• البداية
  • السابق
  • 86 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24607 / تحميل: 6730
الحجم الحجم الحجم
أضواء علي التقيّة

أضواء علي التقيّة

مؤلف:
الناشر: دليل ما
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كريم الأصل، شريف الفضل، فاضل القبيلة، تقي العشيرة، زكي الركانة (١) ، مؤدي الأمانة من بني هاشم، وابن عم النبي صلى الله عليه وآله.

الإمام المهدي الرشاد، مجانب الفساد، الأشعث الحاتِم (٢) ، البطل الجماجم (٣) ، والليث المزاحم.

بدري، مكي، حنفي، روحاني، شعشعاني، من الجبال شواهقها، ومن ذي الهضاب رؤوسها، ومن العرب سيدها، من الوغاء ليثها.

البطل الهمام، والليث المقدام، والبدر التمام، محكّ المؤمنين، ووارث المشعرين، وأبو سبطين، الحسن والحسين.

والله أمير المؤمنين حقّاً حقّاً علي بن أبي طالب عليه من الله الصلوات الزكية والبركات السنية.

فلمّا سمع الحجّاج أمر بقطع رأسه رضوان الله عليه (٤) .

هؤلاء باقة من الأبرار والشهداء الأحرار، وهم نماذج حيّة وأمثلة صادقة من تضحيات الشيعة، على مدّ التاريخ وتفانيهم في سبيل الدين والشريعة.. ممّن أعلنوا الحق، ونادوا بالحقيقة، بلا مداراة ولا تقيّة، حيث رأوا انّ احقاق الحق وابطال الباطل كامن في تضحيتهم، وأن مقتضى الدين وخصوصية المورد يدعو الى صراحتهم.

وهناك العشرات بل المئات من عظماء الشيعة سلكوا هذا الطريق ممّن تلاحظ جهادهم وجهودهم من كتاب شهداء الفضيلة لشيخنا العلّامة الأميني أعلى الله مقامه.

__________________

١. الركانة: الوقار.

٢. الحاتم: القاضي.

٣. الجماجم: العظماء.

٤. معجم رجال الحديث: ١٥ / ٨٩.

٢١

ممّا لا يترك أدنى شبهة في بطلان كلام الخصم فيما نسبه إلى الشيعة في مسألة التقيّة.

وماذا يرد أو يجيب الخصم في الخطاب الصارم الذي قرع به قنبر الشيعي الشجاع وصكّ مسامع ذلك الطاعن السفّاك، الحجّاج بن يوسف الثقفي، هل هو تقيّة أم تضحية؟!

والمسألة في التقيّة واضحة، والحقيقة فيها أوضح من الشمس، وأبين من الأمس بحيث يدركه الوجدان، ويراه كل شخص بالعيان.

لكن لأجل التشكيك التجاهلي من الخصم في الواضحات، والالتواء عن الحقيقة في البديهيّات، لابدّ من دراسات توضيحيّة، وبيان الأدلّة القطعيّة من الفريقين، للتجلّى صحّة التقيّة في البين.

فلنبين في البدء ما ادّعاه الخصم في التقيّة ثمت نجيب عنه ونوضح بطلان كلماته الادّعائيّة، ثمّ نستدل على حقيقة التقيّة وشرعيّتها، ونلقى الأضواء على تماميّتها وصحّتها بوجوه خمسة:

١ - الكتاب الكريم.

٢ - السنّة النبويّة.

٣ - سيرة صالحي الصحابة.

٤ - أقوال فقهاء المذاهب وأفعالهم.

٥ - حكم العقل والفطرة.

ومن الله التوفيق، ومنه العون انه خير ناصر ومعين.

٢٢

دعوى الخصم

هرّجوا على الشيعة الأبرار بأنّ التقيّة نفاق، كما طعن بذلك تعبيراً عن حقده الدفين ابن تيميّة ومن حذا حذوره.

قال في منهاجه عند افتراءه الخبيث في تشبيه الشيعة باليهود:

ومثل استعمال التقيّة وأظهار الباطل خلاف ما يضمرون من العداوة، مشابهةً لليهود (١) .

يريد بذلك أنّ التقيّة نفاق وأن حكمها الحرمة.

الجواب الفصل

ان هذا باطل، موضوعاً وحكماً.

فليست التقيّة نفاقاً موضوعاً، وليس حكم التقيّة حكم النفاق أي الحرمة شرعاً، وذلك لما يلي بيانه، ويلزم معرفته، فنقول:

١ - موضوع التقيّة

التقيّة في مفهومها الموضوعي هي: المداراة مع من يُخاف من سطوته، حذراً من غوائله وضرره، كما يشهد بذلك قوله تعالى: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (٢) أي تخافون منهم.

__________________

١. منهاج السنّة: ج ١، ص ٩.

٢. سورة آل عمران، الآية ٢٨.

٢٣

بينما معنى النفاق هو: التظاهر بالحق مع إنطواء القلب على الباطل.

كما يشهد به قوله تعالى في توصيف المنافقين: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) (١) .

كانوا يبطنون الكفر ويتظاهرون بالايمان.

وكذا قوله تعالى: ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (٢) .

كانوا يشهدون بالرسالة وقلبهم منطو على الجحود نفاقاً منهم.

فالمنافق يتظاهر بالايمان وقلبه مضمر للكفر، كما يشهد به قوله تعالى: ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ) (٣) .

بينما المؤمن على العكس يتظاهر بمداراة العدو خوفاً، وقلبه منطو على الحق، كما صرّحت بذلك قضيّة عمّار بن ياسر ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ) - أي على الكفر - ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (٤) .

فنلاحظ بوضوع ان موضوع التقيّة في منطق القرآن - وهو ال ميزان الحق - يغاير موضوع النفاق.

فالتقيّة في مفهومها الحقيقي هي المداراة مع الخصم خوفاً وتحذّراً فليست هي نفاقاً أو ضلالة.

__________________

١. سورة البقرة، الآية ١٤.

٢. سورة المنافقون، الآية ١.

٣. سورة التوبة، الآية ٦٤.

٤. سورة النحل، الآية ١٠٦.

٢٤

هذا، ولم نجد نصّاً واحداً في اللغة العربيّة تفسّر التقيّة بالنفاق، بل كلّ ما هنا لك من معاجم اللغة من الفريقين هو تفسيرها بالتحذّر والتحفّظ والتخوّف.

قال في مجمع البحرين (١) : قال تعالى: وإلّا أن تتّقوا منهم تقاة.. أي إتقاء مخافة القتل... والتقيّة والتقاة اسمان موضوعان موضع الاتقاء.

وقال في مرآة الأنوار (٢) : إتقيت الشي تقيّة وتقاة: حذرته.

وقال في لسان العرب (٣) : اتقيت الشيء، وتقيته، واتقيه واتقيت الشيء: حذرته.

وفي نهاية الأثيريّة (٤) : توقّى واتّقى بمعنى، وفي حديث معاذ: توقّ كرائم أموالهم.. أي تجنّبها ولا تأخذها في الصدقة.

ومنه الحديث «تبقّه وتوقّه» أي استبق نفسك ولا تعرضها للتلف ولا تعرضها للآفات.

وفي المعجم الوسيط (٥) : التقيّة: الخوف والحذر.

وعلى الجملة، يظهر بوضوح أنّ التقيّة في مفهومها الموضوعي من لغة العرب واستعمالهم ليست من النفاق في شيء، بل تنطبق هذه الكلمة على مفهوم المداراة. ومن البديهي أنه لا علاقة ولا مشابهة ولا أدنى مناسبة بين المداراة وبين النفاق الذي افتراه ابن تيميّة وشبّه به الشيعة باليهود الذين هو أولى بملتهم وبغضهم وعدائهم لآل الرسول صلى الله عليه وآله.

٢ - حكم التقيّة

ممّا يشهد باختلاف موضوع التقيّة عن النفاق إختلاف حكمهما.

__________________

١. معجم البحرين: ص ٩٦.

٢. مرآة الأنوار: ص ٢٢٣.

٣. لسان العرب: ج ١٥، ص ٤٠٢.

٤. النهاية: ج ٥، ص ٢١٧.

٥. المعجم الوسيط (اللغة العصرية): ج ٢، ص ١٠٥٢.

٢٥

فقد اُجيزت التقيّة في كتاب الله تعالى بقوله: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ) (١) .

بينما النفاق وعد عليه الدرك الأسفل من النار في آية: ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (٢) .

بل قام على جواز التقيّة الأدلّة الأربعة، وحسّنها العقل، وغُرزت في الفطرة.

بل قضى بوجوبها في بعض الموارد متظافر الأدلّة كما سيأتي.

فكيف يُقاس حكم التقيّة بحكم النفاق؟!

وكيف يُطعن بالتقيّة على الشيعة وهي مباحة عند السنّة أيضاً وفي صحاحهم ومسانيدهم؟!

وكيف تستنكر التقيّة وهي موجودة عند علمائهم وفي سيرتهم؟!

وكيف تلصق التقيّة بخصوص الشيعة وهي واردة في مقالات أعلامهم؟!

هذا ما سنستعرض له تفصيلاً، ليستبصر به المصنف النبيل، ويعرف أنه لا مجال ولا احتمال لما بهتوا به الشيعة، وشنّعوا على الشريعة من استعمال النفاق أو الخداع.

ولنعم ما قال الدكتور السماوي في دراسة تحليليّة منه للتقيّة في كتابه مع الصادقين (٣) : قال بعد ما ذكر أدلّة الجواز ما نصّه:

فلا مبرّر لأهل السنة والجماعة في التشنيع والإنكار على الشيعة من أجل عقيدة يقولون بها هم أنفسهم ويروونها في صحاحهم ومسانيدهم بأنّها جائزة بل واجبة، ولم يزد الشيعة على ما قاله أهل السنّة شيئاً، سوى أنّهم اشتهروا بالعمل بها أكثر من غيرهم لما لاقوه من الأمويين والعباسيين من ظلم واضطهاد.

__________________

١. سورة النحل، الآية ١٠٦.

٢. سورة النساء، الآية ١٤٥.

٣. مع الصادقين: ص ١٨٧، نقلناه بطوله لفائدته.

٢٦

فكان يكفي في تلك العصور أن يقال: هذا رجلُ يتشيّع لأهل البيت ليلاقي حتفه ويُقتل شرّ قتله على يد أعداء أهل البيت النبوي.

فكان لابدّ لهم من العمل بالتقيّة اقتداء بما أشار عليهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقد رُوي عن الامام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: «التقيّة ديني ودين آبائي» وقال: «من لا تقيّة له لا دين له» وقد كانت التقيّة شعاراً لأئمّة أهل البيت أنفسهم دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم ومحبّيهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين الذين فُتنوا في دينهم كما فُتن عمّار بن ياسر رضي الله عنه وحتّى أكثر.

أمّا أهل السنّة والجماعة؛ فقد كانوا بعيدين عن ذلك البلاء؛ لأنّهم كانوا في معظم عهودهم على وفاق تام مع الحكّام فلم يتعرّضوا لا لقتلٍ ولا لنهبٍ ولا لظلم، فكان من الطبيعي جدّاً أن ينكروا التقيّة ويشنّعون على العاملين بها وقد لعب الحكّام من بني أُميّة وبين العبّاس دوراً كبيراً في التشهير بالشيعة من أجل التقيّة.

وبما أنّ الله سبحانه أنزل فيها قرآناً يُتلى وأحكاماً تُقضى، وبما أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عمل هو نفسه بها كما - مرّ عليك في صحيح البخاري - وأنّه أجاز لعمّار بن ياسر أن يسبّه ويكفر إذا عاوده الكفّار بالتعذيب، وبما أنّ علماء المسلمين أجازوا ذلك إقتداء بكتاب الله وسنّة رسوله، فأي تشنيع وأي استنكارٍ بعد هذا يصحّ أن يوجّه إلى الشيعة؟!

وقد عمل بالتقيّة الصحابة الكرام في عهد الحكّام الظالمين أمثال معاوية الذي كان يقتل كلّ من امتنع عن لعن علي بن أبي طالب عليه السلام.

وقصة حجر بن عدي الكندي وأصحابه مشهورة، وأمثال يزيد وابن زياد والحجّاج وعبد الملك بن مروان.. وأضرابهم، ولو شئت جمع الشواهد على عمل الصحابة بالتقيّة لاستوجب كتاباً كاملاً، ولكن ما أوردته من أدلّة أهل السنّة والجماعة كاف بحمد الله.

ولا أترك هذه الفرصة تفوت لأروي قصّة طريفة وقعت لي شخصيّاً مع عالم من علماء أهل السنّة إلتقينا في الطائرة وكنا مدعوّين لحضور مؤتمر إسلامي في بريطانيا،

٢٧

وتحادثنا خلال ساعتين عن الشيعة والسنّة، وكان من دعاة الوحدة، وأعجبت به غير أنّه ساءني قوله بأنّ على الشيعة الآن أن تترك بعض المعتقدات التي تُسبّب إختلاف المسلمين والطعن على بعضهم البعض، وسألته مثل ماذا؟

وأجاب على الفور: مثل المتعة والتقيّة.

وحاولت جهدي إقناعه بأنّ المتعة هي زواج مشروع، والتقيّة رخصة من الله، ولكنّه أصرّ على رأيه ولم يقنعه قولي ولا أدلّتي، مدّعياً أن ما أوردته كلّه صحيح ولكن يجب تركه من أجل مصلحة أهم ألا وهي وحدة المسلمين.

واستغربت منه هذا المنطق الذي يأمر بترك أحكام الله من أجل وحدة المسلمين، وقلت له مجاملة: لو توقّفت وحدة المسلمين على هذا الأمر لكنت أوّل من أجاب.

ونزلنا من مكار لندن وكنت أمشي خلفه.

ولمّا تقدّمنا إلى شرطة المطار سُئل عن سبب قدومه إلى بريطانيا.

فأجابهم بأنّه جاء للمعالجة.

وادّعيت أنا بأنّي جئت لزيارة بعض أصدقائي.

ومررنا بسلام وبدون تعطيل إلى قاعة إستلام الحقائب، عند ذلك همست له: أرأيت كيف أنّ التقيّة صالحة في كلّ زمان؟

قال: كيف؟

قلت: لأنّنا كذبنا على الشرطة، أنا بقولي جئت لزيارة أصدقائي، وأنت بقولك جئت للعلاج، في حين أنّنا قدمنا للمؤتمر.

ابتسم وعرف بأنّه كذب على مسمع منّي! فقال: أليس في المؤتمرات الاسلاميّة علاج لنفوسنا؟

ضحكت قائلاً: أو ليس فيها زيارة لاخواننا؟

وعلى الجملة؛ ركيزة الكلام والذي يهمّ في المقام، ليتّضح الحق الناطق، وينبلج الصبح الصادق هو ذكر الأدلّة الكاملة في شرعيّة التقيّة، والوجوه الخمسة النقيّة فيها.

٢٨

التقيّة في القرآن الكريم

هناك آيات كريمة من الكتاب المجيد مبيحة للتقيّة، حتّى بتصريح مجامع العامّة وتفاسيرهم، منها:

١ - قوله تعالى: ( مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١) .

ذكرها البخاري في باب خاص، وقال في عنوانه: (باب قوله: إلّا من اُكره وقلبه مطمئن بالايمان وهي التقيّة) (٢) .

وقال القسطلاني في شرحه: إنّها - أي التقيّة - ثابتة إلى يوم القيامة، لا تختصّ بعهد النبي صلّى الله عليه [وآله - وسلّم] (٣) .

وقال الفخر الرازي عند تفسير هذه الآية الشريفة:

إنّ عمّاراً أعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً.

فقيل: يا رسول الله! إنّ عمّاراً كفر.

فقال: «كلّا إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه.

فأتى عمّار رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبكي، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: مالك؟

إن عادوا لك فعد بما قلت» (٤) .

__________________

١. سورة النحل (١٦): ١٠٦.

٢. صحيح البخاري: ج ٥، ص ٥٢، ح ١.

٣. إرشاد الساري: ج ٨، ص ١٤.

٤. التفسير الكبير: ج ٢٠، ص ١٣٢.

٢٩

وقال السيوطي في تفسيره:

إنّ المشركين أخذوا عمّار بن ياسر، فعذّبوه حتّى قاربهم من بعض ما أرادوا، وسبّ النبي صلى الله عليه وآله وذكر الهتهم بخير.

قال صلى الله عليه وآله: «كيف تجد قلبك؟».

قال: مطمئناً بالايمان.

قال: «إن عادوا فعد».

وفي ذلك أنزل الله تعالى: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) (١) .

وقال ابن عبد البرّ المالكي:

كان عمّار واُمّه سميّة ممّن عُذّب في الله، ثمّ أعطاهم عمّار ما أرادوا بلسانه، وقلبه مطمئن بالايمان، وهذا ممّا اجتمع عليه أهل التفسير) (٢) .

هذا ما في تفاسير السنّة، وتلاحظ انها متّفقة على تقيّة عمّار، بصريح الكتاب، وتقرير النبي الأكرم له في مورد النزول.

ومثلها تفاسير الخاصّة فانّها مجمعة أيضاً رواية وتفسيراً في تقيّة عمّار، ومن ذلك الأحاديث التفسيريّة التي نجدها مجموعة في كنز الدقائق (٣) ، عند ذكر الآية الشريفة مثل:

١ - حديث أبي بكر الحضرمي عن الامام الصادق عليه السلام قال: قال بعضنا: مدّ الرقاب أحبّ إليك أم البراءة من عليّ عليه السلام؟

قال: الرخصة أحبُّ إليّ؛ أما سمعت قول الله في عمّار ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ

__________________

١. الدرّ المنثور: ج ٤، ص ١٣٢.

٢. الاستيعاب: ج ٣، ص ١١٣٦.

٣. كنز الدقائق: ج ٧، ص ٢٧١.. وغيره.

٣٠

بِالْإِيمَانِ ) (١) .

٢ - حديث الحميري باسناده الى أبي عبد الله عليه السلام قال:

«إنّ التقيّة ترس المؤمن، ولا ايمان لمن لا تقيّة له!

قلت: جعلت فداك! أرأيت قول الله تبارك وتعالى: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) ؟

قال: «وهل التقيّة إلّا هذا» (٢) .

٣ - عن ابن عبّاس: نزل قوله: ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) في جماعة أكرهوا: وعم عمّار، وياسر أبوه، وأُمّه سميّة، وصهيب، وبلال، وخبّاب.. عُذّبوا وقُتل أبو عمّار وأُمّه، فأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه، ثمّ أخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله..

فقال: قومٌ: كفر عمّار.

فقال صلّى الله عليه وآله: «كلّا، إنّ عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه».

وجاء عمّار إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وهو يبكي، فقال صلّى الله عليه وآله: «ما وراءك؟!»

قال: شرٌ - يا رسول الله - ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير.

فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح عينيه ويقول: «إن عادوا لك فعُد لهم بما قلت..» فنزلت الآية (٣) .

__________________

١. تفسير العياشي: ج ٢، ص ٢٧٢.

٢. قرب الاسناد: ص ٣٥، ح ١١٤.

٣. مجمع البيان: ج ٦، ص ٥٩٧.

٣١

واعلم أنّ تقيّة عمّار وإن كانت من المشركين لكن تقيّة عمّار شأن نزول الآية وموردها، والمرد ليس مخصّصاً، فانّ الآية الشريفة عامة شاملة لكلّ تقيّة حتّى من المسلم، خصوصاً مع التعبير بكلمة (من) الموصولة التي هي عامّة شاملة، تشمل كلّ من اكره على شيء فارتكبه.

ثمّ إنّه اذا جازت التقيّة في اظهار الكفر بالله تعالى، واُبيجت لعمار فكيف بسائر الناس في سائر الأشياء دون الكفر بالله تعالى وعمّار ممّن ملئ ايماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه، وحرّم الله لحمه ودمه على النار، وروى فيه حتّى أهل السنّة ان «من عادى عمّاراً عاداه الله»، ومن أبغضه أبغضه الله، وإنّ الجنّة مشتاقة إليه (١) .

٢ - قوله تعالى:

( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) (٢) .

فالآية الشريفة جوّزت التقيّة فيما هو من أبغض الأشياء إلى الله تعالى وهو اتّخاذ الكافرين أولياء وأحبّة (٣) .

قال السيوطي في تفسيره:

__________________

١. سفينة البحار: ج ٦، ص ٥٠٧.

٢. سورة آل عمران (٣)، الآية ٢٨.

٣. في حديث الامام الصادق عليه السلام: (من أحبّ كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراً فقد أحبّ الله). أطيب البيان: ج ٣، ص ١٦٤.

وفي حديث الامام الرضا عليه السلام: (كن محبّاً لآل محمّد وإن كنت فاسقاً، وكن محبّاً لمحبّيهم وإن كانوا فاسقين).

قال العلّامة المجلسي: إنّ هذا الحديث موجود الآن بخط مولانا الامام الرضا عليه السلام في كروند باصفهان. أطيب البيان: ج ٣، ص ١٦٥.

٣٢

أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله تعالى: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) قال: إلّا مصانعة في الدنيا ومخالفة.

وأخرج عبد بن حماد، عن الحسن قال: التقيّة جائزة إلى يوم القيامة (١) .

وقال الحاكم في المستدرك:

(التقة: التكلّم باللسان، والقلب مطمئن بالايمان، وذلك كما في قصّة عمّار وشتمه النبي، لخلاص نفسه) (٢) .

وقال أبو بكر الرازي في تفسير الآية:

(يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء، فتتقوم باظهار الموالاة من غير اعتقاده لها.

وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه جمهور أهل العلم) (٣) .

فتلاحظ تفسير الآية عند أهل السنّة بالتقيّة، وجوازها إلى يوم القيامة، ممّا يظهر عدم انحصارها بزمن خاص أو بواقعة خاصّة.

وهكذا تفسيرها عند الخاصّة هي مفسّرة بالتقيّة كما تلاحظ في مثل:

١ - حديث أمير المؤمنين عليه السلام: (وآمرك أن تستعمل التقيّة في دينك، فان الله يقول: ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) .

وإيّاكم ثمّ إيّاك أن تتعرّض للهلاك، وأن تترك التقيّة التي أمرتك بها، فانّك شائط بدمك ودم إخوانك، معرّضٌ لنعمك ولنعمهم للزوال، مذلٌّ لهم في أيدي أعداء الله، وقد أمرك

__________________

١. الدرّ المنثور: ج ٢، ص ١٦.

٢. المستدرك على الصحيحين: ج ٢، ص ٢٩١.

٣. أحكام القرآن: ج ٢، ص ١٠.

٣٣

باعزازهم» (١) .

٢ - حديث الامام الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: «لا ايمان لمن لا تقيّة له، فانّ الله يقول: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) (٢) ».

٣ - شيخ الطائفة الطوسي، قال: ( إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) فالتقيّة الاظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه هو الحق... والتقيّة عندنا واجبة عند الخوف على النفس، وقد روى رخصة في جواز الافصاح بالحق عندها (٣) .

ومن أدلّة الكتاب على جواز التقيّة أيضاً قوله تعالى: ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ) (٤) حيث ان توصيفه بالايمان ومدحه بذلك مع بيان كتمان ايمانه ليس إلّا تقيّة من فرعون وطغيانه.

والذي يتخلّص من آي الكتاب أنّ القرآن الكريم الذي حكم على المنافق بالدرك الأسفل من النار هو بنفسه رخّص في التقيّة، وأجاز الاتقاء، فالتقيّة تكون جائزة بحكم كتاب الله تعالى.

__________________

١. تفسير كنز الدقائق: ج ٣، ص ٦٦.

٢. تفسير العياشي: ج ١، ص ١٦٦.

٣. تفسير التبيان: ج ٢، ص ٤٣٤.

٤. سورة غافر (٤٠)، الآية ٢٨.

٣٤

التقيّة في السنّة النبويّة

هناك أحاديث عديدة تبيّن تقيّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حتّى من بعض المسلمين، كما في حديث البخاري الآتي.

ومن المعلوم أنّ فعله صلى الله عليه وآله دليل على الحليّة اقلا، بل مقتضٍ للاقتداء والتأسّي، لأنّه القدوة والأُسوة.

ومن ذلك ما في أحاديث أهل السنة مثل:

١ - ما أخرجه البخاري في صحيحه:

بسنده عن عائشة: أنّ رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وآله، فلمّا رآه قال: «بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة».

فلمّا جلس تطلّق النبي صلى الله عليه وآله في وجهه وانبسط إليه.

فلمّا انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله! حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثمّ تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه (١) !!

__________________

١. لا يخفى أنّ هذا اعتراض من عائشة على رسول الله صلى الله عليه وآله - الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى - وليس هذا الاعتراض منها أو قارورةٍ كُسرت في الاسلام، وإن شئت فلاحظ أحاديث تجاسرها على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في مثل:

أ) حديث أحمد بن حنبل في مسنده: ج ٤، ص ٢٧١، عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي فسمع صوت عائشة عالياً...

ب) حديث مالك بن أنس في الموطأ، باب صلاة الليل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة

٣٥

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «يا عائشة! متى عهدتني فحّاشاً؟»

إنّ شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتّقاء شرّه» (١) .

ولا يخفى انه بقرينة قوله «أخو العشيرة» في متن الحديث أوّلاً.

وبقرينة كون رواية الحديث من عائشة - التي دخل بها النبي صلى الله عليه وآله في المدينة التي كانت - بلد المسلمين ثانياً.

بهاتين القرينتين يستفاد أنّ تقيّة صلوات الله عليه وآله كانت من مسلم لا من المشركين، ممّا تدلّ على انّ التقيّة تكون عامة، وليست خاصّة بالتقية من المشرك أو في بلد الشرك. وجاء في كتاب بالاسرار انه كان ذلك عبد الله بن أبي سلول [الأسرار فيما كنى وعرف به الأشرار: ج ٢، ص ١٨].

ومثل هذا الحديث بل أصرح منه ومصرّح بالمداراة التي هي التقيّة حديث الحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء (٢) قال ما نصّة:

حدّثنا أبو بكر بن خلّاد، حدّثنا الحارث بن أبي أُسامة، حدّثنا الخليل ابن زكريا، حدّثنا هشام الدستوائي، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، عن صفوان بن عسال المرادي، قال: كنّا مع النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم - في سفر فأقبل رجل فيما نظر إليه رسول الله صلّى الله عليه و [آله] وسلّم قال: «بئس اخو العشيرة وبئس الرجل، فلمّأ دنا

__________________

أنها كانت تمدّ رجليها في قبلة رسول الله في صلاته.

ج) حديث النسائي في سننه، باب الغيرة والحسد أن صفية بنت عبد المطلب أهدت طعاماً إلى النبي فضربت عائشة على الاناء وكسرته.

د) حديث ابن ماجة في سننه، باب الحكم فيمن كسر شيئاً، روى أن حفصة سبقت عائشة فصنعت طعاماً للنبي فأكفئتها عائشة، فانكسرت القصعة، وانتشر الطعام.

١. صحيح البخاري: ج ٧، ص ١٠٧، ح ٦٠٣٢، باب لم يكن النبي فاحشاً.

٢. حلية الأولياء: ج ٤، ص ١٩١.

٣٦

منه أدنى مجلسه، فلمّا قام وذهب، قالوا: يا رسول الله! حين أبصرته، قلت: بئس أخو العشيرة وبئس الرجل ثم أدنيت مجلسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه و [آله] وسلّم: «إنّه منافق اداريه عن نفاقه فأخشى أن يفسد على غيره» (١) .

٢ - ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره:

قال عند قوله تعالى في سورة المائدة: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .

روى أنّ النبي صلى الله عليه وآله كان أيّام إقامته بمكة يُهاجر ببعض القرآن ويخفى بعضه اشفاقاً على نفسه من تسرّع المشركين إليه وإلى أصحابه.

فلمّا أعزّ الله الاسلام وأيّده بالمؤمنين قال له: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) أي لا تراقبنّ أحداً (٢) .

يستفاد من هذا الحديث انّه صلوات الله عليه وآله كان يتقى باخفاء بعض الآيات وعدم التجاهر به اشفاقاً من المشركين، ولو كانت التقيّة نفاقاً لما اتّقى صلّى الله عليه وآله حتّى من المشركين.

٣ - ما رواه مسلم في صحيحه:

روى في أنّ الاسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بُدأ.

عن حذيفة... قال: قلنا: يا رسول الله! أتخاف علينا ونحن بين الستمائة والسبعمائة؟

قال صلى الله عليه وآله: «انّكم لا تدرون لعلّكم أن تُبتلوا».

قال حذيفة: فابتلينا حتى جعل الرجل منّا يصلّي سرّاً (٣) .

هذا نزر يسير ممّا جاء من طرق العامّة.

__________________

١. حلية الأولياء: ج ٤، ص ١٩١.

٢. تفسير الفخر الرازي: ج ١٢، ص ٤١.

٣. صحيح مسلم، ج ١، ص ١٣١، كتاب الايمان، باب الاستسرار بالايمان للخائف.

٣٧

وأمّا الأحاديث الواردة في تجويز التقيّة وفضيلتها من طرق الخاصّة؛ فهي فائقة على التواتر وقد اُشيد بها من قبل النبي الأكرم وجميع الأئمّة صلى الله عليه وآله بالتظافر، نختار جملة منها وهي:

١ - حديث عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: «اتّقوا على دينكم فأحجبوه بالتقيّة؛ فانه لا إيمان لمن لا تقيّة له، إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، لو أنّ الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلّا أكلته، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم (١) في السرّ والعلانية، رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا» (٢) .

٢ - حديثحريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّوجلّ: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ) (٣) قال: «التي هي أحسن التقيّة ( فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (٤) .

٣ - حديث هشام الكندي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

«إيّاكم أن تعملوا عملاً يعيّرونّا به فإنّ ولد السوء يعيّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً صلّوا في عشائركم (٥) ، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم، والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخبء».

__________________

١. يقال نحل فلاناً أي سابّه، وفي بعض النسخ: نجلوكم؛ من قولهم، نجل فلاناً: ضربه بمقدم رجله.

٢. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٨، ح ٥.

٣. سورة فصلت، الآية ٣٤.

٤. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٨، ح ٦.

٥. أي عشائركم الذين فيهم المخالفين لكم في الدين.

٣٨

قلت: وما ألخبء؟ (١)

قال: «التقيّة» (٢) .

٤ - عن أبي عبد الله عليه السلام قال: «كان أبي عليه السلام يقول: وأيّ شيءٍ أقرّ لعيني من التقيّة، إنّ التقيّة جنّة المؤمن» (٣) .

٥ - حديث محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّما جعلت التقيّة ليحقن بها الدّم، فإذا بلغ الدّم فليس تقيّة» (٤) .

٦ - حديث حريزٍ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: «التقيّة ترس (٥) الله بينه وبين خلقه» (٦) .

٧ - حديث إسماعيل الجعفي، ومعمّر بن يحيى بن سام، ومحمّد بن مسلم، وزرارة، قالوا: سمعنا أبا جعفرٍ عليه السلام يقول: «التقيّة في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم فقد أحلّه الله له» (٧) .

٨ - الأحاديث الشريفة في تفسير الامام العسكري عليه السلام عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام منها ما جاي في الوسائل: مجموعاً في باب واحد (٨) الأحاديث الآتية:

__________________

١. الخبء: من الخباء والستر.

٢. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٩، ح ١١.

٣. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٩، ح ١٤.

٤. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٩، ح ١٩.

٥. التُرس هو المعدن الذي يحمله المحارب يتقي به ضربات العدو، يسمى بالفارسية (سپر)، فالتقيّة تمنع من البلايا النازلة.

٦. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٩، ح ١٩.

٧. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٩، ح ١٨.

٨. لاحظ وسائل الشيعة: ج ١١، ص ٤٧٣، الباب الثامن والعشرين.

٣٩

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «مثل مؤمنٍ لا تقيّة له كمثل جسدٍ لا رأس له...» إلى أن قال: «وكذلك المؤمن إذا جهل حقوق إخوانه فإنّه يفوّت ثواب حقوقهم فكان كالعطشان يحضره الماء البارد فلم يشرب حتّى طغا، وبمنزلة ذي الحواسّ الصّحيحة لم يستعمل شيئاً منها لدفع مكروهٍ ولا لانتفاع محبوبٍ، فإذا هو سليبٌ كلّ نعمةٍ مبتلىً بكلّ آفة».

٩ - قال وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «التقيّة من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين، وقضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتّقين، يستجلب مودّة الملائكة المقرّبين وشوق الحور العين».

١٠ - قال: وقال الحسن بن عليٍ عليهما السلام: «إن التقيّة يصلح الله بها أمّةً لصاحبها مثل ثواب أعمالهم فإن تركها أهلك أمّةً تاركها شريك من أهلكهم، وإن معرفة حقوق الإخوان يحبب إلى الرّحمن ويعظّم الزّلفى لدى الملك الدّيّان وإنّّ ترك قضائها يمقت إلى الرّحمن ويصغّر الرّتبة عند الكريم المنّان».

١١ - قال: قال الحسين بن عليٍ عليهما السلام: «لو لا التقيّة ما عرف وليّنا من عدوّنا، ولو لا معرفة حقوق الإخوان ما عرف من السّيّئات شيءٌ إلّا عوقب على جميعها».

١٢ - قال: وقال عليُّ بن الحسين عليهما السلام: «يغفر الله للمؤمن كلّ ذنبٍ ويطهّره منه في الدّنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقيّة، وتضييع حقوق الإخوان».

١٣ - قال: وقال محمّد بن عليٍ عليهما السلام: «أشرف أخلاق الأئمّة والفاضلين من شيعتنا استعمال التقيّة وأخذ النّفس بحقوق الإخوان».

١٤ - قال: وقال جعفر بن محمّدٍ عليهما السلام: «استعمال التّقيّة بصيانة الإخوان، فإن كان هو يحمي الخائف فهو من أشرف خصال الكرم.

والمعرفة بحقوق الإخوان من أفضل الصّدقات والزّكاة والحجّ والمجاهدات».

١٥ - قال: وقال موسى بن جعفرٍ عليهما السلام لرجلٍ: «لو جعل إليك التّمنّي في الدّنيا ما كنت تتمنّى؟!».

٤٠

قال: كنت أتمنّى أن أرزق التّقيّة في ديني، وقضاء حقوق إخواني.

فقال: «أحسنت؛ أعطوه ألفي درهم».

16 - قال: وقال رجلٌ للرّضا عليه السلام: سل لي ربّك التّقيّة الحسنة، والمعرفة بحقوق الإخوان، والعمل بما أعرف من ذلك.

فقال الرّضا عليه السلام: «قد أعطاك الله ذلك، لقد سألت أفضل شعار الصالحين ودثارهم».

17 - قال: وقيل لمحمّد بن عليٍ عليهما السلام: إنّه ضيّع حقّ أخ مؤمن، وترك التّقيّة فوجّه إليه فتاب».

18 - قال: وقيل لعليّ بن محمّدٍ عليهما السلام: من أكمل النّاس؟

قال: «أعملهم بالتّقيّة، وأقضاهم لحقوق إخوانه..».

إلى أن قال: في قوله تعالى: ( وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ) .

قال: الرّحيم بعباده المؤمنين من شيعة آل محمّد، وسّع لهم في التّقيّة يجاهرون بإظهار موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه إذا قدروا، ويسرّون بها إذاعجزوا».

19 - ثمّ قال [الامام العسكري عليه السلام]: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ولو شاء لحرّم عليكم التّقيّة وأمركم بالصّبر على ما ينالكم من أعدائكم عند إظهاركم الحقّ.

ألا فأعظم فرائض الله عليكم بعد فرض موالاتنا ومعاداة أعدائكم استعمال التّقيّة على أنفسكم وأموالكم ومعارفكم، وقضاء حقوق أخوانكم.

وإن الله يغفر كلّ ذنبٍ بعد ذلك ولا يستقصي وأمّا هذان فقلّ من ينجو منهما إلّا بعد مسّ عذاب شديدٍ، إلّا أن يكون لهم مظالم على النّواصب والكفّار فيكون عقاب هذني على أُولئك الكفّار والنّواصب قصاصاً بما لكم عليه من الحقوق وما لهم إليكم من الظّلم.

فاتّقوا الله ولا تتعرّضوا لمقت الله بترك التّقيّة، والتّقصير في حقوق إخوانكم المؤمنين».

20 - حديث الامام المهدي عليه السلام قال عجّل الله فرجه الشريف: يا ابن المازيار! أبي

٤١

أبو محمّد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولهم الخزي في الدّنيا والآخرة ولهم عذابٌ أليمٌ.

وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلّا وعرها ومن البلاد إلّا عفرها (1) .

والله مولاكم أظهر التّقيّة فوكلها بي (2) فأنا في التّقيّة إلى يوم يُؤذن لي فأخرج (3) .

21 - حديث الامام الصادق عليه السلام أنه قال: كان فيما أوصى به لقمان ابنه: يا بنيّ: ليكن فيما تتسلّح به على عدوّك وتصرعه المماسحة - أي التلطّف - وإعلان الرضا عنه، ولا تزاوله بالمجنابة فيبدو له ما في نفسك، فيتأهّب لك» (4) .

22 - حديث الأعمش عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: «استعمال التقية في دار التقية واجب، ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقيّة، يدفع بذلك ظلماً عن نفسه» (5) .

23 - حديث الامام الهادي عن آبائه الطاهرين عن الامام الصادق عليهم السلام انه قال: «ليس منّا من لم يلزم التقية، ويصوننا عن سفلة الرعيّة» (6) .

24 - حديث الامام الصادق عليه السلام انه قال: «عليكم بالتقية، فانه ليس منّا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه، لتكون سجيته مع من يحذره» (7) .

25 - حديث الامام الرضا عليه السلام انه قال: «لا دين لمن لا ورع له ولا ايمان لمن لا تقية

__________________

1. أي البلاد الرمليّة، والأعفر هو الرمل الأحمر كما في مجمع البحرين: ص 285.

2. لاحظ بحث حكمة غيبة الامام المهدي عليه السلام والحكم الخمسة التي منها كراهة مجاورة الظالمين والتحفظ على النفس في كتاب الامام المنتظر من ولادته إلى دولته.

3. المختار: ج 3، ص 128.

4. بحار الأنوار: ج 75، ص 393، ب 87، ح 1.

5. بحار الأنوار: ج 75، ص 394، ب 87، ح 14.

6. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 395، ح 14.

7. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 395، ح 15.

٤٢

له.. ان أكرمكم عند الله عزّوجلّ أعملكم بالتقية قبل خروج قائمنا، فمن تركها قبل خروج قائمنا فليس منّا» (1) .

26 - حديث الامام الصادق عليه السلام انه قال: «يا سفيان! عليك بالتّقيّة فإنّها سنّة إبراهيم الخليل عليه السلام.

وإنّ الله عزّوجلّ قال لموسى وهارون عليهما السلام: ( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) (2) يقول الله عزّوجلّ كنّياه وقولا له: يا أبا مصعبٍ!،إنّ رسول الله كان إذا أراد سفراً ورّى بغيره.

وقال عليه السلام أمرني ربّي بمداراة النّاس كما أمرني بأداء الفرائض، ولقد أدّبه الله عزّوجلّ بالتّقيّة فقال: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (3) .

يا سفيان! من استعمل التّقيّة في دين الله فقد تسنّم الذّروة العليا من العزّ، إنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه، ومن لم يملك لسانه ندم (4) .

27 - حديث أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّوجلّ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ) قال: «اصبروا على المصائب، وصابروهم على التّقيّة، ورابطوا على من تقتدون به ( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (5) ». (6)

28 - حديث سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يا سليمان! إنّكم على دينٍ

__________________

1. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 395، ح 16.

2. سورة طه: الآية 43 - 44.

3. سورة فصلت، الآية 34 - 35.

4. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 396، ح 18.

5. سورة آل عمران، الآية 200.

6. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 396، ح 19.

٤٣

من كتمه أعزّه الله ومن أذاعه أذلّه الله» (1) .

29 - حديث هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ( أُولَـٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) (2) .

30 - حديث حبيب بن بشير قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحبّ إليّ من التّقيّة. يا حبيب! إنّه من كانت له تقيّة رفعه الله. يا حبيب! من لم تكن له تقيّة وضعه الله. يا حبيب! إن النّاس إنّما هم في هدنةٍ فلو قد كان ذلك كان هذا» (3) .

31 - حديث ثابت مولى آل جرير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «كظم الغيظ عن العدوّ في دولاتهم تقية حزم لمن أخذ بها، وتحرّز من التعرّض للبلاء في الدّنيا» (4) .

32 - حديث عبد الله مسكان قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «إنّي لأحسبك إذا شتم عليّ بين يديك لو تستطيع أن تأكل أنف شاتمه لفعلت».

فقلت: إي والله جعلت فداك إنّي لهكذا وأهل بيتي.

فقال لي: «فلا تفعل، فو الله لربّما سمعت من يشتم عليّاً، وما بيني وبينه إلّا أسطوانةً فأستتر بها، فإذا فرغت من صلاتي، فأمرّ به، فأُسلّم عليه، وأُصافحه» (5) .

33 - حديث تفسير الامام العسكري عليه السلام: أبو محمّد العسكريّ عليه السلام في تفسيره، في قوله تعالى: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) (6) قال الصّادق عليه السلام: «قولوا للنّاس كلّهم حسناً

__________________

1. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 397، ح 25.

2. سورة القصص، الآية 54.

3. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 398، ح 29.

4. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 399، ح 38.

5. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 399، ح 39.

6. سورة البقرة، الآية 83.

٤٤

مؤمنهم ومخالفهم.

أمّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه.

وأمّا المخالفون؛ فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان فإن استتر من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين».

قال الإمام عليه السلام: «إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه وإخوانه، كان رسول الله صلى الله عليه وآله في منزله إذ استأذن عليه عبد الله بن أبي سلولٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله، بئس أخو العشيرة ائذنوا له..».

فأذنوا له فلمّا دخل أجلسه وبشر في وجهه.

فلمّا خرج قالت عائشة: يا رسول الله! قلت فيه ما قلت، وفعلت به من البشرٍ ما فعلت؟!

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:

«يا عويش يا حميراء! إنّ شرّ النّاس عند الله يوم القيامة من يكرم اتّقاء شرّه.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

«إنّا لنبشر في وجوه قومٍ وإنّ قلوبنا لتقليهم، أولئك أعداء الله نتّقيهم على إخواننا وعلى أنفسنا».

وقالت فاطمة عليها السلام:

«بشرٌ في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنّة، وبشرٌ في وجه المعاند يقي صاحبه عذاب النار».

وقال الحسن بن عليّ عليه السلام:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم الله على خلقه بشدّة مداراتهم لأعداء دين الله، وحسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله».

قال الزّهريّ: كان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول:

٤٥

«ما عرفت له صديقاً في السّرّ ولا عدوّاً في العلانية؛ لأنّه لا أحد يعرفه بفضائله الباهرة إلّا ولا يجد بدّاً من تعظيمه من شدّة مداراة عليّ بن الحسين عليهما السلام وحسن معاشرته إيّاه، وأخذه من التّقيّة بأحسنها وأجملها، ولا أحد وإن كان بريه المؤدّة في الظّاهر إلّا وهو يحسده في الباطن لتضاعف فضائله على فضائل الخلق».

وقال محمّد بن عليّ عليهما السلام:

«من أطاب الكلام مع موافقيه ليؤنسهم وبسط وجهه لمخالفيه ليأمنهم على نفسه وإخوانه فقد حوى من الخيرات والدّرجات العالية عند الله ما يقادر قدره غيره».

قال بعض المخالفين بحضرة الصّادق عليه السلام لرجلٍ من الشّيعة: ما تقول في العشرة من الصّحابة؟

قال: أقول فيهم الخير الجميل الّذي يحطّ الله به سيّئاتي ويرفع لي درجاتي.

قال السّائل: الحمد لله على ما أنقذني من بعضك، كنت أظنّك رافضيّا تبغض الصّحابة.

فقال الرّجل: ألا من أبغض واحداً من الصّحابة فعليه لعنة الله.

قال: لعلّك تتأوّل ما تقول فيمن أبغض العشرة؟

فقال: من أبغض العشرة فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين.

فوثب فقبّل رأسه وقال: اجعلني في حلّ ممّا قذفتك به من الرّفض قبل اليوم.

قال: أنت في حلّ وأنت أخي.. ثمّ انصرف السّائل.

فقال له الصّادق عليه السلام: «جوّدت! لله درّك لقد أعجبت الملائكة من حسن توريتك، وتلفّظك بما خلّصك، ولم تثلم دينك، زادالله في مخالفينا غمّاً إلى غمٍّ وحجب عنهم مراد منتحلي مودّتنا في تقيّتهم».

فقال بعض أصحاب الصّادق عليه السلام: يا ابن رسول الله! ما عقلنا من كلام هذا إلّا موافقته لهذا المتعنّت النّاصب؟

فقال الصّادق عليه السلام: «لئن كنتم لم تفهموا ما عنى فقد فهمناه نحن وقد شكره الله له، إنّ

٤٦

وليّنا الموالي لأوليائنا المعادي لأعدائنا إذا ابتلاه الله بمن يمتحنه من مخالفيه وفّقه لجوابٍ يسلم معه دينه وعرضه، ويعظم الله بالتّقيّة ثوابه.

إنّ صاحبكم هذا قال: من عاب واحداً منهم فعليه لعنة الله، أي من غاب واحداً منهم هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقال في الثّانية: من عابهم وشتمهم فعليه لعنة الله، وقد صدق لأنّ من عابهم فقد عاب عليّاً عليه السلام لأنّه أحدهم، فإذا لم يعب عليّاً ولم يذمّه فلم يعبهم، وإنّما عاب بعضهم.

ولقد كان لحزقيل المؤمن مع قوم فرعون الّذين وشوا به إلى فرعون مثل هذه التّورية، كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله ونبوّة موسى وتفضيل محمّدٍ صلى الله عليه وآله على جميع رسل الله وخلقه، وتفضيل عليّ بن أبي طالب عليه السلام والخيار من الأئمّة على سائر أوصياء النبيّين وإلى البراءة من ربوبيّة فرعون.

فوشى به واشون إلى فرعون، وقالوا: إنّ حزقيل يدعو إلى مخالفتك ويعين أعداءك على مضادّتك.

فقال لهم فرعون: ابن عمّي وخليفتي على ملكي وولي عهدي؟ إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره نعمتي، فإن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشدّ العقاب لإيثاركم الدّخول في مساءته.

فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبيّة فرعون عن الملك وتكفر نعماءه؟

فقال حزقيل: أيّها الملك هل جرّبت عليّ كذباً قطّ؟

قال: لا.

قال: فسلهم من ربّهم؟

فقالوا: فرعون.

قال: ومن خالقكم؟

٤٧

قالوا: فرعون هذا.

قال: ومن رازقكم، الكافل لمعايشكم، والدّافع عنكم مكارهكم؟

قالوا: فرعون هذا.

قال حزقيل: أيّها الملك فأشهدك وكلّ من حضرك أنّ ربّهم هو ربّي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا ربّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم، وأشهدك ومن حضرك أنّ كلّ ربٍّ وخالقٍ ورازقٍ سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريٌ منه ومن ربوبيّته وكافرٌ بإلهيّته.

يقول حزقيل هذا وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي، ولم يقل إن الّي قالوا إنّ ربّهم هو ربّي، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي وخالقي ورازقي.

فقال هلم فرعون: يا رجال الشّرّ ويا طلّاب الفساد في ملكي ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّي وهو عضدي أنتم المستحقّون لعذابي لإرادتكم فساد أمري، وهلاك ابن عمّي والفتّ في عضدي.. ثمّ أمر بالأوتاد فجعل في ساق كلّ واحدٍ منهم وتدٌ وفي صدره وتدٌ، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال الله تعالى ( فَوَقَاهُ اللَّهُ ) يعني حزقيل ( سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) (1) لمّا وشوا به إلى فرعون ليهلكوه وهم الّذين وشوا بحزقيل إليه لمّا أوتد فيهم الأوتاد ومشّط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط.

قال رجلٌ من خواصّ الشّيعة لموسى بن جعفرٍ عليهما السلام وهو يرتعد بعد ما خلا به: يا ابن رسول الله! ما أخوفني أن يكون فلان ابن فلانٍ ينافقك في إظهاره واعتقاد وصيّتك وإمامتك.

__________________

1. سورة المؤمن، الآية 45.

٤٨

فقال موسى عليه السلام: «وكيف ذاك؟».

قال: لأنّي حضرت معه اليوم في مجلس فلانٍ رجلٍ من كبار أهل بغداد فقال له صاحب المجلس، أنت تزعم أنّ مو سى بن جعفرٍ إمامٌ دون هذا الخليفة القاعد على سريره؟!

قال له صاحبك هذا، ما أقول هذا، بل أزعم أنّ موسى بن جعفرٍ غير إمام وإن لم أكن أعتقد أنّه غير إمامٍ فعليّ وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين.

قال له صاحب المجلس: جزاك الله خيراً ولعن من وشى بك.

فقال له موسى بن جعفرٍ عليهما السلام: «ليس كما ظننت، ولكنّ صاحبك أفقه منك إنّما قال موسى غير إمامٍ.. أي إنّ الّذي هو غير إمامٍ فموسى غيره فهو إذاً إمامٌ، فإنّما أثبت بقوله هذا إمامتي ونفى إمامة غيري.

يا عبد الله! متى يزول عنك هذا الّذي ظننته بأخيك هذا من النّفاق تب إلى الله».

ففهم الرّجل ما قاله واغتمّ: «وقال يا ابن رسول الله! ما لي مالٌ فأُرضيه به ولكن قد وهبت له شطر عملي كلّه من تعبّدي وصلاتي عليكم أهل البيت، ومن لعنتي لأعدائكم.

قال موسى عليه السلام: «الآن خرجت من النّار».

قال: وكنّا عند أبي الحسن الرّضا عليه السلام فدخل رجلٌ فقال له: يا ابن رسول الله! لقد رأيت اليوم شيئاً عجبت منه.

«قال وما هو؟».

قال رجلٌ كان معنا يظهر لنا أنّه من الموالين لآل محمّدٍ المتبرّين من أعدائهم، فرأيته اليوم وعليه ثيابٌ قد خلعت عليه وهو ذا يطاف به ببغداد وينادي المنادي بين يديه: معاشر النّاس! اسمعوا توبة هذا الرّافضيّ! ثمّ يقولون له قل: فيقول: خير النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكرٍ.

فإذا قال ذلك ضجّوا وقالوا: قد تاب وفضّل أبا بكرٍ على عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام.

٤٩

فقال الرّضا عليه السلام: «إذا خلوت فأعد عليّ هذا الحديث». فلمّا خلا أعاد عليه فقال له: «إنّما لم أفسّر لك معنى كلام الرّجل بحضرة هذا الخلق المنكوس كراهة أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه، لم يقل الرّجل خير النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبو بكرٍ فيكون قد فضّل أبا بكرٍ على عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام ولكن قال: خير النّاس بعد رسول الله أبا بكرٍ، فجعله نداءً لأبي بكرٍ ليرضى من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء الجهلة ليتوارى من شرورهم.

إنّ الله تعالى جعل هذه التّورية ممّا رحم بها شيعتنا ومحبّينا.

وقال رجلٌ لمحمّد بن عليٍّ عليهما السلام: يا ابن رسول الله! ممرت اليوم بالكرخ فقالوا: هذا نديم محمّد بن عليٍّ إمام الرّفضة فاسألوه من خير النّاس بعد رسول الله، فإن قال: عليٌّ، فاقتلوه وإن قال: أبو بكرٍ، فدعوه، فانثال عليّ منهم خلقٌ عظيمٌ وقالوا لي: من خير النّاس بعد رسول الله؟

فقلت مجيباً: أخير النّاس بعد رسول الله أبو بكرٍ وعمر وعثمان، وسكتُّ ولم أذكر عليّاً.

فقال بعضهم: قد زاد علينا نحن نقول ها هنا: وعليٌّ.

فقلت: في هذا نظرٌ لا أقول هذا.

فقالوا بينهم: إنّ هذا أشدّ تعصّباً للسّنّة منّا قد غلظنا عليه، ونجوت بهذا منهم، فهل عليّ - يا ابن رسول الله - في هذا حرجٌ؟ وإنّما أردت أخير النّاس؛ أي أهو خيرٌ؟ استفهاماً لا إخباراً.

فقال محمّد بن عليّ عليهما السلام: «قد شكّر الله لك بجوابك هذا لهم وكتب لك أجره وأثبته لك في الكتاب الحكيم، وأوجب لك بكلّ حرفٍ من حروف ألفاظك بجوابك هذا لهم ما تعجز عنه أمانيّ المتمنّين، ولا يبلغه آمال الآملين».

قال: وجاء رجلٌ إلى عليّ بن محمّد عليهما السلام فقال: يا ابن رسول الله! بليت اليوم بقومٍ من عوامّ البلد أخذوني وقالوا: أنت لا تقول بإمامة أبي بكر بن أبي قحافة؟ فخفتهم - يا ابن

٥٠

رسول الله! وأردت أن أقول: بلى، أقولها للتّقيّة.

فقال لي بعضهم ووضع يده على فيّ وقال: أنت لا تتكلّم إلّا بمخرقةٍ أجب عمّا أُلقّنك.

قلت: قل.

فقال لي: أتقول إنّ أبا بكر بن أبي قحافة هو الإمام بعد رسول الله إمام حق عدل ولم يكن لعليّ في الإمامة حقٌّ البتّة؟

فقلت: نعم، وأُريد نعماً من الأنعام الإبل والبقر والغنم.

فقال: لا أقنع بهذا حتّى تحلف قل: والله الّذي لا إله إلّا هو الطّالب الغالب المدرك المهلك يعلم من السّرّ ما يعلم من العلانية.

فقلت: نعم، وأُريد نعماً من الأنعام.

فقال: لا أقنع منك إلّا بأن تقول أبو بكر بن أبي قحافة هو الإمام، والله الّذي لا إله إلّا هو.. وساق اليمين.

فقلت: أبو بكر بن أبي قحافة إمامٌ - أي هو إمام من ائتمّ به واتّخذه إماماً - والله الّذي لا إله إلّا هو.. ومضيت في صفات الله فقنعوا بهذا منّي وجزوني خيراً، ونجوت منهم.. فكيف حالي عند الله؟

قال: «خير حالٍ، قد أوجب الله لك مرافقتنا في أعلى علّيّين لحسن يقينك».

قال أبو يعقوب وعليّ: حضرنا عند الحسن بن عليّ - أبي القائم عليهم السلام - فقال له بعض أصحابه: جاءني رجلٌ من إخواننا الشّيعة قد امتحن بجهّال العامّة يمتحنونه في الإمامة، أثخنوني ضرباً، فإذا قلت: نعم.

قالوا لي: قل والله.

قلت فإذا قلت لهم نعم..

٥١

تريد به نعماً من الأنعام الإبل والبقر والغنم، وقلت: فإذا قالوا: قل والله! فقل: والله..

أي وليّي تريد في أمر كذا فإنّهم لا يميّزون وقد سلمت.

فقال لي: فإن حقّقوا عليّ وقالوا: قل والله وبيّن الهاء؟ فقلت: قل: والله برفع الهاء فإنّه لا يكون يميناً إذا لم تخفض فذهب.

ثمّ رجع إليّ فقال: عرضوا عليّ وحلّفوني فقلت كما لقّتني.

فقال له الحسن عليه السلام: أنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «الدّالّ على الخير كفاعله، لقد كتب الله لصاحبك بتقيّة بعدد كلّ من استعمل التّقيّة من شيعتنا وموالينا ومحبّينا حسنةً وبعدد كلّ من ترك التّقيّة منهم حسنةً أدناها حسنةً لو قوبل بها ذنوب مائة سنةٍ لغفرت، ولك بإرشادك إيّاه مثل ما له» (1) .

34 - حديث الشيخ الصدوق عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال: «ليس من شيعة عليّ من لا يتّقي» (2) .

35 - قال فتى للامام الرضا عليه السلام:

سل لي ربّك التّقيّة الحسنة، والمعرفة بحقوق الإخوان، والعمل بما أعرف من ذلك.

فقال الإمام الرضا عليه السلام: «قد أعطاك الله ذلك؛ لقد سألت أفضل شعار الصّالحين ودثارهم» (3) .

36 - حديث الامام العسكري عليه السلام، عن آبائه الطاهرين عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال لليوناني الذي أراه المعجزات الباهرات بعد ما أسلم في جملة ما قال: «وآمرك أن

__________________

1. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 401، نقلاً عن التفسير المنسوب للامام العسكري عليه السلام: ص 145.

2. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 412، ح 61.

3. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 416، ح 68.

٥٢

تستعمل التقية في دينك...» (1) .

37 - حديث عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ قابيل أتى هبة الله عليه السلام فقال: إنّ أبي قد أعطاك العلم الذي كان عنده، وأنا كنت أكبر منك، وأحقّ به منك، ولكن قتلت ابنه فغضب عليّ، فآثرك بذلك العلم عليّ.

وإنّك والله إن ذكرت شيئاً ممّا عندك من العلم الّذي ورّثك أبوك لتتكبّر به عليّ ولتفتخر عليّ لأقتلنّك كما قتلت أخاك.. فاستخفي هبة الله بما عنده من العلم لتقتضي دولة قابيل.. ولذلك يسعنا في قومنا التّقيّة لأنّ لنا في ولد آدم أُسوةً» (2) .

38 - حديث أبي بصير عن الامام الصادق عليه السلام أنّه قال: «التّقيّة من دين الله».

قلت: من دين الله؟!

قال: «إي والله من دين الله. ولقد قال يوسف: أيّتها العير إنّكم لسارقون، والله ما كانوا سرقوا شيئاً. ولقد قال إبراهيم: إنّي سقيمٌ، والله ما كان سقيماً» (3) .

339 - حديث درست الواسطي، عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: «ما بلغت تقيّة أحدٍ تقيّة أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد، ويشدّون الزّنانير (4) فأعطاهم الله أجرهم مرّتين» (5) .

40 - حديث عبد الله بن سنان، عن الامام الصادق عليه السلام أنّه قال: «أمرني ربّي بمداراة النّاس كما أمرني بأداء الفرائض» (6) .

__________________

1. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 418، ح 73.

2. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 419، ح 74.

3. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 425، ح 83.

4. الزنانير: جمع زنّار وهو ما يشدّه النصارى على وسطهم.

5. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 429، ح 88.

6. بحار الأنوار: ج 75، ب 87، ص 440، ح 107.

٥٣

وعلى الجملة؛ فإن ملاحظة تظافر الأدلّة الروائيّة من الفريقين على مشروعية التقيّة في البين، بل لزومها عند حفظ النفس المحترمة وأهميتها في الشريعة المكرمة، من حي تأثيرها في حفظ الدين، وبقاء المتدينين، واستمرار الشرع المبين، ولأجل هذه الأهميّة ورد حديث أبي عمرو الأعجمي انه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يا أبا عمرو! إنّ تسعة أعشار الدّين في التّقيّة، ولا دين لمن لا تقيّة له» (1) .

قال العلّامة المجلسي في بيانه لهذا الحديث: كأنّ المعنى أن ثواب التقية في زماننا تسعة أضعاف سائر الأعمال (2) .

وبتعبير آخر: إنّ ثواب الأعمال المتدينين يُضاعف بعشرة أضعاف العمل، فان من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وثواب عمل التقية مضاعفٌ تسعة أعشار ذلك الثواب من جهة شدّة التقية وصعوبتها، ومضاضتها والصبر عليها، ومرارة تحملها.

وعليه؛ فليس المعنى أنّ التقيّة تسعة أعشار الدين حتى يستغرب من هذه ال نسبة ويقال بأنّه أين الصلاة والصوم والحج من الدين؟

بل المعنى أن ثواب عمل التقية تسعة أعشار ثواب الأعمال.

لذلك عبّر الامام عليه السلام بأن تسعة أعشار الدين في التقيّة ولم يقل: التقية تسعة أعشار الدين.

__________________

1. أُصول الكافي: ج 2، ص 217، ح 2.

2. بحار الأنوار: ج 75، ص 423.

٥٤

التقية في سيرة الصحابة

بعد سبر أدلّة التقيّة الواضحة وسنة يلزمنا ملاحظة جملة كلمات أعلام العامّة ومنقولاتهم من أن التقيّة بصورة شاملة كانت موجودة في سيرة الصحابة وتصريحاتهم المفيدة لذلك، ومن جملتها:

ما جاء في صحيح البخاري: من قوله: (باب المداراة مع الناس..) ويُذكر عن أبي الدرداء: - إنّا لنكشر (1) في وجوه أقوام، وإنّ قلوبنا لتلعنهم..! (2) .

ويستفاد خصوصاً بكلمة (إنّا) المفيدة للجمع، وكلمة (نكشر) بصيغة المضارع المفيدة للاستمرار: أنّ هذه التقية كانت لجميع الأصحاب ومستمرة فيهم، وأبو الدرداء ممّن يشار إليه بالبنان من بين الصحابة (3) .

2 - ما في صحيح البخاري أيضاً: بسنده عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم (4) .

وقال القسطلاني في شرح كلام أبي هريرة هذا ما نصّه: الوعاء الذي لم يبثثه: الأحاديث التي فيها أسامي أمراء السوء وأحوالهم، وزمنهم، ولم يصرّح بهم خوفاً على نفسه.

وهل هذا إلّا التقيّة من أبي هريرة الذي هو مقبول عند العامة (5) .

3 - ما في كنز العمال: عن بجالة، قال: قلت لعمران بن الحصين: حدّثني عن أبغض

__________________

1. الكشر: الابتسامة التي تظهر معها الأسنان.

2. صحيح البخاري: ج 7، كتاب الأدب، ص 133، ب 82.

3. لاحظ حاله في سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 335 - 353، برقم 68، واسد الغابة: ج 6، ص 97، والاستيعاب: ج 4، ص 1646.. وغيرها، وهو: عويمر بن زيد بن قيس، ويقال: عويمر بن عامر.. وقيل غير ذلك.

4. صحيح البخاري: ج 1، ص 48، كتاب العلم، باب حفظ العلم، ح 120.

5. إرشاد الساري: ج 1، ص 212.

٥٥

الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

قال: تكتم عليّ حتّى أموت؟!

قال: نعم.

قال: بنو أُميّة، وثقيف، وبنو حنيفة (1) .

4 - ما في كنز العمال أيضاً: عن نافع أنّ رجلاً سأل ابن عمر عن متعة النساء؟ فقال: هي حرام.

فقال له: ابن عباس يفتى بها، فقال ابن عمر: أفلا تزمزم - أي حرّك شفتيه - بها في زمن عمر، لو أخذ فيها أحدٌ لرجمه (2) .

5 - ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي: الحديث الذي يفيد تقيّة ابن عبّاس وابن مسعود، بل تقيّة ومجاملة عمر لأبي بكر حيث أنّ بيعته كانت فلتة وقا الله المسلمين شرّها كما اعترف به، ومع ذلك كان يعاشره بالتعظيم والاطاعة والمجاملة.

قال ابن أبي الحديد في نص حديثه: وروى الهيثم بن عدي - أيضا - عن مجالد بن سعيد، قال: غدوت يوما إلى الشعبي وإنّما أريد أن أسأله عن شيء بلغني عن ابن مسعود أنّه كان يقول.. فأتيته في مسجد حيّه - وفي المسجد قوم ينتظرونه - فخرج، فتقرّبت إليه، وقلت: أصلحك الله كان ابن مسعود يقول: ما كنت محدّثاً قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة؟

قال: نعم، قد كان ابن مسعود يقول ذلك. وكان ابن عباس يقوله - أيضا - وكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها، ويصرفها عن غيرهم..

فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر وعمر،

__________________

1. كنز العمال: ج 11، كتاب الفتى، ص 274، ح 31500.

2. كنز العمال: ج 16، ص 521، كتاب المتقدم، ح 45723.

٥٦

فضحك الشعبي وقال: لقد كان في صدر عمر ضبّ - أي حقد - على أبي بكر. فقال الأزدي: والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قطّ كان أسلس قيادا لرجل ولا أقول بالجميل فيه من عمر في أبي بكر.

فأقبل عليّ الشعبي فقال: هذا ممّا سألت عنه.

ثم أقبل على الرجل فقال: يا أخا الأزد! كيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرّها! أترى عدوّا يقول في عدوّ يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر؟!

فقال الرجل: سبحان الله يا أبا عمرو! وأنت تقول ذلك.

فقال الشعبي: أنا أقوله، قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد، فلمه أودع، فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم بشيء لم أفهمه (1) .

وهذه الكلمات تكشف بوضوح عن أنّ المداراة والمصانعة والتقية كانت سيرة الصحابة مع من ظاهره الاسلام وفي بلد المسلمين.

فهل بعد هذا تكون التقيّة محرماً، وبالرغم من وجودها في سيرة الصحابة المرضيّة عندهم وكالنجوم لديهم؟!

__________________

1. شرح النهج: ج 2، ص 29.

٥٧

التقيّة في أقوال وأفعال علماء المذاهب

علماء العامّة ومشايخهم قائلون بالتقيّة وعاملون بها، حتّى أصحاب المذاهب الأربعة الذين هم الأعلامهم في الأحكام، وقدوتهم في المرام، ومن ذلك ما نستعرضه خلال عرض مجمل عن حالات بعض رؤوسهم أو رؤساءهم:

تقيّة أبي حنيفة

قال الزمخشري: كان أبو حنيفة يُفتي سرّاً بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المسمّى بـ: الامام والخليفة الدوانيقي.. وأشباهه (1) .

قال الخطيب البغدادي: عن سفيان بن وكيع قال: جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا فقال: سمعت أبي - حماد - يقول: بعث ابن أبي ليلى إلى - والدي - أبي حنيفة فسأله عن القرآن؟

فقال: مخلوق.

فقال ابن أبي ليلى: تتوب، وإلّا أقدمت عليك.

قال: فتابعه، فقال: القرآن كلام الله.

قال: فدار به الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله القرآن مخلوق.

__________________

1. تفسير الكشّاف: ج 1، ص 184.

٥٨

فقال أبي - حمّاد - فقلت لأبي حنيفة: كيف إلى هذا وتابعته؟

قال: يا بُنيّ! خفت أن يقدّم علييّ، فأعطيته التقيّة (1) .

وهذا تصريح من أبي حنيفة بعمله بالتقية.

تقيّة مالك بن أنس

إنّ مالك بن أنس كان يأتي المسجد، ويشهد الصلاة والجمعة والجنازة، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ثمّ ترك ذلك كلّه، وكان ربّما قيل له في ذلك؟

فيقول: ليس كلّ الناس يقدر أن يتكلّم بعذره (2) .

وهذا يفيد كتمان عذره تقية.

وقال الذهبي: إنّ مالك بن أنس لم يكن يروي عن جعفر بن محمد حتّى ظهر أمر بني العبّاس (3) .

وهذا يفيد انّه إمّا كان يتقى من بني أُميّة فيترك الحديث عن الامام الصادق عليه السلام، أو كان يتقى من بني العبّاس فيروي عن الامام الصادق عليه السلام لأنّه كبير بني هاشم الذين منهم بنو العباس.

تقيّة الشافعي

ذكر أبو نعيم: إنّ الشافعي كان من أصحاب عبد الله بن الحسن (4) وقائلاً بامامته

__________________

1. تاريخ بغداد: ج 13، ص 379.

2. وفيات الأعيان: ج 4، ص 136.

3. ميزان الاعتدال: ج 1، ص 414.

4. وهو عبد الله بن الحسن المحض الذي تلاحظ حاله في السفينة: ج 6، ص 54.

٥٩

ومنشداً الشعر في أهل البيت عليهم السلام، وأنّه أسر لذلك وقُدّم الى الرشيد.

فلمّا جاءه سلّم عليه بإمرة المؤمنين تقيةً، ودرأ عن نفسه القتل (1) .

تقيّة أحمد بن حنبل

كتب السيوطي يقول: في محنة الناس زمن المأمون العباسي بقدم القرآن الكريم، أخاف أحمد بن حنبل وآخرين من العلماء، فأجابوه إلى ذلك تقية قال:

كتب المأمون إليه - نائبه - أيضاً في أشخاص سبعة أنفس، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستحلى يزيد بن هارون، واسماعيل ابن داود، واسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، فأشخصوا إليه، فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه، فردّهم من الرقة إلى بغداد.

وسبب طلبهم أنّهم توقفوا أوّلاً، ثمّ أجابوه تقية...

ثمّ قال لأحمد بن حنبل: ما تقول؟

قال: كلام الله.

قال: أمخلوق هو؟

قال: هو كلام الله لا أزيد على هذا (2) .

__________________

ومن شعر الشافعي في أهل البيت عليهم السلام:

يا راكباً قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

إن كان رفضاً حبُّ آل محمّد

فليشهد الثقلان أني رافضي (أ)

(أ) - بحار الأنوار: ج 23، ص 234، الباب 13 والصراط المستقيم: ج 1، ص 190، الفصل الحادي عشر.

1. حلية الأولياء: ج 9، ص 84.

2. تاريخ الخلفاء: ص 309، الطبعة الثالثة.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86