الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام0%

الإمام علي الهادي عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 477

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف: الشيخ علي الكوراني
تصنيف:

الصفحات: 477
المشاهدات: 129239
تحميل: 4233

توضيحات:

الإمام علي الهادي عليه السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129239 / تحميل: 4233
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام

الإمام علي الهادي عليه السلام

مؤلف:
العربية

١

٢

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا

محمد وآله الطيبين الطاهرين.

هل يكون الطفل نبياً! حدثَ ذلك عندما جاءت مريم (ع) تحمل طفلها، فثارت في وجهها نساء بني إسرائيل ورجالهم، واتهموها ووبخوها: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً . فأنطقه الله تعالى بلسان فصيح وقول بليغ، فبُهِتَ المفترون وأسقط في أيديهم!

وبعد عيسى (ع) بمدة وجيزة، صار طفلٌ آخر نبياً، هويحيى بن زكريا (ع)!

وقبل عيسى ويحيى (ع) جعل الله سليمان نبياً ورسولاً، وحاكماً بعد أبيه داود (ع) وهوابن عشر سنين! فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا .

ثم حدث ذلك في عترة النبي (ص) فكان محمدُ الجواد بن الإمام الرضا (ع) طفلاً وظهرت منه علائم الإمامة، فآمن به المأمون وتحدى بشخصيته وعلمه العباسيين وفقهاء الخلافة! قال لهم المأمون: « ويحكم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ من هذا الخلق! أوَمَا علمتم أن رسول الله بايع الحسن والحسين وهما صبيَّان غير بالغين، ولم يبايع طفلاً غيرهما! أَوَمَا علمتم أن علياً آمن بالنبي وهوابن عشر سنين، فقبل الله ورسوله منه إيمانه، ولم يقبل من طفل غيره، ولادعا النبي طفلاً

٣

غيره إلى الإيمان! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم »! « الإختصاص / 98 ».

فكان الإمام الجواد أول إمام من أهل البيت يتحمل أعباء الإمامة في السابعة، أما علي والحسنان (ع) فكانوا أئمة وهم صغار، لكنهم كانوا في ظل النبي (ص).

وبعد الإمام الجواد تحمل الإمامة ابنه علي الهادي (ع) وكان عمره نحوسبع سنين أيضاً، فكان الإمام الثاني صغير السن.

أما الثالث فهوالإمام المهدي الموعود (ع) الذي توفي أبوه وعمره خمس سنين، فكان أصغر الأئمة سناً، ولكنه سيكون أكبرهم أثراً في الحياة، كما أخبر جده المصطفى (ص) فقال: يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعد أن ملئت ظلماً وجوراً !

وهذا الكتاب في سيرة الإمام علي الهادي (ع)، الطفل المعجزة، والإمام الرباني، وسترى فيه تصديق قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ.

كتبه بقم المشرفة جمادى الأولى 1434

علي الكَوْراني العاملي عامله الله بلطفه

٤

الفصل الأول:

الإمام الهادي (ع) في عهد المأمون والمعتصم والواثق

الطفل المعجزة افتخر به المأمون وأنكره المعتصم!

كان المأمون معجباً بالإمام الجواد (ع) فعقد زواجه على ابنته أم الفضل وكان عمره (ع) تسع سنين. ثم تركه يعود الى المدينة، وكانت الشيعة ترجع اليه من أنحاء البلاد، كما شرحنا ذلك في سيرته (ع).

وعاش الإمام الجواد (ع) في المدينة، وفي سن الثامنة عشرة تزوج جارية مغربية مؤمنة، هي السيدة سمانة رضي الله عنها، متناسياً زوجته بنت المأمون.

وبعد سنة أي سنة 212، رزقه الله منها ابنه علياً الهادي (ع)، ثم ابنه موسى، وثلاث بنات: خديجة، وحكيمة، وأم كلثوم. « دلائل الإمامة / 397 ».

روى الطبري في دلائل الإمامة / 410، عن محمد بن الفرج، عن السيد (ع) أنه قال: « أمي عارفة بحقي وهي من أهل الجنة، لايقربها شيطانٌ مارد ٌ، ولا ينالها كيدُ جبارٍ عنيد، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام، ولا تتخلف عن أمهات الصديقين والصالحين ».

ومات المأمون في آخر سنة 218، وحكم بعده أخوه المعتصم ثمان سنوات، الى سنة 227. وكان القاضي أحمد بن أبي دؤاد مستشار المعتصم ومدبِّر أموره،

٥

فهوالذي دَبَّر له الخلافة أصلاً، وأجبر العباس بن المأمون على خلع نفسه وبيعة عمه المعتصم، ثم سجنه القاضي وقتله!

وقد أقنع ابن دؤاد المعتصمَ بأن لا يقع في خطأ المأمون في الإمام الجواد فيعترف بإمامة ابنه الهادي (ع)، بل عليه أن ينكر إمامته ويعمل للتخلص منه!

الإمام الهادي (ع) عرف بشهادة أبيه في بغداد

أحضر المعتصم الإمام الجواد (ع) سنة 220، الى بغداد، وسَمَّهُ بواسطة زوجته بنت المأمون! وكان الإمام الهادي في المدينة، فَعَرَفَ بقتل أبيه وعمره سبع سنين وأخبر أهله وأمرهم بإقامة المأتم، وذهب بنحوالإعجاز الرباني الى بغداد لتجهيز جنازة أبيه والصلاة عليه، ورجع الى المدينة في ذلك اليوم!

روى في الكافي « 1 / 381 »: « عن هارون بن الفضل قال: رأيت أبا الحسن علي بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبوجعفر (ع) فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر! فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنه تداخلني ذِلَّةٌ للهِ لم أكن أعرفها ».

وفي إثبات الإمامة / 221: « بينا أبوالحسن جالسٌ مع مؤدِّب له يكنى أبا زكريا، وأبوجعفر عندنا أنه ببغداد، وأبوالحسن يقرأ من اللوح إلى مؤدبه، إذ بكى بكاءً شديداً فسأله المؤدب: ممَّ بكاؤك؟ فلم يجبه. فقال: إئذن لي بالدخول فأذن له، فارتفع الصِّياح والبكاء من منزله، ثم خرج إلينا فسألنا عن البكاء، فقال: إن أبي قد توفي الساعة! فقلنا: بما علمت؟ قال: دخلني من إجلال الله ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنه قد مضى.

٦

فتعرفنا ذلك الوقت من اليوم والشهر، فإذا هوقد مضى في ذلك الوقت ».

وفي عيون المعجزات / 119: « عن الحسن بن علي الوشاء قال: جاء المولى أبوالحسن علي بن محمد (ع) مذعوراً حتى جلس عند أم موسى عمة أبيه فقالت له: مالك؟ فقال لها: مات أبي والله الساعة، فقالت: لا تقل هذا، فقال: هووالله كما أقول لك، فكتب الوقت واليوم، فجاء بعد أيام خبر وفاته (ع) وكان كما قال (ع) ».

وانتشر خبر شهادة الإمام الجواد (ع) في المدينة، وكان كثيرٌ من أهلها يحبونه لمكانته من رسول الله (ص)، وإحسانه اليهم.

فرضوا عليه الإقامة الجبرية وهوطفل!

بعد قتله الإمام الجواد (ع) نفذ المعتصم سياسته مع ابنه الهادي (ع) فأنكر أن يكون إماماً أوتيَ العلم صبياً كأبيه، وقرر أن يعامله على أنه صبيٌّ صغير، حتى لا يُفْتَن به الناس كما فُتنوا بأبيه. وأوفد وزيره عمر بن الفرج الرخجي الى المدينة ليرتب حبس الإمام الهادي (ع) عن الناس، بحجة كفالته وتعليمه!

وقام الرُّخَّجي بالمهمة، وحبس الهادي (ع) في بيت جده الكاظم (ع)، الذي يقع خارج المدينة، ليمنعه من الإتصال بشيعته، وعين له الجنيدي « ليعلمه » العربية والأدب بزعمه، وأمر والي المدينة أن ينفذ أوامره، ويقدم له كل ما يحتاج!

روى المسعودي في دلائل الإمامة / 230، عن محمد بن سعيد، قال: « قدم عمر بن الفرج الرُّخَّجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد (ع) فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله (ص) فقال لهم: أُبْغُوا لي

٧

رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم، لا يوالي أهل هذا البيت، لأضمه إلى هذا الغلام وأُوكله بتعليمه، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه!

فأسمَوْا له رجلاً من أهل الأدب يكنَّى أبا عبد الله ويعرف بالجنيدي، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم، ظاهر الغضب والعداوة « لأهل البيت »! فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان، وتقدم إليه بما أراد وعرفه أن السلطان « المعتصم » أمره باختيار مثله، وتوكيله بهذا الغلام.

قال: فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن (ع) في القصر بِصِرْيَا « بيت الإمام في مزرعة صريا بضاحية المدينة » فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله، وأخذ المفاتيح إليه! فمكث على هذا مدة، وانقطعت الشيعة عنه وعن الإستماع منه والقراءة عليه.

ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه وقلت له: ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟ فقال منكراً عليَّ: تقول الغلام، ولا تقول الشيخ الهاشمي! أُنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني؟ قلت: لا. قال: فإني والله أذكر له الحزب من الأدب، أظن أني قد بالغت فيه، فيملي عليَّ بما فيه أستفيده منه، ويظن الناس أني أُعلمه، وأنا والله أتعلم منه!

قال: فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه، ثم لقيته بعد ذلك فسلمت عليه وسألته عن خبره وحاله، ثم قلت: ما حال الفتى الهاشمي؟ فقال لي: دع هذا القول عنك، هذا والله خير أهل الأرض، وأفضل من خلق الله تعالى، وإنه لربما همَّ بالدخول فأقول له: تَنَظَّرْ حتى تقرأ عُشْرَك فيقول لي: أيَّ السور تحب أن أقرأها؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه، فيهذُّهَا بقراءة لم أسمع أصح منها من أحد قط، بأطيب من مزامير داود النبي (ع)، التي بها من قراءته

٨

يضرب المثل! قال ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق وهوصغيرٌ بالمدينة، ونشأ بين هذه الجواري السود، فمن أين عَلِمَ هذا؟ قال: ثم ما مرَّت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته، وعرف الحق وقال به »!

دلالة فرض الإقامة الجبرية على الإمام (ع)؟

يعطينا النص المتقدم أضواءً كافية على خطة المعتصم ضد الإمام الهادي (ع) وكيف كانت متقنةً، لكنها فشلت من أساسها، لأن الشخص الذي انتدبه لهذه المهمة انبهر بالإمام (ع) وآمن به!

كما يدل النص على أن شخصية الإمام (ع) وشعبيته، كانت في نظر المعتصم خطراً على خلافته. ومن حقه أن يفكر كذلك، لأن القوة الحقيقية كانت بيد قادة الجيش الأتراك، وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد، فهم الذين خلعوا ابن أخيه العباس بن المأمون وبايعوه، فصار خليفة. فمن الممكن أن يقتنعوا يوماً بالإمام الهادي (ع) ويبايعوه ويخلعوا المعتصم ويفرضوا ذلك على بني العباس وغيرهم،خاصة أن العلويين أبناء فاطمة الزهراء (ع) أقرب الى النبي (ص) من بني العباس. فهم عترة النبي (ص) الذين شهد لهم وأوصى الأمة باتباعهم.

كان المعتصم يرى أن أخاه المأمون أخطأ في إظهار اعتقاده بإمامة الرضا والجواد وإعلانه للناس أن علياً وأبناءه (ع) مميزون بأن علمهم من الله، فلا يحتاجون الى تعليم معلم، وأن صغارهم كبار.

فقد أعطاهم بذلك مقاماً فوق مقام بني العباس، بل نزع الشرعية عن بني العباس ودعواهم أنهم يستحقون الخلافة بقرابتهم بالنبي (ص) بعمه العباس، وأنهم أولى من أولاد علي وفاطمة (ع).

٩

ولذلك اختار المعتصم سياسة أبيه الرشيد، فقتل الإمام الجواد (ع) وأنكر أن يكون ابنه الهادي (ع) مثله، أوتي العلم والحكمة صبياً.

وفي نفس الوقت أظهر أنه يحفظ حق الرحم مع النبي (ص) في عترته، فأمر أن يكون الإمام الهادي (ع) في بيتهم خارج المدينة، ووكل به والي المدينة، واختار له الجنيدي كمعلم في الظاهر، وأعطاه المفتاح ليغلق الباب يومياً على الإمام (ع) فلا يصل اليه شيعته القائلون بإمامته!

استبصر « معلمه » الجنيدي وثبت على الإيمان

راوي خبر الجنيدي، هومحمد بن سعيد، وهوابن غزوان الأزدي، روى عنه الكليني والصدوق والمسعودي وغيرهم، وذكره النجاشي / 372 في مصنفي الشيعة، قال: « محمد بن سعيد بن غزوان: له كتاب. قال ابن نوح: أخبرنا محمد بن أحمد بن داود قال: حدثنا محمد بن عيسى بن عثمان الآجري، عن غزوان بن محمد الأزدي، عن أبيه محمد بن سعيد بن غزوان بكتابه ».

وهذا كاف في توثيقه، كما قال الميرزا جواد التبريزي « تنقيح مباني العروة: 7 / 262 ».

وأبوعبد الله الجنيدي الذي عينه المعتصم معلماً للإمام الهادي (ع) غيرالفقيه المعروف محمد بن أحمد بن الجنيد، وغير الجنيد بن محمد البغدادي الصوفي المشهور، وغير الجنيدي الذي ترجم له السمعاني « 2 / 99 »، فقال: « وأبوعبد الله بن الجنيد الإسكاف كان يتكلم بكلام الجنيد بن محمد البغدادي كثيراً فلقب به ». فالجنيد والجنيدي متعددٌ في مصادر التاريخ والرواة.

والظاهر أن الجنيدي هذا قد تشيع على يد الإمام الهادي (ع)، وثبت على تشيعه وسكن بغداد، وأنه هوالذي ذكره الصدوق في كمال الدين / 442، فيمن رأى

١٠

الإمام المهدي ( عجل الله تعالى فرجه )، قال: « ورآه من الوكلاء ببغداد: العمري وابنه، وحاجز، والبلالي، والعطار. ومن الكوفة: العاصمي. ومن أهل الأهواز: محمد بن إبراهيم بن مهزيار. ومن أهل قم: أحمد بن إسحاق. ومن أهل همدان: محمد بن صالح. ومن أهل الري: البسامي والأسدي يعني نفسه. ومن أهل آذربيجان: القاسم بن العلاء. ومن أهل نيسابور: محمد بن شاذان.

ومن غير الوكلاء من أهل بغداد: أبوالقاسم بن أبي حليس، وأبوعبد الله الكندي، وأبوعبد الله الجنيدي، وهارون القزاز الخ. ».

صَرْيا مزرعة الإمام موسى بن جعفر (ع)

صَرْيَا: إسم مصدر بمعنى الفصل في الحكم. وهو إسم قرية قرب المدينة أنشأها الإمام موسى بن جعفر (ع).

قال الخليل « 4 / 402 »: « يوم بِغَاث: وقعة كانت بين الأوس والخزرج. ويقال: هو بِغاث على ميل من المدينة، قريب من صَرْيَا. وهوموضع اتخذه موسى بن جعفر أبوالرضا. وصَرْيا معمورة بهم اليوم ».

وقال ابن السكيت / 310: « يقال: اختصمنا إلى الحاكم فقطع ما بيننا وفصل ما بيننا، وصرى ما بيننا وهو يصري صَرْياً ».

وقال ابن منظور « 14 / 457 »: « وصَرَى ما بينَنا يَصْري صَرْياً: أَصْلَحَ ».

ويظهر من أخبارها أن مساحتها واسعة وفيها زرع ونخيل.

١١

وكان يتواجد فيها الأئمة من أبناء الكاظم وهم الرضا والجواد والهادي (ع)، وقد ولد فيها الإمام الهادي (ع) سنة 212، وعاش فيها مدةً من عمره الشريف.

لذلك رأى الرُّخجي مبعوث المعتصم أنها مكانٌ مناسبٌ لفرض الإقامة الجبرية على الإمام الهادي (ع) لحفظ احترامه في الظاهر، وقطعه عن جمهوره من البلاد.

فشلت خطة المعتصم في محاصرة الإمام (ع)

الأخبار قليلة عن المرحلة التي كان فيها الإمام الهادي (ع) تحت الإقامة الجبرية وماذا جرى بينه وبين الجنيدي، وكم طالت مدتها، وكيف كان برنامج الإمام في زيارة قبر جده النبي (ص)، ولقاء شيعته؟ لكن المؤكد أن التغيرات السياسية وتسديد الله تعالى لوليه (ع)، قد أفشلا خطة المعتصم.

ويدل عليه أن الجنيدي المسؤول عن حصاره، انبهر بعلمه (ع) وشخصيته، وآمن بأنه حجة الله على أرضه. فمن الطبيعي أن يُسهِّلَ ذلك على شيعته وعامة الناس، أن يكسروا محاصرته، خاصةً في موسم الحج.

١٢

كان الواثق ليناً مع العلويين ومعجباً بالإمام الهادي (ع)

لما مات المأمون كان الإمام الهادي (ع) طفلاً في السادسة من عمره في ظل أبيه الإمام الجواد (ع). ولما مات المعتصم سنة 227، انتهى قراره بمحاصرة الإمام الهادي (ع) وكان الإمام يومها في السادسة عشرة. ثم حكم الواثق نحو ست سنين ومات سنة 232، وكان عمر الإمام (ع) يومها نحو 21 سنة.

وقد ترجمنا للواثق في سيرة الإمام الجواد (ع)، وذكرنا أنه رغم استغراقه في شهواته، كان ليناً مع الطالبيين فلم يقتل منهم أحداً، مع أن كبار شخصياتهم كانوا عنده في سامراء، تحت الإقامة الجبرية.

قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / 394: « لا نعلم أحداً قُتل في أيامه « يقصد من الطالبيين » إلا أن علي بن محمد بن حمزة، ذكر أن عمرو بن منيع قتل علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين، ولم يذكر السبب في ذلك، فحكيناه عنه على ما ذكره، فقتل في الواقعة التي كانت بين محمد بن مكيال ومحمد بن جعفر. هذا بالري. وكان آل أبي طالب مجتمعين بسر من رأى في أيامه، تُدَرُّ الأرزاق عليهم، حتى تفرقوا في أيام المتوكل ».

وكان الواثق معجباً بالإمام الهادي (ع) وربما أظهر ذلك، بخلاف أبيه المعتصم، فقد طَرَحَ يوماً سؤالاً على الفقهاء فعجزوا عنه، فقال لهم: أنا آتيكم بمن يعرف الجواب، وأحضر الإمام الهادي (ع)!

١٣

روى في تاريخ بغداد « 12 / 56 »: « قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته: مَن حَلَقَ رأسَ آدم حين حجَّ؟ فتعايى القوم عن الجواب فقال الواثق: أنا أحضركم من ينبؤكم بالخبر! فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فأحضر فقال: يا أبا الحسن، مَن حلق رأس آدم؟ فقال: سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا أعفيتني. قال: أقسمت عليك لتقولن. قال: أما إذا أبيت فإن أبي حدثني عن جدي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله (ص): أمر جبريل أن ينزل بياقوتة من الجنة، فهبط بها فمسح بها رأس آدم فتناثر الشعر منه، فحيث بلغ نورها صار حرماً ».

وكان هذا السؤال مطروحاً قبل الواثق، وعجز علماء السلطة عن جوابه، ففي تاريخ بغداد « 13 / 167 »: « قال مقاتل بن سليمان بمكة: سلوني ما دون العرش! فقام قيس القيَّاس فقال: من حلق رأس آدم في حجته؟ فبقي! ».

والظاهر أن هذه القصة كانت في موسم الحج، في مكة أوالمدينة، لأن الإمام الهادي (ع) لم يذهب الى سامراء في زمن الواثق. وقد حج الواثق مرة واحدة قبل وفاته سنة 231، ومعناه أن الإمام الهادي (ع) كان يومها في سن العشرين.

قال ابن تغري في مورد اللطافة « 1 / 153 »: « وحج الواثق مرة، ففرق بالحرمين أموالاً عظيمة، حتى لم يبق بالحرمين فقير ». واليعقوبي: 2 / 483.

١٤

المتوكل يضطهد الإمام الهادي (ع)

عاش الإمام الهادي (ع) في خلافة المتوكل وابنه المنتصر، ثم في خلافة المستعين والمعتز، الذي ارتكب جريمة قَتْل الإمام (ع) بالسم، وذلك في الثالث من رجب سنة 254، هجرية.

وقد ضيق المعتصم على الإمام (ع)، ثم شدَّد عليه المتوكل في أول خلافته وأحضره الى سامراء، وحاول قتله فلم يجد حجة، فعاد الإمام (ع) الى المدينة.

ثم أحضره المتوكل ثانيةً، وفرض عليه الإقامة في سامراء، واضطهد كل بني هاشم، وأفقرهم، وقتلهم، وشردهم. وهدم قبر الحسين (ع) ومنع من زيارته. فنقم عليه المسلمون، حتى كتبوا شتمه على جدران البيوت في بغداد. وثار عليه الأتراك وقتلوه، وولوا ابنه المنتصر فحكم شهوراً، ثم قتله الأتراك.

ومن يومها صار الأتراك القوة الأولى التي تنصب الخليفة وتعزله! حتى جاء البويهوين الفرس بعد نحو قرن، وحلوا محلهم!

قال اليعقوبي في البلدان « 1 / 16 » يصف حكم خمسة خلفاء عباسيين في بضع سنوات: « مات المنتصر بسر من رأى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. ووليَ المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم، فأقام بسر من رأى سنتين وثمانية أشهر، حتى اضطربت أموره فانحدر إلى بغداد في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، فأقام بها يحارب أصحاب المعتز سنة كاملة، والمعتز بسر من رأى معه الأتراك وسائر الموالي. ثم خُلع المستعين ووليَ المعتز، فأقام بها حتى قتل ثلاث سنين

١٥

وسبعة أشهر بعد خلع المستعين، وبويع محمد المهتدي بن الواثق في رجب سنة خمس وخمسين ومائتن، فأقام حولاً كاملاً ينزل الجوسق حتى قُتل.

وولي أحمد المعتمد بن المتوكل فأقام بسر من رأى في الجوسق وقصور الخلافة، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي بسر من رأى، فبنى قصراً موصوفاً بالحسن سماه المعشوق فنزله فأقام به حتى اضطربت الأمور فانتقل إلى بغداد، ثم إلى المدائن ».

أقول: في هذه المرحلة غضب الله تعالى على العباسيين، فاضطرب نظام الخلافة.

فقد قتل المتوكل وقصرت أعمار الخلفاء، ووقع الصراع بينهم، وبينهم وبين قادة جيشهم الأتراك، وبين الأتراك أنفسهم.

وفي هذه الصراعات كانوا يقتلون الخليفة الذي لا يعجبهم، ويختارون عباسياً غيره. وكانت طريقة قتل الخليفة غالباً بعصر خصيتيه!

١٦

الفصل الثاني:

من مفردات صحيفة المتوكل

الهوية الشخصية

هو جعفر بن المعتصم، بن هارون، بن المهدي، بن المنصور العباسي. ولد سنة 205 ، وحكم سنة 232 ، وقتل سنة 47، فمدة حكمه نحوخمسة عشرة سنة.

قالوا في صفته: « كان أسمرَ، جميلاً، مليح العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، مربوعاً، وأمه أمةٌ قفقازية إسمها شجاع. وكانت له جُمَّةٌ إلى شحمة أذنيه ». « سير الذهبي: 12 / 30، ومآثر الإنافة: 1 / 228 ».

وقال محمد بن أبي الدنيا: « رأيت المتوكل أسمر حسن العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين وكان إلى القِصر أقرب، ويكنى أبا الفضل ». « تاريخ بغداد « 7 / 181 ».

وقال المسعودي في مروج الذهب « 4 / 3 »: « فلما كان في اليوم الثاني لقبه أحمد بن أبي دؤاد: المتوكل على الله. وذلك في اليوم الذي مات فيه الواثق أخوه، وهويوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، ويكنى بأبي الفضل، وبويع له وهو ابن سبع وعشرين سنة وأشهر، وقتل وهو ابن إحدى وأربعين سنة، فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسع ليال، وأمه أم ولد خوَارزمية يقال لها شجاع، وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين ».

١٧

وفي المحبر لابن حبيب / 44: « قال أبو العباس بن الواثق: أم المتوكل تركية، وهي خالة موسى بن بغا، ويقال لها شجاع. وإسم أختها أم موسى بن بغا: حُسْن ».

كان حضرة الخليفة مخنثاً يطلب الرجال!

قال الطبري « 7 / 343 »: « وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور، فوكل عليه عمر بن فرج الرخجي، ومحمد بن العلاء الخادم، فكانا يحفظانه « من التخنث » ويكتبان بأخباره في كل وقت!

فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلم له أخاه الواثق ليرضى عنه، فلما دخل عليه مكث واقفاً بين يديه ملياً لا يكلمه، ثم أشار إليه أن يقعد فقعد، فلما فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدد له فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عني. فقال لمن حوله: أنظروا إلى هذا يُغضب أخاه، ويسألني أن أسترضيه له! إذهب فإنك إذا صلحتَ « تركت التخنث » رضي عنك.

فقام جعفر كئيباً حزيناً لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده فأتى عمر بن فرج ليسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة، وأخذ الصك فرمى به إلى صحن المسجد، وكان عمر يجلس في مسجد وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضراً، فقام لينصرف فقام معه جعفر فقال: يا أبا الوزير، أرأيت ما صنع بي عمر بن فرج! قال: جعلت فداك، أنا زمامٌ عليه وليس يختم صكي بأرزاق إلا بالطلب والترفق به، فابعث إلى بوكيلك فبعث جعفر بوكيله فدفع إليه عشرين ألفاً، وقال: أنفق هذا حتى يهيئ الله أمرك

١٨

فأخذها، ثم أعاد إلى أبي الوزير رسوله بعد شهر يسأله إعانته، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم. ثم صار جعفر من فوره حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد واستقبله على باب البيت وقبَّله والتزمه، وقال: ما جاء بك جعلت فداك؟ قال: قد جئت لتسترضي لي أمير المؤمنين. قال: أفعلُ ونِعْمَةُ عَيْنٍ وكرامة، فكلم أحمد بن أبي دؤاد الواثق فيه فوعده ولم يرض عنه، فلما كان يوم الحلبة كلم أحمد بن أبي دؤاد الواثق، وقال معروفُ المعتصمِ عندي معروفٌ، وجعفرُ ابنه، فقد كلمتك فيه ووعدتَ الرضا، فبحق المعتصم يا أمير المؤمنين إلا رضيتَ عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه. وانصر ـ ف الواثق وقد قلد أحمد بن أبي دؤاد جعفراً بكلامه حتى رضيَ عنه أخوه شكراً، فأحظاه ذلك عنده حين مَلَك.

وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين، أتاني جعفر بن المعتصم يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه، في زي المخنثين له شَعْرُ قَفَا! فكتب إليه الواثق: إبعث إليه فأحضره ومُرْ من يَجُزُّ شعر قفاه، ثم مُرْ من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله!

فذُكِرَ عن المتوكل أنه قال: لما أتاني رسوله لبست سواداً لي جديداً وأتيته رجاءَ أن يكون قد أتاه الرضا عني، فأتيته فقال: يا غلام أدع لي حَجَّاماً فدعا به، فقال: خذ شعره واجمعه، فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه!

١٩

قال المتوكل: فما دخلني من الجزع على شئ مثل ما دخلني حين أخذني على السواد الجديد، وقد جئته فيه طامعاً في الرضا. فأخذ شعري عليه ».

أقول: يتضح بذلك أن سبب غضب الواثق على المتوكل أنه كان مخنثاً شاذاً، أطال شعره كما يفعل المخنثون، الذين يتشبهون بالنساء، ويطلبون الرجال!

وكان على المخنث الغني أن يعطي الشاب التركي أجرة لواطه به، كما فعل عبَّادة المخنث! « خرج عَبَّادة يوماً في السحر إلى الحمام، فلقي غلاماً من أولاد الأتراك فأعطاه عشرة دراهم وقال: إقطع أمر عمك »!

وأتوا به من سجن المخانيث الى كرسي الخلافة!

أوصى الواثق بالخلافة الى ابنه محمد، لكن كبار أركان الدولة استصغروه، فجاؤوا بالمتوكل من سجنه، ونصبوه خليفة.

قال الطبري « 7 / 241 »: « لما توفيَ حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد، وإيتاخ، ووصيف وعمر بن فرج، وابن الزيات، وأحمد بن خالد أبوالوزير، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق، وهوغلام أمرد فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية، فإذا هوقصير، فقال لهم وصيف « القائد التركي »: أما تتقون الله تولون مثل هذا الخلافة، وهولا يجوز معه الصلاة! قال فتناظروا فيمن يولونها فذكروا عدةً، فذُكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء أنه قال: خرجت من الموضع الذي كنت فيه فمررت بجعفر المتوكل فإذا هوفي قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك، فقال لي: ما الخبر؟ فقلت: لم ينقطع أمرهم. ثم دعوا به، فأخبره بغا الشر ـ ابي الخبر،

٢٠