نهج البلاغة

نهج البلاغة0%

نهج البلاغة مؤلف:
المحقق: الدكتور صبحي الصالح
الناشر: دار الكتاب اللبناني
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 854

نهج البلاغة

مؤلف: أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي البغدادي (الشريف الرضي)
المحقق: الدكتور صبحي الصالح
الناشر: دار الكتاب اللبناني
تصنيف:

الصفحات: 854
المشاهدات: 38463
تحميل: 4267

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 854 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38463 / تحميل: 4267
الحجم الحجم الحجم
نهج البلاغة

نهج البلاغة

مؤلف:
الناشر: دار الكتاب اللبناني
العربية

ولقد رأيت من المناسب أن أبدأ تلك الفهارس العشرين بفهرس الألفاظ الغريبة المشروحة متبعا تعاقب أرقامها في هذه المطبوعة، ولقد نافت هذه الألفاظ على خمسة آلاف، وها هوذا آخر لفظ فيها يحمل الرقم 5031، وها هي ذي بمجموعتها تشبه معجما صغيرا يفي بشرح طائفة غير يسيرة من الكلمات الحية الجارية على ألسنة الفصحاء.

واقتصرت في هذا الفهرس الأول على الحد الضروري من الإيضاح والتبيان، وبتأخيري إياه حتى انتهى تحقيق النص أعنت كلا من الطالب والدارس على أن يحاول من تلقاء نفسه أن يفهم معنى كل عبارة من السياق الذي وردت فيه. وإنما يرجع إلى هذا الفهرس حين يضل الطريق أو يخطئ الاستنتاج، وإذا بشر حنا الموجز ينفذه من حيرته، ويصحح له ما عسى أن يقع فيه من الأغاليط.

ومن يقارن بين شرحنا لمعاني الألفاظ الغريبة وشرح الشيخ محمد عبده يخيل إليه أن قدرا كبيرا منها متماثل أو متشابه إلى حد بعيد. والسر في هذا أن كلا منا عول على شرح ابن أبي الحديد في مواضع كثيرة، وكان لزاما علينا أن نعول عليه لأنه أفضل الشروح. فحيثما تجد تشابها في عبارتينا فإنما مرده إلى اقتباسنا كلينا ما لم يكن بد من استحسانه من أقوال ابن أبي الحديد، وحيثما تقع على تباين في الشرح، أو إسهاب هنا وإيجاز هناك، فمرده ما استقل كل منا بفهمه وتحديده، أو إطلاقه وتقييده. مما عاد إليه أحدنا بنفسه ينقب عنه في بطون المعجمات، ويلتمس الشواهد عليه من لسان العرب.

ولا يسعني هنا أن أكتم حقيقة بنت منها على يقين، سبقني إلى التنبيه عليها منذ أكثر من خمسين عاما محيي الدين الخياط يوم طبع في بيروت «نهج البلاغة» ومعه شرح الأستاذ الإمام، وزيادات اقتبسها الخياط من شرح ابن أبي الحديد، لقد لا حظ هذا الناس الفاضل أن بعض تفسير الشيخ عبده «يكاد يكون منقولا بحرفيته عن شرح ابن أبي الحديد مع أن الشارح قال في مقدمته - وهو صادق فيما يقول - إن لم يتيسر له رؤية شرح من شروح نهج البلاغة، على أن من يتصفح بقية الشرح ويتصفح شرح ابن أبي الحديد يتراءى له أن أحدهما منقولعن الآخر.

وما عزاه الخياط إلى محمد عبده من حرفية في نقل عبارات ابن أبي الحديد أمر صحيح لا

٢١

ترقى إليه الريبة، وذلك في الوقت نفسه لا ينفي أن الأستاذ الإمام لم ير أي شرح من شروح «النهج» يوم طبع الكتاب أول مرة في المطبعة الأديبة في بيروت. ولو أن محيي الدين الخياط رأي تلك الطبعة البيروتية الأولى لما لاحظ من التشابه بين الشرحين إلا ما وقع مصادقة واتفاقا، فمن المؤكد إذا أن الخياط إنما اطلع على الطبعة المصرية التي اشتملت على زيادات مقتطفة من شرح ابن أبي الحديد، وكان قد تيسر حينذاك للإمام محمد عبده أن يرى هذا الشرح بعد عودته إلى مصر. وليت الإمام في مقدمته للطبعة المصرية أشار إلى هذا، ولو فعل لأزال من صدور الباحثين كل ريبة، ولكنه رحمه‌الله بصمته التام في هذا الصدد تركنا نتساءل ونحاول التوضيح والتعليل.

على أني واثق بأن الشيخ عبده لم يقرأ شرح ابن أبي الحديد من أوله إلى آخره قراءة دقيقة واعية، وإنما رجع منه إلى ما لم يكن مطمئنا إلى تفسيره في الطبعة البيروتية اطمئنانا كاملا، وبهذا نعلل مغايرة شرح لشرح ابن أبي الحديد في طائفة من الكلمات. ولقد يستطرد ابن أبي الحديد لدى تفسير كلمة أو عبارة، فيستغرق باستطراده صفحات يؤيد بها وجهة نظره بالشواهد والنصوص، وإذا هي عند محمد عبده تناقض ما يقول من غير إنما إلى مواطن الاختلاف، مع أن الأستاذ الإمام يعني نفسه في مواضع أخر يذكر عدد من الوجوه، ويحاول - ولو بإيجاز شديد - أن يقارن بين صور الاختلاف في قراءة اللفظ أو تبيان المدلول.وذلك يعني في نظرنا أن محمد عبده اطلع على الشرح اطلاعا غير كاف، وربما قرأ بعضه بإمعان حيثما آنس الحاجة، فأما سائر الشرح فقد تصفحه تصفحا، بل لا أستبعد أن يكون مر ببعضه مرورا عابرا غير مجشّمٍ نفسه حتى عناء تصفحه.

ومن الغريب أن علامة كالشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد لما طبع «نهج البلاغة» في مطبعة الاستقامة، ومعه شرح الأستاذ الإمام، لم يجرؤ على تصحيح شيء من تصحيفاته وبعض ما وقع فيه من الأوهام، رغم ما ذكره في مقدمته من زيادته أشياء ذات بال، فبدا لنا هذا اللغوي المعروف معولا كل التعويل على شرح الإمام، غير مكلف نفسه أن يستوثق من أفصح القراءات، وأفضل التأويلات. وعلى ذلك مضى الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل في طبعة دار الأندلس بيروت، حتى لكأنه صور شرح الأستاذ الإمام تصويرا.

واقتصارنا في فهرس الألفاظ المشروحة على الحد الضروري من الإيضاح لم يأذن لنا بالتعقيب

٢٢

على تلك الهنات والأغاليط فيما أسس على شرح الإمام من طبعات، وإنما اكتفينا بذكر ما بدا لنا أصح الوجوه بعد مراجعتنا أوثق المصادر، ولا مناص لنا هنا من سرد بعض هاتيك الأوهام على سبيل المثال.

يقول على عليه‌السلام : «وأنا من رسول الله كالضوء من الضوء» مشبها نفسه - كما يوضح ابن أبي الحديد - بالضوء الثاني، ومشبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالضوء الأول ومنبع الأصواء عز وجل بالشمس التي توجب الضوء الأول، فتصبح العبارة بعد التصحيف «كالصنو من الصنو» ويمسي معناها: الصنوان النخلتان يجمعهما أصل واحد، فإنما علي من جرثومة الرسول» (1) . ولو أن محمد عبده قرأ شرح ابن أبي الحديد لهذه العبارة لأخذ به إن اقتنع، أو لأشار إليه إن لم يقتنع، لكنه لم يشر إليه قط، ولعل لم يقع عليه.

ويقول على كرم الله وجهه في صفة قوم: «فتألّوا على الله» والمراد أنهم حلفوا، من الألية وهي اليمين، وإذا العبارة عند الأستاذ الإمام «فتأولوا على الله» غير واضحة المعنى ولا بينة المدلول (2) . والمرأة عقرب حلوة اللسبة (أي اللسعة) باتت حلوة اللبسة (أي حالة من حالات اللبس) (3) ، والرجل لم تظهر منه حوية (وهي الإثم) صار «لم تظهر منه خزية» تصحيفا (4) ، والرجل لا يؤمن على جباية (أي تحصيل أموال الخراج وغيرها) بات بعد التصحيف «لا يؤمن على خيانة» (5) مع أنه في الحاشية يقرر أن رواية «الجباية» أظهر معنى!

بهذه الملاحظة الأخيرة نشير إلى إثبات الشيخ عبده في المتن ما يستحسن في الحاشية سواه نصا وشرحا: ومن ذلك أن يثبت في المتن: «وبنا انفجرتم عن السرار» ويشرحها في الحاشية ثم يقول: «ويروى أفجرتم، بدل انفجرتم» وهو أفصح وأوضح، لأن «انفعل» لا يأتي لغير المطاوعة إلا نادرا، أما أفعل فيأتي لصيرورة الشيء إلى حال لم يكن عليها... الخ» وما أدري لماذا أهمل الأفصح والأوضح، وأثبت في المتن ما كان في نظره غير فصيح! (6)

______________________

(1) طبعة عبد الحميد 3 - 81 وطبعة سيد الأهل ص 508 س 1.

(2) طبعة عبد الحميد 3 - 87 س 7 وهي في طبعة سيد الأهل ص 513 س 1.

(3) طبعة عبد الحميد 3 - 164 س 1. وهي في طبعة سيد الأهل ص 576 س 3.

(4) طبعة عبد الحميد 3 - 177 س 9. وهي في طبعة سيد الأهل ص 586 س 11.

(5) طبعة عبد الحميد 3 - وهي في طبعة سيد الأهل ص 560 س 1.

(6) طبعة عبد الحميد 3 - 33 س 8. وهي في طبعة سيد الأهل ص 45 س 14.

٢٣

ومن ذلك أيضا أنه ذكر في المتن «يذري الروايات إذراء الريح الهشيم»، ويشرحها في الحاشية ثم يقول: «ويروى: يذرو الروايات كما تذرو الريح الهيثم، وهي أفصح،» قال الله تعالى: «فأصبح هشيما تذروه الرياح» (1) ونحن نتساءل مرة أخرى: ما الحكمة في إغفاله ما يعرفه فصيحا بل أفصح الفصيح؟

وأدهى من ذلك وأمر أن الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل - في طبعة المبنية على شرح الأستاذ الإمام - يبلغ به التساهل مبلغا لا يحسد عليه، فهو يختار في المتن عبارة ويشرح غيرها في الحاشية، فما يدري أحد بأي مقياس ثم له الاختيار: ها هو ذا يثبت في المتين «وضرب على قلبه بالإسهاب» ويعلق في الحاشية بقوله (2) : «الأسداد جمع سد، يريد الحجب التي تحول دون بصيرته والرشاد، قال الله تعالى «وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون» ثم يقول: ويروى «الإسهاب» وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام!!!

ويطول بنا الحديث لو ذهبنا نتقصى ما وهم فيه سيد الأهل في طبعته، سواء أكان سببه محاكاته غالبا وجده في شرح الإمام محمد عبده، أم تصحيفا لم ينتبه إليه، أم غلطا وقع فيه.

إنه ليثبت ويشرح «النباتات البدوية» (3)، وإنما هي (النابتات العذية) أي التي تنبت عذيا، والعذي - بسكون الذال - الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر. ويجعل «منافثة» الحكماء - بالثاء - «مناقشة» بينهم، بالشين (4) ، ويصير «الخنوع» بالنون «الخشوع» (5) بالشين، وينسى التعبير القرآني «يلبسون الحق بالباطل» أي يخلطون أحدهما بالآخر، ليضع مكانه «يلتسمون» (6) ، وبيني للمجهول «نسلت القرون» (7) والفصيح ف؟؟ «نسلت» بالبناء للمعلوم، ويشدد اللام في «يثل» من قول الإمام «ولا يثل من عاداه» (8)

______________________

(1) انظر طبعة سيد الأهل ص 61 س وقارن بطبعة عبد الحميد 1 - 49 س 4.

(2) انظر سيد الأهل ص 75 س 11 والحاشية 5.

(3) طبعة سيد الأهل ص 507 س 12 وقارنه بطبعة عبد الحميد 2 - 81 س 8.

(4) طبعة سيد الأهل ص 522 س 9. وقارنه بطبعة عبد الحميد 2 - 99 س 7.

(5) طبعة سيد الأهل ص 30 س 2 وقارن بطبعة عبد الحميد 1 - 15 س 5.

(6) طبعة سيد الأهل 491 س 8. وقارنه بطبعة عبد الحميد 2 - 65 س 6.

(7) طبعة سيد الأهل 22 س 6 وقارنه بطبعة عبد الحميد 1 - 18 س 5.

(8) طبعة سيد الأهل 35 س 12. والغريب هنا أن طبعة عبد الحميد 1 - 22 س 3 من غير تشديد.

٢٤

وصوابها من غير تشديد من «وأل يئل»: أي نجا ينجو.

وأغرب من هذا كله تشديده الياء مرتين، بصورة تلفت النظر، إذ أثبت قول الإمام هكذا: «أمن سني الدنيا أم من سني الآخرة» (1) وحاشا للإمام أن يجمع السنة في حال الجر بياء مشددة، وليس هذا من التطبيع (2) في شيء، لأنه - كما قلت - تكرر مرتين!

وما أردت بتعليقاتي هذه نقدا ولا تجريحا، ولكني وددت - من خلالها - أن يميط القراء اللثام عن سر اهتمامي الشديد بالفهرس الأول الذي شرحت فيه ألفاظ «النهج» الغريبة، مستوثقا من أدق المتون والشروح.

أما الفهرس الثاني فعقدته للموضوعات العامة مرتبة على حروف المعجم، وهو من أهم الفهارس التي وضعتها لخدمة أغراض " النهج، وقد كان وحده كافيا لإبراز الفكر العميقة التي بثها الإمام كرم الله وجهه في خطبه ورسائله ووصاياه، لكني أردت مزيد التفصيل والتجزئة والتحليل حين أتبعته بالفهارس التي سأتحدث عنها بعد قليل.

ومما يجدر ذكره أن مثل هذا الفهرس العام لم يطبع - فيما نعلم - مع «النهج» ولا مع شرحه، لا في مصر ولا الشام ولا إيران ولا سواها من البلدان، مع أن أحدا من الباحثين لا يجهل أهميته للأدباء والمتأدبين. ونود منذ الآن أن نفرق بينه وبين الكتاب الذي وضعه السيد جواد المصطفوي الخراساني وطبعه في إيان، وسماه «الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه». ذلك بأن هذا «الكاشف» - كما تنبىء تسميته، وكما أراده مؤلفه - إنما يرشد القارئ إلى أي لفظ أراد من «النهج» في أي متن أو شرح، وذاك عمل لفظي شكلي كما ترى، وإنما كان الذي توخيناه في فهرسنا الثاني هذا عملا علميا يتعلق بجوهر «النهج» في طائفة لا يستهان بها من الألفاظ الدوال على معان مهمة مشفوعة بأبرز استعمالاتها في تعبير الإمام عليه‌السلام ، كأقواله في المرأة، أو نظراته في الحرب والسلم، أو آرائه في العقيدة، أو وصاياه في الزهد، أو تعاليمه في الأخلاق، فما يطوف ببالك شيء من هذا كله إلا وجدته مرتبا على حروف المعجم من خلال الكلمات التي تبحث عنها وتريد ان تستجمع فيها أغراض علي الأدبية.

________________________

(1) طبعة سيد الأهل 358 س 5.

(2) من التطبيع مثلا أن عبارات سقطت، وسبحان الذي لا يضل ولا ينسى، كسقوط عبارة «لا بمقارنة وغير كل شيء» ص 25 س 2، وسقوط عبارة «والزعزع القاصفة» ص 26 س 4.

٢٥

ولئن أشبه «الكاشف» الذي وضعه الخراساني «المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي» الذي أشرف عليه المستشرق فنسك - إذا كل منهما عمل لفظي بحث - فإن فهرسنا هذا للموضوعات يشبه - والقياس مع الفارق طبعا - «تفصيل آيات القرآن» الذي وضعه المستشرق جول لابوم ونقله من الفرنسية محمد فواد عبد الباقي. وعملنا هذا - وإن تعلق بنهج البلاغة لا بكتاب الله - سوف يبدو للباحثين أكثر موضوعية، وأيسر استعمالا، وسوف يتيح للباحثين أن يجدوا في «النهج» ما يصبون إليه براحة واطمئنان، ولا سيما إذا ضمت إليه الفهارس الباقية التي تفصل ما أطلق، وتخصص ما عم، وتجعل الانتفاع بالكتاب أمرا شائعا على جميع المستويات.

وفي الفهرس التاليين بعد ذلك سوف يزداد القارئ أو الناقد أو الباحث شعورا بالراحة والاطمئنان، فأحدهما - وهو الفهرس الثالث - يتعلق بخطب الإمام، والآخر - الرابع - يتعلق برسائله وكتبه، وبدلا من أن نكتفي بذكر الصفحات التي استهلت بها كل خطبة أو رسالة، رتبناها جميعا بحسب الموضوعات والأغراض. فمن خطب في التعليم والإرشاد، إلى أخرى في النقد والتعريض، أو في العتاب والتقريع، أو ي الشكوى، أو في الحث على القتال، أو الوصف، أو بدء الخلق، أو التزهيد في الدنيا. وقد اصطلحنا حينئذ على أن نذكر رقم الخطبة ورقم الصفحة التي استهلت وختمت بها مع بيان أول عبارة وآخر عبارة فيها. وكذلك فعلنا في الرسائل، فمن رسائل في التعليم والإرشاد، إلى أخرى في النقد، أو في الحرب، أو السياسة، أو القضاء، وسواها من الموضوعات. وإذا ذكرنا أن معظم «النهج» خطب ورسائل، ومعها الأجوبة المسكتة بعد ذاك، وهي قليلة، أدركنا أهمية الفهرس المعقود للخطب وأنواعها، ثم للرسائل وأنواعها، وأحلنا دارس الخطابة أو نثر الرسائل في صدر الإسلام على نهج واضح مستقيم.

وفي خطب علي خاصة فريدة لا تكاد تفارقها، وهي كثرة اقتباسه من القرآن المجيد والحديث الشريف. لذلك خصصنا الفهرس الخامس للآيات القرآنية، والسادس للأحاديث النبوية، لإبراز الثقافة الإسلامية التي كان الإمام عليه‌السلام يمثلها خير التمثيل، فقد رأى نور الوحي، وربي في بيت النبوة، ووعت ذاكرته القوية كثيرا من ألفاظ القرآن والسنة، حتى انطبع أسلوبه بطابع عجيب يعلو على أساليب البلغاء من البشر في القديم والحديث.

٢٦

ومن المعروف أن الاقتباس من كتاب الله وحديث نبيه جائز، حتى ولو اقتطع المقتبس موضع الشاهد المناسب من أواخر الآية أو أواسطها، أو اختار عبارات من الحديث أو ألفاظا.وقد كان من دلائل جواز الاقتباس عند بعض البلاغيين أن الإمام عليه‌السلام أكثر منه في كلامه، وهو حجة، فلا مسوغ للتساؤل عن اقتطافه كرم الله وجهه ألفاظا وتركه ألفاظا أخر، ما دام غير قاصد إلى النقل الحرفي، وإنما كان قاصدا إلى طبع أسلوبه بطابع إسلامي صريح. ولذلك جعلنا هذه المقتطفات القرآنية والنبوية بين مزدوجين هكذا»...)، ورددنا الآيات إلى وجهها في التلاوة في فهرسها الخاص. ولا حظنا - بصورة مؤكدة - أن بعض أحاديث الرسول عزيت إلى على، ولا بد من التحقيق قبل الحكم في هذه القضية بسلب أو إيجاب.

ولما صنعنا الفهرس السابع للعقائد الدينية، والفهرس الثامن للأحكام الشرعية، لم نعجب لقلة الأحكام إذا ما قيست بالعقائد، لأن كتابا كالنهج يجمعه الشريف الرضي من أقوال الإمام عليه‌السلام يفترض فيه أن يكثر مضمونه في مسائل العقيدة، وألا يتطرق من مسائل الفقه والتشريع إلا لما جاء عرضا أو كانت صلته بالعقيدة أوثق منها بالأحكام.

ولعلنا - في ضوء هذه الفكرة - نقف على السر فيما انبث أثناء خطب الإمام في «الإلهيات» من عبارات شبيهة بالفلسفية والكلامية، كالأين والكيف، والحد المحدود، وصفات الله النفسية بوجه خاص، وهي التي عقدنا لها الفهرس التاسع نجمع فيه بين يدي الدارس ما يحلل به العوامل والأسباب التي أتاحت لمثل علي في صدر الإسلام أن يطلق بعض هذه الألفاظ الاصطلاحية، سابقا بها نظرات المتكلمين.

ولسنا نريد بهذا أن نومىء إلى «وضع» الخطب المشتملة على هذه الألفاظ برمتها، ولا إلى الحكم العاجل «بصحتها» من غير تحقيق، فمثل هذه الدراسة تحوج إلى كتاب خاص يتناول جميع ما أورده النقاد من شبهات تشكك في نسبة هذه الخطب - كلا أو بعضا - إلى الإمام عليه‌السلام . وهو عمل كنت تجشمت القيام بكثير منه منذ اخترت لطلابي في كلية الآداب تدريس «نهج البلاغة» على أنه نموذج للنثر الفني في صدر الإسلام. ولا أستطيع الآن أن أصرح - لأني منذ سنوات لا أزال منكبا على هذا الموضوع - إلا بأن معظم خطب

٢٧

النهج ورسائله في عدد من أمهات الكتب التاريخية، نذكر الآن في طليعتها تاريخ ابن جرير الطبري. ولنا رجعة إلى درس هذه القضية في كتاب خاص نستخرج به إن شاء الله مصادر الشريف الرضي فيما جمعه من كلام الإمام.

وقد رأينا من المفيد أن نعقد الفهرس العاشر للتعاليم والوصايا الاجتماعية، والحادي عشر للأدعية والابتهالات، والثاني عشر للأبيات الشعرية، نسجلها كما وردت متعاقبا في مطبوعتنا هذه، إبرازا لأهميتها، وتيسيرا على الباحث الذي يعنيه أن يتقصاها.

أما الفهارس المتتابعة بعد ذلك ابتداء من الفهرس الثالث عشر حتى التاسع عشر فقد آثرنا - تعميما للفائدة - ترتيبها على حروف المعجم، ووجدنا أن ذكرها لا يخلو من جدوى ولو كان معظمها نزرا يسيرا. وقد خصصنا الفهرس الثالث عشر للأعلام من الرجال والنساء والقبائل والطوائف والشعوب، والرابع عشر للحيوان، والخامس عشر للنبات، والسادس عشر للكواكب والأفلاك، والثامن عشر للأماكن والبلدان، والتاسع عشر للوقائع التاريخية.وهكذا بدا للقارئ أو الباحث أنه - من غير أن يتكلف التعمق في تقصي الشروح - يوشك أن يجد مبتغاه كله في هذه الفهارس التي لم تغادر شيئا إلا بينه أحسن التبيان.

وكان طبيعيا أن تكون خاتمة هذه الفهارس جميعا الفهرس العشرين الذي فصلت فيه مواد الكتاب تفصيلا على ترتيب صفحاتها في هذه الطبعة، ليكون كل شيء بين يدي القراء واضحا كل الوضوح.

كلمة شكر

والآن - وقد أذن الله لهذه الطبعة الجديدة أن تبصر النور بهذه الحلة القشيبة، وهذا الإخراج الفني الجميل - لا يسعني إلا أن أشكر القائمين على مطبعة دار الكتاب اللبناني من موظفين ومستخدمين وعمال، كفاء ما بذلوه من عناية بطبع «النهج» حتى كاد يخلو من التطبيع، ولله المنة والفضل.

ولقد أعانني في التصحيح صديق أعتز به وأفاخر بأخوته، هو الأستاذ يوسف أبو حلقة الذي قرأ الكتاب كله كلمة كلمة. فله أجزل شكري وأوفر امتناني.

٢٨

نداء لأمة الإسلام

إن حبي للإمام علي عليه‌السلام ، ولآل البيت الطيبين الطاهرين، ولكل مجاهد مخلص يرفع راية الإسلام، ليد عوني اليوم - وقد من الله علي بخدمة «النهج» ابتغاء وجهه الكريم - لمناشدة المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها إلى الانضواء تحت لواء التوحيد، فلقد تعاقب على مصرع إمام الهدى ومصرع ابنه شهيد كربلاء أكثر من ثلاثة عشر قرنا انفصمت خلالها بين المسلمين عرى الوحدة، وكثرت الفرق، وتشعبت الآراء، وإن على المؤرخ المنصف اليوم - بأي مذهب أخذ، وإلى أي فرقة انتمى - أن يكشف الحقائق لا انتصارا لفريق على فريق، بل دعوة خيرة إلى تناسي تلك المآسي الداميات.

ألا وإن الوحدة بين جميع المسلمين - في ظل دين التوحيد - كانت في أشد الفتن اضطراما وفي أشد الظروف سوادا وقتاماً، أصلا جامعا كبيرا بين أفراد الأمة كلها، فها هو ذا القرآن يسرد طائفة من قصص الرسل في سورة الأنبياء ثم يخاطب أمة الإسلام قائلا: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون»، ثم يوضح في سورة المؤمنين أنه قد خاطب جميع الأنبياء بهذه الوحدة الجامعة للأمة: «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون».

إن الانقسام المذهبي بين المسلمين قد ارتدى - في نظرنا - لبوس نزاع سياسي قديم يعده اليوم عقلاء السنة والشيعة عندنا «متحفيّاً» إلى أبعد الحدود.

ولقد انقشعت السحب الحفاف العوابر - في السنين الأخيرة - بين أبناء هذه العقيدة السمحة الواحدة، بما اتخذه المسؤولون الكبار في مختلف البلدان الإسلامية من خطوات إيجابية نحو التقارب والتوحيد. فها هوذا الأزهر الشريف يدرس في معاهده وكلياته العظمى الفقه الجعفري، وعقائد الشيعة الإمامية، جنبا إلى جنب مع مذاهب الإسلام المختلفة في العقيدة والشريعة، مؤكدا للمسلمين جميعا إن الإسلام فوق الفرق والشيع والمذاهب كلها، وأن معالم العقيدة الدينية مبرأة من التعقيد، وأن طبيعتها تقتضي إيجاد الحلول العملية الإيجابية التي تحرك الوجدان، وتستجيش الضمير، وتدفع بالطاقات البشرية إلى البناء والتعمير، على هدي

٢٩

من الفكر النير والمنطق السليم: فلا مكان في هذه التشريعات والعقائد للثرثرة الفارغة والجدل العقيم!

إن على علماء المسلمين اليوم - من أي مذهب كانوا - أن يستذكروا الكلمات الحلوة العذاب، التي توحد الصف، وتلم الشعث، وترأب الصدع، حتى نعتصم جميعا بحبل الله غير متفرقين.

وأود أن يعلم إخواننا من شيعة علي عليه‌السلام أن مكان الإمام من ابن عمه الرسول الكريم لا يجهلها مسلم، وأن الأحاديث النبوية التي تصف منزلته الخصيصة لا يحصيها المحصون. ولكن الناس أعداء ما جهلوا كما قال علي كرم الله وجهه.

أن مما أفضى به الإمام إلى عشيرته قوله: «أما وصيتي: فالله لا تشركوا به شيئا، ومحمدا فلا تضيعوا سنته. أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين».

ولما حاول القوم إطفاء نور الله من مصباحه، وسد فواره من ينبوعه، وجدحوا بين علي وبينهم شربا وبيئا، أقبل الظالم منهم مزيدا كالتيار لا يبالي ما غرق، وأو كوقع النار في الهشيم لا يحفل ما حرق، ولما رأي أول القوم قائدا لآخرهم، وآخرهم مقتديا بأولهم، يتنافسون في دينا دنية، ويتكالبون على جيفة نتنة، نبه الأتباع والمتبوعين وهتف بهم: «عما قليل ليستبرَّ أن التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون بالبغضاء ويتلاعنون عند اللقاء» بينما هتف بأصحابه يدعوهم إلى وحدة الكملة: «الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة، واقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين».

بل أنشأ الإمام عليه‌السلام يصنف الناس في موقفهم منه أصنافا، تهدئة للمشاعر الثائرة، وكبحا لجماح النفوس: إنه هو الذي قال: «إن الناس من هذه الأمر إذا حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا ذاك، فاصبروا حتى يهدأ الناس، وتقع القلوب مواقعها».

وحتى يوم صفين لم يكن يشغل باله ويقلق خاطره إلا تفرق الأمة وضياع الدين، ففي خطابه لأصحابه يومذاك قال: «ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم».

٣٠

وكان يخشى على أصحابه - إن أفرطوا في حبه - أن يضيعوا دينهم، وعلى أعدائه - إن أفرطوا في بعضه - أن يخسروا كل شيء: «هلك في رجلان: محب غال، ومبغض قال».

وفي خطابه للخوارج - لما أقام عليهم الحجة - أوضح هذا الكلام الموجز بعبارة مفصلة بليغة حين قال: «سيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالا النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة! فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب، ألا من دعا إلى مثل هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه».

وبعد: فيا دعاة الوحدة بين جميع المسلمين:

«لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله، فمن سلك الطريق الواضح ورد الماء ومن خالف وقع في التيه!»

بيروت، في ذكرى عاشوراء سنة 1387 ه.

صبحي الصالح

٣١

٣٢

مقدمة السيد الشريف الرضي

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه، ومعاذا (1) من بلائه ووسيلا إلى جنانه (2) ، وسببا لزيادة إحسانه، والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وإمام الأئمة وسراج الأمة، المنتخب من طينة الكرم، وسلالة المجد الأقدم (3) ومغرس الفخار المعرق (4) ، وفرع العلاء المثمر المورق، وعلى أهل بيته مصابيح الظلم وعصم الأمم (5) ، ومنار (6) الدين الواضحة ومثاقيل (7) الفضل الراجحة، صلى الله عليهم أجمعين، صلاة تكون إزاء لفضلهم (8) ومكافأة لعملهم، وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم، ما أنار فجر ساطع وخوى نجم طالع (9) فإني كنت في عنفوان السن (10) وغضاضة الغصن (11) ، ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليه‌السلام ، يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم، حداني (12) عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام، وفرغت من الخصائص، التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام ، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان (13) .

_________________________

(1) المعاذ: الملجأ.

(2) وسيلا: جمع وسيلة: وهي ما يتقرب به.

(3) طينة الكرم: أصله، وسلالة المجد: فرعه.

(4) الفخار المعرق: الطيب العرق والمنبت.

(5) العصم جمع عصمة، وهو ما يعتصم به.

(6) المنار: الأعلام واحدها منارة.

(7) المثاقيل جمع مثقال وهو مقدار وزن الشيء، فمثاقيل زنانة، والمراد أن الفضل يعرف بهم مقداره.

(8) إزاء لفضلهم: أي مقابلة له.

(9) خوى النجم بالتخفيف: سقط، وبالتشديد: إذا مال للمغيب، وخوت النجوم: أمحلت فلم تمطر، كأخوت وخوت بالتشديد.

(10) عنفوان السن: أولها.

(11) غضاضة الغصن: طراوته ولينه.

(12) حداني عليه: بعثني وحملني، وهو مأخوذ من حداء الإبل.

(13) محاجزات الزمان: ممانعاته. ومماطلات الأيام: مدافعاتها.

٣٣

وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا وفصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه‌السلام ، من الكلام القصير، في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء، ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره، معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه (1) ، وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتاب، يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في جميع فنونه ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وأدب، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة وجواهر العربية، وثواقب (2) الكلم الدينية والدنيوية، ما لا يوجد مجتمعا في كلام ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين عليه‌السلام مشرع الفصاحة وموردها (3)، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه‌السلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب (4) ، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا وتقدم وتأخروا، لأن كلامه عليه‌السلام الكلام، الذي عليه مسحة (5) من العلم الإلهي، وفيه عبقة (6) من الكلام النبوي فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالما بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذكر ومذخور الأجر، واعتمدت به (7) أن أبين عن عظيم قدر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدثرة (8) والفضائل الجمة، وأنه عليه‌السلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين، الذين إنما يؤثر (9) عنهم منها القليل النادر، والشاذ الشارد (10) ، فأما كلامه فهو البحر الذي لا يساجل (11) ، والجم الذي لا يحافل (12) .

_____________________

(1) البدائع جمع بديعة وهي الفعل على غير مثال، ثم صار يستعمل في الفعل الحسن وإن سبق إليه مبالغة في حسنة، والنواصع جمع ناصعة، والنواصع: الخالصة، وناصع كل شيء خالصه.

(2) الثواقب: المضيئة، ومنه الشهاب الثاقب. ومن الكلم ما يضيء لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدي بها إليه.

(3) المشرع: تذكير المشرعة، وهو المورد.                              (4) حذا كل قائل: اقتفى واتبع.

(5) عليه مسحة: أثر أو علامة. وكأنه يريد «بهاء منه وضياء»      (6) العبقة: الرائحة اللاصقة بالشيء والمنتشرة عنه.

(7) اعتمدت: قصدت.                                             (8) الدثرة بفتح فكسر: الكثيرة وكذلك الحمة.

(9) يؤثر: أي ينقل عنهم ويحكى.                                   (10) الشاذ الشارد: المنفرد الذي ليس له أمثال.

(11) لا يساجل: لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء.

(12) لا يحافل: لا يغالب في الكثرة، من قولهم: ضرع حافل: ممتلئ كثير اللبن. والمراد أن كلامه لا يقابل لكلام غيره لكثرة فضائله.

٣٤

وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به عليه‌السلام ، بقول الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

ورأيت كلامه عليه‌السلام يدور على أقطاب (1) ثلاثة، أولها الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحكم والمواعظ، فأجمعت (2) بتوفيق الله تعالى على الابتداء، باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا ومفصلا فيه أوراقا، لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه، يشذ عني عاجلا ويقع إلي آجلا، وإذا جاء شيء من كلامه عليه‌السلام الخارج في أثناء حوار، أو جواب سؤال، أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها، وقررت القاعدة عليها، نسبته إلى أليق الأبواب به وأشدها ملامحة (3) لغرضه، وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة (4) ، ومحاسن كلم غير منتظمة، لأني أورد النكت واللمع (5) ، ولا أقصد التتالي والنسق (6) .

ومن عجائبه عليه‌السلام التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها، أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المتفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله، ممن عظم قدره ونفذ أمره، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك، في أنه كلام من لاحظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع (7) في كسر بيت (8) أو انقطع إلى سفح جبل (9) ، لا يسمع إلا حسه ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتا سيفه (10) فيقط الرقاب (11) ويجدل الأبطال (12) ، ويعود

____________________

(1) أقطاب: أصول.

(2) أجمع عليه: عزم.

(3) الملاحمة: الإبصار والنظر، والمراد هنا المناسبة والمشابهة.

(4) المتسق: المنتطم يتلو بعضه بعضاً.

(5) النكت: الآثار التي يتميز بها الشيء، واللمع: الآثار المميزة للأشياء بإضاءتها وبريقها.

(6) النسق: التتابع والتتالي.

(7) قبع القنفذ، كمنع: أدخل رأسه في جلده، والرجل أدخل رأسه في قميصه، أراد منه: انزوى.

(8) كسر البيت: جانب الخباء.

(9) سفح الجبل: أسفله وجوانبه.

(10) أصلت سيفه: جرده من غمده.

(11) يقط الرقاب: يقطعها عرضاً. فإن القطع طولا قيل: يقد.

(12) يجدل الأبطال: يلقيهم على الجدالة كسحابة: وهي وجه الأرض.

٣٥

به ينطف (1) دما ويقطر مهجا (2) ، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال (3) ، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد وألف بين الأشتات (4) ، وكثيرا ما أذاكر الإخوان بها وأستخرج عجبهم منها، وهي موضع للعبرة بها والفكرة فيها.

وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد، والمعنى المكرر، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف، اختلافا شديدا، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى، موضوعا غير موضعه الأول، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام (5) ، وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا، فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا لا قصدا واعتمادا.

ولا أدعي مع ذلك أني أحيط بأقطار (6) جميع كلامه عليه‌السلام ، حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد (7)، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي، والحاصل في ربقتي (8) دون الخارج من يدي، وما علي إلا بذل الجهد وبلاغة الوسع، وعلى الله سبحانه وتعالى نهج السبيل (9) وإرشاد الدليل، إن شاء الله.

ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها ويقرب عليه طلابها، فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل، وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق، ما هو بلال كل غلة (10) وشفاء كل علة، وجلاء كل شبهة.

ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة، وأتنجز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلة الكلم قبل زلة القدم (11) ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

___________________

(1) ينطف: من نطف كنصر وضرب، نطفاً وتنطافاً: سال.

(2) المهج: جمع مهجة، وهي: دم القلب، والروح.

(3) الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم، مات منهم واحد بدل الله مكانه آخر. والواحد بدل بديل.

(4) الأشتات: جمع شتيت: ما تفرق من الأشياء.                  (5) عقائل الكلام: كرائمه. وعقيلة الحي: كريمة.

(6) أقطار الكلام: كرائمه. وعقيلة الحي: كريمته.                    (7) الناد: المنفرد الشاذ.

(8) الربقة: عروة حبل يجعل فيها رأس البهيمة.                      (9) نهج السبيل: إبانته وإيضاحه.

(10) الغلة: العطش، وبلالها: ما تبل به وتروى.

(11) زلة الكلم: الخطأ في القول، وزلة القدم، خطأ الطريق والانحراف عنه.

٣٦

خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام

٣٧

٣٨

باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام وأوامره

ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب، في المقامات المحظورة

والمواقف المذكورة والخطوب الواردة

1 -: ومن خطبة له عليه‌السلام ،

يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم،

وفيها ذكر الحج

وتحتوي على حمد الله وخلق العالم وخلق الملائكة، واختيار

الأنبياء ومبعث النبي والقرآن والأحكام الشرعية

الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَه الْقَائِلُونَ، ولَا يُحْصِي نَعْمَاءَه الْعَادُّونَ، ولَا يُؤَدِّي حَقَّه الْمُجْتَهِدُونَ، الَّذِي لَا يُدْرِكُه بُعْدُ الْهِمَمِ، ولَا يَنَالُه غَوْصُ الْفِطَنِ، الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِه حَدٌّ مَحْدُودٌ، ولَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ ولَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ، ولَا أَجَلٌ مَمْدُودٌ، فَطَرَ (1) الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِه، ونَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِه، ووَتَّدَ (2) بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ (3) أَرْضِه.

أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه وكَمَالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمَالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه ومَنْ

٣٩

جَهِلَه فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْه، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْه فَقَدْ حَدَّه ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه، ومَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَه، ومَنْ قَالَ عَلَا مَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْه: كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ (4) مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وغَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ (5) ، فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ والآلَةِ، بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْه مِنْ خَلْقِه، مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِه ولَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِه.

خلق العالم

أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وابْتَدَأَه ابْتِدَاءً، بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا (6) ولَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا، ولَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا ولَا هَمَامَةِ (7) نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا، أَحَالَ الأَشْيَاءَ لأَوْقَاتِهَا ولأَمَ (8) بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا، وغَرَّزَ (9) غَرَائِزَهَا وأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وأَحْنَائِهَا (10) : ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه فَتْقَ الأَجْوَاءِ، وشَقَّ الأَرْجَاءِ وسَكَائِكَ (11) الْهَوَاءِ، فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُه (12) ، مُتَرَاكِماً زَخَّارُه (13) حَمَلَه عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، والزَّعْزَعِ (14) الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّه، وسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّه وقَرَنَهَا إِلَى حَدِّه، الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ (15) والْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ (16) ، ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا (17) ، وأَدَامَ مُرَبَّهَا (18) وأَعْصَفَ مَجْرَاهَا، وأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ (19) الْمَاءِ الزَّخَّارِ، وإِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْه (20) مَخْضَ

٤٠