ثمرات الأعواد الجزء ٢

ثمرات الأعواد0%

ثمرات الأعواد مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 231

ثمرات الأعواد

مؤلف: علي بن الحسين الهاشمي الخطيب
تصنيف:

الصفحات: 231
المشاهدات: 54965
تحميل: 3376


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 231 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54965 / تحميل: 3376
الحجم الحجم الحجم
ثمرات الأعواد

ثمرات الأعواد الجزء 2

مؤلف:
العربية

قال عبد الرحمن بن غزية: وخرجنا من هيت وانتهينا إلى قرقيسا، فلمّا دنونا منها وقف سليمان بن صرد فعبأنا تعبئة حسنة حتى مررنا بجانب قرقيسيا فنزلنا قريباً منها وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصّن بها من القوم، ولم يخرج إليهم فبعث سليمان المسيب بن نجبة، فقال: أئت ابن عمّك هذا، فقل له: فليخرج إلينا سوقا فأنّا لسنا إيّاه نريد، إنّما صمدنا لهؤلاء المحلّين فخرج المسيب ابن نجبة حتى انتهى إلى باب قرقيسيا، فقال: افتحوا الباب ممّن تحصنون! فقالوا: من أنت؟ قال: أنا المسيب بن نجبة، فأتى الهذيل بن زفر إياه، فقال: هذا رجل حسن الهيأة يستأذن عليك وسألناه من هو، فقال: المسيب بن نجبة، قال: وأنا إذ ذلك لا علم لي بالناس ولا أعلم أي الناس هو، فقال لي أبي: أما تدري أي بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلّها، وإذا عدّ من أشرافها عشرة كان أحدهم، وهو بعد رجل ناسك له دين، إئذن له.

قال: فأذن له ودخل فأجلسه أبي إلى جانبه وسأله ولا طفه في المسألة، فقال المسيب بن نجبة: ممّن تحصن، إنّا والله ما إيّاكم نريد، وما اعترينا إلى شيء إلّا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلّين، فاخرج لنا سوقاً فإنّا لا نقيم بساحتكم إلّا يوماً أو بعض يوم، فقال له زفر بن الحارث: إنا لم نغلق هذه الأبواب إلّا لنعلم أيّانا اعتريتم أم غيرنا، إنّا والله ما بنا عجز من الناس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحبّ أنّا بلينا بقتالكم، وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة حسنة جميلة، ثم دعى ابنه فأمره أن يصنع لهم سوقاً، وأمر المسيب بألف درهم وفرس، فقال له المسيب: أمّا المال فلا حاجة لي فيه، والله ما له خرجنا ولا إيّاه طلبنا، وأمّا الفرس فإني أقبله لعليّ أحتاج إليه إن ظلع فرسي أو غمز تحتي، فخرج به حتى أتى أصحابه، وأخرجت لهم السوق فتسوّقوا.

وبعث زفر بن الحارث إلى المسيب بن نجبة بعد اخراج السوق والأعلاف

١٠١

والطعام الكثير بعشرين جزوراً، وبعث إلى سليمان بن صرد مثل ذلك، وقد كان زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر، فسمّي له عبدالله بن سعد بن نفيل وعبدالله بن وال، ورفاعة بن شداد، وسمّي له امراء الأرباع، فبعث إلى هؤلاء الرؤوس الثلاثة بعشر جزائر، وعلف كثير وطعام، وأخرج للعسكر عيراً عظيمة وشعيراً كثيراً، فقال غلمان زفر: هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم، وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم، وهذا دقيق فتزودوا منه ما أطقتم، فظلّ القوم يومهم ذلك مخصبين، لن يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت، وقد كفّوا اللحم والدقيق والشعير إلّا أن يشتري الرجل ثوباً أو سوطاً.

ثم ارتحلوا من الغد وبعث إليهم زفر أني خارج إليكم مشيعكم، فأتاهم وقد خرجوا على تعبئة حسنة فسايرهم، فقال زفر لسلمان: إنّه قد بعث خمسة امراء، قد فصلوا من الرقة، فيهم الحصين بن نمير السكوني وشرحبيل بن ذي الكلاع، وأدهم بن محرز الباهلي، وأبو مالك بن أدهم، وربيعة بن المخارق الغنوي، وجبلة بن عبدالله الخثعمي، وقد جاءكم في مثل الشوك والشجر أتاكم عدد كثير وحدّ حديد، وأيم الله لقلّ ما رأيت رجلاً أحسن هيأة ولا عدّة ولا أخلق لكلّ خير من رجال أراهم معك، ولكنّه قد بلغني أنّه قد أقبلت إليكم عدّة لا تحصى، فقال ابن صرد: على الله توكّلنا وعليه يتوكّل المتوكلون.

ثم قال له زفر: فهل لكم في أمر أعرضه عليكم لعل الله أن يجعل لنا ولكم فيه خيراً، إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها، فكان أمرنا واحد وأيدينا واحدة، وإن شئتم نزلتم على باب مدينتنا وأخرجنا معسكرنا إلى جانبكم فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعا، فقال سليمان لزفر: قد أرادنا أهل مصرنا على ما أردتنا عليه، وذركوا مثل الذي ذكرت، وكتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم يوفقنا ذلك فلسنا فاعلين. فقال زفر: فانظروا ما اُشير به عليكم فاقبلوه وخذوا به فإنّي للقوم عدوّ وأحبّ أن يجعل الله عليهم الدائرة وأنا لكم وادّ، أحبّ أن يحوطكم الله

١٠٢

بالعافية، إن القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم، ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم، وما بين مدينتنا ومدينتكم، فأنتم له آمنون، والله لو أنّ خيولي كرجالي لأمددتكم أطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة، فإنّ القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خيول، والله لقلّ ما رأيت جماعة خيل قط أكرم منها تأهّبوا لها من يومكم هذا، فإنّي أرجوا أن تستبقوهم إليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة، فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم فإنّهم أكثر منكم، فلا آمن أن يحيطوا بكم فإنّه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوا أن يصرعوكم ولا تصفّوا لهم حين تقاتلوهم، فإنّي لا أرى معكم رجاله، ولا أراكم كلكم إلّا فرساناً، والقوم لاقوكم بالرجال والفرسان، فالفرسان تحمي رجالها، والرجال تحمي فرسانها، وأنتم ليس لكم رجال تحمى فرسانكم، فالقوهم في الكتائب والمقانب، ثم بثوّها ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة كتيبة إلى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجّلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة انحطّت، ولو كنتم في صفّ واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصفّ انتقض وكانت الهزيمة، ثم وقف فودّعهم، وسأل الله أن يصحبهم وينصرهم، فأثنى الناس عليه ودعوا له. فقال له سليمان بن صرد: نعم المنزول به أنت، أكرمت النزول وأحسنت الضيافة ونصحت في المشورة.

وهذه سجايا العرب وأهل الشرف إذ حلّ بهم ضيف ونزل بساحتهم أجاروه وأكرموه ونصحوا له - لعن الله أهل الكوفة فلقد نزل بساحتهم سيّد شباب أهل الجنة وحلّ بين ظهرانيهم فبدل أن يحسنوا له حلؤه هو وأطفاله عن ماء الفرات وأخذوا عليه الشرائع وتركوا أطفاله يتضاغون من العطش حتى قتلوه عطشاناً...

فعزّ أن تتلظّى بينهم عطشا

والماء يصدر عنه الوحش ريّانا

١٠٣

المطلب السابع والعشرون

في تتمة قضية التوّابين

لما ارتحل سليمان بن صرد بأصحابه من قرقيسيا، أقبلوا يجدّون السير وجعلوا كلّ مرحلتين مرحلة.

قال الراوي: فمررنا بالمدن حتى بلغنا ساعا، ثم إنّ سليمان بن صرد عبّأ الكتائب وأقبل حتى انتهى إلى عين الوردة، فنزل في غربّيها، وسبق القوم إليها فعسكر، وأقام بها خمساً لا يبرح، واستراحوا واطمأنّوا وأراحوا خيولهم.

قال: وأقبل أهل الشام في عساكرهم، حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة، فلمّا سمع ذلك سليمان قام خطيباً في أصحابه، وقال: أمّا بعد، فقد أتاكم الله بعدوّكم الذي دأبتم في المسير إليه، آناء الليل والنهار تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح، ولقاء الله معذورين، فقد جاءكم بل جئتموهم أنتم في دارهم وحيزهم، فإذا لقيتموهم فاصدقوهم، واصبروا إنّ الله مع الصابرين، ولا يوّلّينهم امرؤ دبره إلّا متحرفاً لقتال أو متحيّزاً إلى فئة لا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً من أهل دعوتكم إلّا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة الله عليهم، فإن هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في أهل هذه الدعوة، ثم بعث المسيب بن نجبة في أربعمائة فارس، وقال له: سر حتى تلقى أول عسكر من عساكرهم، فشنّ فيهم الغارة فإذا رأيت ما تحبه، وإلّا انصرفت إليَّ في أصحابك، وإيّاك أن تنزل أو تدع

١٠٤

أحداً من أصحابك أن ينزل.

فسار المسيّب بن نجبة بالعسكر حتى إذا جن عليهم الليل باتوا ثم ساروا وإذا هم برجل، قالوا له: من أين أنت؟ قال: من تغلب. فقال المسيب: غلبنا ورب الكعبة، ثم سأله كم بيننا وبين أدنا هؤلاء القوم منّا، قال: أدنا عسكر من عساكرهم منكم ابن ذي الكلاع على رأس ميل، فتركنا الرجل وأقبلنا نحوهم مسرعين، فوالله ما شعروا حتى أشرفنا عليهم وهم غارون، فحملنا في جانب عسكرهم فوالله ما قاتلوا كثيراً حتى انهزموا، فأصبنا منهم رجالاً وجرحنا فيهم، فأكثرنا الجراح وأصبنا لهم دواباً وخرجوا من عسكرهم وخلّوه لنا، فأخذنا منه ما خفّ علينا، فصاح المسيب فينا الرجعة، إنّكم قد نصرتم وغنمتم وسلّمتم، فانصرفوا فانصرفنا حتى أتينا سليمان.

وبلغ ذلك ابن زياد فسرّح إلينا الحصين بن نمير مسرعاً، حتى نزل في اثني عشر ألفا، فخرجنا إليهم يوم الأربعاء لثمان بقين من جمادي الأُولى، فجعل سليمان بن صرد عبدالله بن سعد بن نفيل على ميمنته، وعلى ميسرته المسيب بن نجبة، ووقف هو في القلب وجاء الحصين بن نمير وقد عبّأ لنا جنده، فجعل على ميمنته جبلة بن عبدالله، وعلى ميسرته ربيعة بن مخارق الغنوي، ثم زحفوا إلينا، فلمّا دنوا دعونا الجماعة إلى عبدالملك بن مروان إلى الدخول في طاعته، ودعوناهم الى أن يدعوا لنا عبيدالله بن زياد فنقتله ببعض من قتل من إخواننا، وأن يخلعوا عبدالملك بن مروان، وإلى أن يخرج من بلادنا من آل ابن الزبير، ثم نرد هذا الأمر إلى أهل بيت نبيّنا الذين آتانا الله من قبله بالنعمة من قبلهم بالنعمة والكرامة، فأبى القوم وأبينا، فحملت ميمنتنا على ميسرتهم وهزمتهم، وحملت ميسرتنا على ميمنتهم، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم فهزمناهم حتى اضطررناهم إلى عسكرهم، فما زال الظفر لنا عليهم، حتى حجز الليل بيننا وبينهم، ثم انصرفنا عنهم وقد احجزناهم في عسكرهم.

١٠٥

فلمّا كان الغد صبّحهم ابن ذي الكلاع في ثمانية آلاف أمدّهم عبيدالله بن زياد، وبعث إليه ليشتمه ويقع فيه ويقول: إنّما عملت عمل الأغمار وتضيّع عسكرك ومسالحك، سر إلى الحصين بن نمير حتى توافيه وهو على الناس، فجاءه فغدوا علينا وغاديناهم، فقاتلناهم قتالاً لم ير الشيب والمرد مثله قط، يومنا كلّه لا يحجز بيننا وبين القتال إلّا الصلاة، حتى أمسينا فتحاجزنا، وقد والله أكثروا فينا الجراح وأفشيناها فيهم، ولمّا كان اليوم الثالث وهو يوم الجمعة قاتلناهم أشدّ قتال، حتى ارتفع الضحى؟، ثم إنّ أهل الشام كثرونا وتعطفوا علينا من كلّ جانب، ورأى سليمان بن صرد ما لقي أصحابه، فنزل ونادى: عباد الله من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه والوفاء لعهده فإليّ، ثم كسر جفن سيفه ونزل معه ناس كثير فكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه وانزوت خيولهم حتى اختلطت مع الرجال، فقاتلوهم حتى نزلت الرجال تشتدّ مصلته بالسيوف، وقد كسروا الجفون، فحمل الفرسان على الخيل ولا يثبتون، فقاتلوهم وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح، فلمّا رأى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم بعث الرجال ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال فقتل سليمان بن صرد، وأخذ الراية المسيب بن نجبة، وقال لسليمان بن صرد: رحمك الله يا أخي فقد صدقت ووفيت بما عليك وبقي ما علينا.

أقول: ما أشبه كلامه هذا بكلام حبيب بن مظاهر يوم عاشوراء حين وقف على مصرع مسلم بن عوسجة الأسدي، وقال له فيما قال: أبشر يا مسلم بالجنّة، فقال مسلم: بشرّك الله بخير. فقال له حبيب: يا أخي يا مسلم لو لم أعلم أنّي بالأثر لأحببت أن توصي إليّ بجميع ما أهمك، قال له: اُوصيك بهذا الغريب - وأشار بيده إلى الحسين عليه‌السلام - قاتل دونه حتى تقتل.

أوصى ابن عوسجة حبيباً قال قا

تل دونه الحمام تذوقا

نصروه أحياءاً وعند مماتهم

يوصي بنصرته الشفيق شفيقا

١٠٦

المطلب الثامن والعشرون

في واقعة التوّابين

لمّا تقابل الفريقان جيش سليمان بن صرد الخزاعي ومن معه من التوابين، وجيش عبدالملك بن مروان بعين الوردة (1) ، وتجالدوا ثلاثة أيام، وقتل شيخ الشيعة سليمان بن صرد رحمه‌الله أخذ الراية مسيب بن نجبة، فشد على القوم فقاتل ساعة، ثم رجع، ثم شد بها، فقاتل ثم رجع، ففعل ذلك مراراً يشدّ ثم يرجع، حتى قتل رحمه‌الله .

قال الراوي: والله ما رأيت أشجع منه إنساناً قط ولا من العصابة التي كان فيهم، ولقد رأيته يوم عين الوردة، يقاتل قتالاً شديداً، ما ظننت أنّ رجلاً واحداً أن يبلي مثل ما أبلى، ولا ينكأ في عدوّة مثل ما نكأ، لقد قتل رجالاً شذاذا.

قال: وسمعته يقول قبل أً يقتل وهو يقاتلهم:

قد علمت ميّالة الذوائب

واضحة الخدّين والترائب

إنّي غداة الروع التغالب

أشجع من ذي لبد مواثب

قطّاع أقران مخوف الجوانب

قال الراوي: ولمّا قتل المسيب بن نجبة، أخذ الراية عبدالله بن سعد بن

__________________

(1) عين الوردة

١٠٧

نفيل، ثم قال: رحم الله أخوي، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، وأقبل بما كان معه من أزد، فحفّوا برايته.

قال: وحمل علينا ربيعة بن المخارق، حملة منكرة فاقتتلنا قتالاً شديداً، ثم إنّه اختلف هو وعبدالله بن سعد بن نفيل بضربتين، فلم يصنع سيفهما شيئاً، واعتنق كلّ منهما صاحبه فوقعا على الأرض، ثم قاما فاضطربا وحمل أبن أخي ربيعة بن الخارق على عبدالله بن سعد، فطعنه في ثغره ونحره فقتله، وحمل وقال خالد بن سعد بن نفيل: أروني قاتل أخي، فأريناه ابن أخي ربيعة بن المخارق، فحمل عليه فقنّعه بالسيف.

قال: ثم شدّ أهل الشام على أهل الكوفة وتعطفوا عليهم من كل جانب حتى بلغوا هم مكانهم وتولّى قتال أهل الكوفة حينذاك أدهم بن محرز الباهلي، وقتل بعدها عبدالله بن وال، وكان من فقهاء أهل العراق، الذين كانوا يكثرون الصلاة والصيام ويفتون الناس، وقتل بعده عبدالله بن حازم، وقع الى جنبه، وأخذ أهل الشام يتنادون أنّ الله قد أهلكهم، فاقدموا عليهم فافرغوا منهم قبل الليل، فأخذوا يقدمون عليهم فيقدمون على شوكة شديدة ويقاتلون فرساناً شجعاناً، ليس فيهم سقط رجل وليسوا لهم بمضجرين، فيتمكّنوا منهم فقاتلوهم حتى العشاء قتالاً شديداً.

قال الراوي: وخرج عبدالله بن عزيز الكندي ومعه ابنه محمّد غلام صغير، فقال: يا أهل الشام هل فيكم أحد من كندة؟ فخرج إليه منهم رجال فقالوا: نعم نحن هؤلاء، فقال لهم: دونكك أخيكم فابعثوا به الى قومكم بالكوفة، فأنا عبدالله بن عزيز الكندي، فقالوا له: أنت ابن عمّنا فإنك آمن. فقال لهم: والله لا أرغب عن مصارع اخواني الذين كانوا للبلاد نوراً وللأرض أوتاداً، وبمثلهم كان الله يذكر، فأخذ ابنه يبكي في أثر أبيه فقال: يا بني لو أنّ شيئاً آثر عندي من طاعة ربّي إذاً

١٠٨

لكنت أنت، وناشده قومه الشاميّون لمّا رأوا من جزع ابنه وبكائه في أثره وأروا الشاميون له ولابنه رقّة شديدة حتى جزعوا وبكوا، ثم اعتزل الجانب الذي خرج إليه منهم قومه فشدّ على صفّهم عند المساء فقاتل حتى قتل، ولمّا أمسى الناس ورجع أهل الشام إلى معسكرهم نظر رفاعة إلى كل رجل قد عقر به والى كل جريح لا يعين على نفسه فدفعه إلى قومه، ثم سار بالناس ليلته كلّها حتى أصبح بالتنينير فعبر الخابور وقطع المعابر ثم مضى لا يمرّ بمعبر إلّا قطعه وأصبح الحصين بن نمير، فبعث عيناً له فوجدهم قد ذهبوا فلم يبعث في آثاره أحد، وساروا حتى مروا بقرقيسيا من جانب البر، فبعث إليهم زفر من الطعام والعلف مثل ما كان بعث إليهم في المرّة الأولى، وأرسل إليهم الأطباء، وقال: أقيموا عندنا ما أحببتم فإنّ لكم الكرامة والمواساة، فأقاموا ثلاثاً، ثم زوّد كلّ امرىء منهم ما أحبّ من الطعام والعلف.

قال: وجاء سعد بن حذيفة بن اليمان حتى انتهى إلى هيت، فاستقبله الأعراب وأخبروه بما لقي الناس، فانصرف فتلقى المثنى بن مخرمة العبدي بصندوداء فأخبره، فأقاموا حتى جاءهم الخبر أنّ رفاعة قد أظلّكم، فخرجوا حين دنا من القرية فاستقبلوه فسلّم الناس بعضهم على بعض، وبكش بعضهم إلى بعض، وتناعوا إخوانهم فأقاموا بها يوماً وليلة، وانصرف أهل المدائن إلى المدائن، وأهل البصرة إلى البصرة، وأقبل أهل الكوفة إلى الكوفة، ولمّا ورد البشير على عبدالملك بن مروان ببشارة الفتح، قال: فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد.. فإنّ الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق ملقح فتنة ورأس ضلالة سليمان بن صرد، ألا وإنّ السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف، ألا وقد قتل الله من رؤوسهم رأسين عظيمين ضالّين مضلّين، عبدالله ابن سعد أخا الأزد، وعبدالله بن وال أخا بكر بن وائل، فلم يبق بعد هؤلاء أحد عند

١٠٩

دفاع ولا امتناع، فكأنّه الشماتة والفرح والسرور بقتل التوّابين كما أظهر الفرح والسرور سلفه يزيد بن معاوية لمّا جاءه البشير بقتل الحسين عليه‌السلام ، وبقدوم السبايا إلى الشام، ولمّا قربوا بالسبايا من الشام صعد يزيد على سطح قصره ونظر إلى الرؤوس على أطراف الرماح، وقد صعدوا بها على جبل جيرون فأنشأ يقول:

لمّا بدت تلك الرؤوس وأشرقت

تلك الشموس على ربا جيروني

نعب الغراب فقلت نح أو لا تنح

فلقد قضيت من النبي ديوني

نعم لقد تقاضى ابن ميسون ديونه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل ريحانته لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكره أسلافه على دين الإسلام وأجبرهم على تركعب الغراب فقلت نح او لا تنح فلقد قضيت من النبي ديوني نعم لقد تقاضى ابن ميسون ديونه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل ريحانته لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكره أسلافه على دين الإسلام وأجبرهم على ترك عبادة الأصنام، والإقرار بالوحدانية لله، فاعتنق جده وأباه دين الإسلام كرهاً منهم، فهذا دينه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقاضاه بقتل أولاده وسبي بناته من بلد إلى بلد، وقد نسى ابن الخنا أيادي رسول الله على أسلافه يوم فتح مكة وما مَنّ به على آل أبي سفيان فكان جزاء رسول الله أن ساق عيالاته كالإماء وأوقفهنّ في مجلسه وهنّ مربقات بالحبال!

بنات آكلة الأكباد في كلل

والفاطميات تصلى في الهواجير

١١٠

المطلب التاسع والعشرون

في قضية المختار بن أبي عبيدة الثقفي رحمه‌الله

كان نزول مسلم بن عقيل في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي وتذاكر الناس أمر المختار، وألقى ابن زياد القبض على المختار، ولمّا دخل عليه رفع القضيب واعترض وجه المختار فخبط به عينه فشترها، وقال: أولى لك أم والله لو لا شهادة عمرو بن حريث لك لضربت عنقك، وانطلقوا به الى السجن، فانطلقوا به الى السجن، ولم يزل محبوساً حتى قتل الحسين عليه‌السلام ، ثم ان المختار بعث الى زائدة بن قدامة فسأله أن يسير الى عبدالله بن عمر بالمدينة، فيسأله أن يكتب له إلى يزيد بن معاوية، فكتب الى يزيد بن معاوية بتخلية سبيله، فركب زائدة إلى عبدالله بن عمر، فقدم عليه فبلّغه رسالة المختار وعلمت صفية اُخت المختار بحبس أخيها، وهي تحت عبدالله بن عمر، فبكت وجزعت، فلمّا رأى ذلك عبدالله بن عمر كتب مع زائدة إلى يزيد بن معاوية: أمّا بعد... فإنّ عبيدالله بن زياد حبس المختار وهو صهري، وأنا أُحبّ أن يعافى ويصلح حاله، فإن رأيت رحمنا الله وإيّاك أن تكتب إلى ابن زياد فتأمره بتخلتيه فعلت والسلام عليك.

قال: فلمّا قرأه ضحك، ثم قال: يشفع أبو عبدالرحمن وأهل لذلك هو، فكتب إلى ابن زياد: أمّا بعد... فخل سبيل المختار بن أبي عبيدة حين تنظر في كتابي، والسلام عليك. فأقبل به زائدة حتى دفعه إلى ابن زياد، فدعا ابن زياد

١١١

المختار فأخرجه، ثم قال له: قد أجلتك ثلاثاً، فإن أدركتك بالكوفة بعدها فقد برئت منك الذمة، فخرج إلى رحله، وقال ابن زياد: والله لقد اجترأ عَلَيَّ زائدة حين يرحل إلى أمير المؤمنين حتى يأتيني بالكتاب في تخلية رجل قد كان من شأني أن اطيل حبسه على ما به، فمرّ به عمرو بن نافع أبو عثمان، كاتب لأبن زياد وهو يطلبه، وقال له: النجاء بنفسك واذكرها يداً لي عندك.

قال: فخرج زائدة فتوارى يومه ذلك، ثم إنّه خرج في اناس من قومه حتى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسلم بن عمرو الباهلي، فأخذ له الأمان، وخرج المختار من الكوفة وتوجه إلى الحجاز.

حدّث ابن العرق وهو مولى لثقيف قال: أقبلت من الحجاز حتى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة، استقبلت المختار خارجاً يريد الحجاز فرحّبت به وعطفت عليه، ولمّا رأيت شتر عينه استرجعت له، وقلت له: بعد ما توجّعت له ما بال عينك صرف الله عنك السوء؟ فقال: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطة صارت الى ما ترى، فقلت له: ماله شلّت أنامله؟ فقال الختار: قتلني الله إن لم أقطع أنامله وأباجله (1) وأعضاءه إرباً إرباً. قال: فعجبت لمقالته، فقلت له: ما علمك بذلك رحمك الله؟ فقال لي: ما أقول لك فاحفظه عنّي حتى ترى مصداقه. قال: ثم طفق يسئلني عن عبدالله بن الزبير وأنا أخبره، فقال: يابن العرق إنّ الفتنة قد أرعدت وأبرقت، وكأن قد انبعثت فوطئت في خطامها، فإذا رأيت ذلك وسمعت به، بمكان قد ظهرت فيه فقيل إنّ المختار في عصائبه من المسلمين يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف سيّد المسلمين وابن سيّدها الحسين بن علي عليه‌السلام فوربّك لأقتلنّ بقتله عدّة القتلى على دم يحيى بن زكريا عليه‌السلام . قال:

__________________

(1) أباجل مفردها أبجل، والأبجل عرق غليظ في الرجل أو في اليد.

١١٢

فقلت له: سبحان الله وهذه اعجوبة مع الاُحدوثة الاُولى، فقال: هو ما أقول لك، فاحفظه عنّي حتى ترى مصداقه، ثم حرك راحلته فمضى، ومضيت معه ساعة أدعوا الله له بالسلامة وحسن الصحابة، ثم ودّعته وانصرفت عنه.

ولمّا قدم المختار مكة جاء الى عبدالله بن الزبير فسلم عليه فرد عليه‌السلام ورحّب به وأوسع له، وقال: حدّثني عن الناس بالكوفة يا أبا إسحاق. قال: هم لسطانهم في العلانية أولياء، وفي السرّ أعداء. وبقي المختار على هذا ونحوه بمكة المكرمة حتى إذا جاء جيش يزيد بن معاوية بقيادة الحصين بن نمير السكوني، وحاصر ابن الزبير ووقع القتال بين الفرقين، فكان المختار يحارب جيش يزيد دفاعاً عن البيت، ثم التفت في ذلك اليوم، ونادى: يا أهل الإسلام إليّ إليّ أنا ابن أبي عبيدة بن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، وأنا ابن المقدمين غير المحجمين، إليّ إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الأوتار، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالاً حسناً، ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم اُحرق البيت (1) فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحو من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد من الناس، إن كان ليقاتل حتى يتبلّد ثم يجلس ويحيط به أصحابه فإذا استراح نهض فقاتل، فما كان يتوجّه نحو طائفة من أهل الشام إلّا ضاربهم حتى يكشفهم، فما كان في ذلك اليوم رجلاً أحسن بلاءاً من المختار، ولمّا انقضى الحصار بعد هلاك يزيد ورجع أهل الشام، أقام مع ابن الزبير خسمة أشهر، وخرج بعدها إلى الطائف، ثم رجع الى مكة.

وكان أهل الكوفة قد اصطلحوا على عامر بن مسعود يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام يرضونه، وصار يطلب البيعة لابن الزبير، فخرج المختار

__________________

(1) احرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة 64 هـ.

١١٣

آنئذ من مكة متوجها إلى الكوفة لقيه رجل من همدان، فقال له: حدّثني الناس بالكوفة، قال: عمّ كغنم ضل راعيها، فقال: أنا المختار أنا أحسن رعايتها وأبلغ نهايتها. فقال له الهمداني: اتّق الله واعلم أنك ميت مبعوث ومجزي بعملك إن خيراً فخير وإن شرّاً فشر، ثم افترقا وأقبل المختار حتى انتهى إلى بحر الحيرة (1) فنزل واغتسل فيه وكان يوم الجمعة وأدهن دهناً يسيراً، ولبس ثيابه وأعتمّ وتقلّد سيفه، ثم ركب راحلته فمرّ بمسجد السكون، وجبانة كندة، وصار لا يمرّ بمجلس إلّا سلّم على أهله، وهو يقول: ابشروا بالنصر والفلح أتاكم ما تحبّون، ومرّ ببني ذهل وبني حجر وبني كندة، ومرّ ببني هند، وجهينة، ثم جاء إلى باب الفيل، فأناخ راحلته ودخل المسجد، واستشرف له الناس، وقالوا: هذا المختار، قد قدم المختار الى جنب سارية من سواري المسجد فصلّى عندها، حتى اقيمت الصلاة فصلى مع الناس، ثم ركد إلى ساريه اُخرى، فصلّى ما بين الجمعة العصر، ثم خرج من المسجد، ومرّ على حلقة همدان، وعليه ثياب السفر: فقال: ابشروا فإنّي قد قدمت عليكم بما يسرّكم، ومضى حتى نزل داره.

فكانت الشيعة تختلف إليه وجعل يسألهم عن الناس بالكوفة فأخبروه باجتماع الناس على سليمان بن صرد الخزاعي رئيس التوابين، وقد كان مسجوناً معه في سجن ابن زياد، لأنّ ابن زياد لمّا قتل مسلما أخذ يسجن جماعة من أهل الكوفة من جملتهم سليمان هذا، والمختار، ولمّا قتل الحسين عليه‌السلام وجيء برأسه إلى ابن زياد فأخفاه تحت السرير، وأمر بإخراج المختار من السجن فاخرج إليه وهو مكبل بالحديد، فجعل يستهزئ عليه فقال له المختار: يابن زياد أتستهزئ عليَّ وقد قرب فرجي. وقال: من أين يأتيك الفرج يا مختار؟ قال: بلغني أن سيّدي

__________________

(1) هو بحر النجف، وكان بحراً متلاطم الأمواج، جف وإلى اليوم على اسمه - أرض البحر ـ.

١١٤

ومولاي الحسين قادماً إلى العراق وسيكون خلاصي على يده، فقال له ابن زياد: خاب ظنّك إنّا قد قتلنا الحسين. فقال الختار: صه ومن يقدر على قتل سيّدي ومولاي، فعند ذلك أخرج إليه رأس الحسين عليه‌السلام ، فلمّا رآه المختار جعل يلطم على وجهه وهو ينادي: وا حسيناه.

أحين ترجّيناك تستأصل العدى

يفاجئنا الناعي بقتلك يهتف

١١٥

المطلب الثلاثون

في تتمة قضية المختار

لمّا دخل المختار بن أبي عبيدة الثقفي الكوفة اجتمع عليه بعض الشيعة، وكان آنئذ يجتمع الناس عند سليمان بن صرد الخزاعي وهو شيخ الشيعة، وكان يتهيأ للخروج على بني اميّة، ولمّا خرج سليمان بالشيعة من الكوفة بقي المختار بها وقد اشتدت شوكته، وقوي أمره، فاجتمع جماعة من وجوه أهل الكوفة، وهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، وشبث بن ربعي، ويزيد بن الحارث بن رويم، وصاروا إلى عبدالله بن يزيد الحظمي، وإبراهيم بن محمد بن سليمان بن عبيدالله (1) فتكلموا فيما بينهم على أنّ المختار أشدّ عليكم من سليمان بن صرد، إنّ سليمان إنّما خرج يقاتل عدوكم ويذللهم لكم، وقد خرج عن بلادكم، وإن المختار إنما يريد أن يثب عليكم في مصركم، فسيروا إليه فأوفقوه بالحديد وخلّدوه في السجن حتى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إليه في الناس، فما يشعر بشيء حتى أحاطوا به وبداره فاستخرجوه، فلمّا رأى جماعتهم، قال: ما بالكم فوالله بعد ما ظفرت أكفّكم.

قال الراوي: واُوتي المختار ببغلة دهماء يركبها، فقال إبراهيم لعبدالله بن

__________________

(1) كانا من قبل ابن الزبير بالكوفة أرسلهما إليها قبل عبدالله بن مطيع.

١١٦

يزيد: ألا تشدّ عليه القيود؟ فقال: كفى له بالحبس قيداً.

حدّث يحيى بن عيسى قال: دخلت عليه مع حميد بن مسلم الأزدي، ونزوره ونتعاهده، فرأيته مقيّداً، قال: فسمعته يقول: أما وربّ البحار والنخيل والأشجار المهامة والقفار والملائكة الأبرار والمصطفين الأخيار لأقتلنّ كلّ جبّار بكلّ لدن خطار، ومهند بتار في جموع من الأنصار، ليس بميل أغمار، ولا بعزل أشار، حتى إذا أقمت عمود الدين ورأيت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين وأدركت بثار النبيين لم يكبر عَلَيَّ زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى.

قال: فكان إذا أتيناه وهو في السجن ردّد علينا هذا القول حتى خرج منه، ولمّا قدم التوابين إلى الكوفة بعد واقعتهم كتب إليهم المختار، أمّا بعد؛... فإنّ الله أعظم لكم الأجر وحطّ عنكم الوزر بمقارعة القاسطين وجهاد المحلّين، إنّكم لم تنفقوا نفقة ولم تقطعوا عقبة ولم تخطوا خطوة إلّا رفع الله لكم بها درجة، وكتب لكم بها حسنة، إلى ما لا يحصيه إلّا من التضعيف، فابشروا فإنّي لو قد خرجت إليكم قد جرّدت فيما بين المشرق والمغرب في عدوّكم السيف بإذن الله، فجعلتهم بإذن الله ركاماً وقتلهم فذا وتوأما، فرحّب الله بما قارب منكم واهتدى ولا يبعد الله إلّا من عصى وأبى، والسلام يا أهل الهدى.

فجائهم بهذا الكتاب سيحان بن عمرو من بني ليث، من عبدالقيس قد أدخله في قلنسوته فيما بين الظهارة والبطانة، فأتى بالكتاب رفاعة بن شداد، والمثنى بن مخربة العبدي، وسعد بن خذيفة بن اليمان، ويزيد بن أنس، وأخمر بن شميط الأحمسي، وعبدالله بن شداد البجلي، وعبدالله بن كامل فقرأه عليهم الكتاب، فبعثوا إليه ابن الكامل، فقالوا: قل له قد قرأنا الكتاب ونحن حيث يسرّك، فإن شئت أن نأتيك حتى نخرجك فعلنا، فأتاه فدخل عليه السجن فأخبره بما اُرسل

١١٧

به فسرّ باجتماع الشيعة له، وقال لهم: لا تريدوا هذا فإنّي أخرج في أيّامي هذا.

وكان المختار قد بعث الى عبدالله بن عمر بن الخطاب وكتب إليه: أمّا بعد فإنّي قد حبست مظلوماً وظنّ بي الولاة ظنوناً كاذبة، فاكتب فيَّ يرحمك الله إلى هذين الظالمين كتاباً لطيفاً عسى الله ان يخلّصني من أيديهما بلطفك وبركتك وبمنّك والسلام عليك. فكتب إليهما عبدالله بن عمر، أمّا بعد:... فقد علمتما الذي بيني وبين المختار بن أبي عبيدة من الصهر، والذي بيني وبينكما من الود، فأقسمت عليكما بحق ما بيني وبينكما، لما خليتما سبيله حين تنظران في كتابي هذا، والسلام عليكما ورحمة الله.

فلمّا أتى عبدالله بن يزيد وإبراهيم بن محمّد بن طلحة كتاب عبدالله بن عمر، دعوا للمختار بكفلاء يضمنونه بنفسه، فأتاه اُناس من أصحابه كثير، فقال يزيد بن رويم لعبدالله بن يزيد: ما تصنع بضمان هؤلاء كلّهم ضمنه عشرة منهم أشرافاً معروفين ودع سائرهم، ففعل ذلك، فلمّا ضمنوه دعا به عبدالله بن يزيد وإبراهيم بن محمّد بن طلحة، فحلّفاه بالذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم لا يبغيهما غائلة، ولا يخرج عليهما ما كان لهما سلطان، فإن هو فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة ومماليكه كلهم ذكرهم وانثاهم أحرار فحلف لهما بذلك، ثم خرج فجاء في داره (1) واختلفت إليه الشيعة واجتمعت

__________________

(1) عن حميد بن مسلم، قال: سمعت المختار بعد ذلك يقول: قاتلهم الله ما أحمقهم حين يرون أنّي أفي لهم بأيمانهم هذه، أمّا حلفي لهم بالله فأنّه ينبغي لي إذا حلفت على يمين فرأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير، واُكفّر يميني وخروجي عليهم خير من كفي عنهم واُكفّر يميني، أما هدي ألف بدنه فهو أهون علي من بصفة وما ثمن ألف بدنة فيهولني، وأمّا عتق مماليكي، فوالله لوددت أنّه قد استتب لي أمري ثم لم أملك مملوكاً أبداً.

١١٨

عليه، واتفق رأيها على الرضى به، وكان الذي يبايع الناس وهو في السجن خمسة نفر: السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمر بن شميط، ورفاعة بن شداد الفتياني، وعبدالله بن شداد الجشمي، ولم يزل أمره يقوى ويشتد، حتى عزل ابن الزبير عبدالله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة وبعث عبدالله بن مطيع إلى الكوفة عاملاً عليها، هذا والمختار تكثر أصحابه، فجاء إياس بن مضارب إلى ابن مطيع وقال له: إنّ السائب بن مالك من رؤساء أصحاب المختار، ولست آمن المختار، فابعث إليه فليأتك فإذا جاءك فاحبسه في سجنك حتى يستقيم أمر الناس، فإن عيوني قد أتتني وأخبرتني أنّ أمره قد استجمع له، وكأنه قد وثب بالمصر.

فبعث إليه ابن مطيع رجلان، فدخلا عليه، فقالا: أجب الأمير، فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، فلمّا رأى زائدة بن قدامة ذلك قرأ هذه الآية ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (1) ففهمها المختار، فجلس ثم ألقى ثيابه عنه ثم قال: ألقوا عَلَيَّ القطيفة ما أراني إلّا وقد وعكت، إنّي لأجد قفقفة شديدة، ثمّ تمثل بقول الشاعر:

إذا ما معشر تركوا نداهم

ولم يأتوا الكريهة لم يهابوا

والتفت إلى الرجلين، وقال: ارجعا إلى ابن مطيع واعلماه حالي التي أنا عليها.

ولما عزم المختار على النهوض بالكوفة قال الطبري: بعث الى أصحابه وأخذ بجمعهم في الدور حوله وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم، فجاء رجل إلى أصحابه من شبام وكان عظيم الشرف يقال له عبدالرحمن بن شريح، فلقي جماعة

__________________

(1) سورة الأنفال: 30.

١١٩

من أصحابه وفيهم قدامة بن مالك الجشمي، فاجتمعوا في منزل أحدهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد... فإنّ المختار يريد أن يخرج بنا وقد بايعناه ولا ندري أرسله ألينا ابن الحنيفة أم لا، فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلخبره بما قدم علينا به، وبما دعانا إليه، فإن رخص لنا في أتباعه أتبعناه وإن نهانا عنه اجتنبناه، فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من أمر الدنيا آخر عندنا من سلامة ديننا، فقالوا له: أرشدك الله فقد أصبت ووفّقت، اخرج بنا إذا شئت، فأجمع رأيهم على أن يخرجوا من أيّامهم، فخرجوا ولحقوا بابن الحنفية ووكان إمامهم عبدالرحمن بن شريح، فلمّا قدموا عليه سألهم عن حال الناس، فأخبروه عن حالهم وما هم عليه، ثم قالوا له: إنّ لنا إليك حاجة. قال: فسّر هي أم علانية؟ قال: قلنا: لا بل سرّ. قال: فرويداً إذاً، فمكث قليلاً ثم تنحّى جانباً فدعانا فقمنا إليه فبدأ عبدالرحمن بن شريح وتكلّم فحمدالله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعد... فإنّكم أهل بيت أخصّكم الله بالفضيلة وشرفكم بالنبوة، وعظّم حقّكم على هذه الأُمّة، فلا يجهل حقكم إلّا مغبون الرأي مخسوس النصيب، قد أصبتم بحسين رحمة الله عليه عظمت مصيبة ما خصّكم بها فقد عمّ بها المسلمون، وقد قدم علينا المختار ابن أبي عبيدة يزعم لنا أنّه قد جاءنا من تلقائكم، وقد دعانا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء فبايعناه على ذلك، ثم إنّا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعنا إليه وندبنا له فإن أمرتنا باتّباعه إتّبعناه، وإن نهيتنا عنه اجتنبناه.

قال: ثم تكلّمنا واحداً واحداً بنحو ما تكلّم به صاحبنا وهو يسمع حتى إذا فرغنا حمدالله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال: فأمّا ما ذكرتم ممّا خصّنا الله به من فضل، فإنّ الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم، فلله الحمد، وأمّا ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين، فإنّ ذلك كان في الذكر الحكيم، وهي ملحمة كتبت عليه وكرامة اهداها الله له رفع بما كان منها درجات قوم عنده ووضع بها آخرين

١٢٠