر عليها الفرح والسرور، ويسمى ملكهم الملك الرحيم، ويظهر العدل والانصاف وهو ينوح.

ذكر مملكة الفرس

وأما الفرس فهم من ولد يافث بن نوح، والفرس تدفع ذلك ويزعمون أنهم لا يعرفون نوحا ولا الطوفان ولا ولد نوح، ويحسبون ملوكهم من كيومرت الاول وهو آدم.

وزعموا أن الفرس كلها من ولد افريدون الملك، وزعم قوم أن أول ملك في العالم بعد الطوفان أو سبهبد بن نوح بن عامر (١) بن يافث وأنه ملكهم ألف

__________________

(١) هكذا في الاصل، والمعروف أنه ابن لمك.

١٠٢

سنة وطلع إلى الفلك.

وبعده منوشهر وهذه الطبقة الاولى إلى أن غلب الاسكندر دارا بن دارا ورتب ملوك الطوائف، ثم هلكت الاكاسرة من آل أردشير بن بابك إلى انقضاء ملكهم وقد نسبهم قوم إلى سام، وبذلك جاءت الاثار.

وكان دينهم دين الصابئة، ثم تمجسوا وبنوا بيوت النيران، ويقال إنه كان يكسي ملكهم بيوت النيران ويذر فيها كبريتا وزرنيخا فيستوقد من نفسه لا يستعملون الحطب لتلك النار الا أوقية أوقية بثلاثين فضة.

ويقال إن [من] كان يريد التعبد في تلك البيوت يقعد على كرسي وبين يديه هاون حجر كبير قد جعل فيه ماء وبيده دستج خشب يضرب به الملك أبدا ويحركه بعنف شديد وقوة واجتهاد كأنه يعذبه لعبادته النار.

وجميع أهل الممالك يعترفون للفرس ويقرون لهم بالرئاسة وحسن التملك وتدبير الحروب ودقيق الالوان وتأليف الطعام والطب واللباس وترتيب الاعمال ووضع الاشياء مواضعها والترتيل والخطابة ووفور العقل وتمام النظافة والشكل وهيبة الملوك، هذا كله لهم فيه السبق.

ومن كتب سيرتهم استعمال من جاء من بعدهم من رسوم الملك وتدابير الرئاسة، وأمرهم أشهر من أن يستقصى في هذا المكان.

ذكر مملكة خراسان

فأما ملوك خراسان مثل الصغد وغيرهم من قد غلبه والاشر وسنية والبرجان وهو أهل الديلم والجبل واللد والاكراد والشماس، وما وراء النهر فقد كانت لهم ملوك عدة بطارقة اكثرهم كان يعبد النار ويتمجس.

ويقال ان اردشير رأى شيطانه فقال له علمني علما انتفع به، فقال له على

١٠٣

أن تنكح أمك فهي أقرب اهلك، ففعل وصار دين المجوسية.

والفرس تزعم أن نكاح الاخوات من وقت آدم، ثم أطلق لهم بعد ذلك زنادقتهم نكاح الام، وقالوا لهم هي أحق إليه من الاخت ففعلوا.

وخلف جزيرة الصين أمم عراة ينسق لون شعورهم وأمم لا شعور لهم وأمم حمر الوجوه شقر الشعور، وأمم إذا طلعت الشمس هربوا إلى مغارات يأوون إليها من حر الشمس ولا يخرجون منها حتى تدور الشمس إلى الوجه الغربي، وأكثر ما يغتذون نباتا يشبه الكمأة وسمك وخشاش الارض، وتحاذيهم من ناحية الشمال أمم بيض شقر عراة يتناكحون كما تتناكح البهائم، ويجتمع على الواحدة الجماعة، ولا يمنع أحد من أنثى لينالها.

ذكر سام بن نوح

وأما سام بن نوح عليه السلام فان الله تعالى جعل له الرئاسة والكتب المنزلة والانبياء، ووصية نوح في ولده سام خاصة دون أخوته، فولد سام، أرفخشذ.

وكان عمره أربعمائة سنة وخمسا وستين سنة منه، وولد أرفخشذ شالخ، وولد شالخ عابر، وعاش عابر أربعمائة سنة وثلاثين سنة.

وولد عابر قحطان، وولد قحطان فالغ، وولد فالغ يعرب، وقيل إنه أول من تكلم بالعربية، وكانت لغاتهم السريانية، وولد يعرب سبأ وولد سبأ حمير، وسمى بذلك لانه كان له تاج، وكان له جوهر أحمر فإذا جلس أضاء على بعد منه، فكان يقال له الملك الاحمر، ثم غير اللفظ فقيل له حمير.

وكهلان [بعد] حمير بن سبأ ومن كهلان كانت ملوك اليمن من التبايعة والاذوين، ومنهم كان أبرهة والاحابش، والمغاربة والانجاد.

١٠٤

والاذواء جماعة غزوا الامم وتجولوا في البلاد، ومنهم إفريقس الذي بلغ آخر المغرب.

ذكر ابراهيم عليه السلام

وأما ابراهيم عليه السلام فولد له سيدنا اسماعيل عليه السلام، وأمه [هاجر] القبطية واسحق وأمه سارة بنت هارون، وهو من بني حران وكانت حياة ابراهيم عليه السلام مائة وخمسا وسبعين سنة، وكان ملك بابل في وقته النمروذ من ولد كوش بن حام، فلما ان حاجه ابراهيم عليه السلام وكسر الاصنام أضرم الملك له نارا عظيمة وألقاه فيها فجعلها الله تعالى عليه بردا وسلاما، وأتت ريح فنسفت النار في وجوه الواقفين مع الملك كذلك.

وخرج إلى حران فآمن به ابن أخته لوط وسارة بنت عمه. وكان خروجه وهو ابن سبع وثلاثين سنة وتزوج سارة بوحي أتاه، وخرج معه ثلاث صحف بالعبرانية وكانت لغته سريانية، وكان في الصحف أمثال وتسبيح وتهليل وتحميد، وأمر بالمسير فعبر الفرات وسار إلى مصر وسنذكر قصته في أخبار مصر.

ذكر اسماعيل عليه السلام

وأما اسماعيل عليه السلام فقطن الحرم ونبع له زمزم بامر الله تعالى، ونبأه الله وارسله إلى العماليق وجرهم وقبائل اليمن، فنهاهم عن عبادة الاوثان، فآمنت به طائفة منهم وكفر اكثرهم، وغلب على الحرم وتزوج في خيرهم.

١٠٥

وولد له اثنا عشر ولدا ومات وهو ابن مائة سنة وسبع وستين سنة، وأوصى إلى ابنه عدنان بأمر البيت، فدبر امر البيت.

فمن عدنان ولد محمد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وجميع العرب العاربة من ولده. وذكر آخرون أنه من ولد قيدار بن اسماعيل، واختلفوا في ولد اسماعيل اختلافا كبيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ بالنسب إلى معد بن عدنان، قال عدنان بن اعراق الثري. ومن اسماعيل وعدنان أمم كثيرة.

حدث البلبلة

كان الناس بعد الطوفان مجتمعين بمكان واحد بأرض بابل ولغتهم السريانية ثم تفرقوا فسلك قحطان وعاد وثمود وعملاق، وطسم وجديس طريقا، وألهمهم الله تعالى هذا اللسان العربي فساقتهم الاقدار إلى اليمن فسارت عاد إلى الاحقاف ونزل ثمود ناحية الحجر ونزل جديس اليمامة، ثم شخص طسم فنزل اليمامة مع جديس، ثم شخص عملاق فنزل أرض الحرم، وسار ضخم أرم فنزل الطائف، وسار جرهم فنزل مكة، فهؤلاء ولدهم ونسلهم يسمون العرب العاربة.

وولد إسماعيل يسمون العرب المستعربة لانهم تعلموا منهم وتكلموا بلغتهم.

ذكر عاد

وأرسل الله هودا إلى عاد وهم بأحقاف الرمل وملكهم الخلجان (١) بن الوهم، وكاونوا يعبدون ثلاثة أصنام وكذبوه، فدعا عليهم فأمسك الله عنهم

__________________

(١) في ب: الخلنجان.

١٠٦

المطر ثلاث سنين فأجهدهم ذلك فوجهوا إلى مكة رجالا يستسقون لهم في الحرم.

ولم تزل العرب تعظم موضع البيت، وكان موضعه بعد الطوفان ربوة حمراء، وأهله العماليق وسيدهم معاوية بن بكر، فقدم عليه وفد عاد للاستسقاء وفيهم قيل (١) بن عمرو ويزيد بن ربيعة، ونعيم بن هذال، ولقمان بن عاد، فقدموا ونزلوا على معاوية بن بكر وأقاموا عنده شهرا يأكلون ويشربون وتغنيهم الجرداتان وهما قينتان كانتا لمعاوية بن بكر، فلما طال أمرهم أشفق عليهم معاوية بن بكر لانهم أخواله وخاف عليهم، فصنع شعرا ينبههم به ويحثهم على ما قدموا له، وأمر الجاريتين فغنتاه (٢) :

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يمطرنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد أمسوا لا يبينون الكلاما

وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم

نهاركم وليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم

ولا لقوا التحية والسلاما (٣)

فانتبه القوم لما سمعوا الشعر ونهضوا يستسقون، فلما استسقوا نشأت لهم ثلاث سحائب بيضاء وسوداء وحمراء، ونودي قيل منها اختر لقومك قال البيضاء جهام قد فرغت ماءها، والحمراء ريح والسوداء غيث فاختارها فقيل قد اخترت رمادا رمددا لا يبقي من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا. فدخلت الريح على عاد من واديهم، فأقامت سبع ليال وثمانية أيام حسوما، والحسوم الدائمة حتى هلكوا عن آخرهم، وتهدمت ديارهم ولم يمنعهم جدار ولا جبل حتى هلكوا عن آخرهم، ولم يبق إلا رسمهم.

__________________

(١) في ب: قنبل.

(٢) في ب: فغنيتاه.

(٣) الابيات في مروج الذهب بأطول من هذا.

١٠٧

و[روي أنه] لما استسقى وفدهم بمكة، ساروا في طريقهم فنودوا في طريقهم: إن عادا قد هلكوا عن آخرهم، فاختاروا لانفسكم، فاختار قيل أن يلحق بقومه، فسار نحوهم فلقيته الريح فأهلكته، واختار مزيد برا وصدقا وكان مؤمنا بهود عليه السلام، فأعطي ما سأل.

واختار نعيم حياة ألف سنة لا يمرض ولا يهرم، ولا تصيبه حاجة فأعطي ما اختار، واختار لقمان عمر سبعة أنسر فأعطي ما أختار، وكان يأخذ النسر فرخا يربيه حتى يهلك، ثم يأخذ عند هلاك ذلك فرخا آخر، فيفعل به كذلك، حتى بلغ سبعة أنسر، وكان آخرها لبد، وقد ضربت العرب به الامثال في أشعارهم قال الاعشى:

ألم تر لقمان أهلكه

ما مر من سنة ومن شهر

وبقي نسر كلما انقرضت

أيامه عادت إلى نسر

ما مر من أمد على لبد

وعلى جميع نسوره السمر

قد ابلت الايام نضرته

وأودعت لقمان في القبر

وقال النابغة الذبياني:

أمست خلاء وأمسى أهلها انقرضوا

أخنى عليها الذي أخنى على لبد

ولما قسم نوح عليه السلام الارض بين بنيه جعل لسام وسط الارض، والحرم وما حوله واليمن إلى حضرموت إلى عمان والبحرين إلى عالج إلى طرف بلاد الهند، وكان هذا كله مدنا وقرى وحصونا وقصورا ومصانع وبساتين يتصل بعضها ببعض، إلى ان سخط الله على قوم هود فأفسد كثيرا منها.

وجعل الله في ولد سام النبوة والبركة، وجعل لحام بعض الشام ومصر إلى أعالي النيل وبلاد النوبة والبجة، وأصناف السودان مع البحر الاحمر (١) إلى

__________________

(١) في ب: الاخضر، وهو خطأ.

١٠٨

بلد الحبشة والهند والقوط والسند.

وقسم ليافث بلاد الترك والصين، ويأجوج ومأجوج، والصقالبة والروم وإفرنجة والاعبورة والاندلس إلى البحر المظلم، وسواحله.

وجعل ليحطون صين الصين إلى بلاد الشحر إلى ناحية اليمن، فكثروا من كل جانب وانبسطوا إلى جهة بابل، وبورك فيهم فصاروا نيفا من سبعين ألف بيت على خلق عظيم إلى أن ضرب بينهم إبليس، وكانت البلبلة فافترقوا.

وكان أول ملك منهم النمرود الاول بن كوش بن حام، وكان أسود أحمر العينين مشوها في جبهته كالقرن، وكان أول أسود يرى بعد الطوفان، فكان من ولده لدعاء نوح عليه السلام على ابنه حام، وذلك أن نوحا عليه السلام نام فانكشفت عورته، فرآها حام فضحك ولم يغطه، وسكت يافث، ولم ينكر عليه فصاح سام عليهما، وعلم ذلك نوح فدعا على حام أن يكون ولده سودا مشوهين عبيدا لولد سام، ودعا على يافث أن يكون ولده عبيدا لبني سام، وأن يكونوا أشرار الناس.

وكان حام من أجمل البرية وأتمهم كمالا وأطيبهم ريحا، فاجتنب امرأته أن يطأها خوفا من دعوة أبيه، فلما مات أبوه غلبه ذلك على اعتقاده، فقرب منها فحملت بكوش بن حام وأخته، فلما رآهما حام فزع منهما، وأتى اخوته فأخبرهما وقال لهما قلت لامرأتي هل شيطان أو أحد غيري أتاك؟ فقال اخوته هذه دعوة أبيك فاغتم لذلك وترك امرأته دهرا، ثم غشيها فولدت قوطا وتوأمته، فلما رأى ذلك هرب في البلاد وغاب فلم يدر أين يذهب، ولم يكن أشد تجبرا وتكبرا وعتوا من النمرود الاسود.

وكان له بعض كهان فأتاه ابليس فقال له أنا كاهن من الكهان، ولم أر أحدا يعادلك في الكهانة وأنا معينك ومتمم أمرك، وجاعلك ملك الملوك،

١٠٩

على أن تذبح لي ولدك قربانا، وتصلي لي ثلاث صلوات فأقلدك وأكون معك، وأجعلك كاهنا كاملا تاما وأقيمك مقامي ففعل ما أمر به فأمر إبليس الشياطين بطاعته، وليكون معه، ثم أتوه بولد سام فحاربهم وعاونه إبليس فقهرهم واستعبدهم، فانقادوا له وأطاعوه فبنى له إبليس قصرا وصفحه بالذهب (١) المكللة بالجوهر تضئ ما حوله ودفع إليه سيفا يتألق نورا في رأسه ثعبان يمتد إلى من يومئ إليه فيقتله، فلما رأى (٢) الناس ذلك أذعنوا له بالطاعة، ثم دعاهم إلى عبادته فأمر أن يبنى له صرح (٣) من الحجارة ومن الكلس فلم يبق احد إلا عمل فيه وقال يكون حصنا لكم.

وعاونته الابالسة فبنى صرحا عظيما فبلغ ارتفاعه في الجو تسعمائة ذراع، ثم هندم أعلاه بأغرب بنيان وبنى فيه مجالس على أساطين غريبة، وكان عرض كل حائط من حيطانه الاربع ألف ذراع وما بين ذلك من الطبقات جعلها كلها مخازن وملا جميعها من المال والطعام والشراب وجميع الالات وكل ما يخاف أن يحتاج إليه يوما من الدهر بما يقوم به هو وأهله مدة من الدهر طويلة، وجعل مجلسه أعلاه وأمر الناس أن يعبدوه.

واتخذ صاحب خبره جنيا (٤) بينه وبين الناس، فإذا رفع إليه أن أحدا امتنع عن عبادته أمر به فطرح من أعلى الصرح إلى أسفله.

وزعم قوم أنه يكون على السحاب ويصعد إلى الفلك، وكان يركب عجلة منصوبة على ظهور الشياطين وينحدر منها إلى الارض ففرق الناس منه وافتتنوا به وعبده كثير منهم، وعظم أمره. واتصل بسام أنه يريد قتله، وقد عزم عليه فأخرج سام الاسماء التي علمه نوح عليه السلام إياها، وقال له

__________________

(١) لعل الصواب بالمذاهب.

(٢) ب: رأوا.

(٣) ب: صرحا.

(٤) في ب: حبشيا.

١١٠

لا تدع بها إلا في مهم عظيم ففيها (١) اسم الله الاعظم، وقال: اللهم أنت الداعي لعبادك وبعينك ما هم فيه وما خرجوا من الفتنة إليه بغلبة هذا الجبار الذي قد استهوته الشياطين وانقيادهم له، وإن لم تغثهم ضلوا وهلكوا، وأنت أعلم بما يصلحهم، فاحقن دماءهم وامنع هذا الجبار منهم، وخذه بجريرته واكفنا أمره.

فأمر الله عزوجل الرياح الاربع فأقبلت على ذلك الصرح من جوانبه فجعلته دكا واتبع ذلك ظلمة شديدة ورجفة عظيمة تزعزعت لها الجبال.

فنهض العالم على وجوههم لا يرى بعضهم بعضا، ولا يدرون أين يتوجهون وضعفت ألسنتهم عن الكلام.

وهلك اللعين عدو الله النمروذ، وهلك من كان يعبده، ومشى الناس في الظلمة هاربين ثلاثة أيام ثم لاحت لهم شعوب فيها نور يسير، فتشعب كل شعب فرقة هربت نحوه طلبا للنجاة، وتبع كل فرقة قوم يحثونهم، وهذا بلغة غير لغة الفرقة الاخرى، حتى خرجت كل فرقة إلى ناحية من الارض وقد تبلبلت ألسنتهم وكثرت لغاتهم، فإذا وصلت فرقة منهم إلى موضع ناداهم مناد «هذا موضعكم الذي تكونون فيه فاعتمروا فيه وأثمروا».

فخرج بنو سام لناحية اليمن إلى الشحر وحضرموت إلى آخر خط الاستواء، فمنهم العرب العاربة.

وخرج بنو حام إلى السند والهند وبلاد أسوان (٢) . وخرج بنو يافث إلى الشمال،.

فمنهم الروم والخزر والترك والصقالبة والافرنج، ويأجوج ومأجوج.

وخرج بنو يحطون إلى الصين الاقصى وأقاصي الشرق، فنزل (٣) كل قوم في موضعهم وعمروه وتوالدوا فيه إلى اليوم.

__________________

(١) في ب: منها.

(٢) هكذا في الاصول.

(٣) في ب: ترك.

١١١

ونذكر من أخبار آدم عليه السلام ما وقع الينا في نقله بعض الخلاف، وفي ذكره فائدة.

آدم خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته على ما تقدم ذكره، وأسكنه جنته بفضله، وأهبطه بذنبه إلى الارض، وتاب عليه، وعلمه جميع العلوم، وملكه على الارض، وكثر في جميع العالم منه أفاضلهم وأشرارهم وهو أول من صام وصلى وقرأ وكتب.

وكان من أحسن المخلوقين وجها، وكان أمرد أجرد، وأنزل الله تعالى عليه إحدى وعشرين صحيفة، وتوفاه الله وهو ابن سبعمائة سنة وخمسون سنة، وكان عمره الف سنة، فوهب لداود منها خمسين سنة لما عرضت عليه أعمارهم وصورهم فرأى عمر داود قصيرا.

وأوصى بعده إلى ابنه شيث، وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين والعبادة والقيام بحقوق الله تعالى وشرائعه.

وأنزل الله تعالى على شيث تسعا وعشرين صحيفة، وكان مسكنه فوق الجبل وسكن ولد قابيل أسفل الوادي، وكان عمره تسعمائة سنة واثنتي عشرة سنة واستخلف ابنه أنوشا وكان عمره تسعمائة وخمسين سنة، واستخلف ابنه قينان وهو الذي كانت الوصية إليه وقسم الارض بين بني أبيه، فطاف وهو ابن تسعمائة وعشرين سنة، ودفع الوصية إلى ابنه هطيل (١) وفي وقته بنيت الكعبة، وكان عمره ثمانمائة سنة وخمسا وتسعين سنة، وأوصى إلى ابنه يرد وعلمه وضع العلوم، وأخبره بما يجري في العالم، ويحدث بنظره في النجوم، وفي كتاب سر الملوك الذي أنزل على آدم عليه السلام.

وولد ليرد خنوخ وهو إدريس عليه السلام، وقد تقدم خبره مع يمحويل

__________________

(١) في مروج الذهب: مهلائيل.

١١٢

لمللك ويقال إن يمحويل الملك بعث إلى أبيه أن يبعث إليه إدريس فامتنع، فوجه إليه جيشا فمنعه منه أعمامه.

وجميع ولد شيث فلم يصل إليه، ولم يكن بعد شيث وحي، حتى نبأ الله تعالى إدريس [عليه السلام].

وكان عمر يرد سبعمائة وخمسين سنة، ويقال إنه أول من استوقد واستعبد وغزا بني قابيل، ونظر في علم الفلك، ووضع المكيال والميزان، وأوتي علم الطب والنجوم، وعلم الزيجات بحساب غير حساب الهند، وسأل ربه فأراه الصور الفلكية العالية.

وكانت الارواح تخاطبه، وعلم أسماء الصعود والهبوط فصعد وهبط، ودار [حول] الفلك وعرف أشكال النجوم ووقف على مسير الكواكب، وعرف كل ما يحدث في العالم، فزبره على الحجارة وعلى الطين.

وزيد مع ذلك كل العلوم والصناعات، وكانت له قصص تطول مع ملك الموت ومات ثم عاش ونظر إلى النار ودخل إلى الجنة ولم يخرج عنها.

ورفع على رأس ثلاثمائة سنة من عمره، وكان يقال له هرمس باسم عطارد، وعلم ابنه صابيا الخط فقيل لكل من كتب الخط بعده صابيا.

وهو الذي أخبر بالطوفان، وما يحدث في العالم ودفع الوصية، والصحف إلى ابنه متوشلخ وأمر صابيا بمعونته.

وكان صابيا قد بلغ مبلغا جليلا، وعاش متوشلخ تسعمائة سنة واثنتين وثلاثين سنة.

وانتقلت الوصية إلى ابنه لمك فأخذ في البحث وجمع العلوم، وأقبل على بني أبيه فجمعهم وأمرهم ونهاهم وحضهم على الجور لولد قابيل ونهاهم عن قربهم وعن الاختلاط بهم، وهو الذي رأى نارا خرجت من فيه، فأحرقت العالم.

١١٣

ولما ولد له نوح عليه السلام والملك يومئذ درمشيل به يمحويل بن خنوخ ابن يحمور بن قابيل بن آدم عليه السلام، وكان قد تجبر وقهر الملوك على ما تقدم، لكنا نعيد ذكره هنا لما ورد في هذا الخبر من الزيادة والاستقصاء.

وكان إبليس قد استمال الملك ودعاه إلى عبادة الكواكب ودين الصابئة، وقال له هو دين أجدادك، فأجابه وعمل له الشيطان هياكل واصناما عبدوها.

ويقال إنه له يستخرج أحد من المعادن والجوهر واللؤلؤ والمرجان أكثر مما كان في وقت الدرمشيل، وكان شديدا على نوح والله تعالى يحفظه منه وعاش الملك ثلثمائة سنة.

ونبأ الله تعالى نوحا عليه السلام وهو ابن مائة وخمسين سنة وأرسله إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وعاش بعد الطوفان مائة سنة، وكان أول نبي بعد إدريس عليهما السلام.

وكانت شريعته التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج وجهاد الاعداء، فدعا قومه إلى الله تعالى وحذرهم عذابه، وكلما قام فيهم ودعاهم عنفوه وحذروه وأخفوا أمره عن الملك، وكان يحضر هياكلهم وبيوت أصنامهم، فإذا قال لهم قولوا لا إله إلا الله وإني عبد الله ورسوله جعلوا أصابعهم في آذانهم وادخلوا رؤوسهم في ثيابهم تبرءا مما يقول.

ولما قال لهم يوما قولوا لا إله إلا الله وقعت الاصنام على وجوهها فقاموا إليه فضربوه حتى سقط على وجهه، وعرف الملك خبره فأحضره وقال له ما هذا الذي بلغني عنك من مخالفتك لديني وما عليه بنو أبيك وسبك لالهتنا؟ وما هذا السحر الذي اسقطت به الاصنام عن كراسيها؟ ومن الذي علمك ذلك؟

١١٤

فقال له نوح عليه السلام لو كانت آلهة كما تزعم ما سقطت، وأنا عبد الله ورسوله فاتق الله تعالى ولا تشرك به شيئا، فانه يراك فأمر بحبسه. إلى أن يحضر عيد الاصنام فيذبحه تقربا إليه.

وأمر برد الاصنام على كراسيها، وإصلاح ما تغير منها، وحان العيد وقرب فنادى في الناس أن يجتمعوا ليروا ما يصنع به، فدعا عليه نوح عليه السلام فأصابه صداع في دماغ راسه أذهب عقله، فأقام اسبوعا ثم هلك فحمل على سرير ذهب، وطيف به في هياكل الاصنام، وهم يبكون عليه ثم دفنوه، وشتموا نوحا ونالوا منه بألسنتهم كل قبيح.

وولى الملك ابن الدرمشيل فأخرج نوحا من حبسه، وزعم أنه مجنون وتقدم إليه ونهاه أن لا يعود إلى ذلك الفعل فأقام إلى أن اجتمعوا في بعض أعيادهم عكوفا على أصنامهم فخرج حتى أتى جمعهم.

فقال: قولوا لا إلا إله الله وإنى عبد الله ورسوله، فتساقطت الاصنام وقاموا إلى نوح عليه السلام فضربوه وشجوه وسحبوه على وجهه، ثم أتوا به الملك فقال له الملك ألم أصفح عنك، وأسرحك من حبس ابي على أن لا تعاود؟ فقال له إني عبد مأمور بما أفعله، قال ومن أمرك؟ قال إلهي، قال ومن إلهك قال إله السموات والارض وما فيها وخالق الخلائق اجمعين، قال وبماذا أمرك؟ قال ادعو الناس إلى عبادته وحده، واخلع الاصنام، وأعمل بما فرضه الله تعالى من الصلاة والزكاة والصيام قال فان لم نفعل ما تقول، قال الامر إليه إن شاء اهلككم وإن شاء امهلكم، قال فاترك إلهك وما يريده وكف أنت عنا نفسك، قال ما ينبغي لي أن أكف ولا أقدر لاني عبد مأمور، فأمر بحبسه إلى ان يتقرب به إلى الاصنام.

اخبار الزمان ـ م (٨)

١١٥

فخرج على الملك سرنديب الكاهن الجبار، وكانت بينه وبينه حروب شغل بها عن أمر نوح عليه السلام وتشاءم بحبسه فأمر بتسريحه حتى يخلو له وجهه ثم صالح الكاهن على ناحية تركها له من عمله، وعاد إلى ما كان فيه من ملكه.

وكان إبليس يحرضه على قتل نوح عليه السلام، ويزينه له فيمنعه الله تعالى منه وزاد أمر نوح عليه السلام، فوجه الملك إلى جميع ممالك الارض ليوجهوا له كل كاهن، وكل عراف لمناظرة نوح عليه السلام فشخصوا إليه من الآفاق، فناظروه فغلبهم نوح عليه السلام بالحجة والبرهان.

فآمن منهم الكاهن فيملون المصري، واتبعه حتى دخل معه في السفينة، وأوحى الله تعالى إلى نوح عليه السلام ان اصنع الفلك بأعيننا، فقال كيف أصنعه؟ فأهبط الله تعالى جبريل عليه السلام حتى أراه إياها، وأمره ان يبنيها على مثل صدر البطة فأقام في عملها عشر سنين، وعملها من خشب الساج، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع وقيل دون ذلك، وجعل ارتفاعها من الارض خمسين ذراعا، وجعلها ثلاث طبقات كما امر.

وكانوا يهزؤن منه ويضحكون، وكان الرجل منهم يأتي إليه بأبنه الصغير فيحذره منه، وربما رماه الصبيان بالحجارة فآذوه، ولما فرغ من عمل السفينة جعل بابها في جنبها، وأقامت موضوعة على الارض تسعة أشهر حتى حضر عيد لتلك الاصنام، فاجتمعوا إليه وقربوا إليه ثلاثمائة رجل ممن آمن بنوح عليه السلام، ذبحوهم بين أيديهم، فحق عليهم العذاب.

وأمر الله تعالى نوحا عليه السلام أن يدخل في السفينة من كل زوجين اثنين، فقال يا رب من أين لي أن اجمع ذلك فأمر الله تعالى الرياح فحشرت إليه كلما أراد، وأمر به فأدخل فيها من كل زوجين اثنين.

١١٦

وكانت السفينة ثلاث طبقات، فجعل الطبقة السفلى للبهائم والدواب والطير وجعل الوسطى لطعامهم، وجعل جسد آدم عليه السلام في تابوت فيها، وجعل العليا له ولمن دخل معه.

وركب الملك إلى هيكل الاصنام فأقام فيها حينا، ثم مشى إلى السفينة، وقد علم بما شحنت فيه وعزم على حرقها، فلما وقف عليها قال يا نوح واين الماء الذي يحملها؟ قال هو يأتيك في مكانك هذا، وأمر الملك فرميت السفينة بالنار، فرجعت عليه وعلى أصحابه فأحرقت بعضهم، وفار الماء على ما تقدم ذكره، وفتحت أبواب السماء بالمطر وحيل بينهم وبين صعود الجبال، ولم يدروا أين يتوجهون، وكانت المرأة تحمل ولدها على عنقها، فإذا لججها الغرق طرحته، فقيل لو رحم الله الكافر لرحم الصبي وأمه.

وقال أصحاب النظر في الكواكب سلمت ثلاثة مواضع، لم يدخلها الطوفان ونحن لا نقول بذلك، والفرس لعنهم الله لا يقولون بالطوفان ولا بنبوة نوح عليه السلام، ونحن لا نقول بقولهم، والهند يزعمون أنه لم يكن ببلدهم من الطوفان شئ وكذلك أكثر [سكان] الجزائر والبحار (١) يزعمون ذلك.

وقيل إن السفينة أقامت في الماء ستة أشهر، ويقال إنها سارت شرقا وغربا وأتت موضع الكعبة، وكانت معهم خرزة يعرفون بها الليل، ومواقيت الصلوات.

ولما نزلوا من السفينة على ما تقدم ذكره أمرهم نوح عليه السلام بالزراعة وغرس الشجر، وتفقد الكرامة فلم يجدها، وسأل عنها فعرفه جبريل عليه السلام أن إبليس سرقها، لان له فيها شركة فاقتسمها معه، فقال نوح اعطه

__________________

(١) في ب: وكذلك اكثر جزائر والتجار.

١١٧

منها الربع، قال لا يكفيه فزده، قال فاعطه النصف، قال لا يكفيه ولكن يكون له (١) الثلثان ولك الثلث، قال فنعم إذن

قال فما طبخ من عصير الكرم بالنار حتى يذهب ثلثاه، كان حلالا لك ولذريتك، وما نقص من ذلك كان له، ولمن كان من اتباعه.

وقال إبليس لنوح عليه السلام إن لك عندي يدا أرعاها لك قال وما مكافأتك؟ قال وصية أوصيك بها، قال وما هي؟ قال إياك والحسد والحرص والعجلة فان الحسد حملني على إن عصيت ربي، وغويت آدم حتى خرج من الجنة، والحرص حمل آدم وحواء حتى أكلا من الشجرة، فغضب الله عليهما، والعجلة التي حملتك على أن دعوت على قومك فأهلكتهم جميعا.

ذكر عناق بنت آدم عليه السلام

نرجع الآن إلى ما يجب ذكره من بقية أخبار آدم عليه السلام، ولدت عناق بنت آدم مفردة بغير أخ (٢) وكانت مشوهة الخلق لها رأسان، وكان لها في كل يد عشر أصابع، لكل أصبع ظفران كالمنجلين الحادين.

ذكرها علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: هي أول من بغى في الارض، وعمل الفجور، وجاهر بالمعاصي واستخدم الشياطين، وصرفهم في وجوه السحر.

وكان الله عزوجل أنزل على آدم عليه السلام أسماء تطيعها الشياطين، وأمره أن يدفعها إلى حواء فتعلقها ععلى نفسها فتكون حرزا لها، ففعل ذلك، وكانت حواء تصونها وتحتفظ بها، فاغتفلتها عناق وهي نائمة، فاخذتها واستجلبت الشياطين بتلك الاسماء، وعملت السحر، وتكلمت بشئ من

__________________

(١) في ب: لها.

(٢) ت: ذكر.

١١٨

الكهانة، وجاهرت بالمعاصي وأضلت خلقا كثيرا من ولد آدم عليه السلام، فدعا عليها آدم عليه السلام، وأمنت حواء فأرسل الله إليها في طريقها أسدا أعظم من الفيل فهجم عليها في بعض المغاور فقتلها، ومزق أعضاءها، وأراح الله آدم وحواء منها.

ويقول أهل الاثر: إن عوجا الجبار [من] (١) ولدها: وإن الطوفان لم يغرقه ولا بلغ ماؤه إلا بعض جسده، وأنه طلب السفينة ليغرقها فأعماه الله عنها، وعمر إلى زمان فرعون، وقطع صخرة على قدر عسكر موسى عليه السلام وكان في أكثر من ستمائة الف (٢) ، وحملها على رأسه ليطرحها عليهم، فأرسل الله في طريقه ذلك عليه طيرا نقر ذلك الحجر حتى ثقبه، ونزل من رأسه إلى كتفيه فصار رأسه مضغوطا في الحجر فمنعه الرؤية، وتعذر عليه الحركة، وأمر الله تعالى موسى عليه السلام بقتله، وكان لموسى ايد قوية، وكانت وثبته عشرة أذرع، وطول عصاه مثلها وطوله كثيرا فوثب إليه فلم يضرب بطرف عصاه إلا عرقوبه، فسقط لثقل الحجر فقتله ووافق سقوطه عرض النيل. فأقام كالجسر يعبر الناس عليه والدواب كالقنطرة مدة طويلة.

وفي حديث آخر أنهم جروه في خمسة أشهر في كل يوم ألف ثور مقرنين بعجلات مع تعاونهم عليه في كل يوم نصف ذراع حتى طرحوه في بحر القلزم.

وقيل بل قطعوه قطعا وجروه إلى البحر، وقيل إن سقوطه كان في صحراء مصر فترك في موضعه وردم عليه بالصخور والرمل حتى صار كالجبل العظيم.

ذكر أخبار الكهان من العرب

بلغ سطيح من الكهانة ما لم يبلغه أحد، وكان يسمى كاهن الكهان،

__________________

(١) في ب: هو.

(٢) ت: مائة الف.

١١٩

وكان يخبر بالغيوب والعجائب (١) فقيل [إن] (٢) ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا هالته، فأمر بجمع الكهان وأصحاب القيافة والزجر، فلما حضروا عنده قال لهم إني رأيت رؤيا هالتني فأخبروني بها، فقالوا له قصها علينا نخبرك بتأويلها، فقال ما أطمئن إلى تأويلها إذا قصصتها عليكم، ولا أصدق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أقصها عليه.

فقال له رجل منهم: لا يفعل ذلك ويوثق بقوله إلا سطيح الذئبي وشق اليشكري، فهما أعلم، فارسل اليهما ليقدما عليك.

فقدم سطيح قبل شق، وكان اسم سطيح ربيع بن ربيعة من بني ذئب بن عدي، فأكرمه ربيعة بن نصر، وقال له إني رأيت رؤيا هالتني، وأريد أن تخبرني بها وبتأويلها.

فقال سطيح: أقسم بالشفق، والليل إذا غسق، والطارق إذا طرق، لقد رأيت حممة خرجت من ظلمة، فوقعت في أرض تهمة، فأكلت كل ذات جممة.

قال صدقت فما تأويلها؟ قال أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليطأن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش.

قال ربيعة إن هذا لغائظ موجع، فهل في زماننا؟ قال لا بل بعده بحين اكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين، ثم تقتلون بها أجمعين، وتخرجون منها هاربين.

قال فمن بلي ذلك منهم؟ قال غلام رحب الفطرة من آل ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدا منهم باليمن.

قال فما تصنع اليمن؟ قال يملكها بعدهم [قوم ذوو] أخطار من رجال

__________________

(١) ت: من الغيوب بالعجائب.

(٢) ت: ورأى ربيعة.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282