أخبار الزمان

أخبار الزمان20%

أخبار الزمان مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 282

أخبار الزمان
  • البداية
  • السابق
  • 282 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60206 / تحميل: 8814
الحجم الحجم الحجم
أخبار الزمان

أخبار الزمان

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40
٤١

يتناول هذا الباب بيان الرؤية السائدة اليوم في تعليل الصلح من خلال فصلين.

الفصل الأول وهو مكرس لبيان أقوال المستشرقين في الحسنعليه‌السلام إذ عرضوه شخصية منهارة كان هدفه من الصلح هو الحصول على مال يؤمِّن له حاجات حياته المترفة ويلبي طلبات زوجاته الكثيرات.

الفصل الثاني مكرس لبيان أقوال الإسلاميين من القدامى والمحدثين في الكوفيين زمن الحسن إذ عرضوهم انهم ضعفاء متخاذلون متفرقون بل كان بعضهم / كالمختار الثقفي / يفكر في تسليم الحسن لمعاوية فاضطر الحسن لمصالحة معاوية وتسليمه الحكم في العراق ليحافظ على حياته.

وانتهى البحث في كلا الفصلين إلى ان المستشرقين والإسلاميين كانوا قد استندوا في تحليلاتهم إلى روايات ذكرتها مصادر التاريخ الإسلامي المبكرة كطبقات ابن سعد وانساب الاشراف للبلاذري وتاريخ الطبري وتاريخ دمشق لابن عساكر وغيرها.

وقد رفض الشيعة بل السنة أيضا / كما هو الحق / الروايات الطاعنة في شخصية الحسن انطلاقا من الإيمان بعصمة الحسن أو الإيمان بانه من الشخصيات المعروفة في المجتمع الإسلامي بعلمه وتقواه.

اما الروايات الطاعنة في الكوفة فقد قبِلَها أكثر الباحثين الشيعة وكل الباحثين السنة من المؤرخين القدامى والمحدثين ولكن البحث توصل إلى ان الروايات الطاعنة في الحسنعليه‌السلام أو الكوفيين هي من وضع الامويون ثم تبنى ترويجها والزيادة فيها العباسيون ومن سايرهم من الأخباريين نكاية بالحسنيين الثائرين وتطويقا لمرجعية الامام الصادق الآخذة بالتوسع وبالكوفة مركز كلا الحركتين في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري.

٤٢

الباب الأول / الفصل الأول

المستشرقون : الحسن عليه‌السلام شخصية ضعيفة منهارة

أنحى الباحثون المستشرقون باللائمة على الحسنعليه‌السلام لأنه صالح وتنازل عن الحكم لخصمه معاوية بشروط ولم يف له بشيء منها ، وقد وصفوه بانه لم يكن رجل الساعة المطلوب ، ولم يكن ابنا جدير لعليعليه‌السلام ، وانه كان شخصية متخاذلة انصرف إلى ملذاته وشهواته ، وفيما يلي ما عثرنا عليه من كلماتهم في هذا السبيل :

الدكتور فيليب حتي اللبناني 1886 ـ 1978 :

قال : «ولكن الحسن الذي كان يميل إلى الترف والبذخ لا إلى الحكم والإدارة لم يكن رجل الموقف فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إياها معاوية».(1)

الراهب اليسوعي البلجيكي لامنس 1862 ـ 1937 :

تبنت الموسوعة الإسلامية(2) تحت عنوان : (الحسن) بن علي بن أبي طالب ما كتبه المستشرق البلجيكي (لامنس) المتخصص بالتاريخ الإسلامي(3) عن الحسنعليه‌السلام قال :

__________________

(1) حتي ، فيليب ، العرب ، ص 78 كتبه بالانجليزية وطبع لاول مرة لندن سنة 1937 م.

(2) أشرف على تأليفها فنسنك وآخرون وكتبت باللغة الانكليزية وترجمت إلى الفرنسية والالمانية ثم ترجمت إلى اللغة العربية ونحن ننقل من النسخة العربية.

(3) قال عبد الرحمن بدوي في موسوعته عن المستشرقين ، لامنس : مستشرق بلجيكي ، وراهب يسوعي

٤٣

«الحسن اكبر أبناء علي من فاطمة بنت رسول الله ويلوح ان الصفات الجوهرية التي كان يتصف بها الحسن هي الميل إلى الشهوات والافتقار إلى النشاط والذكاء. ولم يكن الحسن على وفاق مع أبيه وإخوته عندما ماتت فاطمة ولما تجاوز الشباب.

وقد انفق خير سني شبابه في الزواج والطلاق ، فأحصي له حوالي المائة زيجة عدّاً. وأَلصقت به هذه الأخلاق السائبة لقب المِطلاق ، وأوقعت عليّاً في خصومات عنيفة. واثبت الحسن كذلك انه مبذر كثير السرف فقد اختص كلّاَ من زوجاته بمسكن ذي خدم وحشم. وهكذا نرى كيف كان يبعثر المال أيام خلافة علي التي اشتد عليها الفقر. وشهد يوم صفين دون ان تكون له فيها مشاركة إيجابية.

ثم هو إلى ذلك لم يهتم أي اهتمام بالشؤون العامة في حياة أبيه.

وبويع الحسن بالخلافة في العراق بعد مقتل عي فحاول أنصاره أَن يقنعوه بالعودة إلى قتال أهل الشام ، وقَلَبَ هذا الإلحاح من جانبهم خُطط الحسن القعيد الهمة فلم يَعُد يفكر الال في التفاهم مع معاوية كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق. وانتهى بهم الأمر إلى اثخان إمامهم اسما لا فعلا بالجراح. فتملكت الحسن منذ ذلك

__________________

شديد التعصب ضد الإسلام ، يفتقر افتقاراً تاماً إلى النزاهة في البحث والأمانة في نقل النصوص وفهمها. ويعد نموذجاً سيئاً جداً للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين. ولد في مدينة خنث ، (Gent) وبالفرنسية ، (Gand) في بلجيكا في أوّل يوليو سنة 1862 م. وجاء إلى بيروت في صباه ، وتعلم في الكلية اليسوعية ببيروت. وبدأ حياة الرهبنة في سنة 1878 م ، فامضى المرحلة الأولى في دير لليسوعيين في قرية غزير (في جبل لبنان) ، طوال عامين. ثم قضى خمسة أعوام في دراسة الخطابة واللغات. وفي 1886 م صار معلماً في الكلية اليسوعية ببيروت. وسافر إلى انجلترة ، وإلى لوفان. ووصل إلى فيينا في 1896 م. وعاد إلى بيروت 1897 م ، حيث عيَّن معلماً للتاريخ والجغرافية في كلية اليسوعيين. ولمَّا أسس (معهد الدروس الشرقية) ضمن كلِّية اليسوعيين في 1907 م ، صار فيه أستاذاً للتاريخ الإسلامي. ولمَّا توفي لويس شيخو في 1927 م ، خلفه لامنس على إدارة مجلة المشرق ، وهي مجلة فصلية تصدر عن اليسوعيين في بيروت. ولهم مجلة دينية شعبية تبشيرية أخرى تدعى (البشير) ، وقد تولَّى لامنس إدارتها مرتين قبل ذلك بزمان طويل : مرة في 1894 م ، ومرة أخرى من 1900 م إلى 1903 م. وكان لامنس يكتب في هاتين المجلتين مقالات كثيرة ، يكتبها بالفرنسية ، ثمَّ يتولَّى غيره ترجمتها إلى العربية ، وتنشر باللغة العربية. وتوفي لامنس في 23 أبريل 1937 م. وإنتاج لامنس يدور حول موضوعين رئيسيين : (أ) السيرة النبوية (ب) بداية الخلافة الأموية. لكن له إلى جانب ذلك كتب ودراسات حول موضوعات متفرقة في العقيدة الإسلامية ، وتاريخ سوريا وآثارها.

٤٤

الوقت فكرة واحدة هي الوصول إلى اتفاق مع الأمويين. وترك له معاوية ان يحدد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة. ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهم أخرى ودَخَل كورة في فارس طيلة حياته. وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق ، بَيْدَ انه أُجيب إلى كل ما سأله حتى ان حفيد النبي اجترأَ فجاهر بالندم على أَنه لم يضاعف طلبه وترك العراق مشيعا بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة.

وهناك عاد إلى حياة اللهو واستسلم للذات ووافق معاوية على ان يدفع نفقاته ولم يطلب في مقابل ذلك الا أمرا واحدا هو الا يخِلّ الحسن بأمن الدولة. وكان قد أَجبره من قبل عن الجهر بتنازله عن الخلافة في اجتماع عُقِدَ في (اذرح).

ولم يعد معاوية يشغل باله به ، ذلك انه كان واثقا من قعود همته وإيثاره للدعة.

ومع هذا فقد استمر الانقسام في البيت العلوي ، ولم يكن الحسن على وفاق مع الحسين وان اجتمعا على مناهضة ابن الحنفية وغيره من أبناء علي.

وتوفي الحسن في المدينة بذات الرئة ولعل إفراطه في الملذات هو الذي عجل بمنيته. وقد بذلت محاولة لإلقاء تبعة موته على رأس معاوية.

وكان الغرض من هذا الاتهام وصم الأمويين بهذا العار ، وتبرير لقب الشهيد أو (سيد الشهداء) الذي خلع على ابن فاطمة هذا التافه الشأن.

ولم يجرؤ على القول بهذا الاتهام الشنيع جهرة سوى المؤلفين من الشيعة أو أولئك الذين كان هواهم مع العلوية بنوع خاص. وقد أعطى هذا الاتهام في الوقت نفسه فرصة للإيقاع بأسرة الأشعث بن قيس المبغضة من الشيعة ، لما كان لها من شأن في الانقلاب الذي حدث يوم صفين ، وما كان معاوية بالرجل الذي يقترف إثما لا مبرر له.

كما ان الحسن المستهتر كان قد اصبح مسالما منذ أمد طويل وكانت حياته عبئاً على بيت المال الذي أَبهظته مطالبه المتكررة. ومن اليسير ان نعلل ارتياح معاوية وتنفسه الصعداء عندما سمع بمرض الحسن. وربما كانت وفاته عام 49 هـ بالغا من العمر الخامسة والأربعين».(1)

__________________

(1) الموسوعة الإسلامية فنسك وآخرين ج 7 ص 401 ـ 402.أقول : من كلامه هذا يتبين لنا ان

٤٥

جرهارد كونسلمان الاماني المعاصر :

وكرر (جرهارد كونسلمان) في كتابه (سطوع نجم الشيعة) (Gerhard Konslman) كلمات لامنس بقوله : لقد باع (الحسن) المنصب الذي تركه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله لنسله من اجل المال ويقال انه مات بالسل والهزال.

وقد حاولت شيعة علي في القرون اللاحقة تجميل صورة هذا الزعيم الضعيف التعس ، فقد اجتهدت في جعل الحسن ضمن شهداء المذهب الشيعي ، فنشأت لذلك رواية تقول ان الحسن قتل بتدبير معاوية ولكن من المستبعد ان يكون معاوية ضالعا في موت الحسن ، فمثل هذه الجريمة غير الضرورية لن يقدم بها الخليفة أدرك تماما أين الرجل المهم وأين الرجل الذي صار في الظل).(1)

بروكلمان الالماني 1956 ـ 1868 (Corl Brockelmann ) :

وقال (بروكلمان) في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) : ان الحسن لم يكن رجل الساعة الذي تحتاجه الدولة فقد رفض ان يقود جنده في هجوم على خصمه.

اوكلي 1894 (Simon Ockley ) :

يرى في كتابه (HITORY OF THE SARACENS P347) : ان الحسن لم يكن مؤهلا للموقف حيث كان يميل إلى السلم وينظر إلى دماء المسلمين نظرة رعب يصعب علينا تصورها.

سايكس 1867 ـ 1945 (Sykes Perly Molesworth Sir ) :

ويرى (سايكس) في كتابه (HISTORY OF PERSIA) ان الحسن غير جدير بان يكون ابنا لعلي لأنه شغل بملذاته بين نسائه واكتفى بإرسال اثني عشر ألف جندي

__________________

الدكتور البدوي كان على صواب حين قال في حق لامنس انه : (يفتقر افتقاراً تاماً إلى النزاهة في البحث والأمانة في نقل النصوص وفهمها. ويعد نموذجاً سيئاً جداً للباحثين في الإسلام من بين المستشرقين).

(1) جرهارد كونسلمان ،سطوع نجم الشيعة (Star Shia Sarface) ، ترجمه من الالمانية محمد أبو رحمة ، طبع مكتبة مدبولي القاهرة ط 2 : 1414 ـ 1993.

٤٦

كطليعة لجيشه بينما احتفظ بقلب الجيش في المدائن حيث ظل يبتزه في الحدائق وخاف ان يجرب حظه في ميدان القتال.(1)

الكاتب العراقي هادي العلوي :

وكتب هادي العلوي(2) : ان هذا الرجل (يقصد الحسنعليه‌السلام ) يتعذر عليه ان يخوض صراعا سياسيا أو عسكريا وكان من المنتظر والطبيعي ان ينسحب بمجرد ان يؤول إليه الأمر ، وانه لم يمارس بعد الصلح أي نشاط معارض وقد تفرغ الحسن لحياته الشخصية وعاش كما قال عنه أبوه بين جَفنة وخِوان كأي فتى من فتيان قريش المنعمين.

ثم يستطرد العلوي قائلا : ان الدفاع عن صلح الحسن من نتائج الأيديولوجيا(3)

ثم يقول : ومعاوية الذي تراجع الحسن أمامه كان زعيما عظيما وقد دخل التاريخ كواحد من الأباطرة العظام بجميع لمقاييس وفي شتى العصور(4)

سند المستشرقين في حكمهم السلبي الآنف الذكر هو روايات في مصادر تاريخية إسلامية مهمة

استند الباحثون المستشرقون في تكوين هذه الرؤية السلبية عن الحسنعليه‌السلام إلى روايات أوردتها مصادر تاريخية إسلامية أمثال الطبقات الكبرى لابن سعد ت 230 هـ وتاريخ الطبري ت 310 هـ وتاريخ دمشق لابن عساكر والبداية والنهاية لابن كثير. وقد أوردنا في الفصل السابع من الباب الثالث من هذا الكتاب نماذج منها.

__________________

(1) الخربوطلي ،العراق في ظل الحكم الأموي ، ص 74.

(2) أدرجناه ضمن المستشرقين على الرغم من كونه مسلما شيعيا ولكنه تبنى الفكر الماركسي في الايديولوجيا ومنهم المستشرقين في البحث.

(3) الخربوطلي ،العراق في ظلم الحكم الأموي ص 74.

(4) الثقافة الجديدة تسلسل 223 سنة 1990 م تموز السنة 37 العدد 9. ومن الغريب ان العلوي؟ هذا عرفه أصدقاءه بالتقشف والزهد والبساطة في العيش يعتقد بمعاوية هذا المعتقد ، ولابد انه قد قرأ عنه سفكه لدم حجر بن عدي وأصحابه وتشريده العراقيين وسجنهم وقطع ايديهم لا لشيء الا لتوليهم علياعليه‌السلام ، فهل ان زعامة تقوم على مبدأ كهذا جديرة بالاحترام!.

٤٧

الباب الأول / الفصل الثاني

الإسلاميون : الكوفيون متفرقون متخاذلون

الإسلاميون القدامى

أبو حنيفة الدينوري ت 282 هـ :

قال أبو حنيفة الدينوري : (لما رأى الحسن من أصحابه الفشل ارسل إلى عبد الله بن عامر بشرائط اشترطها على معاوية).(1)

ابن واضح اليعقوبي 284 هـ :

قال اليعقوبي : (فلما رأى الحسن ان أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالَحَ معاوية).(2)

ابن جرير الطبري 310 هـ :

وقال الطبري في تاريخه : فلما رأى (أي الحسنعليه‌السلام ) تفرق الأمر عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح.(3)

__________________

(1) الدينوري ،الاخبار الطوال ، ص 320 ، دار إحياء الكتب العربي القاهرة 1960 م.

(2) اليعقوبي ،تاريخ اليعقوبي ، دار صادر بيروت ، ج 2 ص 215.

(3) الطبري ،تاريخ الطبري ، ج 3 ص 330 ، مؤسسة الاعلمي بيروت 1983. ومثله ابن مسكويه ،تجارب الامم ، دار سروش للطباعة طهران 2001 م ، ج 1 ص 388. وكذلك ابن كثير في تاريخه.

٤٨

ابن الاثير ت 620 هـ :

روى ابن الاثير في الكامل قال : قيل للحسنعليه‌السلام ما حملك على ما فعلت؟ فقال : كرهتُ الدنيا ، ورأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم احدا ابدا الا غُلِب ، ليس احد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى ، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر.(1)

قال ابن الاثير : وكان الذي طلب الحسن من معاوية ان يعطيه ما في بيت مال الكوفة ومبلغه خمسة آلاف ألف وخراج دارابجرد من فارس وان لا يشتم عليا فلم يجبه إلى الكف عن شتم علي ، فطلب ان لا يشتم وهو يسمع فأجبه إلى ذلك ، ثم لم يفِ له به أيضا ، واما خراج دارابجرد(2) فان أهل البصرة منعوه منه وقالوا هو فيئنا لا نعطيه أحدا وكان منهم بأمر معاوية أيضا.(3)

ابن كثير ت 774 هـ :

قال ابن كثير : لما مات علي ـ قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع ، فعند ذلك أقام أهل العراق الحسن بن عليرضي‌الله‌عنه ليمانعوا به أهل الشام فلم يتم لهم ما أرادوه وما حاولوه ، وإنما كان خذلانهم من قبل تدبيرهم وآرائهم المختلفة المخالفة لأمرائهم ، ولو كانوا يعلمون لعظموا ما أنعم الله به عليهم من مبايعتهم ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسيد المسلمين ، وأحد علماء الصحابة وحلمائهم وذوي آرائهم.(4)

__________________

(1) ابن الاثير ،الكامل في التاريخ ، ج 3 ص 407 ، دار صادر بيروت 1966 م.

(2) ولاية بفارس (مراصد الاطلاع).

(3) ابن الاثير ،الكامل في التاريخ ، ج 3 ص 405.

(4) ابن كثير ،البداية والنهاية ، ج 8 ص 17 ، دار إحياء التراث العربي بيروت 1988 م ،أقول : لم يكن ابن كثير حياديا في موضعين من كلامه الأول : حين جعل بيعة أهل العراق للحسن رد فعل لبيعة الشاميين لمعاوية ، والحال ان معاوية قد بايعه الشاميون سنة 38 هـ بعد ان خلع عمرو بن العاص علياعليه‌السلام على مواصلة قتال عليعليه‌السلام وعلى الغارة على اطراف الكوفة ، الثاني : ذمه لأهل الكوفة وانهم خذلوا الحسنعليه‌السلام في الوقت الذي يقول القسطلاني فيارشاد الساري في شرح صحيح البخاري (ج 4 ص 411) قال الكرماني : وقد كان الحسن يومئذ احق الناس بهذا الأمر فدعاه ورعه إلى ترك الملك رغبة فيما عند الله ولم يكن ذلك لعلة ولا لذلة ولا لقلة فقد بايعه على الموت أربعون ألفا. ، انظر أيضاعمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني ج 16 ص 239.

٤٩

الشيخ المفيد 412 هـ :

قال الشيخ المفيد احد مراجع الشيعة في أخريات القرن الرابع الهجري وبدايات القرن الخامس في كتابه (الإرشاد) ما خلاصته : (كتب معاوية إلى الحسنعليه‌السلام في الهدنة والصلح ، وأنفذ إليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه ، فلم يثق به الحسنعليه‌السلام وعلم احتياله بذلك واغتياله ، غير انه لم يجد بُدّاً من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له ، وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه ، وما كان من خذلان ابن عمه له ومصيره إلى عدوه ، وميل الجمهور منهم إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة).(1)

أقول : يتضح من كلام الشيخ المفيد ان الامام الحسن كان مضطرا إلى الصلح بسبب ضعف البصائر في حقه وفساد الجيش عليه وقد فصل تلميذه السيد المرتضى رأيه هذا فيما يلي :

السيد المرتضى 436 هـ :

وكتب من بعده تلميذه السيد المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء) ما خلاصته : (فإن الذي جرى منهعليه‌السلام من أمر الصلح كان السبب فيه ظاهرا والحامل عليه بيِّنا جليّاً ، لان المجتمعين له من الأصحاب وان كانوا كثيري العدد وقد كانت قلوب أكثرهم دغلة غير صافية ، وقد كانوا صبَوا إلى دنيا معاوية ، فأظهروا لهعليه‌السلام النصرة وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يورطوه ويسلموه ، وأحسعليه‌السلام بهذا منهم قبل التولج والتلبس ، فتخلى من الأمر وتحرز من المكيدة التي كادت تتم عليه في سعة من الوقت ...

وقد صرحعليه‌السلام بهذه الجملة وبكثير من تفصيلها في مواقف كثيرة بألفاظ مختلفة ، وقال إنما هادنت حقناً للدماء وصيانتها وإشفاقا على نفسي وأهل والمخلصين من أصحابي ...

__________________

(1) الشيخ المفيد ،الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ، ص 191 ، دار المفيد بيروت 1993 م.

٥٠

أوَ ليس أحدهم قد جلس له في مظلم ساباط وطعنه بمغوَل كان معه أصاب فخذه. فشقه حتى وصل إلى العظم وانتزع من يده وحملعليه‌السلام إلى المداين وعليها سعيد بن مسعود عم المختار ، وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام ولاه إياها فأدخل منزله ، فأشار المختار على عمه ان يوثقه ويسير به إلى معاوية على أن يطعمه خراج جوخي سنة. فأبي عليه وقال للمختار : قبح الله رأيك أنا عامل أبيه وقد أئتمنني وشرفني ، وهبني نسيت بلاء أبيه أأنسى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أحفظه في ابنب بنته وحبيبه ثم أن سعد بن مسعود أتاهعليه‌السلام بطبيب وقام عليه حتى برئ وحوله إلى بعض المدائن. فمن ذا الذي يرجو السلامة بالمقام بين أظهر هؤلاء القوم عن النصرة والمعونة؟.

أقول :

اما الذي ضربه في مظلم ساباط فهو من الخوارج ممن انتظم في حلقات الإرهاب التي قتلت أباه علياعليه‌السلام ، واما ما نسب إلى المختار الثقفي فهو مما افتري عليه رحمه الله تعالى.

الشيخ الطبرسي 548 هجرية :

وكتب من بعده الشيخ الطبرسي صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن : ووقع الصلح بين الحسن ومعاوية في سنة 41 هجرية ، وإنما هادنهعليه‌السلام خوفا على نفسه إذ كتب إليه جماعة من رؤساء أصحابه في السر بالطاعة وضمنوا له تسليمه إليه عند دنوهم من عسكره(1)

احمد بن علي الطبرسي ت 560 هـ صاحب كتاب الاحتجاج :

روى مرسلا عن زيد بن وهب الجهني قال : «لما طُعِن الحسنعليه‌السلام بالمدائن أتيته وهو متوجع فقلت ما ترى يا ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فان الناس متحيرون ، فقال الامام الحسنعليه‌السلام أرى والله ان معاوية خير لي من هؤلاء. يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي وأخذوا مالي ، والله لان آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي وآمن به في

__________________

(1) الطبرسي ، الفضل بن الحسن ،إعلام الورى بأعلام الهدى ، ترجمة الحسنعليه‌السلام ، ص 213 ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث قم 1417 هـ.

٥١

أهلي خيرا من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما والله لأن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أويمن علي فتكون سبة على بني هاشم إلى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت.(1)

ابن أبي الفتح الإربلي ت 692 هـ :

وكتب من بعده ابن أبي الفتح الاربلي قال :

وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وبعث بكتب أصحابه إليه فأجابه إلى ذلك بعد أن شرط عليه شروطا كثيرة (منها) أن يترك سب أمير المؤمنينعليه‌السلام والقنوت عليه في الصلوات وان يؤمن شيعته ولا يعترض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق حقه.

فأجابه معاوية إلى ذلك كله وعاهده على الوفاء به.

فلما استتمت الهدنة قال في خطبته : إني مَنّيتُ الحسن ، وأعطيته أشياء جعلتها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له.(2)

ابن طباطبا ت 701 هجرية :

قال : اما أهل الكوفة والبصرة فكان أهل البيت مذعورين منهم لما جرى منهم على أمير المؤمنينعليه‌السلام والحسن والحسينعليهما‌السلام من الخذلان والغدر وسفك الدماء.(3)

__________________

(1) المجلسي ،بحار الانوار ، ج 44 ص 21 ، مؤسسة الوفاء بيروت 1983 م. عن الاحتجاج للطبرسي ج 2 ص 290.

(2) ابن أبي الفتح الإربلي ، كشف الغمة ، ج 2 ص 138 ، دار الاضواء بيروت 1985 م.

(3) محمد بن علي بن طباطبا المعروف بابن الطقطقي ،الفخري في الاداب السلطانية ، ص 144 ، دار القلم العربي 1997 م.

٥٢

مشاهير المتأخرين من الباحثين الشيعة

والكلام الانف الذكر لدى متقدمي المؤرخين هو المشهور اليوم عند كتّاب الشيعة المحدثين.

العلامة الحجة الشيخ راضي آل ياسين :

كتب الشيخ راضي آل ياسين من علماء الشيعة المعاصرين في كتابه (صلح الحسن) المطبوع سنة 1952 م ، وهو افضل كتاب في موضوعه وقد حذا حذو الشيخ المفيد وتلميذه السيد المرتضى في وجهة تحليل دوافع الصلح :

قال : (وازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له)(1) . (وكان للحسن في مسكن بقية من جيش لا تجد المعنويات سبيلها إليه الا بالمعجزة بعد النكبة التي أصيب بها هذا العسكر بخيانة قائده وفرار ثمانية آلاف من افراده). (واما النسبة العددية فقد كان اكبر عدد بلغه جيش الحسنعليه‌السلام حينما زحف به إلى لقاء معاوية عشرين ألفا أو يزيدها قليلا وكان جيش معاوية الذي عسكر به على حدود العراق ستين ألفا ، فللحسن يومئذ ثلث أعداد جيش معاوية) وجاءت عملية الفرار التي اجتاحت معسكر مسكن والتي انهزم بها ابن العم (عبيد الله بن عباس) ورب ابن عم ليس بابن عم كما يقول المثل العربي ـ بثمانية آلاف فتصاعدت النسبة صعودا مريعا ، وبقي الحسن في معسكريه جميعا على الخمس من معسكر معاوية وإذا اعتبرنا هنا القاعدة العسكرية الحديثة التي تنسب القوة المعنوية إلى الكثرة العددية بنسبة ثلاثة إلى واحد رجعنا إلى نتيجة مؤسفة جدا هي نسبة واحد إلى خمسة عشر. وإذا نظرنا إلى جيش الحسن الذي بقي ينازل معاوية في مسكن وحده على ضوء هذه القاعدة رأيناه ينازل عدوا يعده خمسة وأربعين ضعفا بالضبط).

ثم قال : وأي غضاضة على «الزعيم» إذا فسد جيله ، أو خانت جنوده ، أو فقد مجتمعه وجدانه الاجتماعي.

__________________

(1) آل ياسين ،صلح الحسن عليه‌السلام ، 133.

٥٣

العلامة المصلح الشيخ محمد حسين كاشف الغطاءرحمه‌الله :

كتب في مقدمته لكتاب حياة الامام الحسن للشيخ باقر شريف القرشيرحمه‌الله (1)

(كان من دهاء معاوية عزمه ان يحتفظ بصورة الإسلام مدة إمرته بالشام عشرين سنة فلا يصطدم بشعيرة من شعائره ولا يتطاول إلى اعتراض قاعدة من قواعده يتجاهر بشرب الخمر والأغاني ولا يقتل النفس المحترمة ويلعب بالفهود ولا يضرب المزمار والعود نعم قد يلبس الحرير والديباج وطيلسان الذهي ولا بأس بلك فانه (كسرى العرب) وما احتفظ بشعائر الإسلام الا لحاجة في نفس يعقوب بقي على ظاهر الإيمان المبطن بالكفر مدة مخالفته ومحاربته لأمير المؤمنين في صفين فلما استشهد سلام الله عليه تنفس الصعداء وغمرته المسرة وأمكنته الفرصة من اللعب على ال حبل وتدبير الحيل ولكن بعد ان بويع الحسنعليه‌السلام والتف عليه الأبطال من أصحاب أبيه وشيعته ومواليه ، ومنهم الرؤوس والضروس والانياب والعديد والعدة والسلاح والكراع فوجد انه وقع في هوة أضيق وأعمق من الأولى فان الحسن سبط رسول الله وابن بنته وريحانته وهو لوداعته وسلامة ذاته محبوب للنفوس لم يؤذ أحدا مدة عمره بل كان كله خير وبركة ولم تعلق به تهمة الاشتراك بقتل عثمان بل قد يقال انه كان من الذابين عنه فكيف يقاس معاوية به وكيف يعدل الناس عن ابن فاطمة بنت رسول الله إلى ابن هند آكلة الاكباد؟

اقلق معاوية واقض مضجعه التفكير بهذه النقاط ولكن سرعان ما اهتدى بدهائه ومكره إلى حل عقدتها فلجأ إلى عاملين :

أولهما : المال الذي يلوي أعناق الرجال ويسيل في لعبه لعاب الرجال وبعث إلى اعظم قائد من قادة جيش الحسن الذين بايعوه على الموت دونه وامسهم رحما به وهو عبيد الله بن العباس الذي جعله اميرا حتى على قيس بن سعد بعث إليه بأكثر من خمسمائة ألف؟ ووعده عنه مجيئه إليه بمثلها(2) . وصار معاوية يعمل بهذه الخطة مع كل

__________________

(1) القرشي ، الشيخ باقر شريف ،حياة الامام الحسن عليه‌السلام ، 1952 م.

(2)أقول : نحن نستبعد ان يصدر ذلك من عبيد الله بن العباس وهو وأخواه عبد الله وقثم اعتمدهم عليعليه‌السلام في دولته لينهضوا بالتعليم بما علمهم أيام العزلة فجعل عبد الله على البصرة وقثم على مكة

٥٤

بارز من الشيعة ورجالهم وابطالهم فاستمالهم إليه جميعا ولم يستعص عليه الا عدد قليل لا يتجاوز العشرة كقيس بن سعد وحجر بن عدي وامثالهم.

الثاني وهي حيلة في تأثيرها الشد من الأولى استطابها السواد الأعظم وانجرف إليه الرأي العام تلك دعوى معاوية الحسن إلى الصلح وذلك ان المال كان يستميل به معاوية عيون الرجال اما العامة فلا ينالهم شيء منه ولكن الناس كانوا قد عضتهم أنياب الحروب حتى أبادت خيارهم وأخربت ديارهم في اقل من خمس سنين ثلاثة حروب ضروس الجمل وصفين ونهروان فأصبحت الدعوة إلى الحرب ثقيلة وبيلة والدعوة إلى الصلح والراحة لذيذة مقبولة.

وهنا تأزمت ظروفه سلام الله عليه وحاسب الموقف حسابا دقيقا حساب الناظر المتدبر في العواقب فوضع الرفض والقبول في كفتي الميزان ليرى لا يهما الرجحان.

فوجد انه لو رفض الصلح وأصر على الحرب فلا يخلو اما ان يكون هو الغالب ومعاوية المغلوب ، وهذا وان كانت تلك الأوضاع والظروف تجعله شبه المستحيل ولكن فليكن بالفرض هو الواقع ولكن هل مغبة ذلك الا تظلم الناس لبني أمية وظهورهم لهم بأوجع مظاهر المظلومية؟ بالأمس قتلوا عثمان عينَ الأمويين وأميرَ المؤمنين (كما يقولون) واليوم يقتلون معاوية عين الأمويين وخال المؤمنين (يا لها من رزية). ويتهيأ لبني أمية قميص ثان فيرفعون قميص عثمان مع قميص معاوية والناس رعاع ينعقون

__________________

وعبيد الله على اليمن. ثم ان عبيد الله موتور فقد قتل بسر ولدين له ، وفيشرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج 2 ص 17 ـ 18 قال وروى أبو الحسن المدائني : اجتمع عبيد الله بن العباس وبسر بن أرطاة يوما عند معاوية بعد صلح الحسنعليه‌السلام ، فقال له ابن عباس ، أنت أمرت اللعين السيء الفدم ان يتقل ابني؟ فقال : ما أمرته بذلك ، ولوددت انه لم يكن قتلهما ، فغضب بسر ونزع سيفه ، فألقاه ، وقال لمعاوية ، اقبض سيفك ، قلدتنيه وأمرتني ان أخبط به الناس ففعلت ، حتى إذا بلغت ما أردت قلت لم أهو ولم آمر. فقال : خذ سيفك إليك ، فلعمري انك ضعيف مائق حين تلقي السيف بين يدي رجل من بني عبد مناف ، قد قتلت أمس ابنيه. فقال له عبيد الله : اتحسبني يا معاوية قاتلا بسرا بأحد ابني! هو أحقر وألام من ذلك ولكني والله لا أرى لي مقنعا ولا أدرك ثارا الا ان أصيب بهما يزيد وعبيد الله. فتبسم معاوية وقال : وما ذنب معاوية وابني معاوية! والله ما علمت ولا أمرت ، ولا رضيت ولا هويت. واحتملها منه لشرفه وسؤدده ، ولو كان عبيد الله قد استجاب لمعاوية ومال إلى معسكره بالمال لكان معاوية يواجهه بها ولا يتركها له ، والذي نراه انه الرواية من وضع الأخباريين في العهد العباسي.

٥٥

مع كل ناعق لا تفكير ولا تدبر فما ذا يكون موقف الحسن إذا لو افترضناه هو الغالب؟

اما لو كان هو المغلوب فأول كلمة تقال من كل متكلم ان الحسن هو الذي ألقى نفسه بالتهلكة فان معاوية طلب منه الصلح الذي فيه حقن الدماء فأبى وبغى وعلى الباغي تدور الدوائر وحينئذ يتم لمعاوية وأبي سفيان ما أرادا من الكيد للإسلام وإرجاع الناس إلى جاهليتهم الأولى ولا يبقي معاوية من أهل البيت نافخ شرمة.

بل كان نظر الحسنعليه‌السلام في قبول الصلح ادق من هذا وذاك ، أراد ان يفتك به ويظهر خبيئة حاله وما ستره في قرارات نفسه قبل ان يكون غالبا أو مغلوبا وبدون ان يزج الناس في حرب ويحملهم على ما يكرهون من إراقة الدماء.(1)

وهكذا وفور إبرام الصلح صعد المنبر في جمع غفير من المسلمين وقال (ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلوا وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطيت الحسن شروطا كلها تحت قدمي)

المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدررحمه‌الله وتلميذه المرجع السيد كاظم الحائري :

وقال المرجع المعاصر السيد كاظم الحائري يبين رأيه في مبررات إقدام الامام الحسنعليه‌السلام على الصلح مع معاوية ثم يذكر ضمنا رأي أستاذه المرجع الراحل الشهيد محمد باقر الصدررحمه‌الله في الموضوع.

__________________

(1)أقول : كانت مبادرة معاوية للصلح هي ان يبقى الحسنعليه‌السلام على بلاده وان يبقى معاوية على بلاده وتوقف الحرب وفي خيار الرفض يأتي كلام الشيخرحمه‌الله . وفي حالة قبولها لا تستلزم ان يسلم الحسن ملك العراق الا في حالة كون الحسنعليه‌السلام لا يثق بجيشه وبالوضع العام للكوفيين وهو التعليل المشهور ، ومنه تعليل الشيخرحمه‌الله وفي قبال التعليل المشهور هناك تعليل آخر قدمناه في هذا الكتاب وهو ان الحسنعليه‌السلام يعلم ان قبوله للصلح بصيغة معاوية معناه تكريس الانشقاق وجهل أهل الشام بحقيقة إمامة الهدى التي يمثلها عليعليه‌السلام ولا علاج لهذا الجهل الا بعلاج الانشقاق واختلاط الناس وفضح معاوية انه كان كاذبا في دعواه وليس من طريق لذلك الا ان يتنازل الحسنعليه‌السلام عن الحكم بشروط يضعها هو ويلتزمها معاوية ، وهنا يأتي احتمال ان يغدر معاوية بالحسنعليه‌السلام وينقض شروطه ولم يخف هذا الاحتمال عن الحسنعليه‌السلام ولكنه سيكون غدرا ونقضا بعد فوات الأوان ، وتفصيله في الباب الثاني من هذا الكتاب.

٥٦

قال : (وبالحقيقة هناك تفسيران يفسران اقدام الامام على إبرام الصلح مع معاوية أحدهما خاص والآخر عام.

أما التفسير الخاص : فهو ما بينه أستاذنا السيد الشهيد حول المرض الذي كانت الأمة مبتلاة به ، وهو مرض الشك ، حيث كانت الأمة تشك في طبيعة الصراع الذي كان ناشبا بين الامام الحسنعليه‌السلام ومعاوية وتصوره صراعا من اجل حيازة السلطة ، وليس صراعا بين الحق ممثلا بالإمام الحسنعليه‌السلام والباطل ممثلا بمعاوية.

وليس من سبيل لمعالجة هذا المرض الا بمصالحة معاوية لأن الصلح وحده هو القادر على كشف حقيقة معاوية وإذا ما كشفت الأمة حقيقة معاوية سوف تدرك أن حربه على الامام الحسنعليه‌السلام انما هي حرب ظالمة ، وأن الامام الحسنعليه‌السلام انما يدافع عن الحق وعن الرسالة وليس عن السلطان والجاه والرئاسة ، وبالتالي فانه سوف يصار على تعرية بني أمية وكشف زيفهم وضلالهم ، وبهذا يزال مرض الشك الذي كانت الأمة مبتلاة به فلا تشك بعدئذ بحقانية الأئمة في دفاعهم عن الرسالة ولا تصدق بشعارات بني أمية الكاذبة الزائفة.(1)

وأما التفسير العام : فهو الذي يفسر نهوض الأئمة بالأمر على أساس الأمر الواقع ، فالإمامعليه‌السلام لا ينهض بالأمر الا عندما تتوافر لديه قوة ومقدرة تكفي لإنجاح مهمته وفق المقاييس المعقولة ، ولا يشترط في هذه القوة أن تكون اكبر من قوة العدو من الناحية المادية ، بل يكفي أن تكون متوافرة على شروط القوة المعنوية الأخرى ، والإمام الحسنعليه‌السلام لم يحصل على هذه القوة حتى بالحد الأدنى الذي يمكن ان تستمر بواسطته المجابهة ، ولهذا اضطر إلى إيقاع الصلح مع معاوية(2) :

وقد نقل الشيخ علي الكوراني رؤية الشهيد الصدر بقوله : قال الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدرقدس‌سره : تصاب المجتمعات بعدة أمراض كما يصاب الأفراد ، ومن الأمراض التي أصيب بها المجتمع الإسلامي إبان إمامة الحسنعليه‌السلام هو

__________________

(1)أقول : وهذا التحليل لدوافع الصلح قد بذر بذرته العلامة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين وقد ذكرنا كلامهقدس‌سره في المقدمة.

(2) الحائري ، السيد كاظم ،القيادة الإسلامية .

٥٧

مرض (الشك في القيادة) وهذا الداء ظهر في أواخر حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام . حيث واجه أيام خلافته عدة حروب ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء الأمة ، فأخذ الناس يشكون هل أن المعارك التي تخاض معارك رسالية أم أنها معارك قبلية أو شخصية؟ وقد عبر أمير المؤمنينعليه‌السلام عن ظهور هذا الداء الاجتماعي في عدة مرات منها في خطبته المعروفة بخطبة الجهاد التي ألقاها على جنوده المنهزمين في مدينة الأنبار حيث قال لهم والألم يعصر قلبه : (ألا وأني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرا وعلانا ، وقلت لكم أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت الغارات عليكم ، وملكت عليكم الأوطان). واستفحل (الداء) واشتد في حياة الإمام الحسنعليه‌السلام ، فلم يكن باستطاعته في مثل هذه الظروف والمجتمع المصاب بهذا الداء أن يخوض معركة مصيرية تنتهي بالنصر على خصمه المتربص به ، فإذا أضفنا إلى هذا شخصية الخصم معاوية الذي كان بإمكانه أن يبدو أمام الناس بمظهر الحاكم الملتزم بالدين وكذلك تعدد انتماءات المقاتلين مع الإمام الحسنعليه‌السلام حتى أبدى بعضهم استعداده لمعاوية أن يسلم له الإمامعليه‌السلام حيا ، وطعنه بعضهم طعنة غادرة ، إذا جمعنا هذا وغيره من الظروف عرفنا لماذا صالح الإمام الحسنعليه‌السلام معاوية).(1)

باحثون آخرون من الشيعة المعاصرين :

وهناك باحثون وكتاب آخرون من الشيعة تبنوا الرؤية السائدة نفسها أمثال العلامة الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه حياة الامام الحسن ، والسيد محمد جواد فضل الله في كتابه حياة الامام الحسن والشيخ مهدي البيشوائي في كتابه سيرة الأئمة والشيخ احمد زماني في كتابه حقائق بنهان وغيرهم.

__________________

(1) العاملي ، الانتصار ، دار السيرة لبنان 1422 م ، ج 8 ص 137 ـ 139.أقول : وفي ضوء البيانين المعبرين عن رأي الشهيد الصدررحمه‌الله ، مراد الشهيد الصدررحمه‌الله ، بالأمة الشاكة هم أهل العراق لان أهل الشام ما كانوا يشكون في حقانية معاوية بوصفه ثقة الخليفتين عمر وعثمان وقد ولي لهما ست عشرة سنة وإذا كان هناك شيء من الشك عن بعضهم فقد إزالته الاعلام الكاذب مدة خمس سنوات في حرب صفين وما بعدها ثم كيف يشكون وقد تحولوا إلى قتلة للأبرياء من النساء والاطفال سالبين اموالهم في غاراتهم!

٥٨

الشيخ مهدي البيشوائي :

كتب الشيخ البيشوائي رأيه ضمن حديثه عن الحسنعليه‌السلام في كتابه عن سيرة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام وهو احدث ما كتب (الطبعة الأولى سنة 1423 هجرية) انطلاقا من الرؤية السائدة في الصلح وقد أفاد من الكتب التي كتبت قبله قال (وينبغي القول عموما ان الامام الحسنعليه‌السلام لم يصالح في الواقع بل فرض عليه الصلح أي تعاونت الظروف المتردية مع العوامل الأخرى بحيث أوجدت وضعا جعل الصلح أمرا ضروريا مفروضا على الامام ، ولم ير حلا غير ذلك بحيث لو كان أي شخص يعيش طظروفه لما كان يختار غير الصلح والهدنة ...

فمن ناحية السياسة الخارجية لتلك الفترة لم تكن الحرب الأهلية الداخلية في صالح العالم الإسلامي لان الروم الشرقية كانت تتحين الفرصة المناسبة ...

ومن ناحية السياسة الداخلية لم يكن يتمتع أهل العراق لا سيما الكوفيون منهم بالاستعداد النفسي للقتال وكانت حروب الجمل وصفين والنهروان والحروب الخاطفة ولدت عند أصحاب الامام علي حنينا إلى السلم والموادعة وقد برز ذلك حين دعاهم الحسن للتجهز لحرب الشام كانت الاستجابة بطيئة جدا مما جعل احد أصحاب أمير المؤمنين يوبخهم على التثاقل والتخاذل.

ثم أورد نص الشيخ المفيد في الإرشاد الذي أوردناه فيما سبق ...

ثم قل : ولم يكن العراقيون على مرام واتجاه واحد ، مذبذبين لا يعرفون الوفاء ولا يمكن الاعتماد عليهم والثقة بهم يرفعون في كل يوم راية من الرايات وشعارا من الشعارات.

ثم ذكر ما أورده صاحب كتاب الاحتجاج من قولٍ نسبه إلى الحسنعليه‌السلام : والله ما سلمت الأمر إليه (أي معاوية) الا لأني لم أجد أنصارا ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا انهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا في فعل ...).(1)

__________________

(1) البيشوائي ، الشيخ مهدي ،سيرة الأئمة ، ترجمه من الفارسية إلى العربية حسين الواسطي 1423 هجرية ، ص 92 فما بعدها.

٥٩

أقول : ورؤية أولئك الاعلام والباحثين المتأَخرين جميعا تستند إلى ما كتبه الشيخ المفيدرحمه‌الله ، الذي لخص رواية أبي الفرج الاصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين مع حذف الأسانيد واسقاط بعض الفقرات.

الشيخ وحيد الخراساني المرجع الشيعي المعاصر

في مدينة قم المقدسة :

قال : (وقد ابتلي السبط الأكبر بمصيبة تظهر عظمتها من مقايسة أصحابه بأصحاب أخيه الحسينعليه‌السلام ، وأما الحسنعليه‌السلام فخطب بعد وفاة أبيه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : (أما والله ما ثنانا ن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة ، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر ، فشيب السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتنم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم ، وكنا لكم وكنتم لنا ، وقد صرتم اليوم علينا. ثم أصبحتم تصدون [تعدون] قتيلين : قتيلا بصفين تبكون عليه ، وقتيلا بالنهروان تطلبون بثأره ، فأما الباكي فخاذل ، وأما الطالب فثائر. وإن معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عز ولا نصفة ، فإن أردتم الحياة قبلنااه منه ، وأغضضنا عن القذى ، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله وحاكمناه إلى الله. فنادى القوم بأجمعهم : بل البقية والحياة.

ثم أورد جزءا من رواية قال (ولما وجه إلى معاوية قائدا في أربعة آلاف ، وكان من كندة ، وأمره أن يعسكر بالأنبار ، كتب إليه معاوية : إن أقبلت إلي وليتك بعض كور الشام ، أو الجزيرة ، غير منفس عليك ، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم ، فقبض الكندي المال وقلب على الحسنعليه‌السلام ، وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته.

فبلغ ذلك الحسنعليه‌السلام فقام خطيبا وقال : هذا الكندي توجه إلى معاوية وغدر بي وبكم ، وقد أخبرتكم مرة بعد أخرى أنه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا ، وأنا موجه رجلا آخر مكانه ، وأنا أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبه ، لا يراقب الله في ولا فيكم.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

أحرار، قال أفيدوم ذلك أو ينقطع؟ قال بل ينقطع، قال ومن يقطعه؟ قال نبي ذكي أمين قوي، يأتيه الوحي من قبل الواحد العلي: قال وممن هذا النبي؟ قال من ولد غالب بن فهر بن مالك بن مضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.

قال وهل للدهر من آخر؟ قال نعم يوم انفطار السماء، والوقوف للجزاء، بالسعادة والشقاء.

قال وأي يوم هو؟ قال يوم يجمع فيه الاولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.

قال أحق ما تخبرنا به يا سطيح؟ قال نعم والشفق، والغسق، والقمر إذا اتسق، أن ما أنبأتك به لحق.

ومن أخبار أيضا: أنه كان لعبد المطلب بن هاشم ماء بالطائف، يقال له ذو الهدم، فادعته ثقيف فجاؤه فاحتفروه، فمنعهم عبد المطلب فعظم خصامهم، فنافرهم عبد المطلب إلى سطيح، فخرج عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وخرج معه جماعة من قومه، وخرج خصمه جندب بن الحارث في جماعة من ثقيف، فلما كان في بعض الطريق نفد ماؤهم فطلبوا إلى الثقيفيين أن يسقوهم فلم يفعلوا، فنزل عبد المطلب وأصحابه، وهم لا يشكون أنه الموت، ففجر الله عين ماء عذب من تحب جرات بعير (١) عبد المطلب فشربوا واستقوا وحمد الله عزوجل عبد المطلب [وشكره] (٢) وساروا على طريقهم فنفد ماء الثقيفيين فسألوا عبد المطلب أن يسقيهم ففعل فقال له الحارث: لان أدخل سيفي في بطني أخف علي من أن أفعل ذلك! قال له يا بني اسقهم فان الكرم ثقيل الحمل، فسقاهم فساروا فقطعوا رأس جرادة (٣)

__________________

(١) في ب: من تحت جرار عبد المطلب.

(٢) زيادة عن ت.

(٣) في ب: جران.

١٢١

فجعلوه في خرز (١) مزادة، وعلقوه في جلد في عنق كلب لهم اسمه سوار، وكانت في عنقه قلادة لا تفارقه.

فأتوا سطيحا فلما دخلوا عليه قالوا إنا أتيناك سائلين، قال فماذا تسألون؟ قالوا نسأل عن شئ قد خبأناه، ونحتكم عندك في شئ وقع التخاصم بيننا فيه، فقال خبأتم رأس جرادة في خرز مزادة في عنق سوار ذي القلادة، قالوا صدقت فأخبرنا عما اختصمنا فيه اليك، قال احلف بالضوء والظلم، والبيت ذي الحرم، أن الدفين ذا الهدم، لهذا العربي ذي الكرم، فانصرفوا وقد قضى لعبد المطلب.

ومن أخباره أن كسرى ابرويز (٢) لما رأى في نومه كأنه سقط من قصره ست عشرة (٣) شرفة ارتاع لذلك، فوجه إلى الموبذان فعرفه بذلك، وقال إن ذلك قد هالني وأفزعني.

قال الموبذان: أيها الملك عسى أن يكون خيرا، وإني أيها الملك كنت أرى البارحة ان النيران قد خمدت، وقلعت بيوتها وهلك سدنتها وقد اغمني ذلك، وكنت عزمت على أن لا أخبر الملك حتى يوجه إلي فأتيته (٤) .

قال كسرى فما الداعي؟ قال الموبذان قد بلغني ان بأرض العرب كاهنا يقال له سطيح، يخبر بما يكون قبل كونه، فلو أرسل إليه الملك رسولا يسأله عن ذلك، فلعله أن يخبره بالجواب فيه.

قال كسرى ومن لنا بحصيف ينفذ في ذلك؟ وكان على باب الملك فيمن وفد عليه من العرب رجل، يقال له عبدالمسيح من رهط سطيح، فأشار به الموبذان على كسرى، فأحضره ولم يخبره بما رآه، وقال انطلق إلى سطيح، فاسأله عن رؤيا رأيتها، فإذا اخبرك بها، فاسأله أن يخبرك بتأويلها،

__________________

(١) في ت: جلد.

(٢) في ب: اجرويز وهو خطأ.

(٣) في ب: ستة عشر.

(٤) لعل الصواب فأنبئه.

١٢٢

فإذا أخبرك فارجع مسرعا ولا تتخلف، قال أفعل ايها الملك، فأمر له بمال وجائزة، وحمله جائزة إلى سطيح.

فركب عبدالمسيح راحلته، ومضى مبادرا يقطع المفاوز والفيافي، حتى لحق مكان سطيح بعد ايام، فلما بلغ بيته وجده عليلا لما به فوقف عليه وسلم [وجعل يرتجز ويقول ليسمعه:

اصم ام يسمع غطريف اليمن

يا فاصل الخطة اعيت من ومن

من ابيات] (١) قال سطيح [مجيبا له] عبدالمسيح، على جمل فسيح، أوفى على سطيح، وقد أشفى على الضريح، يسأل عن ارتجاج الايوان، ورؤيا الموبذان، وخمود النيران.

قال: فالتأويل يا سطيح؟ قال: تنقضي أيامهم، وتنقطع آثارهم، وتملك العرب ديارهم، عند ظهور صاحب التلاوة، والقضيب والهراوة.

قال: ومتى ذلك يا سطيح؟ قال: إلى أن يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وقبل ذلك ينقضي امر سطيح ويواريه الضريح، ولا يصلح [له] فيها قرار.

وقد روي [هنا] الكلام على غير هذا النوع واكثر منه كلاما (٢) فرجع عبدالمسيح إلى كسرى، وقد دعى كلامه، فعجب كسرى وسره وقال: إلى أن يلي منا ستة عشر ملكا يكون سعة لدفع الهم، ولعل ذلك لا

__________________

(١) زيادة عن ت.

(٢) عبارة ت: عبدالمسيح، على حمل مسيح، يسأل عن خمود النيران، رؤيا الموبذان وسقوط الايوان، لاخبر بالبرهان، أما عدد الشرفات فيلي مثلها ملوك وملكات وخمود النيران ينقضي ملكهم على الزمان، وذلك عند ظهور صاحب التلاوة أمر والقضيب والهراوة، فتنقضي آثارهم، وتملك العرب ديارهم، وهناك ينقضي سطيح، ويواريه الضريح، ولا تكون الدنيا له بدار ولا يقر به فيها قرار، وقد يروون هذا الكلام على غير هذا السجع.

١٢٣

يكون، فرأى الملك منهم تلك العدة في سنين قليلة حتى انقضى ملكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه (١) .

وقيل إن الرؤيا كانت ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إن سطيحا عاش أربعمائة سنة.

وأما شق الاول، وهو شق بن حويل بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، فهو اول كاهن في العرب العاربة، وارم ابو الجبابرة من عاد وثمود وطسم وجديس وغيرهم، ويقال إنه كانت له عين واحدة في جبهته، ويقال إنه [كان] يشق وجهه نار.

ويقال ان الدجال من ولده، ويقال إنه هو الدجال بعينه، أنظره الله إلى وقته، وهو محبوس في بعض جزائر البحر.

وفي حديث تميم الداري انه خرج في بعض الاسفار فوقع إلى جزيرة، فرآه وخاطبه، وسأله عن ظهوره، وانه وجده مغلولا، مشدودا إلى صخرة، وأن الشياطين تأتيه بما يأكله، على ما يقول.

وفي خبر آخر أنه لا يحتاج إلى الغذاء، ورآه تميم الداري، وله عين واحدة، وحدث بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرويه عنه فيقول: حدثني تميم الداري، ويذكر طرفا من خبر الدجال.

ويقال إن أمه امرأة من الجن عشقت أباه حويلا، فتزوجته فأولدها الدجال وهو خوص بن حويل، وكان مشوها مبدلا، وكان إبليس يعمل له العجائب، فلما كان وقت سليمان عليه السلام دعاه فلم يجبه، فحبسه في جزيرة في البحر.

وقيل إن أباه استهوته الشياطين لما كانت أمه منهم، وانه من مدينة ماريول التي غلبت عليها الجن، وهي من مدائن المغرب، وأن الجن في طاعته.

__________________

(١) ت: عمر رضي الله عنه.

١٢٤

ويقال إن خوصا هذا كان يحضر السارق فيأمره برد ما سرق، فان فعل وإلا صار حية فيلتوي في عنقه فيقتله، وقيل أنه ربما خاطبهم ولا يرونه، وكان إذا حكم على أحد فلم يرض حكمه بصبص (١) أحذقته في احدى عينيه فرده أعور.

وقيل إن مجلسه كان في قبة بوادي برهوت في اليمن، وكانوا يحجون إليه، وقيل انه لم ينم قط، وانهم كانوا يرون فوق عينيه نارا بيضاء، وكذلك عن الموضع الذي هو فيه مسجون انه يعلوه بالليل نار مضيئة، وبالنهار دخان.

وأما شق اليشكري وكان حكيم العرب في الجاهلية، وقد كان ربيعة بن نصر لما رأى رؤياه وجه إلى شق وسطيح، فأتاه سطيح قبل شق، وكان من جوابه ما قدمنا ذكره في أخبار سطيح، فلما قدم عليه شق قال له: يا شق اني رأيت رؤيا هالتني فما هي؟ وكتمه قول سطيح، فقال له شق رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روض وأكمة فأكلت كل ذات نسمة، قال: صدقت فما تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من انسان، ليطأن (٢) أرضكم السودان، وليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران.

قال: أيكون في زماننا هذا؟ قال: بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم عظيم ذو شان، قال: وممن هو هذا العظيم؟ قال: غلام من بيت ذي يزن، فلا يترك احدا منهم باليمن، قال: فهل يدوم ذلك؟ قال: بل ينقطع برسول يرسل، يأتي بالعدل بين اهل الدين والفضل، يكون الملك فيهم إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم يدعى من السماء بدعوات، يسمع

__________________

(١) في ب: فضض.

(٢) في ت: ليهبطن.

١٢٥

بها الاحياء والاموات، ويجمع الخلق فيه للميقات، يكون فيه لمن آمن الخير والخيرات، ولمن كفر الويل والترحات، قال: أحق ما تقول يا شق؟ قال: اي ورب السماء والارض، وما بينهما من رفع وخفض، أن ما أنبأتك به لحق محض، ما فيه كذب ولا نقض، فأجازه ربيعة بجائزة سنية، ووصله وصرفه.

خبر اليمامة الزرقاء

وهي صاحبة جو واليمامة، سميت بها، وصاحبة البحرين، وقيل ان امها كانت كاهنة، وكان لها رئي (١) من الجن وهي من جديس، وكانت جديس وطسم بمكان فغلبت طسم على جديس، وملك الجميع عملوق بن الطسم، وكان يفترع النساء قبل زواجهن، فاحتالت جديس عليه فقتلوه وقتلوا كثيرا من طسم فاستنصرت بقايا طسم بحسان بن تبع الحميري، فغزا جديسا طالبا بثار طسم.

وكانت اليمامة الزرقاء وعينها الواحدة اكبر من الاخرى، فإذا اغلقت الكبرى ابصرت بالصغرى على الفراسخ الكثيرة والامد البعيد، وقيل انها كانت [ترى] (٢) فلك القمر، فتخبر عنه بأشياء عجيبة.

وقد كان اتصل بجديس استنصار طسم بحسان بن تبع الحميري، فقطنوا وقالوا لليمامة: انظري فنظرت، وقالت: اقسم بمهب الرياح، والآكام والبطاح، والمساء والصباح، ليأتين من حمير [الجيش] الرداح، والخيل والسلاح، فلا ترون من بعدها فلاح.

فلما اصبحوا في اليوم الثاني قالوا لها: انظري فنظرت، وكان حسان

__________________

(١) وفي ت: رئيس والصواب رئي.

٢) عن ت.

١٢٦

لما قرب من جو بأربعة ايام قال لاصحابه ان اليمامة ستراكم على البعد الكثير فتنذر بكم، فليحمل كل واحد منكم غصنا من شجرة اعظم ما يقدر عليه ليسدل اغصانه عليه وجوانبه، ففعلوا ذلك.

فقالت اليمامة لما رأت ذلك: يا جديس قد اتتكم الشجر، تخبط المدر، فاستعملوا منها الحذر فكذبوها، وقالوا لها: اتسير الشجر؟

فلما كان في اليوم الثالث قالوا لها: انظري، فنظرت فقالت: ارى رجلا في كتفه كتف، أو نعل يخصفه فكذبوها، وقالوا قد تغير نظرها، وكيف ترى على هذا البعد ما لم يتصل بنا خبره، فكان حسان يسير بالليل ويكمن بالنهار، إلى أن صبحهم فقتلهم أبرح قتل، وهدم منازلهم واستباح نساءهم.

وأخذ اليمامة، وقال لها ألا عرفتيهم بمسيري؟ قالت: قد فعلت لو قبلوا، ونظر فرأى في عينها عروقا سوداء، فقال لها: بم كنت تكتحلين؟ فقالت له: بحجر الاثمد، مربى بماء المطر. فقيل انه قطع يدها ورجلها، وقلع عينها وصلبها، فيقال: إن رئيها من الجن لطمه فأعوره، ومنعه النوم فلم يكن ينام.

وقد ذكرت الشعراء اليمامة فأكثروا، قال الاعشى يذكرها في القصيدة التي أولها:

بانت سعاد فأمسى حبلها انقطعا

فقال يذكرها ونظرها:

ما نظرت (١) ذات أشفار كنظرتها

حقا كما نظر الربى إذا شجعا

فكذبوها بما قالت فصحبهم

جيوش حسان تزجي الموت والسلعا

وإياها عنى:

__________________

(١) من هنا إلى ذكر عجائب مصر لا يوجد.

١٢٧

واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثمد

تحفه جانبا بير ويتبعه

مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد

قالت الا ليتما هذا الحمام [لنا]

إلى حمامتنا أو نصفه فقد

فحسبوه فألفوه كما حسبت

تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد

فكملت مائة منها حمامتها

واسرعت حسبة في ذلك العدد

وقصتها في حديث الحمام مشهورة، وهذا هو القول الذي سجعت هي به:

ليت الحمام ليه إلى حمامتيه

أو نصفه قديه [تم الحمام ميه]

ذكر عجائب مصر وأخبار ملوكها وكهانها

لما ذكرنا الكهان وجب علينا أن نذكر كهنة مصر، لانهم كانوا أعظم الكهان قدرا، وأجلهم بالكهانة علما (١) وكان حكماء اليونانيين يصفونهم بذلك، ويقولون أخبرنا حكماء مصر بكذا، واستفدنا منهم كذا وكذا.

وكان هؤلاء ينحون في كهانتهم نحو الكواكب، ويزعمون أنها هي التي تفيض عليهم العلوم وتخبر بالغيوب، وهي التي علمتهم أسرار الطبائع، ودلتهم على العلوم المكتومة فعملوا الطلسمات المشهورة، والنواميس الجليلة وولدوا الاشكال (٢) الناطقة، وصوروا الصور المتحركة، وبنوا العالي من البنيان، وزبروا علومهم من الطب في الحجارة، وانفردوا بعمل البرابي، وعملوا من الطلاسم ما نفوا به (٣) الاعداء عن بلادهم وعجائبهم ظاهرة، وحكمتهم واضحة.

__________________

(١) في ت: حذقا.

(٢) في ت: وأولدوا الدلالات.

(٣) في ت: ومنعوا بها الاعداء.

١٢٨

وكانت مصر خمسا وثمانون كورة منها بأسفل الارض خمس وأربعون، ومنها بالصعيد أربعون وكان في كل كورة رئيس من الكهنة، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قصة فرعون لما أشار عليه أصحابه، وقالوا (ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم) يريد هؤلاء الرؤساء.

وكان الذي يتعبد منهم لكوكب من الكواكب السبعة المدبرة سبع سنين يسمونه ماهرا، والذي يتعبد منهم للكواكب السبعة لكل واحد منهم سبع سنين، فمن بلغ هذه المرتبة منهم سمي قاطرا (١) وصار يجلس مع الملك ويصدر الملك عن رأيه، وإذا رآه قام إجلالا له، وكان زيهم أن يدخل كل يوم إلى الملك فيجلس إلى جانبه فتدخل الكهنة، ومعهم أصحاب الصناعات فيقفون حذاء القاطر، وكل واحد من الكهنة منفرد بكوكب يخدمه لا يتعداه إلى سواه، ويسمى بعبد كوكب كذا، كما كانت العرب تسمي عبد الشمس، فيقول القاطر لاحد الماهرين أين صاحبك؟ فيقول في البرج الفلاني في الدرجة الفلانية في دقيقة كذا، ويسأل الآخر في حذائه، حتى إذا عرف مستقر الكواكب، قال للملك ينبغي أن يعمل الملك اليوم كذا وكذا، ويأكل كذا وكذا، ويجامع في وقت كذا، ويقول له جميع ما يراه صلاحا، والكاتب قائم بين يديه يكتب جميع ما يقول.

ثم يلتفت إلى أهل الصناعات [فيقول أنقش أنت صورة كذا على حجر كذا فمتى رسم على أهل الصناعات] (٢) فيخرجون إلى دار الحكمة، فيضعون أيديهم في الاعمال التي يصلح عملها في ذلك اليوم:

ويستعمل الملك جميع ما قاله القاطر، ويؤرخ جميع ما جرى من هذا

__________________

(١) في ب: ناظر، وقد رسم هكذا في كل موضع جاء فيه، والصواب ما ذكرناه.

(٢) الزيادة عن ت.

١٢٩

وشبهه في ذلك اليوم في صحيفة، وتطوى وتودع في خزائن الملك فعلى ذلك جرت أمورهم.

وكان الملك إذا حزبه (١) أمر بجمعهم بخارج مصر، ويصطف لهم الناس بخارج المدينة ثم يقدمون ركبانا، يتقدم بعضهم بعضا، ويضرب بين أيديهم بطبل الاجتماع، فيدخل كل واحد منهم بأعجوبة، فمنهم من يعلو وجهه نور مثل نور الشمس فلا يقدر أحدهم النظر إليه، ومنهم من يكون على يديه جوهر أخضر وأحمر على ثوب من ذهب منسوج، ومنهم من يكون راكبا على أسد متوشحا بحيات عظام ومنهم من تكون عليه قبة من نور أو جوهر في صنوف من العجائب الكثيرة، إلا أن كل واحد إنما يصنع ما يدل عليه كوكبه الذي يعبده، فإذا دخلوا على الملك قالوا أرادنا الملك الامر كذا، وأضمر الملك كذا، والصواب فيه كذا.

* * *

وكان بمصر القديمة واسمها أمسوس ملك كاهن يقال له عيقام من ولد عرباق (٢) ابن آدم فتحكي أهل مصر عنه حكايات كثيرة تخرج عن العقل.

وكان قبل الطوفان وقد رأي في علمه كون الطوفان، فأمر الشياطين الذين تطيعه أن يبنوا له مكانا خلف خط الاستواء، بحيث لا يلحقه شئ من الآفات، فبنوا له القصر الذي [على] سفح جبل القمر، وهو قصر النحاس الذي فيه التماثيل من النحاس، وهي خمسة وثمانون تمثالا، يخرج ماء النيل من حلوقها، وينصب إلى بطحاء مصر.

فلما عمل له ذلك القصر أحب أن يراه قبل أن يسكنه، فجلس في قبة،

__________________

(١) في ب: إذا أحزبه، وفي ت: إذا جربه، والصواب ما ذكرناه.

(٢) في ب: عراب.

١٣٠

وحملته الشياطين على أعناقها إليه، فلما رآه ورأى حكمة بنائه، وزخرفة حيطانه، وما فيها من النقوش وصور الافلاك، وغير ذلك من العجائب، وكانت المصابيح تسرج فيه، وتنصب فيه موائد يوجد عليها من كل الاطعمة، ولا يرون من يعملها، وكذلك لا إنس به.

وفي وسط القصر بركة من ماء جامد الظاهر ترى حركته من وراء ما جمد منه، وأشياء كثيرة من هذا المعنى، وإن كانت تنبو عنها العقول.

فأعجبه ما رأى ورجع إلى مصر فاستخلف ابنه عرباق (١) وأوصاه بما يوجب له الملك وولده على مكانه، ورجع هو إلى ذلك القصر، وأقام به حتى هلك هناك.

واليه تعزى مصاحف القبط، التي فيها تواريخهم.

قونية الكاهنة

وفي مصاحف القبط أنها كانت تجلس على عرش من نار، فإذا ما احتكم إليها الرجل، وكان صادقا شق (٢) على النار حتى وصل إليها ولم تضره.

وكانت تتصور عليهم في أشكال كثيرة من الصور، إذا شاءت (٣) ثم بنت لنفسها قصرا واحتجبت فيه عن الناس، وجعلت حيطانه من نحاس مجوفة، وكتبت على كل أنبوب فيها من الفنون التي يتحاكم إليها فيه فكان الذي يتحاكم إليها يأتي إلى الانبوب الذي كتب عليه ذلك الفن، فيتكلم بما يريده، ويسأل ذلك ما قصد له بصوت خافض غير عال، فإذا فرغ من

__________________

(١) في ت: عريان.

(٢) في ت: خاض النار.

(٣) ت: كيف شاءت.

أخبار الزمان م (٩)

١٣١

كلامه جعل هو أذنه على نذلك الانبوب، فيأتيه الجواب منه بكل ما يريده، فلم يزالوا مستعملين ذلك، إلى أن خرب بخت نصر البلد.

وكان عرباق بن عيقام الملك قد تكهن بعد ابيه وعمل عجائب كثيرة، منها شجرة من صفر لها اغصان حديد بخطاطيف حادة، إذا تقرب الظالم إلى الملك تقدمت إليه تلك الخطاطيف، وتعلقت به وشبكت يديه، ولم تفارقه حتى يحدث عن نفسه بالصدق، ويعترف بظلمه، ويخرج من ظلامة خصمه.

ومنها صنم من صوان أسود سماه عبد أفرويس (١) أي عبد زحل، كانوا يختصمون إليه، فمن زاغ عن الحق ثبت مكانه، ولم يقدر على القيام حتى ينصف من نفسه، ولو أقام سنة أو أكثر.

ومن كانت له حاجة منهم أو طلب شيئا عند ذلك الصنم، قام ليلا ونظر إلى الكوكب، فذكر اسم عرباق وتضرع، فيصبح وقد وجد حاجته على باب منزله.

وكان ربما حملته أطيار عظام، وهو في مرتبته فيمر بهم وهم يرونه في الهواء فيزدادون له عبادة وهيبة، وربما علا على ناس منهم فملا ماءهم من الاقذار، وسلط عليهم وحوش الارض وسباعها وهوامها.

وكان من كهانهم فيلمون، وقد ذكرنا خبره مع نوح عليه السلام، وكان منهم شيمون (٢) وهو الذي كان يوقد النار، ويتكلم عليها، فتطلع منها صورة نارية، وكانت الكهانة عندهم عمل المعجزات، ولم يزل هذا كاهنا إلى وقت فرعون ملك مصر الذي كان الطوفان في أيامه، وكان يسكن الهرم المجوسي (٣) وكان هيكل الكواكب، وكانت فيه صورتا الشمس والقمر (٤)

__________________

(١) في ت: قرويش.

(٢) ت: سيبون.

(٣) في ت: البحري.

(٤) ب: وكانت في صورة الشمس والقمر.

١٣٢

تنطقان، [وكان الهرم الثاني ناووسا لاجساد الملوك التي نقلها إليه سورند، وفيه العجائب والتماثيل والمصاحف] (١) وكان فيه التمثال الذي يضحك وكان من جوهر اخضر، وخزنوا ذلك فيه خوفا من [تلفه في] الغرق.

(خبر الكهان بعد الطوفان)

وأما الكهان بعد الطوفان (٢) إلى خراب مصر فكثير، وأول من تكهن بمصر بعد الطوفان ابن فليمون كان قد ركب السفينة مع أبيه وأخيه وأخته وهي التي زوجها من ينصو بن حام، وهم الذين خرجوا إلى مصر وكانوا موحدين على دين نوح عليه السلام، ولم يكن اسم الكهانة عندهم عيبا، بل كان الكاهن كالحاكم الذي لا يعصى له أمر.

وأول من تحقق بالكهانة، وغير الدين وتعبد الكواكب البودشير بن قفطويم بن ينصو بن حام، وكان ملكا بعد أبيه، وذكره جميع الكهنة في مصاحفهم.

فانه كان من أجل كهانهم، وممن عمل النواميس العظام، وأقام أصنام الكواكب وبنى هياكلها.

وتزعم القبط أن الكواكب خاطبته وأنه عمل عجائب كثيرة، منها أنه استتر عن الناس بعد سنين من ملكه، وكان يظهر لهم وقتا بعد وقت مرة في كل سنة وهو وقت نزول الشمس في برج الحمل، ويدخل الناس إليه فيخاطبهم ويرونه، ويأمرهم بما يعملونه وينهاهم ويحذرهم مخالفة أمره، وكان

__________________

(١) جميع الزيادات عن ت.

(٢) خبر الكهان بعد الطوفان.

١٣٣

يجلس لهم في بعض أوقات السنة فيخاطبهم عند دخولهم عليه، وينهاهم وهم لا يرونه.

والمكان الذي يكلمهم منه غير خفي عنهم، ولا يعد منهم، ثم بنيت له قبة من فضة مموهة بالذهب وزخرف ما حولها، وكان يجلس لهم في أعلى القبة في صورة الوجه العظيم، فيخاطبهم، بمثل ما كان يخاطبهم، وكان يجلس لهم في أعلى السحاب بوجه في صورة إنسان عظيم، فأقام كذلك مدة ثم غاب عنهم فلم يروه.

وأقاموا برهة ليس لهم ملك، إلى أن رأوا صورته في هيكل الشمس عند دخول الشمس الحمل، وأمرهم أن يقلدوا الملك لعديم بن قفطويم وأعلمهم أنه لا يعود إليهم، ففعلوا ذلك.

وأما بديرة (١) الكاهنة فانها امرأة من أهل بيت الملك، يقال إنها أخت البودشير، وأنه ألقى إليها الكهانة فهي [التي] عملت اكثر الطلسمات والبرابي، وهي التي عملت القبطية (٢) الناطقة بمنف.

وكانت الكهانة في أهلها وولدها يأخذونها كابرا عن كابر، وهي التي حكى المصريون عنها أنها عملت طلسمات منعت الوحوش والطيور أن تشرب من النيل فمات اكثرها عطشا.

وأن الله تعالى أرسل إليها ملكا فصاح بها صيحة ارتجت لها الارض [وتشققت جبالها] (٣) فماتت من تلك الصيحة [ويقال انها كانت تطير في الهواء والملائكة تضربها بأجنحتها إلى أن سقطت في البحر] (٣) .

وأما شؤون الاشموني فيقال انه هرمس الاول، الذي بنى بيت التماثيل الذي

__________________

(١) في ت ندورة، وفي بعض كتب التواريخ تدورة.

(٢) في ت: الاصنام، وهي الصواب.

(٣) زيادة عن ت.

١٣٤

يعرف بها مقدار النيل الذي عند جبل القمر وعمل للشمس [هناك] (١) هيكلين (٢) .

وتحكي القبط عنه حكايات كثيرة، تخرج عن العادة، وتنكرها العقول، فكان يخفى عن الانسان فلا يرونه وهو معهم، وهو الذي بنى الاشمون.

ويقال إنها مدينة في شرقي مصر كان طولها اثني عشر مبلا وجعل عليها حصنا بنى فيه قصرا عظيما [يقال إنه بنى أنصنا واتخذ فيها] الاعلام والملاعب.

واتخذ في سفح الجبل مدينة يقال لها طهراطيس (٣) وجعل فيها من العجائب شيئا كثيرا، وجعل لها أربعة ابواب من كل جهة باب واحد، وجعل على الباب الشرقي صورة عقاب وعلى الباب الغربي صورة نسر (٤) وعلى الباب الجنوبي صورة اسد وعلى الباب الشمالي صورة كلب وملك (٥) فيها الروحانيات وكانت تنطق إذا قصد إليها القاصد ولا يصل احد إلى الدخول فيها دون استئذان الموكلين بها وغرس فيها شجرة تحمل كل صنف من الفواكه.

وبنى منارا طوله ثمانون ذراعا وعلى رأسه قبة تتلون في كل يوم لونا حتى تنقضي سبعة أيام بسبعة الوان ثم تعود إلى اللون الاول وتكسي المدينة ذلك اللون وجعل حول ذلك موضع ماء فيه سمك كثير، وجعل حول المدينة طلسمات من كل صنف تدفع عن اهلها المضار.

وكانت ايضا تسمى مدينة البوسق (٦) باسم الشجرة المنصوبة فيها.

__________________

(١) زيادة عن ت.

(٢) في ب: هيكلين. وفي ت: هيكلا.

(٣) في ت: وعمل في الجبل الشرقي مدينة، ويقال لها أو طبراطليش.

(٤) في ت: صورة ثور.

(٥) في ت: واسكن.

(٦) في ت: اليوس.

١٣٥

أول من بنى الاهرام

كان سوريد بن فيلمون (١) ، وكان ملكا على مصر قبل الطوفان بثلاثمائة (٢) سنة فرأي في منامه كأن الارض قد انقلبت بأهلها، وكأن الناس يهربون على وجوههم وكأن الكواكب تتساقط، ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة مفزعة فرجف قلبه وأزعجه ذلك وأرعبه ولم يذكره لاحد، وعلم أنه سيحدث في العالم أمر عظيم.

ثم رأى بعد ذلك، كأن الكواكب الثابتة نزلت إلى الارض في صورة طيور بيض كأنها تخطف الناس، وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين قد انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة كاسفة، فانتبه أيضا مذعورا فزعا.

فدخل إلى هيكل الشمس، وجعل يتضرع فيه ويمرغ خديه في التراب، ويبكي، فلما أصبح أمر رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، وكانوا مائة وثلاثين، فخلا بهم وحكى لهم جميع ما رآه فأعظموه وأكبروه وتأولوه على أمر عظيم يحدث في العالم.

فقال فيلمون عظيم الكهان، وكان فيلمون إذ ذاك كبيرهم، وكان لا يبرح من حضرة الملك لانه رأس الكهنة كهنة أشمون، وهي مدينة مصر الاولى، قال إن في رؤيا الملك عجبا، وأمرا كبيرا، وأحلام أهل الملك لا تجري على محال ولا كذب لعظم أقدارهم، وكبير أخطارهم، وأنا اخبر الملك برؤيا رأيتها منذ سنة لم أذكرها لاحد من الناس.

__________________

(١) في ت: سورند بن شهلوق.

(٢) في ت: بألف وثلاثمائة.

١٣٦

فقال له الملك: قصها علي يا فيلمون، قال: رأيت كأني قاعد (١) مع الملك على رأس المغار الذي في أشمون، وكأن الفلك قد انحط من موضعه، حتى قارب رؤسنا وكأن علينا كالقبة المحيطة بنا، وكأن الملك رافع (٢) يديه إلى السماء، وكواكبا قد خالطتنا في صور شتى مختلفة، وكأن الناس يستغيثون بالملك وقد انجفلوا إلى قصره، وكأن الملك رافع (٣) يديه إلى أن يبلغ رأسه، وأمرني أن أفعل مثل فعله، ونحن على وجل شديد إذ رأينا منه موضعا قد انفتح وخرج منه ضياء يضئ، ثم طلعت علينا منه الشمس فكأنا استغثنا بها فخاطبتنا بأن الفلك سيعود إلى موضعه إذا مضت له ثلاث وستون دورة. وهبط الفلك حتى كاد أن يلصق بالارض ثم عاد إلى موضعه، فانتبهت فزعا.

فقال لهم الملك: خذوا ارتفاع الكواكب وانظروا هل من حادث، فبلغوا غايتهم في استقصاء ذلك، فأخبروه بأمر الطوفان، وبعده بالنار التي تحرق العالم.

فأمر الملك ببناء الاهرام، فلما تمت على ما دبروا حكمه، نقل إليها ما أحب من عجائبهم واموالهم واجساد ملوكهم، وأمر الكهان فزبروا (٤) فيها علومهم، وحكمهم وأشرف ولد حام القبط والهند هم الحكماء.

ذكر ملوك مصر قبل الطوفان

وكان أول من ملك مصر قبل الطوفان بقراويس (٥) وذلك أن بني آدم

__________________

(١) في الاصلين: قاعدا.

(٢، ٣) فيهما رافع في الموضعين.

(٤) في ب: فدبروا، والزبر والكتابة.

(٥) في تاريخ القرماني: نقراوش الجبار بن مصرايم بن مركاييل بن رواييل بن عرياب بن آدم عليه السلام.

١٣٧

لما بغى بعضهم على بعض وتحاسدوا، وتغلب عليهم بنو قابيل ابن آدم تحول (١) بقراويس الجبار بن مصرايم بن مواكيل بن داويل بن عرباق بن آدم عليه السلام في نيف وسبعين راكبا من بني عرباق جبابرة، كلهم يطلبون موضعا ينقطعون فيه عن بني آدم، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل فأطالوا المشي عليه، فما رأوا سعة البلد وحسنه أعجبهم، وقالوا: هذا بلد زرع وعمارة، فأقاموا فيه استوطنوه، وبنوا الابنية والمصانع المحكمة.

وبنى بقراويس مصر، وسماها باسم أبيه مصرايم (٢) تبركا به وكان بقراويس جبارا له قوة زائدة وبطش وكان مع ذلك عالما له رئي من الجن، فملك بني أبيه، ولم يزل مطاعا في أمره، وقد كان وقع إليه من العلوم التي علمها درابيل لآدم عليه السلام، فقهر بها الجبابرة الذين كانوا معه.

وهم الملوك الذين بنوا الاعلام، واقاموا الاساطين العظام، وبنو المصانع الغريبة، ووضعوا الطلسمات العجيبة، واستخرجوا المعادن، وقهروا من ناوأهم من ملوك الارض، ولم يطمع فيهم طامع، وكل علم جليل هو في أيدي المصريين، إنما كان من علوم أولئك، كانت مزبورة على الحجارة.

فيقال إن فيلمون الكاهن الذي ركب مع نوح عليه السلام في السفينة هو الذي فسرها لهم، وعلمهم كتبها، وسنذكر خبرها في موضعه إن شاء الله عزوجل.

ثم أمرهم بقراويس حين ملك ببناء سموها أمسوسا (٣) وأقاموا لها أعلاما طوالا طول كل علم منها مائة ذراع، وزرعوا وعمروا الارض، وأمرهم ببناء المدائن، والقرى، وأسكن أهل كل بيت ناحية من أرض مصر.

__________________

(١) في ب: تحمل، والتصحيح عن القرماني.

(٢) في ب: مصريم.

(٣) في القرماني: أسوس.

١٣٨

وهم الذين حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم، ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري، وإنما كان ينبطح ويتفرق في الارض، فوجه إلى النوبة جماعة حتى هندسوه، وشقوا منه أنهارا إلى مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها.

وشقوا منها نهرا إلى مدينة أمسوس يجري في وسطها وغرسوا فيها عليه الغروس وكثر خيرهم وعمرت أرضهم، وتجبر بقراويس لما ملك قومه، وكان عظيمهم.

وبعد عشرين ومائة سنة خلت من ملكه أمر باقامة الاساطين، وزبروا عليها علومهم.

ذكر دخولهم البلدة، وكيف خرجوا إليها ونزلوا بها وحروبهم لمن حاربهم من الملوك

ثم أمر ببناء قبة على أساطين مثبتة بالرصاص، طولها مائة ذراع، وجعل عليها مرآة زبرجد أخضر، قدرها سبعة أشبار ترى خضرتها على أمد بعيد.

وفي مصاحف المصريين أنه سأل الربئ الذي كان معه أن يعرفه فخرج [إلى شاطئ] النيل، فحمله حتى أجلسه على خلف خط الاستواء على البحر الاسود الزفتي [والنيل يخرج] مثل الخيوط حتى يدخل تحت جبل القمر، ثم يخرج إلى بطائح هناك.

ويقال إنه بنى بيت التماثيل هناك، وعمل هيكل الشمس، ورجع إلى أمسوس وقسم البلد بين بنيه، فجعل لبقراوس الجانب الغربي، ولسوريد الجانب الشرقي، ولابنه الاصغر وهو مصرام مدينة سماها ير بيان، وأسكنه فيها، وأقام أساطين كثيرة، وشق إليها نهرا وغرس فيها غروسا.

١٣٩

وعمل بأمسوس عجائب كثيرة، منها طائر يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرتين وعند غروبها مرتين، تصفيرا مختلفا، يستدلون به على ما يكون من الحوادث، فيتأهبون لذلك، وأجرى لهم الماء على مجرى ينقسم منه على ثمانية وعشرين قسما.

وعمل في وسط المدينة صنمين حجرا أسود، إذا قدم المدينة سارق لم يمكنه أن يزول عنها حتى يهلك بينهما (١) فإذا دخل بينهما انطبقا عليه، ولهذين الصنمين أعمال عجيبة غير هذا.

وعمل بربيا صورة من نحاس مذهب على منار عال، لا يزال عليها السحاب يطلع، فمن استمطرها أمطرت عليه ما يشاء، فهلكت هذه الصورة في الطوفان.

وعمل على حدود بلدهم أصناما من نحاس مجوفة، وملاها كبريتا، ووكل بها روحانية النار، إذا قصدهم قاصد بسوء أرسلت تلك الاصنام من أفواهها نارا فأحرقته.

وكان حد بلدهم إلى ناحية الغرب مسافة أيام كثيرة عامرة بالقصور والبساتين، وكذلك في البحر، ومن الصعيد إلى بلاد علوة.

وعمل فوق جبل بطرس منارا يفور بالماء ويسقي ما حوله وما تحته من المزارع وملكهم مائة وثمانين سنة.

فلما مات لطخوا جسده بالادوية الممسكة، وجعلوه في تابوت من ذهب وعملوا له ناووسا مصفحا بالذهب، وجعلوه فيه وجعلوا معه كنوزا لا تحصى كثرة ولا تحصر قيمة.

__________________

(١) في القرماني ان يزول عنهما.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282