• البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30179 / تحميل: 6143
الحجم الحجم الحجم
الإمام السجاد جهاد وأمجاد

الإمام السجاد جهاد وأمجاد

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

١

٢

الإهداء

إلى الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ..

هذه ورقات متواضعة حبرتها بدم القلب وضوء العين عن حفيدك الإمام السجاد ، بقية السيف من أبناء الحسين ، أبي الشهداء ، الذي تسايرت الركبان بذكره وفضله ، أرفعها إليك وأملي يا سيدي منك القبول.

عبدك

حسين الحاج حسن

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) [ طه : ١١٤ ]

اللهم ساعدني على قول الحق بما يسطره قلمي في هذه الرسالة الخالدة ، رائد الفكر الإنساني ومهد المعرفة والتي تهدي للتي هي أقوم.

« هذا زين العابدين ، قدوة الزاهدين ، وسيد المتقين ، وإمام المؤمنين ، شيمته تشهد له أنه من سلالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسمته تثبت مقام قربه من الله زلفى ، ونفثاته تسجل بكثرة صلاته وتهجده ، وإعراضه عن متاع الدنيا ينطق بزهده فيها ، درت له أخلاق التقوى فتفوقها ، وأشرقت لديه أنوار التأييد فاهتدى بها ، وألفته أوراد العبادة فأنس بصحبتها وحالفته وظائف الطاعة فتحلى بحليتها ، طالما اتخذ الليل مطية ركبها لقطع طريق الآخرة ، وظمأ الهواجر دليلا استرشد به في مفازة المسافرة ، وله الخوارق والكرامات ما شوهد بالأعين الباصرة ، وثبت بالآثار المتواترة ، وشهد له أنه من ملوك الآخرة ».

مطالب السّؤول

٥
٦

معالم الحياة العامة في عصر الامام (ع)

عصر الامام (ع) :

مني عصر الإمام زين العابدين (ع) باضطراب سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، لم يشهده عصر من قبل. فقد شحن بالفتن الفظيعة والأحداث الجسام مما جعله يفقد روح الاستقرار والطمأنينة ويعيش في دوامة من القلق والقتل والتشريد والتجويع. لقد أمعن الحكم الأموي في نشر الظلم والاضطهاد ، فأرغم الناس على ما يكرهون حتى بات كل فرد منهم يعيش على أعصابه لما يساوره من الهموم والآلام والمصائب التي ينتظرها في كل حين.

وسوف نوجز القول عن معالم الحياة العامة في عصر الإمامعليه‌السلام والأحداث السياسية التي داهمت المسلمين والتي عانوا منها أمر الفتن وأخطر الخطوب.

كما نتحدث عن معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، ذلك أن معرفة الظروف هذه التي كانت تحيط بالإمام (ع) تعطينا وضوحا كاملا عن مواقف وأهداف وأحداث تعامل معها الإمام في زمنه ، ومع أشخاص عاصرهم سواء كانوا ملوكا أو ولاة أو علماء أو عامة الناس.

إن المعرفة التفصيلية لهذه الأمور تساعدنا كثيرا على فهم شخصية الإمام (ع).

٧

ملوك عصره :

عاصر الإمام (ع) يزيد بن معاوية ، ومعاوية بن يزيد ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك.

ومن الولاة : الحجاج بن يوسف الثقفي ، وعبيد الله بن زياد ، وهشام بن اسماعيل والي المدينة.

الأئمة الذين عاصرهم :

عاصر الإمام علي (ع) وله من العمر سنتان ، والإمام الحسن (ع) عشر سنين ، ومع الإمام الحسين (ع) عشر سنين ، وكان عمره يقارب السبع والخمسين سنة.

وهكذا نرى كيف أن الإمام (ع) فتح عينيه على صراعات المحن والحروب ومكابدة الإمام علي (ع) ضد معاوية الذي تمسك بكرسي الحكم غاصبا معاندا ؛ وكيف تقاعس أهل العراق عن مناصرة الإمام الحسن (ع) حتى عقد الصلح مع معاوية مكرها.

ثم شاهد الإمام بأم عينيه ، وهو في ريعان شبابه مأساة أبيه الحسين (ع) في كربلاء ، وأهل بيته ، ورأى مقتلهم واحدا واحدا ، ورأى سبي النساء إلى دمشق ، وتحمل ثقل القيود ومجابهة يزيد وعبيد الله بن زياد ، والأمة التي خذلتهم وتفرجت على قتلهم ثم عادت فبكت عليهم نادمة تائبة.

الحياة السياسية :

ساد الحياة السياسية في عصر الإمام (ع) ألوان من القلق والاضطراب ، فقد خيم الذعر والخوف على الناس وفقدوا جميع أشكال

٨

الأمن والاستقرار ، مما سبب تفكك المجتمع وشيوع الأزمات السياسية الحادة ، واندلاع الثورات المتلاحقة. والسبب الأول والأخير في كل هذه الأحداث المؤلمة يعود إلى طبيعة الحكم الأموي والفساد الذي استشرى في البلاد من قبل الملوك والولاة. وقد صور هذا الحكم الفاسد أحد الشعراء فقال :

فدع عنك ادّكارك آل سعدى

فنحن الأكثرون حصى ومالا

ونحن المالكون الناس قسرا

نسومهم المذلة والنكالا

ونوردهم حياض الخسف ذلا

وما نألوهم إلا خبالا

لقد سبب الحكم الأموي الكثير من المصائب والخطوب للكثير من المسلمين وأحدث لهم الفتن والمصاعب التي ألقتهم في أدهى الشرور. من هذه المظاهر البارزة لهذا الحكم الظالم :

أ ـ الجور والاستبداد :

لقد استبد الأمويون في حكمهم الشعوب الإسلامية وجاروا كثيرا ، فلم يكن هناك قانون تسير عليه الدولة ، وإنما كان حكما مزاجيا يخضع لمشيئة ملوكهم ورغباتهم ، وأهواء وزرائهم وعواطف ولاتهم. وقد وصفه العلامة الشيخ عبد الله العلايلي فقال : « إن نظام الحكم في عهد ملوك الأمويين لم يكن إلا ما نسميه في لغة العصر بـ ( نظام الأحكام العرفية ) ، هذا النظام الذي يهدر الدماء ، ويرفع التعارف على المنطق القانوني ، ويهدد كل امرىء في وجوده ، وفي هذا العصر إذا كان يتخذ في ظروف استثنائية ، ولحالات خاصة يراد بها الإرهاب ، وإقرار الأمن ، فقد كان في العهد الأموي هذا النظام السائد ، وفي الحق أنه لا يمكننا أن نسمي هذا سلطة قضائية البتة ، بل ننكر بكل قوة أن يكون في العصر الأموي سلطة قضائية بالمعنى الصحيح إلا في فترات لا تلبث حتى يكون التباين طاغيا ، وأكبر الشواهد على هذا أن الخليفة أو حكومته تأتي ما تهوى بدون أن

٩

تتخذ لمآتيها شكليات قانونية على الأقل مما يشعر باحترام السلطة »(١) .

لقد أصبح الاستبداد السياسي الظاهرة البارزة في الحكم الأموي اتخذ فيه الملوك الأمويون ، منهجا خاصا ، انهارت بسببه قواعد العدل السياسي ومبادىء الحرية الاجتماعية.

ب ـ الإرهاب والتجويع :

استخدم معاوية أبشع أنواع القتل والإرهاب فدس السم في العسل وغيره ، كما سمّ الإمام الحسن (ع) وكان يقول : إن لله جنودا من عسل ولا يتوانى عن الفتك والقتل في أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم وأنصارهم.

كتب معاوية إلى عماله كتابا واحدا إلى جميع البلدان : « انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه » ثم أتبع ذلك بنسخة أخرى قال فيها : « من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي (ع) فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة ، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (ع) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق فيها معروف منهم »(٢) .

ج ـ القضاء على الحريات العامة :

لقد قضي على الحريات العامة في العهود الأموية ولم يعد لها أي

__________________

(١) الإمام الحسين ، ص ٣٣٩.

(٢) ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين / عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ص ٧٠ وما بعدها.

١٠

ظل على واقع الحياة ، وبصورة خاصة حرية الرأي والقول ، فبات أي فرد من المواطنين لا يستطيع أن يدلي برأيه ، وبما يفكر به وبالأخص في ما يتعلق بالولاء لأهل البيت (ع) ، فكل من يتظاهر بحبهم والولاء لهم يتهم بالكفر والإلحاد والزندقة. وقد علقت في الساحات العامة في الكوفة مجموعة من جثث رجال الفكر والعلم في الإسلام قد صلبوا أياما على الأعمدة بسبب حبهم للإمام أمير المؤمنين (ع) كميثم التمّار ورشيد الهجري ...

د ـ إحياء النزعة القبلية :

اتبع معاوية سياسة ( فرق تسد ) بين القبائل العربية حفاظا على ملكه وهي السياسة الاستعمارية نفسها ، والتي نفذها ولا يزال ينفذها الاستعمار الغربي في بلادنا. وهدف معاوية من هذه السياسة إلهاء القبائل عن حكمه بالمشاكل الداخلية والخلافات القبلية ، فكان يثير النزاعات بين مضر وربيعة والأزد وكان الأنصار يعارضون حكمه على أساس ديني ويرفضون سياسة الظلم والإرهاب فكان من واجبهم وتكليفهم الشرعي معارضة الأمويين ، فجاء معاوية بشاعر البلاط الأموي الأخطل ، وهو نصراني ، يرد عليهم فهجاهم بقصيدة منها :

ذهبت قريش بالمكارم والعلى

واللؤم تحت عمائم الأنصار

ثم بدأ معاوية بإثارة الضغائن بين الأوس والخزرج القبيلتين العربيتين ، المعروفتين بعدائهما القديم. « وهكذا بث معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربية فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي ـ الحكم الأموي ـ وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الأمويين للوقيعة بأعدائهم القبليين ، وفاز معاوية وخلفاؤه من بعده ، بكونه حكما بين أعداء هو الذي أشعل النيران العدائية بينهم من حيث لا يشعرون ، ووحدهم في طاعته من حيث لا يدرون ، وقد

١١

دفعهم هذا الوضع إلى أن يقفوا دائما مع الحاكمين ضد الثائرين ليحافظوا على الامتيازات الممنوحة لهم ، فكانوا يقفون في وجه كل محاولة تهدف إلى الثورة على النظام القائم وينخذلون عنها بل ويتسابقون في استخدام أقصى ما يملكون من نفوذ ودهاء في هذا السبيل للتأكيد على ولائهم التام للسلطة القائمة »(١) .

وبديهي أن الإسلام حارب العنصرية بلا هوادة وجعلها نوعا من أنواع الجاهلية فقد قال الله تعالى :( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) وقال رسول الله (ص) : « لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، كلكم لآدم وآدم من تراب ».

فكان بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي من الصحابة المقربين جدا لرسول الله (ص) لإخلاصهم في الدين وقربهم من الله تعالى. لكننا نرى أن معاوية أثار الجاهلية من جديد بعد أن خبت ، وأحياها بعدما ماتت في نفوس المؤمنين. فعمل على تعميقها وركز على التفرقة بين العرب والعجم.

« استدعى معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب وقال لهما : إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت وأراها قد قطعت على السلف ، وكأنهم أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان فقد رأيت أن أقتل شطرا وأدع شطرا لإقامة السوق ، وعمارة الطريق. وكان هذا الموقف العدائي من الموالي سببا في امتهانهم وإرهاقهم بالضرائب وفرض الجزية والخراج عليهم وإسقاطهم من العطاء فكان الجنود الموالي يقاتلون من غير عطاء »(٢) .

__________________

(١) ثورة الحسين للشيخ محمد مهدي شمس الدين ، ص ١٠٠.

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٠٣.

١٢

ه ـ إقصاء الإسلام :

أهمل الملوك الأمويون الشريعة الإسلامية وتنكروا للإسلام فأقصوا جميع نظمه ومبادئه عن المسلمين ، ولم يعد لأحكام القرآن أي وجود في أجهزتهم وإداراتهم. يقول نيكلسون : « كان الأمويون طغاة ، مستبدين ، لانتهاكهم قوانين الإسلام وشرائعه ، وامتهانهم لمثله العليا ، ووطئها بأقدامهم »(١) .

لقد جاهر أكثر ملوكهم بالكفر والإلحاد ودفنوا المبادىء الإسلامية ونظمها ، فشربوا الخمر وعاثوا في الأرض فسادا وانتقصوا النبي الأعظم (ص) وخصوصا يزيد بن معاوية المعروف بفسقه وإلحاده وتنكره للمبادىء الإسلامية النبيلة وهو القائل :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل(٢)

و ـ القضاء على الروح الثورية :

لم يكتف معاوية بأساليب التفرقة والقتل والترغيب والترهيب في القضاء على مناوئيه ، فلإحكام سيطرته على الناس ولإضفاء الطابع الديني على حكمه استغل الجانب الديني استغلالا مشوها ومنحرفا عن هدفه الأصيل ، ومن هذه الأساليب اختلاق الأحاديث والأساطير والبدع الغريبة عن روح الإسلام.

« ذكر شيخنا أبو جعفر الاسكافي : إن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار كاذبة وقبيحة في علي بن أبي طالب (ع) ، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا

__________________

(١) الإمام الحسين ، ص ٦٤.

(٢) من قصيدة لابن الزبعري.

١٣

يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ومنهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير.

روى أبو هريرة ، شيخ المضيرة ، عن رسول الله (ص) : إن الله ائتمن على وحيه ثلاثا : أنا وجبريل ومعاوية ، وإن النبي (ص) ناول معاوية سهما وقال له : خذ هذا حتى تلقاني في الجنة ؛ وحديث آخر زاد في آخره : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ومعاوية حلقتها ».

ثم الأحاديث المختلقة التي تجوّر الظلم منها : « من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات إلا ميتة جاهلية »(١) .

ولا ريب أن أبا هريرة من عملاء معاوية المرتزقة فقد انتحل هذا الحديث وانتحل غيره. ومما أضفى عليه من النعوت المختلقة أنه كان كاتبا للوحي. والغريب أنه كيف يأتمن الرسول (ص) على كتابة الوحي من رب العالمين مثل هذا الإنسان الجاهلي البعيد كل البعد عن الإسلام ، والذي لم يلج في ضميره أي بصيص من نور الهداية والحق ، وإنما بقي ملوثا بأفكاره الجاهلية السوداء. وقد سخر المحدثين التجار والمرتزقة من وعاظ السلاطين ليختلقوا له الأحاديث المزورة والمختلقة ليوهم الناس بها. لكن من يقرأ سيرته بإمعان وتجرد يجده إرهابيا محترفا لا علاقة له بالمثل الكريمة والصفات الخيرة ، ولا قرابة بينه وبين الدين الإسلامي.

من تلك البدع التي اخترعها : مذهب الجبر.

شجع معاوية على نشر هذا المذهب لأن ذلك يساعد على تدعيم ملكه وإضفاء الشرعية عليه إذ أن فكرته تقول : إن كل ما يحدث لنا هو من الله ، وإن الملوك والأمراء منصبون من قبل الله علينا ـ سواء رضينا أم أبينا ـ وإننا مجبورون في أفعالنا ، فكان الرجل منهم يزني ويقول : أنا مجبور على

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١١٢.

١٤

عملي ويسرق ويقول : أنا مجبور على ذلك وهذا ما يعطي تبريرا مزيقا لكل أحكام الظلم والجور والقتل التي كان يستخدمها الملوك الأمويون أمثال معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد ..

ز ـ سياسة التجهيل :

إن جهل الناس للأمور يفقدهم المقاييس التي يقيسون بها الأشياء والأحداث ، وهذا مما يفيد السلطة الغاشمة ، إذ يتيح لها الفرصة بعدم مراقبة الناس لهم ومحاسبتهم على أخطائهم. وهذه السياسة الغاشمة شجعت الأمويين على نشر الجهل ولم يهتموا بنشر العلم بين أفراد الأمة ، ولم يوضحوا أحكام الله كما هي على حقيقتها بل حرفوها واختلقوا الأحاديث الموضوعة كما رأينا فبرز الأدعياء الجاهلون والمرتزقة المحترفون ، وتوارى العلماء والمؤمنون عن الساحة وأصبح الوضع كما قال أبو العلاء المعري :

فواعجبا كم يدعي الفضل ناقص

ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا

تجاهلت حتى ظن أني جاهل

فيا موت زر إن الحياة ذميمة

ويا نفس جدي إن دهرك هازل

هذه السياسة قد فعلت فعلها وأثرت تأثيرا كبيرا في الأمة « لذلك نجد أن سوق الكذابين والوضاعين وحتى بعض من أسلم من أهل الكتاب أن سوقهم قد راج وصاروا هم أهل العلم والمعرفة والثقافة للأمة حينما انضووا تحت لواء الحكام ، وأبعد أهل البيت عن الساحة وأجبروهم عن التخلي عنها. حتى لنجد الإمام السجاد يقول في الصحيفة السجادية في دعاء له خاص يوم الجمعة وعرفة :

« اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلا وكتابك منبوذا وفرائضك محرّفة عن

١٥

جهات أشراعك ، وسنن نبيك متروكة »(١) .

كل هذه السياسات الخبيثة والمدبرة فعلت فعلها في المجتمع الإسلامي وضللت قطاعات واسعة من الأمة. حتى التبست أمور كثيرة في أذهان الناس ، واختلط الحق بالباطل وأثمرت سياسة معاوية حسب مخططها وآتت أكلها.

« فقد علّمت سياسة معاوية المالية وأسلوبه الوحشي ، الناس على الدجل والنفاق والسكوت عن الحق ، والتظاهر بخلاف ما يعتقدون توصلا إلى دنيا معاوية وتمسكا بروحهم القبلية التي تفرض عليهم أن يتبعوا ساداتهم القبليين دون تروّ أو تفكير ، وهذا الوضع الشاذ الذي فرض عليهم ، أن يخفوا دوما ما يعتقدونه حقا واقعا ، وأن يتظاهروا بما تريده السلطة منهم ، ولّد عندهم ازدواج الشخصية ، هذا الازدواج الذي يرجع إليه سر المأساة الدامية الطويلة الأمد التي عاشها الثائرون على حكام الجور من الأمويين والعباسيين ومن تلاهم من الظالمين ، هذا الازدواج في الشخصية صوّره الفرزدق للإمام الحسين (ع) حين لقيه في بعض الطريق فسأله عن أهل الكوفة فقال له : « قلوبهم معك وسيوفهم عليك »(٢) .

الوضع النفسي للأمة :

الحروب المتلاحقة خلال خمس سنوات تقريبا ، حروب الجمل وصفين والنهروان ، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع الشامية وبين مراكز لحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم ولدت في نفوس أصحاب الإمام علي (ع) حنينا إلى السلم والاستراحة. فقد مرت عليهم سنوات وهم لا يضعون سلاحهم من حرب إلا ليشهروه في حرب أخرى

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١١٢

(٢) المصدر نفسه ، ص ١٢٤.

١٦

إلى جانب هذا كانوا لا يحاربون جماعات غريبة عنهم ، وإنما يحاربون إخوانهم وعشائرهم وأصحابهم الذين تربطهم بهم مودة ومعرفة. ولا ريب أن مثل هذا الشعور بدأ يظهر بوضوح في آخر عهد الإمام علي إثر إحساسهم بالهزيمة أمام مراوغة خصمهم في يوم التحكيم ، حيث اكتشف زعماء القبائل ومن إليهم أن سياسة أمير المؤمنين لا يمكن أن تلبي مطامحهم التي تزكيها سياسة معاوية في دفع المال وإقطاع الولايات ، فحاولوا إذكاء هذا الشعور والتأكيد عليه. وقد ساعد على تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبلية التي استفحلت في عهد عثمان بعد أن أطلقت من عقالها بعد وفاة النبي (ص).

ولا يخفى أن الإنسان القبلي عالمه قبيلته ، ينفعل بانفعالاتها ويطمح بطموحاتها ، ويعادي من يعاديها. فهو كما وصفه أحد الشعراء :

وما أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وقد عبر الناس عن رغبتهم في الدعة وكراهيتهم للقتال بتثاقلهم عن الخروج لحرب الفرق السورية التي كانت تغير على الحجاز واليمن وحدود العراق. فلم يستجيبوا للإمام علي حين دعاهم للخروج ثانية إلى صفين.

ولما استشهد الإمام علي (ع) وبويع للإمام الحسن بالخلافة برزت هذه الظاهرة على أشدها ، وخاصة عندما دعاهم الإمام الحسن للتجهيز لحرب الشام ، حيث كانت الاستجابة باردة جدا. ثم جهز جيشا ضخما إلا أنه كتب عليه الهزيمة قبل ملاقاة العدو وذلك بسبب التيارات المتعددة التي كانت تتجاذبه. فقد « خف معه أخلاط من الناس : بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم خوارج يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب حيلة وطمع في الغنائم ، وبعضهم شكاك وأصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم ». وكان هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية واعدين بأن يسلموه الحسن حيا أو ميتا. وحين خطبهم الإمام الحسن ليختبر مدى إخلاصهم هتفوا من كل جانب « البقية البقية » بينما هاجمته طائفة تريد قتله. وفي

١٧

الوقت نفسه أخذ الزعماء يتسللون تحت جنح الليل بعشائرهم.

ولما رأى الإمام الحسن ، أمام هذا الوضع السيىء ، أن الظروف النفسية والاجتماعية في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزا عن النهوض بتبعات القتال ، ورأى أن الحرب ستكلفه استئصال المخلصين من أتباعه بينما يتمتع معاوية بنصر حاسم ، حينئذ جنح إلى الصلح بشروطها.

هكذا كانت الحال في عهد الإمام الحسن أما حالة الناس أثناء ثورة الإمام الحسين (ع) وفيما بعدها فقد ازدادت سوءا أو أصبح الأمر أكثر حراجة : فالذعر والخوف قد أطبق على الناس ، وقل الديانون كما أشار إلى ذلك الإمام الحسين بقوله : « الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ».

وظل الحسين (ع) يقاتل مع قلة من أهل بيته وأصحابه حتى سقط شهيدا مخضبا بدمائه الطاهرة على رمال كربلاء التي شهدت تلك المأساة الدموية التي لم يشهد التاريخ فظاعتها. وحينما استشهد الإمام الحسين (ع) مع أهل بيته وأصحابه تصور الأمويون وعامة الناس أن أهل البيت قد انتهى أمرهم ، وأفل نجمهم ، فلا الأمويون يخافونهم ، ولا غير الأمويين يرجونهم إلى جانب هذا لم يجرأ أحد على الاتصال بهم ، والجهل المطبق بالإسلام ، فكانت الردة عن أهل البيت (ع) عامة وشاملة. هذه هي الوضعية الاجتماعية والسياسية التي كان يعيش في ظلها الإمام زين العابدين (ع). وقد عايشها بوضوح كامل مع عمه الحسن (ع) ومع أبيه الحسين (ع) واستمرت هذه الظروف على أشدها طوال حياته فكيف يتصرف؟ وكيف يتحرك؟ وكيف تعامل مع الملوك والولاة الظالمين؟ هل يترك الأمور على ما هي؟ أم يرفع السيف للحرب؟.

المعروف عن الإمام زين العابدين (ع) أنه لم يرفع السيف في ذلك الوقت ولم يجهز جيشا للقيام بثورة ، إنما اتجه اتجاهات أخرى كانت في نظره أجدى في بناء الأمة وإعدادها للوقوف أمام تلك الانحرافات الخطيرة

١٨

التي حدثت على نطاق الحكم وفي داخل المجتمع. فما هي الأسباب التي دفعت الإمام (ع) إلى الامتناع عن القيام بالثورة في ذلك الوقت.

أ ـ الوضع السياسي والاجتماعي للأمة :

لقد وصلت الأمة إلى حالة من الإنهماك النفسي والجسدي بحيث لا يمكنها القيام بثورة شاملة. رأينا موقف المقاتلين المأساوي من الإمام الحسن (ع). كما رأينا كيف فعلت رشاوي معاوية فعلها بين رؤساء القبائل ، أضف إلى ذلك : التضليل الديني والسياسي وإحياء النزعات القبلية الجاهلية ، أمام هذه الأسباب وصلت الأمة إلى حالة من القعود والاسترخاء بحيث أصبحت غير مؤهلة لحمل الرسالة وأداء الأمانة ، فكيف سيكون موقف الإمام (ع) لو دعا إلى الثورة؟

ستكون النتيجة حتما الخذلان والفشل.

ب ـ عدم وجود قوة كافية ومؤهلة للثورة :

لم تكن هناك قوة كافية ناصرة ومؤيدة واعية لأهداف الثورة التي على الإمام القيام بها. وقد أكدعليه‌السلام على ذلك مرارا ، « روى النهدي قال : سمعت علي بن الحسين (ع) يقول : ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا »(١) . والحب الذي يعنيه الإمام هو الحب المقرون بالاتباع والإخلاص لأهل البيت ـعليهم‌السلام ـ فكيف يمكن للإمام أن يثور بشلة قليلة أمام جيش أموي كبير؟ لا يمكن تصور ذلك أبدا. علما أن الإمام السجاد (ع) كان واقعيا جدا في تصرفاته الحكيمة والدقيقة. إن الصفات الإسلامية المطلوبة في الثائرين غير موجودة. وفي الرواية التالية يبين لنا الإمام (ع)

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤٦ ، ص ١٤٣.

١٩

رأيه بوضوح « عن أبي عبد الله (ع) قال : لقي عباد البصري علي بن الحسين في طريق مكة فقال له : يا علي بن الحسين تركت الجهاد بصعوبته وأقبلت على الحج ولينته ، إن الله عز وجل يقول :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ * يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ * وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) . فقال لهعليه‌السلام :

أتم الآية ، فقال :( التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحج »(٣) .

فإذا وجد الثوار المتمثلة فيهم هذه الصفات بحيث تجري في دمائهم وهي جزء لا يتجزأ من كيانهم فإنه يقدم والله تعالى سينصرهم حتما وسينتصر بهم : « التائبون ، العابدون هؤلاء هم أنصار الله وأحباؤه وليس المراؤون المخادعون الكذابون المراوغون. ذلك أن الله مع الذين اتقوا والذين هم صادقون وقد وجد هؤلاء في عهد الرسول (ص) وانتصر بهم انتصارا باهرا بإذن الله فانتشروا في بقاع الأرض ونشروا معهم الرسالة الإسلامية ثمرة من ثمار إخلاصهم للدين الحنيف فوصلوا إلى الدرجات الرفيعة والصفات السامية النابعة من روح الإسلام العظيم.

ج ـ الاستفادة من التجارب السابقة :

لقد تجرع الإمام الكثير من الآلام بسبب ما أصابه من غم وهم

__________________

(١) التوبة ، الآية ١١١.

(٢) التوبة ، الآية ١١٢.

(٣) الكافي الكليني ، ج ٥ ، ص ٢٦.

٢٠

الحوادث التي جرت على جده أمير المؤمنين وعلى أبيه الإمام الحسين وعلى عمه الإمام الحسنعليهم‌السلام ، وقد رأى خذلان الناس عن نصرة أبيه وحيدا ، فريدا ، عطشانا على شط الفرات هذه التجربة أثرت في نفسه وتعلم منها دروسا واقعية مؤلمة واستخلص عبرا كثيرة في معرفة نفوس الناس وأحوالهم وأسلوبهم ، ولم يكن للأئمة المعصومين : علي والحسن والحسينعليهم‌السلام من سبيل أفضل مما فعلوه مع هذه الأمة ، فالأساليب التي اتبعوها والمواقف التي اتخذوها مع الناس لم يكن أمامهم غيرها ...

ولذلك لم يستجب الإمام زين العابدين لدعوة أهل العراق بالثورة ، وقد بيّن ذلك واتخذ موقفا حاسما واضحا تجاههم. نتلمس السبب في خطبته (ع) أمام أهل الكوفة بعد مقتل أبيه الإمام الحسين (ع) قال : « رحم الله امرءا قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله ورسوله وأهل بيته فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة. فقالوا بأجمعهم : نحن كلنا سامعون ، ومطيعون ، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرنا يرحمك الله فإنّا حرب لحربك وسلم لسلمك لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا ، فقال (ع) : هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى آبائي من قبل!؟ كلا! فإن الجرح لما يندمل ، قتل أبي بالأمس وأهل بيتي معه ، ولم ينسني ثكل رسول الله (ص) وثكل أبي وبني أبي ، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصصه تجري في فراش صدري ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ثم قال :

لا غرو أن قتل الحسين فشيخه

قد كان خيرا من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي

أصاب حسينا كان ذلك أعظما

قتيل بشط النهر روحي فداؤه

جزاء الذي أرداه نار جهنما

كما نرى في عبارات الإمام السجاد (ع) :

٢١

ولم ينسني ثكل رسول الله (ص) وثكل أبي وبني أبي ، وجده بين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي وغصصه تجري في فراش صدري ».

هذه الكلمات تحمل بين طياتها المرارة والألم الشديد في كل قطعة من جسم الإمام (ع) والغصة ما برحت باقية في حلقه حزنا وكمدا من هذه التجربة المرة جعلته يتخذ موقفا حاسما لا مهادنة فيه بأن لا يكرر التجربة التي مرت على آبائه وأهل بيته يرفض الاستجابة لم يدعوه القيام بالثورة على الحكم الأموي دون أن يطمئن لأسباب الانتصار.

د ـ قسوة الملوك وانحرافهم عن الإسلام :

المتتبع للتاريخ يرى بوضوح أن من أسباب فشل الثورات التي قامت في عهد الأمويين والعباسيين هو حدوثها في وقت قوة الحكام والولاة لا في زمن ضعفهم.

لقد كان الملوك الأمويون وولاتهم في عصر الإمام (ع) في أوج قوتهم في ملكهم ويشهد التاريخ بأنهم أشد الناس قسوة وانحرافا عن الإسلام حيث وصل بهم الأمر إلى رمي الكعبة بالمجانيق وسبي المدينة وقتل ريحانة رسول الله (ص). وملوك عصره هم : يزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك. وولاة عصره هم : الحجاج بن يوسف الثقفي وعبيد الله بن زياد وهشام بن اسماعيل والي المدينة.

وكل هؤلاء كانوا من الفاسقين ، الظالمين ، لا يتورعون عن ارتكاب الحرام ، ففي عهدهم قتل أشرف الناس أبيّ الضيّم سيد الشهداء ، الحسين بن علي ، وسبيت المدينة وهدمت الكعبة ورميت بالمجانيق. ويزيد الخمير السكير كان صاحب جوار وكلاب وقرود ومنادمة على الشراب. والحجاج بن يوسف الثقفي كان ظالما غشوما أهلك الحرث والنسل وتطاول على الصحابة الشرفاء والعلماء الفضلاء. هذان نموذجان

٢٢

من النماذج العديدة من الملوك والولاة الذين كان قد عاصرهم الإمام (ع) فمثلهم يجب أن تعد لهم العدة الكافية ليقضي على طغيانهم وجبروتهم ، وهذا ما لم يكن متوفرا للإمام زين العابدينعليه‌السلام .

الحياة الاقتصادية في العصر الأموي :

تدهورت الحياة الاقتصادية في العصر الأموي ، في حياة الإمام زين العابدين (ع) تدهورا فظيعا ، فكانت جميع مرافقها مشلولة ومضطربة إلى أبعد الحدود ، فالزراعة التي كانت العمود الفقري في البلاد قد ضعفت كثيرا ، وذلك بسبب الفتن والاضطرابات الداخلية ، وإهمال الدولة لمشاريع الري ، وإصلاح الأرض والنظر في حاجات المزارعين. فنجم عن كل ذلك مجاعة عامة في البلاد أصابت معظم الطبقة العامة من السكان. كما ارتفعت أسعار السلع وخلت معظم البيوت من حاجات الحياة ، وأصبحت بطون الناس خاوية وأجسادهم عارية.

وقد صور الشاعر ابن عبدل الأسدي حالته الاقتصادية المزرية بقصيدة مدح بها بعض نبلاء الكوفة ، طالبا منه أن يسعفه بما تدر به كفه من جميل فقال :

يا أبا طلحة الجواد أغثني

بسجال من سيبك المعتوم

أحي نفسا ـ فدتك نفسي فإني

مفلس ، قد علمت ذاك ، قديم

أو تطوع لنا بسلف دقيق

أجره ، إن فعلت ذاك ـ عظيم

قد علمتم ـ فلا تقاعس عني

ما قضى الله في طعام اليتيم

ليس لي غير جرة وأصيص

وكتاب منمنم كالوشوم

وكساء أبيعه برغيف

قد رقعنا خروقه بأديم

وأكاف أعارينه نشيط

ولحاف لكل ضيف كريم(1)

__________________

(1) حياة الحيوان للجاحظ ، ج 5 ، ص 297.

٢٣

فكما نرى هذا الشاعر البائس ، نهشه الفقر والحرمان ، وأماته الجوع يطلب أن يسعفه هذا الرجل الكريم بالطعام ليحيي نفسه من براثن الفقر المدقع. وكانت عامة الناس تعيش حياة بائسة لا تعرف السعة والرخاء ، لأن الاقتصاد قد تحول كله إلى جيوب الأمويين وعملائهم.

ترف الملوك الأمويين :

انغمس ملوك الأمويين بالنعم والترف ، فكان فتيانهم يرفلون بالقوهي(1) والعرشي كأنهم الدنانير الهرقلية(2) ، وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب بأربعماية دينار ويقول : ما أخشنه(3) .

وروى هارون بن صالح عن أبيه قال : كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطيب ـ يعني المسك ـ الذي فيها(4) .

وكان مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة قمصان كأنها درج بعضها أقصر من بعض ، وفوقها رداء عدني بألفي درهم(5) . وقد ذكر المؤرخون الكثير من الأخبار التي تدل على ترفهم الكبير وتلاعبهم باقتصاد الأمة وثرواتها وبعدهم عن تعاليم الإسلام السمحة العادلة.

هباتهم السخية للشعراء :

أسرف الملوك الأمويون الكثير من هباتهم للشعراء ، فأجزلوا لهم

__________________

(1) القوهي : الثوب من الخز الفاخر.

(2) الأغاني ، ج 1 ، ص 310.

(3) طبقات ابن سعد ، ج 5 ، ص 246.

(4) الأغاني ، ج 9 ، ص 262.

(5) الأغاني ، ج 17 ، ص 89.

٢٤

العطاء ليقطعوا ألسنتهم وينطقوا بفضلهم. فالأحوص ، شاعرهم ، نال مرة مائة ألف درهم(1) ، كما نال مرة أخرى عشرة آلاف دينار ، ويشير إلى ثرائه الواسع في شعره فيوضح أنه لم يكن مكتسبا من تجارة أو ميراث وإنما هو من هبات الأمويين وعطاياهم فقال :

وما كان لي طارفا من تجارة

وما كان ميراثا من المال متلدا(2)

ولكن عطايا من إمام مبارك

ملا الأرض معروفا وجودا وسؤددا

وقال في مدح الوليد بن عبد الملك :

إمام أتاه الملك عفوا ولم يثب

على ملكه مالا حراما ولا دما(3)

تخيره رب العباد لخلقه

وليا وكان الله بالناس أعلما

فلما ارتضاه الله لم يدع مسلما

لبيعته إلا أجاب وسلّما

ينال الغنى والعز من نال وده

ويرهب موتا عاجلا من تشاء ما

وإن بكفيه مفاتيح رحمة

وغيث حيا يحيا به الناس مرهما

يقول الشاعر إن من يتصل بالوليد ويكون من عملائه يخفي مساوءه وينشر فضائله متملقا متكسبا ، ينال الغنى والثراء العريض ، وأما من ينصرف عنه ، فإنه ينال الموت المعجل. ومن الطبيعي أن نجد في كل عصر ، وخاصة في عصر الإرهاب والتجويع ، من يتملق للسلطان لينال الحظوة عنده فيكذب ويخادع ويصانع ليكسب لقمة عيشة ..

والأخطل شاعر البلاط الأموي ، وبصورة خاصة شاعر عبد الملك بن مروان. روى أحد أساطين الأدب قال : دخل الأخطل يوما على عبد الملك بن مروان فمدحه بقصيدة عامرة الأبيات مطلعها « خف القطين » فأعجب بها الملك الأموي أيما إعجاب وقال للأخطل : ويحك! أتريد أن

__________________

(1) الأغاني ، ج 9 ، ص 172.

(2) الأغاني ، ج 9 ، ص 8.

(3) الأغاني ، ج 1 ، ص 29.

٢٥

أكتب إلى الآفاق أنك أشعر العرب ، فقال : أكتفي بقول أمير المؤمنين ، فخلع عليه وأمر بجفنة كانت بين يديه فملئت له دراهم ، ثم أرسل معه غلاما فخرج به وهو يقول : هذا شاعر أمير المؤمنين ، هذا أشعر العرب.

قال الأخطل هذه القصيدة في عبد الملك بن مروان بعد فتحه العراق وانتصاره على مصعب بن الزبير ، وفرض عليه موقفه السياسي أن يهجو أعداء بني أمية ، فقال :

إلى امرىء لا تعدينا نوافله

أظفره الله ، فليهنأ له الظفر

الخائض الغمرة ، الميمون طائره

خليفة الله يستسقى به المطر

في نبعة من قريش يعصبون بها

ما إن يوازى بأعلى نبتها الشجر

تعلو الهضاب وحلوا في أرومتها

أهل الرّباء وأهل الفخر إن فخروا

حشد على الحق عيافو الخنا أنف

إذا ألمت بهم مكروهة صبروا

شمس العداوة حتى يستقاد لهم

وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا

أعطاهم الله جدا ينصرون به

لا جدّ الاّ صغير ، بعد ، محتقر

بني أمية قد ناضلت دونكم

أبناء قوم ، هم آووا ، وهم نصروا

أفحمت عنكم بني النجار قد علمت

عليا معد ، وكانوا طالما هدروا

يقول الأخطل شاعر البلاط الأموي المتكسب بشعره : إن الأمويين ، حشد على الحق ، وعداوتهم قاسية على من يتمرد عليهم. وقد ناضل الشاعر دونهم الأنصار وهم قبيلتا الأوس والخزرج الذين آووا النبي محمدا في يثرب لما هاجر من مكة.

ثم يمننهم ويقول إنه بمدحهم هذا أسكت عنهم بني النجار وهم قوم من الأنصار ومنهم شاعر النبي حسان بن ثابت إنه شاعر يبيع كلامه بدنانير الأمويين وهمه الوحيد كسب المال ولا فرق عنده بين الحق والباطل. ولم يكتف بمدحهم بل تكفل أيضا بهجاء أعدائهم.

ومن مدح الملوك إلى مدح الولاة ، إلى مدح أكثرهم فجورا وظلما وغدرا ، هو الحجاج بن يوسف الذي سفك الدماء وقتل الأحرار وهدم

٢٦

الكعبة ورماها بالمجانيق هذا الوالي الفاجر العاهر مدحه الأخطل بقصيدة عنوانها : « نور أضاء البلاد » ، قال فيها :

أحيا الإله لنا الإمام فإنه

خير البرية للذنوب غفور

نور أضاء لنا البلاد وقد دجت

ظلم تكاد بها الهداة تجور

الفاخرون بكل فعل صالح

وأخو المكارم بالفعال فخور

فعليك بالحجاج لا تعدل به

أحدا إذا نزلت عليك أمور

ولقد علمت وأنت أعلمنا به

أن ابن يوسف حازم منصور

وأخو الصفاء فما تزال غنيمة

منه يجيء بها إليك بشير

وهذا أيضا شعر تكسبي هم صاحبه كسب الميل ونيل الجوائر السنية من ملوك بني أمية وولاتهم.

هباتهم للمغنين والمطربين :

كما أجزل الأمويون العطاء للشعراء ، فقد أغدقوا الجوائز على المغنين الذين توافدوا عليهم من شتى البلدان.

فقد أعطى الوليد بن يزيد معبدا المغني اثني عشر ألف دينارا(1) واستقدم جميع مغني ومغنيات الحجاز وأغدق عليهم الجوائز الكثيرة(2) .

من هؤلاء وفد على يزيد بن عبد الملك معبد ومالك بن أبي السمح وابن عائشة فأمر لكل واحد منهم بألف دينار(3) .

وطلب الوليد المفتي يونس الكاتب فذهب إليه وغناه فأعجب بغنائه ، فأجازه بثلاثة آلاف دينار(4) . وهكذا كما ترى كانت تتفرق ثروات الأمة

__________________

(1) الأغاني ، ج 1 ، ص 55.

(2) الأغاني ، ج 5 ، ص 111.

(3) الأغاني ، ج 4 ، ص 10.

(4) الأغاني ، ج 4 ، ص 400.

٢٧

الإسلامية على المغنين والمطربين والعابثين من أجل نزوات الملوك الرخيصة ورغباتهم الحقيرة. وذلك في وقت أخذ الفقر والبؤس فيه يشد على خناق المواطنين ، ولم يعد للاقتصاد الإسلامي أي وجود في واقع الحياة العامة. ولا يخفى أن هذه صفات الحكم الدكتاتوري الذي يسير وراء الأهواء والعواطف ولا يتقيد بقانون أو دين أو أخلاق.

شيوع الغناء :

شاع الغناء في المدينة المنورة حتى أصبحت مركزا له ومقصدا للمغنين والمغنيات من شتى البلدان. قال أبو الفرج الأصفهاني : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم(1) وقال أبو يوسف لبعض أهالي المدينة : ما أعجب أمركم يا أهل المدينة ، في هذه الأغاني ، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها(2) .

وكان العقيق إذا سال ، وأخذ المغنون يلقون أغانيهم لم يبق في المدينة مخبأة ، ولا شابة ولا شاب ، ولا كهل إلا خرج ببصره ويسمع الغناء(3) . ومن طريف ما ينقل أنه شهد عند عبد العزيز المخزومي ، قاضي يثرب دحمان المغني الشهير لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق فأجاز القاضي شهادته وعدله ، فقال له العراقي : إنه يغني ويعلم الجواري الغناء ، فقال القاضي : غفر الله لنا ولك ، وأينا لا يتغنى(4) .

وكان فقيه المدينة مالك بن أنس له معرفة تامة بالغناء ، فقد روى حسين بن دحمان الأشقر ، قال : كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أغني :

__________________

(1) الأغاني ، ج 8 ، ص 244.

(2) العقد الفريد ، ج 3 ، ص 233.

(3) العقد الفريد ، ج 3 ، ص 245.

(4) الأغاني ، ج 6 ، ص 21.

٢٨

ما بال أهلك يا رباب

خزرا كأنهم غضاب(1)

قال : فإذا خوخة قد فتحت ، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء ، فقال : يا فاسق أسأت التأدية ، ومنعت القائلة وأذعت الفاحشة ، ثم اندفع يغني فظننت أن طويسا قد نشر بعينه ، فقلت له : أصلحك الله من أين لك هذا الغناء؟ فقال : نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم ، فقالت لي أمي : إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه ، فدع الغناء ، وأطلب الفقه ، فإنه لا يضر معه قبح الوجه ، فتركت المغنين واتبعت الفقهاء. فقلت له : فأعد جعلت فداك ، فقال : لا ، ولا كرامة ، أتريد أن تقول : أخذته عن مالك بن أنس ، وإذا هو مالك بن أنس ، ولم أعلم.

وسواء أصحت هذه الرواية أم لا تصح ، وسواء أوضعها الحاقدون على مالك أم نقلوها للحط من شأنه ، فإن الذي لا ريب فيه أن المدينة المنورة في العصر الأموي كانت مركزا مهما من مراكز الغناء في العالم الإسلامي ، ومعهدا خاصا لتعليم الجواري الغناء والرقص.

الغناء والرقص :

كانت تقام في يثرب والمدينة حفلات الغناء والرقص لأشهر المغنين والمغنيات ، وربما كانت مختلطة بين الرجال والنساء ، ولم توضع بينهما ستارة(2) .

روى أبو الفرج قال : إن جميلة جلست يوما ، ولبست برنسا طويلا ، وألبست من كان معها برانس ، ثم قامت ورقصت ، وضربت بالعود ، وعلى رأسها البرنس الطويل ، وعلى عاتقها بردة يمانية ، وعلى القوم أمثالها وقام ابن سريج يرقص ، ومعبد ، والغريدي ، وابن عائشة ، ومالك ، وفي يد كل

__________________

(1) الأغاني ، ج 4 ، ص 222.

(2) الشعر والغناء في المدينة ومكة ، ص 250.

٢٩

منهم عود يضرب به على ضرب جميلة ، ورقصها ، فغنت وغنى القوم على غنائها ، ثم دعت بثياب مصبغة ، ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا ، وتمشت ومشى القوم خلفها ، وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد(1) . وكانت عائشة بنت طلحة تقيم احتفالات مختلطة من الرجال والنساء ، وتغني فيها عزة الميلا(2) .

تأثير أهل المدينة بالغناء :

سمع عمر بن أبي ربيعة صوتا من جميلة فشق قميصه إلى أسفله فصار قباءا وهو لا يدري(3) . ويزيد بن عبد الملك اشترى المغنية ( سلامة القس ) من مولاها بعشرين ألف دينار(4) . ثم خرج أهل المدينة لتوديعها ، وقد ملؤوا رحبة القصر ، فوقفت بينهم وغنتهم :

فارقوني وقد علمت يقينا

ما لمن ذاق ميتة من إياب

والناس وراءها ينتحبون ويبكون كلما رددت هذا الصوت.

ويزيد بن عبد الملك اشترى المغنية والراقصة ( حبابة ) فجعلت تغني عنده ، وكان إلى جانبه الذي باعها ، وهو من أهل المدينة فعرض لحيته إلى شمعة فاحترقت ولم يحس بها من شدة الطرب. وقد نقل لنا المؤرخون الكثير من النوادر عن شدة تأثر أهل المدينة بالغناء والطرب.

تعليم الغناء في يثرب :

كانت يثرب في عهد الأمويين تعج بالمغنيين والمغنيات وكن يقمن

__________________

(1) الأغاني ، ج 8 ، ص 227.

(2) الأغاني ، ج 10 ، ص 57.

(3) الأغاني ، ج 8 ، ص 206.

(4) الأغاني ، ج 8 ، ص 343.

٣٠

بدور فعال في تعليم الغناء للفتيان والفتيات ، فانتشر الغناء وانتشر معه المجون والفساد. ومن المؤسف حقا أن مدينة النبي (ص) صارت في العصر الأموي مركزا للحياة العابثة ، وكان من المؤمل أن تكون مصدر إشعاع للثقافة الدينية ومركزا هاما للتطور الفكري والحضاري في العالم العربي والإسلامي ، إلا أن ملوك بني أمية انتزعوا منها هذه الظاهرة الكريمة وأفقدوها زعامتها السياسية والاجتماعية والدينية.

ويبدو أن تركيز الأمويين على تدفق الجواري وإشاعة الغناء في هذه المدينة بالذات القصد منه هو تلهي الشباب بهذه الأمور وإبعادهم عن المطالبة بالخلافة والحكم. فالمال لديهم ، والجواري عندهم ، ودور الغناء والرقص موجودة للتلهي وإضاعة الوقت ، ولماذا الحروب والقيام بالثورة. هكذا كان يفكر الحكم الأموي.

إلا أنهم توهموا ذلك حيث قامت الثورات من كل جانب فكانت ثورة التوابين الذين ندموا أشد الندم على تركهم نصرة الحسين (ع). وثورة المختار ، وثورة ابن الزبير ...

مجون الأمويين :

عاش ملوك بني أمية كالقياصرة والأكاسرة ، حياة كلها لهو وعبث ، فامضوا لياليهم بشرب الخمور وإقامة حفلات الغناء والرقص ، وكان أول من آوى المغنين وشجع الغناء من بني أمية يزيد بن معاوية الذي بذل أبوه كل جهد حتى سلمه زمام الحكم. فقد كان يطلب المغنين والمغنيات من المدينة إلى الشام(1) ، ويتجاهر بالفسق والفجور ويشرب الخمر علنا لا يخاف لا من ربه ولا من مجتمعه.

ومن مجانهم المعروفين الوليد بن يزيد الذي باع عقله للشيطان

__________________

(1) الأغاني ، ج 8 ، ص 343.

٣١

وعاش متهتكا فاسقا فارغا من كل القيم الأخلاقية. طلب المغني المعروف ابن عائشة فغناه بصوت رخيم ، فطرب الأمير الأموي على غنائه حتى فقد صوابه. فقال للمغني : أحسنت ، أحسنت ، ثم نزع ثيابه ، فألقاها عليه ، وبقي مجردا إلى أن أتوه بمثلها ، ووهب له ألف دينار ، وحمله على بغلة ، وقال : اركبها بأبي أنت ، وانصرف ، فقد تركتني على مثل ( المقلى ) من حرارة غنائك(1) .

ثم استقدم مغنيا آخر ، عطردا ، ولما سمع منه أحد أصواته شق عليه حلة وشي ، ورمى بنفسه في بركة خمر ، فما زال بها حتى أخرج كالميت سكرا ، ولما أفاق قال لعطرد : كأني بك قد دخلت المدينة ، فقمت في مجالسها وقعدت ، وقلت : دعاني أمير المؤمنين ، فدخلت عليه فاقترح علي فغنيته وأطربته ، وشق ثيابه ، وفعل ، والله لئن تحركت شفتاك بشيء مما جرى فبلغني لأضربن عنقك ، ثم أعطاه ألف دينار فأخذها وانصرف إلى المدينة(2) .

ومن مجانهم أيضا يزيد بن عبد الملك ، فقد طلب ابن عائشة فلما مثل عنده أمره بالغناء ، فغناه صوتا طرب منه حتى ألحد في طربه ، وقال لساقيه : اسقنا بالسماء الرابعة(3) . هكذا أشاع هؤلاء الملوك الفسق والفجور في جميع أنحاء العالم الإسلامي وبصورة خاصة في يثرب للقضاء على قدسيتها ، وما تتمتع به من مكانة مرموقة في نفوس المسلمين لكنهم فشلوا لأن كلمة الله هي العليا وأنصار الحق لا يهزمون مهما صادفوا من ظلم وجور وطغيان ، بل حمدوا وجاهدوا وأعطوا دروسا في التضحية والفداء ما زالت مشاعل مضيئة على دروب المجاهدين.

__________________

(1) الأغاني ، ج 8 ، ص 324.

(2) الأغاني ، ج 3 ، ص 226.

(3) الأغاني ، ج 3 ، ص 307.

٣٢

مواقف الإمام من هذه التيارات :

أمام هذه التيارات الفاسدة المدمرة للأخلاق والقيم الإنسانية ، كان موقف الإمام زين العابدين (ع) متسما بالقوة والصلابة والجرأة ، فقد سلط عليها أشعة من روحه المقدسة التي تفيض بها الصحيفة السجادية. فهي بحق تربية أخلاقية واجتماعية وسياسية وروحية ، وذلك بما حوته من وعظ وإرشاد ، وما اشتملت عليه من قيم الإسلام وهدى أهل البيتعليهم‌السلام .

لقد وقفت الصحيفة السجادية سدا منيعا لحماية الإسلام وصيانته من ذلك التفسخ الجاهلي الذي أوجده الحكم الأموي فقد نعت على الأمة ما هي فيه من الانحطاط الفكري والاجتماعي ودعتها إلى الانطلاق والتحرر من ذل المعصية إلى عز الطاعة طاعة الله العلي القدير خالق الكون وواهب الحياة.

يضاف إلى الصحيفة السجادية سيرة الإمام التي كانت تحكي سيرة جده الرسول الأعظم (ص) ومواقفه المحقة التي ترشد الضال وتهدي الحائر إلى الطريق القويم.

لكن نظرا للحالة السياسية والاجتماعية القلقة والمشحونة بالفتن والحروب والثورات التي كانت تحيط بالإمام زين العابدين ووجوده بين الأمة المظلومة ، وبين الملوك والأمراء القساة ، الجفاة ، المنحرفين عن الإسلام والذين يسومون الناس أنواع البلاء ، ففي خضم هذه التيارات كان موقف الإمامعليه‌السلام صعبا جدا وحرجا للغاية.

ها هي واقعة كربلاء ماثلة أمام عينيه بدمائها ودموعها وأحزانها ..

وها هي وقعة الحرة واستباحة المدينة يعايش آلامها وأحزان أهلها ، وها هي الكعبة تضرب بالنار وبالمجانيق. هكذا كان أسلوب الحكام والملوك في عهده ، أما أنصاره فلا يجد لهم أثرا ولا يجد الرجل الذي يقف معه موقفا مؤيدا حتى الشهادة.

٣٣

حقا لقد كان موقف الإمام صعبا جدا حيث يضطر في كثير من الأحيان إلى اللجوء إلى الكعبة فيتعلق بأستارها ويدعو الله دعاء حارا خالصا. كما كان يلجأ في أحيان أخرى إلى قبر جده رسول الله (ص) يدعوه ويتهجد ويتعبد فتنفرج الأزمات ويجعل الله من بعد العسر يسرا.

1 ـ الإمام (ع) مع ملوك عصره :

كان موقف الإمام السجاد من ملوك عصره موقف الحازم الحاسم الذي لا يساوم ولا يداهن في دين الله وفي شريعة الله ، فلم يتقرب من الملوك ولم يمدحهم ، بل كان موقفه الحذر منهم والصلابة تجاههم ..

وفي أكثر الأحيان يسدي النصيحة لهم خدمة للإسلام والمسلمين. كان أكثر ملوك بني أمية احتكاكا به هو عبد الملك بن مروان وقد عاصر الإمام (ع) عشرين سنة اتبع خلالها عبد الملك أساليب ملتوية عديدة :

أ ـ الترهيب ، ب ـ الترغيب ، ج ـ العجز.

أ ـ الترهيب :

اتبع عبد الملك مع الإمام أسلوب التهديد والترهيب منها : الاعتقال والتضييق والإرهاب الجسدي.

قال الزهري : شهدت علي بن الحسين (ع) يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام ، فأثقله حديدا ووكل به حفاظا في عدّة وجمع فاستأذنهم في التسليم والتوديع له فأذنوا فدخلت عليه ، والأقياد في رجليه والغل في يديه فبكيت وقلت : وددت أني مكانك وأنت سالم ، فقال : يا زهري أو تظن هذا بما ترى عليّ وفي عنقي يكريني؟ أما لو شئت ما كان فإنه وإن بلغ بك ومن أمثالك ليذكرني عذاب الله ، ثم أخرج يديه من الغل ورجليه من القيد ثم قال : يا زهري لا حراث معهم على ذا منزلتين من المدينة ، قال : فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكلون يطلبونه بالمدينة

٣٤

فما وجدوه. فكنت فيمن سألهم عنه ، فقال لي بعضهم : إنا نراه متبوعا ، إنه لنازل ، ونحن حوله لا ننام نرصده إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدة. فقدمت بعد ذلك على عبد الملك فسألني عن علي بن الحسين فأخبرته فقال : إنه قد جاءني في يوم فقد الأعوان فدخل علي فقلت : أقم عندي ، فقال : لا أحب ، ثم خرج فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة. قال الزهري :

فقلت : ليس علي بن الحسين (ع) حيث تظن أنه مشغول بنفسه ، فقال : حبذا شغل مثله فنعم ما شغل به »(1) . وتابع عبد الملك مع الإمام (ع) الإرهاب النفسي فأرسل الرسائل والكتب وبعث له الوفود يتوعده ويتهدده بقطع رزقه. من افتراءات عبد الملك على الإمام : « بلغ عبد الملك أن سيف رسول الله (ص) عنده فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة فأبى عليه ، فكتب عبد الملك يهدده وأنه يقطع رزقه من بيت المال ، فأجابه (ع) : أما بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون ، والرزق من حيث لا يحتسبون. وقال جل ذكره :( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ) فانظر أينا أولى بهذه الآية(2) .

لم تؤثر أساليب عبد الملك مع الإمام (ع) ، بل زادته صلابة وحزما والتجاءا إلى الله تعالى. فكان موقفه الرافض بل وصف عبد الملك استيحاء من الآية بأنه خوان كفور!! ...

ب ـ الترغيب :

ولما لم ينفع الترهيب ، اتبع عبد الملك مع الإمام (ع) أسلوبا آخر وهو الترغيب بالمال والعطايا السخية وإرجاع حقوق أهل البيت عليهم

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 123.

(2) المصدر نفسه ، ص 95.

٣٥

السلام المغصوبة ، ظنا منه بأن يستدرج الإمام (ع) ويستميله إلى جانبه. ولكن هيهات أن ينفع هذا الأسلوب مع أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة والمبدأ الثابت الرصين.

روي عن عبد الملك بن عبد العزيز قال : « لما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة رد إلى علي بن الحسين (ع) صدقات رسول الله (ص) وصدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). وكانت مضمومتين(1) .

والآن ماذا على عبد الملك أن يفعل ، فلا الترهيب أثر به على الإمام المعصوم (ع) ولا الترغيب ، فتركه وشأنه عندما وصل إلى مرحلة العجز.

ج ـ العجز :

عرفنا إن الأساليب التي اتبعها عبد الملك مع الإمام ترهيبا وترغيبا لم تجده نفعا ، ولم تغير موقفه ، ذلك أن روحية أئمة الهدى ومواقفهم ثابتة ومعروفة تجاه الحق. فلم يبق لعبد الملك بن مروان إلا أن يترك الإمام وشأنه ولا يتعرض له. بل أوصى ولاته بترك أهل البيت (ع) وشأنهم وعدم التعرض لهم قال أبو عبد الله (ع) : لما ولي عبد الملك بن مروان واستقامت له الأمور كتب إلى الحجاج بن يوسف : « أما بعد فجنبني دماء بني عبد المطلب فإني رأيت آل أبي سفيان لما ولغوا فيها لم يلبثوا بعدها إلا قليلا والسلام ». وكتب الكتاب سرا دون أن يعلم به أحد وأرسل به مع البريد إلى الحجاج واليه على الكوفة.

وأخبر أن عبد الملك قد زيد في ملكه برهة من دهره لكفه عن بني هاشم وأمر أن يكتب ذلك إلى عبد الملك ويخبره بأن رسول الله (ص) أتاه في منامه وأخبره بذلك ، فكتب علي بن الحسين (ع) إلى عبد الملك بن

__________________

(1) المصدر نفسه ، ص 119.

٣٦

مروان يخبره بذلك »(1) .

2 ـ تعامل الإمام (ع) مع الحكام :

ورد معنا أن الأسلوب الذي اتبعه الإمام (ع) مع الملوك هو الحذر والحزم وعدم المداهنة في دين الله. فكان يجهر بالحق علانية أمام أولئك الملوك فيظهر أخطاءهم ويبين لهم عاقبتهم المزرية يوم القيامة ، يومئذ يكون الملك لله الواحد القهار فلم يتقرب إليهم الإمام (ع) ولم يجاملهم.

لكن حينما تكون هناك مصلحة إسلامية ودفاع عن بيضة الإسلام فلا يتوانى (ع) في تقديم المشورة أو النصيحة ، كما كان يفعل جده أمير المؤمنين ، علي بن أبي طالب (ع) حيث كان يقدم الخبرة والمشورة للخليفتين : أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب مع غصبهم لحقه. لكن مصلحة الإسلام في نظره (ع) أهم وأفضل من كل مصلحة. وكان يحل لهما المعضلات في الحكم والقضاء. هكذا كان يفعل أمير المؤمنين (ع) وهكذا فعل حفيده زين العابدين.

من هذه الاستشارات التي قدمها الإمام زين العابدين لعبد الملك بن مروان طريقة صك النقود ، والرد على ملك الروم وتفصيل ذلك : « استقدمه عبد الملك بن مروان مرة أخرى إلى دمشق فاستشاره في جواب ملك الروم عن بعض ما كتب إليه فيه من أمر السكة والقراطيس »(2) .

نستشف ذلك من الرواية التالية :

« كتب ملك الروم إلى عبد الملك : أكلت لحم الجمل الذي هرب

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 119.

(2) البداية والنهاية لابن كثير ، ج 9 ، ص 104.

٣٧

عليه أبوك من المدينة. لأغزونك بجنود مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف ، فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى زين العابدين (ع) ويتوعده ويكتب إليه ما يقول ففعل وقال (ع) :

« إن لله لوحا محفوظا يلحظه في كل يوم ثلاثماية لحظة ، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ، وإني لأرجو أن يكفيك منها لحظة واحدة ، فكتب بها الحجاج إلى عبد الملك فكتب عبد الملك بذلك إلى ملك الروم ، فلما قرأه قال : ما خرج هذا إلا من كلام النبوة »(1) .

3 ـ تعامل الإمام مع الولاة :

الولاة يمثلون ملوكهم الجبابرة الطغاة فهم نسخة طبق الأصل من ظلمهم وانحرافهم عن الإسلام ، بل فاقوا ملوكهم بعض الأحيان في الظلم والجور ، كما هو الحال مع الحجاج وعبيد الله بن زياد وهشام بن إسماعيل ومسرف بن عقبة ...

فكان الإمام (ع) يتخذ الموقف نفسه منهم ألا وهو الحذر وعدم المجاملة ذلك كان الطابع العام لسياسته معهم. وفي أغلب الأحيان كان يستخدم الدعاء لدفع كيدهم ورد ظلمهم ، فكان هذا الأسلوب مثمرا جدا.

عن عمر بن علي ، عن أبيه ، علي بن الحسين (ع) : كان يقول : لم أر مثل التقدم في الدعاء ، فإن العبد ليس تحضره الإجابة في كل وقت وكان مما حفظ عنه (ع) من الدعاء حيث بلغه توجه مسرف بن عقبة إلى المدينة « رب كم من نعمة أنعمت بها علي قلّ عندها شكري ، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري ، فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني ، وقل عند بلائه صبري فلم يخذلني ، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ويا ذا النعماء

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 133.

٣٨

التي لا تحصى عددا. صل على محمد وآل محمد وادفع عني شره فإني أذرأ بك في نحره وأستعيذ بك من شره ».

فقدم مسرف بن عقبة المدينة وكان يقال لا يريد غير علي بن الحسين (ع) فأتاه فلما صار إليه قرّبه وأكرمه ، وحباه ووصله. وقال له :

أوصاني أمير المؤمنين ببرك وتمييزك من غيرك فجزاه خيرا ثم قال : أسرجوا له بغلتي وقال له : انصرف إلى أهلك فإني أرى أن قد أفزعناهم وأتعبناك بمشيك إلينا ولو كان بأيدينا ما نقوى به على صلتك بقدر حقك لوصلناك فقال علي بن الحسين (ع) : ما أعذرني للأمير ، وركب ، فقال مسرف لجلسائه : هذا الخير الذي لا شر فيه مع موضعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه »(1) .

وكان الإمام زين العابدين (ع) لا يلزم نفسه بالدعاء فقط بل يوصي الآخرين من أهل بيته وخاصته ، وأصحابه وشيعته ، يوصيهم بالتعرض لنفحات الله عند الوقوع في شدة أو مصيبة. فكان الدعاء عنده سلاحا ناجعا ضد الطغاة والظالمين والمنحرفين عن الإسلام من ملوك بني أمية وولاتهم.

كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامله على المدينة صالح بن عبد الله المري : أبرز الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ وقد كان محبوسا في حبسه ـ واضربه في مسجد رسول الله (ص) خمسمائة سوط ، فأخرجه صالح إلى المسجد واجتمع الناس وصعد صالح المنبر يقرأ الكتاب ثم ينزل فيأمر بضرب الحسن ، فبينما هو يقرأ الكتاب إذ دخل علي بن الحسين (ع) فأفرج الناس عنه ، لهيبته وتقاه حتى انتهى إلى الحسن ، فقال له : يا بن عم ادع الله بدعاء الكرب يفرّج عنك ، فقال : ما هو يا بن عم؟ فقال (ع) : قل وذكر الدعاء ..

قال وانصرف علي بن الحسين (ع) وأقبل الحسن يكررها فلما فرغ

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 122.

٣٩

صالح من قراءة الكتاب ونزل قال : أرى سجية رجل مظلوم أخّروا أمره وأنا أراجع أمير المؤمنين فيه ، وكتب صالح إلى الوليد في ذلك ، فكتب إليه الوليد وأطلقه(1) .

والولاة كانوا يأتمرون بأمر الملوك ، فكانوا يؤذون الإمام زين العابدين (ع) ويتفننون في إيذائه ، ثم إذا انقلب الزمان عليهم ودارت دائرتهم ، فأخرجوا من إمارتهم أو انتصر عليهم غيرهم وتمكن منهم كان جواب الإمام (ع) الصفح عنهم وعدم التعرض إليهم مع أذاهم وتهديدهم ...

« كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين في إمارته ، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للنّاس فقال : ما أخاف إلا من علي بن الحسين ، فمر به علي بن الحسين وقد وقف عند دار مروان ، فتقدم إلى خاصته ألا يعرض أحد منكم بكلمة ، وقال له (ع) : أنظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به فعندنا ما يسعك فطب نفسا منا ومن كل من يطيعنا. فنادى هشام : الله أعلم أين يجعل رسالته »(2) .

* * *

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 46 ، ص 114. عن الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 189 طبع النجف.

(2) المصدر نفسه ، ج 46 ، ص 94. عن الطبري ج 8 ، ص 61.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274