الاقتصاد الإسلامي

الاقتصاد الإسلامي0%

الاقتصاد الإسلامي مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 140

الاقتصاد الإسلامي

مؤلف: الشهيد آية الله محمد حسين بهشتي
تصنيف:

الصفحات: 140
المشاهدات: 32722
تحميل: 3948

توضيحات:

الاقتصاد الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 140 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32722 / تحميل: 3948
الحجم الحجم الحجم
الاقتصاد الإسلامي

الاقتصاد الإسلامي

مؤلف:
العربية

هو أنّ «ملكية» قد حدثت، لكن هل المقصود بالملكية هنا أن الشخص (أ) قد انجز عملاً انتاجياً وخلق قيمة استهلاكية جديدة ؟ من المؤكد أنه لم ينجز عملاً انتاجياً بقطف التفاح وجمعه، بل أخذ من مخزون الطبيعة بمقدار حاجته (في حالة وجود كمية وفيرة من التفاح) ويسمى هذا النوع من التملك في الاصطلاح الفقهي ب«الحيازة».

الحيازة والملكية

هل يصبح الانسان مالكاً في مثل هذا «الأخذ» من القيم الاستهلاكية المتوفرة بشكل جاهز في الطبيعة؟ لنضرب مثالاً لفهم هذه المسألة :

اننا نعرف أن ثمن الفاكهة أرخص في محل البيع بالجملة منه في محل البيع بالمفرد، فلو جمع عدد من الأشخاص مبلغاً من المال واشتروا به صندوقاً من الفاكهة فأصبحوا جميعاً يملكون هذا الصندوق بشكل مشاع، ثم أخذ كل واحد منهم حصته منه وذهب لسبيله، فهل سيصبح الشخص (أ)(١) مثلاً مالكاً لحصته بأخذها فقط ؟ أم بالمال الذي دفعه مسبقاً مع الآخرين ؟ ان اخذ الشخص (أ) لحصته يحولها من حصة مشاعة الى حصة مفروزة ومعينة، والا فإن مبدأ الملكية كان موجوداً بشكل مشاع قبل ذلك، وعلى هذا الأساس نتساءل : هل «الحيازة» هي منشأ الملكية أم أن الانسان يملك قبل الحيازة أيضاً ؟ ألم يكن هناك وجود للعلاقة بين البشر الذين وجدوا في هذا العالم على طول التاريخ وبين هذه الطبيعة الجاهزة قبل أن يوجد «الأخذ» و«الحيازة» ؟ أليست هناك علاقة ملكية مشاعة بين البشر والمواد الموجودة في الطبيعة قبل الحيازة ؟

في بعض الأحيان يجاب على هذا السؤال بالقول : إن حاجة الانسان الى هذه المواد المتوفرة في الطبيعة من أجل استمراره في الحياة دفعت الإتسان ذا التفكير السليم الى أن يفكر بعلاقة ملكية بين الانسانية ككل والطبيعة ككل، أي أن جميع البشر يملكون الطبيعة كلها، ولكل انسان حصة مشاعة في هذه الطبيعة، وان الأخذ والحيازة تفرزان حصته المشاعة. فلو أخذ بمقدار حاجته في حالة الوفرة بحيث يمكن للآخرين أن يأخذوا (بمقدار حاجتهم) فان منطق الفطرة يتقبل هذا الأمر، ولو لم

____________________

(١) على فرض أن الشخص (أ) واحد من الذين اشتركوا في شراء صندوق الفاكهة.

٢١

تكن وفرة بل كانت هناك شحة (كما في مثال التفاح مثلاً) وأخذ الشخص (أ) بمقدار ما يشبعه فقط، فحين يأتي الشخص التالي ويرى أنه لا يوجد أي شيء (سوى تلك الكمية من التفاح)، فإنّ له الحق في أن يطالب (أ) بحصته، ووجداننا الانساني يعطيه هذا الحق أيضاً، ألا يدل هذا على أن الأساس الفطري لهذه الفكرة يتمثل في أن الاشخاص : (أ) و(ب) و(ج) و(د) و... الخ جميعاً شركاء في هذه الطبيعة ككل، وأنه يجب - لهذا السبب - أن نأخذ بنظر الاعتبار شركاء آخرين أيضاً ؟(١)

في مثال شراء الفاكهة بصورة مشتركة من قبل عدة اشخاص نرى أنه : مع أن حصة كل واحد منهم قد لا تزيد عن اثنتين - وهو عدد قليل جداً لاستهلاك أسرة كل منهم - ولكنهم لا يحق لهم - حين التقسيم - المطالبة بأكثر من ذلك، وعليه فان الحيازة تعتبر مصدراً للملكية حسب المنطق الفطري ولكن بشكل محدود ومشروط.

نستنتج من ذلك أن الفكرة التي تنص على أن حاجة البشر للمواد المتوفرة في الطبيعة تعتبر مصدراً لملكيتهم العامة تجاه الأنفال والثروات العامة الموجودة في الطبيعة، وأن لكل انسان حصة تتناسب مع حاجته، ومع وفرة تلك المادة أو شحّتها في الطبيعة، فكرة ليست خاطئة.

والآن يجب أن نعرف ماذا نجد من الاشارات(٢) بهذا الصدد في نصوصنا الاسلامية، فهذه رواية رويت عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من قبل العامة والخاصة، ورويت بعبارة أخرى عن الامام الكاظم (ع):

«الناس شركاء في ثلاثة : النار والماء والكلأ».(٣)

____________________

(١) يجب الالتفات في هذا الصدد الى ما يلي :

إننا نقول حيناً ان الشخص (أ) قد أخذ ذلك العدد من التفاح في حالة الشحة فأصبح مالكاً لها، ولكن حين يأتي كل من (ب) و(ت) و(ث) و... يجب عليه أن يعطيهم مما يملك، وفي هذه الحالة نقول : إن الحيازة تعتبر مصدراً للملكية حتى في حالة الشحة، ولكنه يجب حينئذ على المالك أن يعطي الآخرين مما يملك. ونقول حيناً آخر انه مبدئياً لا يملك في حالة الشحة أكثر من تفاحة واحدة، وعلى أقل تقدير - وحتى لو لم نقل شيئاً بهذا الصدد - فإن من الواضح في منطق الفطرة أن الشخص (أ) لا يصبح مالكاً لكل ذلك التفاح. فلم يعد هناك - في أقل تقدير - مبرر لملكيته له، إذ ان منطق الفطرة لا يؤيد هذا الأمر في حالة الشحة.

(٢) ان لم نقل هناك «نصوص» ففي الأقل يمكن القول إن هناك «إشارات» بهذا الصدد.

(٣) مستدرك الوسائل، ج ٣ ص ١٥٠، كتاب احياء الموات، الباب الرابع، الرواية رقم (٢).

٢٢

والنار تعني : «المواد المستعملة في الوقود وما تضرم منه النار» والكلأ يعني : المراتع «أي النباتات التي يستفيد منها الانسان والحيوان».

أما ما روي عن الامام موسى الكاظم (ع) فهو كالآتي : «إنّ المسلمين شركاء في الماء والنار والكلأ».(١)

وعلى هذا الأساس لو وجدنا دستور الاتحاد السوفياتي ينص في فصل الاقتصاد على : «ان المعادن والمياه والغابات والمراعي وأمثالها أملاك عامة وملكيتها ملكية عامة» فإن هذه المسألة ليست من مبتكرات الماركسية،(٢) وقد جاء في ذلك الدستور أن ملكية هذه الأشياء ملكية «عامة» و«حكومية».

تقول الروايات بهذا الصدد : (عن ابي بصير عن ابي جعفر (ع) قال : «لنا الأنفال، قلت وما الأنفال ؟ قال : منها المعادن والآجام، وكل أرض لا ربّ لها، وكل أرض باد أهلها فهو لنا»).(٣)

وجاء في رواية أخرى : «أو بطون الأودية»(٤) او «وبطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام...»(٥) فهذه الأشياء (حسب هذه الروايات) ملك للإمام. أي انها ملك للدولة والأمة، وهذا يعني أن ملكيتها ملكية عامة، والناس شركاء في هذه الملكية، ويشمل ذلك حتى المواد الاستهلاكية الموجودة في الطبيعة بصورة جاهزة، والتي تسمى في اصطلاحنا الفقهي «المعادن الظاهرة» ولننقل هنا هذه الفتوى :

«في المعادن الظاهرة وهي التي لا تفتقر الى إظهار (كالملح والنفط

____________________

(١) التهذيب : للشيخ الطوسي ج ٧ كتاب التجارة ص ١٤٦، باب بيع الماء والمنع منه، الحديث رقم ٦٤٨.

(٢) جاء في المادة الحادية عشرة من الدستور السوفياتي الذي اقر في (٧) أكتوبر من عام ١٩٧٧ م ما يلي :

«إن ملكية الدولة تعتبر ملكاً عاماً لجميع أفراد الشعب السوفياتي، وهي الشكل الأساس للملكية الاشتراكية، فالأرض والثروات التي في باطنها، والمياه والغابات تنحصر ملكيتها بالدولة».

(٣) وسائل الشيعة، ج ٤، كتاب الخمس، الحديث (٢٨)، ص (٣٧٢).

(٤) وسائل الشيعة، ج ٤، كتاب الخمس، الحديث رقم (٣٢)، ص (٣٧٢).

(٥) وسائل الشيعة، ج ٤، كتاب الخمس، الحديث رقم (٣٢)، ص (٣٧٢).

٢٣

والقار) لا تملك بالإحياء ولا يختص بها الحَجر(١) ، وفي جواز إقطاع السلطان المعادن والمياه تردد، وكذا في اختصاص المقطع بها، ومن سبق اليها فله أخذ حاجته».(٢)

فعلى أي أساس قيل في هذه الفتوى : «فله أخذ حاجته» ؟ هل على أساس ان لا داعي لأن يأخذ أكثر من حاجته ؟ أم أن المسألة أكبر وأن المقصود من ذلك أنه يحق له مبدئياً أخذ مقدار حاجته، ولا يحق له أخذ أكثر من ذلك (ولو كان هناك داع لذلك) ؟

والدليل على كون الحيازة مصدراً للملكية يتمثل في أن هذه المسألة تشاهد في النصوص الفقهية على شكل استرسال مسلّمٍ به من قبل الفقهاء. واضافة الى ذلك هناك حديث نبوي بهذا الصدد وهو :

«من سبق الى ما لم يسبق اليه مسلم، فهو له».

وعلى هذا الأساس فان منطق الفطرة يعتبر الحيازة سبباً ومصدراً ثانياً للملكية، وكذلك الحال في دين الفطرة إذ أورد تعليماً بهذا الشأن.

جيم - الخدمات

المصدر الثالث للملكية هو «الخدمات»، فهناك بعض الأعمال التي لا يسمونها أعمالاً انتاجية، إذ أن العمل الانتاجي اصطلاح يطلق على العمل الذي يحدث تغييراً في الشكل لأيِّ جرم أو شيء مادي وعيني وخارجي بحيث ينتج ربحاً. فمثلاً حين تحوُّلُ قطعة من الحديد الى فأس أو منشار أو مسمار أو حدوة حصان أو عتلة أو أي شيءٍ آخر، أو حين تقوم بإذابة خامات الحديد وتصفيتها وتبديلها الى حديد، حينذاك يقال إنك أنجزت عملاً إنتاجياً.

ان بعض الأعمال لا يتسبب في ايجاد عينية خارجية بل تعود نتيجته الى الآخرين، فمثلاً حين يعالجك الطبيب، أو يزرقك المضمد حقنة، أو يضمد الممرض جرحك، وأمثال هذه الأعمال، فأي عمل يتم انجازه هنا ؟ حين يعرض شخص معين عمله الحي ليرفع به احدى حاجاتنا ويلبي احدى رغباتنا فإن مثل هذه

____________________

(١) الحَجرُ في الاصطلاح الفقهي : عبارة عن إيجاد سياج من الحجر ووضع علامات على الأرض وغير ذلك مما يفعله الذي يريد إعمار الأرض التي لا مالك لها لكي يمنع غيره من حيازتها. (م)

(٢) شرائع الاسلام للمحقق الحلي، ج ٣، كتاب إحياء الموات، ص ٢٧٨.

٢٤

الأعمال تسمى بالخدمات.

الخدمات والملكية

الانسان يملك عمله الحي والنافذ، فلو أوجد على أثر عمله الحي والنافذ جسماً عينياً له هيكل خارجي، أو حالة جديدة وقيمة استهلاكية جديدة فإنه سوف يصير مالكاً للجثة الميتة لعمله الحي أيضاً، وهكذا الأمر في العمل الانتاجي، والآن لو أنجز الانسان عملاً حياً ولكن نتيجته مجردة عن هذه الجثة، فهل هناك شيء يملكه (في الظاهر) ؟ هل يمكن القول : إن الطبيب الذي يمارس عمله في علاج أحد المرضى يملك صحة ذلك المريض وعافيته ؟ ولو أخذت قطعة من قماش الى الخياط وخاطها فهل يصبح شريكاً لك في تملكها ؟ وهل يمكن للطبيب حين تأخذ اليه ابناءك ليعالجهم أن يطالبك بحصة منهم ؟ وهل يمكن للمعلم حين يدرس تلاميذه أن يدعي أنه قد أصبح مالكاً لمعلوماتهم وأن كل ما تعلموه ملك له(١) ؟ وعلى هذا الاساس فإن الانسان - في الخدمات - لا يملك عينية خارجية تنتج من عمله كما هو الحال في العمل الانتاجي، ومع ذلك فان الخدمات تعتبر مصدراً للملكية. بمعنى أن الانسان إذ يملك هذا العمل فهو يستطيع أن يحصل على شيءٍ ما عن طريق مبادلته بعينية خارجية قابلة للتملك، وهذا صحيح من وجهة النظر الفطرية والاجتماعية، ومن الناحية الفقهية هناك اعتبار للملكية أيضاً.

وعلى ضوء ما تقدم فقد عرضنا ثلاثة أنواع من العمل باعتبارها مصادر

____________________

(١) هناك نقاش في بعض الأعمال مثل التعليم والتدريس حول، هل أنها أعمال انتاجية أم لا ؟ وهذه المسألة تابعة الى كيفية النظر الى هذه الاعمال، فحيناً ندرس من أجل المعرفة الصرف، فبعض الناس يرغبون في مزيد من المعرفة، وكثير من مطالعات الأفراد سببها ظمأهم الى المعرفة، ومن المؤكد أن هذا النوع من التدريس يعد من الخدمات، لكن حين يكون التدريس في مستوى الانتاج كالدورات التدريبية التي تقام في المصانع من أجل تحويل العامل البسيط أو العامل الفني الى عامل ماهر فما الهدف هنا ؟ الهدف هو رفع مستوى الانتاج، وعليه فان الدرس المهني الذي يعطى للعامل يدخل ضمن خط الانتاج، فماذا يضر لو سمي هذا النوع من التعليم عملاً انتاجياً غير مباشر ؟ لأن العمل الانتاجي - على ضوء ما تقدم - عبارة عن العمل الذي ينتج - بشكل مباشر أو غير مباشر - احدى البضائع أو الأشياء التي يحتاج اليها الانسان، ومن المؤكد أن هناك بعض الأعمال تتبلور نتيجتها في شكل عمل ميت، ومخزون على شكل تجسيد للعمل بعيداً عن النشاط في إطار جرم أو جسم معين، وهناك أيضاً بعض الأعمال المربحة بغير هذه الحالة بل هي أعمال حية لا يبقى منها شيء بعد استخدام الانسان لها ونطلق على هذا النوع من الاعمال اسم الخدمات.

٢٥

للملكية :

١ - العمل الانتاجي.

٢ - العمل الحيازي.

٣ - العمل الخدمي.

ثلاثة مصادر أخرى للملكية

ان العوامل الثلاثة التي ذكرت لحد الآن هي في الحقيقة مصادر ل«الملكية الابتدائية» وهناك - اضافة الى هذه العوامل الثلاثة - ثلاثة عوامل أخرى أيضاً تعتبر مصادر ل«الملكية الانتقالية».

أوّلاً - المبادلة

في المبادلة توضع عادة قيمتان استهلاكيتان في مقابل بعضهما، أي ان الانسان يعطي قيمة استهلاكية، ليأخذ قيمة استهلاكية أخرى. وهكذا نجد مصدراً جديداً للملكية يسمى ب«المبادلة». انك حين تملك شيئاً ما، وهناك شخص يملك شيئاً آخر تحتاج اليه وترغب في اقتنائه، فإنّ المنطق الفطري يعطيكما حق «المبادلة» هنا، أي يسمح لك بأن تعطيه الشيء الذي تملكه أنت ويحتاجه هو، وتأخذ منه ما يملكه هو وتحتاجه أنت، ونتيجة لهذا العمل تصبح أنت مالكاً لما كان عنده ويصبح هو مالكاً لما كان لديك، مثلاً انت تملك أربعة أرغفة من الخبز ولا تملك أداماً، وصديقك عنده أدام ولا يملك خبزاً فتعطيه رغيفاً من الخبز وتأخذ منه ما يقابل ثمنه من الادام، وهو بدوره يعطي الأدام ليحصل على الخبز. انك كنت قبل المبادلة تملك الخبز وصديقك يملك الأدام، ولكن الملكية تتغير أماكنها بعد إجراء المبادلة فتكون مالكاً لبعض الأدام وبعض الخبز، ويصير هو مالكاً في المقابل مثلك، ولا يهم هنا معرفة مصدر الملكية في الخبز أو الادام، سواء كان ذلك المصدر عملاً إنتاجياً، أو حيازياً أو خدمياً، لأن الطرفين يملكان ما يتبادلانه، على كل حال، إن المبادلة تأتي في المرحلة الثانية. إذ ما لم تكن مالكاً لشيء معين بأحد الطرق الثلاثة التي مرّ ذكرها فلن تكون مالكاً للشيء الآخر، وأحياناً تجري المبادلة بالعمل الخدمي فيكون أحد طرفي المبادلة مالكاً لعمله الانتاجي والطرف الآخر مالكاً لعمله الخدمي. فمثلاً حين كان الأطباء في السابق

٢٦

يذهبون الى القرى كانوا يذهبون اليها حاملين معهم محفظة أقلام وبعض القصاصات من الورق ليعودوا وقد حمل كل منهم خرجاً مملوءاً، فكان الطبيب يعرض علاجه ويبادل عمله الحي الذي كان يملكه بانتاج القروي أو حيازته، وأحياناً يتبادل الانسان الخدمة بخدمة أخرى. فمثلاً يعالج الطبيب صباغاً بشرط أن يصبغ عيادته ففي هذه الحالة تُبادل الخدمة بالخدمة.

ولا يمكن للانسان المتقدم في ميدان الاقتصاد أن يؤمِّن جميع حاجاته بشكل مباشر عن طريق الانتاج أو الحيازة أو الخدمات التي يقدمها، ولذلك فهو ينتج واحدة أو اثنتين من القيم الاستهلاكية الفائضة عن استهلاكه او استهلاك أسرته، أو يحصل عليها عن طريق الحيازة، أو يعرضها على شكل عمل خدمي، ثم يبادلها بأنواع أخرى من القيم الاستهلاكية التي يحتاجها هو ولا ينتجها هو، بل يعرضها أناس آخرون.(١) وهناك فيما يتعلق بالمبادلة نقطتان لا بد من ذكرهما :

١ - يمكن للمبادلة أن تتحول الى أرضية للظلم والاستغلال. فقد يتملك أحدهم مثلاً كمية كبيرة من القيمة الاستهلاكية عن طريق الحيازة السهلة ويخزنها ثم يطلب من الآخرين القيام بخدمات عسيرة له ليعطيهم في مقابلها جزءاً مما خزنه كأجر عمل.

٢ - قد تجري المبادلة حيناً بشكل طبيعي كما كان الحال في المراحل الأولى للحياة البشرية البسيطة. فمثلاً هناك قروي يملك بيضاً ولا يملك لحماً، فيعطي البيض لجاره ليأخذ منه اللحم، وغير ذلك من الأمثلة المشابهة، ففي هذه الحالة تمثل المبادلة جانباً من أعمال المعيشة العادية، ولكن هذه المبادلة تتحول في

____________________

(١) هنا تبرز مسألة «قيمة المبادلة» فما ذكر لحد الآن كان «قيمة الاستهلاك» ولكن ومع ظهور «المبادلة» في الحياة الاقتصادية للبشر برزت مسألة قيمة المبادلة أيضاً، وقيمة المبادلة عبارة عن : نسبة تبادل قيمتين استهلاكيتين مع بعضهما، ونسبة التبادل هذه قد تعقدت في المجتمعات المختلفة الى حد يستوجب بحثاً مفصلاً جداً، وهذه النسبة هي التي يمكنها أن تكون عادلة أو مجحفة، ونحتاج الى كثير من البحث لكي نعرف بأي مقياس يجب تعيين هذه النسبة لكي تكون عادلة، فهل يمكن اعتبار مقدار العمل اللازم لتعويض الطاقة المستهلكة في عملية المبادلة مقياساً لذلك ؟ وهل ان ساعات العمل هي المقياس في ذلك ؟ هل ان المقياس هو ساعات العمل مع أخذ وسائل الانتاج بنظر الاعتبار ؟ هل ان المقياس هو ساعات العمل مع مراعاة وسائل الانتاج والكيفية ومقدار رغبة الناس في البضاعة ؟

إن أساس الحسابات الاقتصادية وتعقيدات علم الاقتصاد وحتى الكثير من الفلسفات الاقتصادية يتمثل في مسألة قيمة المبادلة ونسبتها هذه.

٢٧

المراحل الاقتصادية الأكثر تقدماً، وفي أساليب الحياة الأكثر اتساعاً، الى حرفة من الحرف، ففي مرحلة مبادلة البضاعة ببضاعة اخرى، كان عمل البائع المتجول أن يأتي بكمية من البضاعة من المدينة ليعطيها للقروي ثم يأخذ بضاعة القروي ويجلبها الى المدينة، فهذا العمل (حرفة البائع المتجول الذي كان في مقابل هذه الخدمات) يستوجب تحقيق مقدار من الربح والأجر أو حق التعب. فمثلاً كان يأخذ مترين من القماش الى القرية ليحصل في قبالها على عشرين بيضة، ثم يعطي هذه العشرين بيضة للبزاز ليأخذ منه مترين وربعاً من القماش، فهو قد حصل على «ربع المتر» من القماش أزاء عمله الخدمي الذي قدمه. فهو يعيش بهذه الطريقة، ثم حين يعود الى القرية يأخذ معه هذين المترين والربع من القماش ويعطيها للقروي ليحصل منه في قبالها على خمس وعشرين بيضة، وهنا يحصل على خمس بيضات لتكون غذاءً له ولأفراد أسرته، وعليه فإن المبادلة تتحول حيناً الى عمل وحرفة. فهي حينئذ نوع من الخدمات. وهنا أيضاً تتوفر أرضية الظلم والاجحاف، فمثلاً يعمل بقال معين(٨) ساعات في اليوم ليحصل في الأحوال الاعتيادية على دخل قدرة (٨٥٠) توماناً(١) ، وقد نجد هذا الشخص يملك بعد انقضاء النهار دخلاً مقداره (٣٠٠٠) تومان، فهنا ارتكب ظلماً واجحافاً. وهذه هي بداية طرح مسألة تحديد الأسعار التي تعتبر من المسائل الاقتصادية المهمة.

٣ – التجارة والمبادلة في هذه الحالة نوع من العمل الخدمي الذي يحصل منجزه على شيء ما مقابل الخدمة التي يقدمها. وعلى هذا الأساس يعتبر الشخص المبادل عاملاً(٢) . ويجب بالطبع احتساب القيمة الانتفاعية - لمنجز المبادلة الذي هو

____________________

(١) التومان عملة معدنية ايرانية تساوي ٨ / ١ الدولار الامريكي.

(٢) حينما ننطق بكلمة عامل فان لذلك معنى واسعاً في النظام الاجتماعي، فالبقالة تعتبر نوعاً من العمالة، والتجارة نوعاً من «العمل»، ولا ينحصر اطلاق تسمية العمل على العمل البدني فقط بل ان الجهد الفكري أيضاً نوع من العمل، فمثلاً يستخدم الفرد في الادارة والمحاسبة ذكاءه ومعلوماته الاقتصادية ويعمل، فمثل هؤلاء أيضاً نوع من العمال ولكن الشيء الذي يطرح نفسه هو قيمة عمل هؤلاء، لأن المدير هنا سوف يخسر بدلاً من أن يربح ان لم يتمتع بالذكاء والمعلومات الكافية عن البضائع والاسعار والمعادلات الاقتصادية، ولكنّ النقاش يدور حول أجور هذا المدير أو التاجر وأنه لا ينبغي الاجحاف في ذلك، وأنه يجب أن يحصل على أجور مشابهة لأجور العامل أو اذا قيل ان عمله فكري وهو يبذل جهداً أكبر فلتكن أجوره ضعف أو ثلاثة أمثال أجور العامل وليس عشرة أمثال أو مئة مثل.

٢٨

التاجر - بدقة لكي تكون قيمة عادلة لا كما هو المعتاد في النظام الرأسمالي الذي تكون فيه الأسعار مجحفة جداً بحيث يحصل المرء بتوقيع واحد على عشرة ملايين تومان، وباتصال هاتفي أو تلكس واحد على مئة مليون تومان، وقد أصبح اليوم أمراً عادياً أن تستورد البلدان المختلفة بضائع من الخارج، ويجب هنا على الشخص الذي تقلد منصب ادارة تجارة بلدٍ معين أن يكون خبيراً بشؤون عمله، وذا معلومات كافية بهذا الصدد، ولكن لا يحق له بسبب ذلك أن يطالب بامتصاص دماء الناس بل ينبغي عليه أن يتسلم راتباً معقولاً، ونحن هنا نعطي الحق بتسلم الراتب لمن كان عمله ذا نتيجة معينة فإن كان هناك شخص لا يتأثر العمل بوجوده أو عدمه، فلا ينبغي إعطاؤه راتباً.

ثانياً - الهبة

المصدر الثاني لانتقال الملكية هو «الهبة»، ويكمن الفرق بينها وبين المبادلة في أن كلاً من طرفي المبادلة يعطي الطرف الآخر ولكن الهبة أحادية الجانب. أي انك تملك شيئاً ما فتهب ما تملك لشخص آخر ليصبح بهبتك هذه مالكاً لذلك الشيء، ولكنك هنا لا تحصل على شيءٍ ما في مقابل ذلك، وكما يحق للانسان أن يستهلك حاصل أتعابه فان منطق الفطرة يعطيه الحق في أن يهبه بمحض ارادته وبصورة مجانية لشخص آخر ليستفيد منه ويستهلكه، فهنا تغير مكان الملكية عن طريق الهبة.

ثالثاً - الانتقال القهري

الانتقال القهري يشمل الارث وأمثاله، فالانسان في العمل الانتاجي - وكما مرّ سابقاً - يملك أية كمية ينتجها من القيمة الاستهلاكية، ولا توجد حدود لهذا النوع من الملكية إلا اذا كانت المواد الأولية للعمل محدودة، وفي العمل الحيازي أيضاً - وكما قلنا سابقاً - يمكن للانسان أن يأخذ من الطبيعة بمقدار حصته وحصة عائلته، فالأب أو الأم أو الابن الذي يعمل عملاً انتاجياً أو حيازياً أو خدمياً ليس هدفه من هذا العمل تأمين حاجته الشخصية فقط، بل يشمل ذلك

٢٩

تأمين الحاجات الاستهلاكية لكلٍّ من زوجته وبنيه وأبيه وأمه وجده وجدته وأخته وأخيه وأقربائه الأقربين أيضاً، وكأنه أمر طبيعي أن يكون الهدف المادي للانسان في عمله الانتاجي أو الحيازي أو الخدمي انتفاعه هو وأقرباؤه، وعليه فلو ملك شخص ما شيئاً عن طريق الانتاج أو الحيازة أو الخدمات أو المبادلة أو الهبة والهدية ثم مات قبل أن يستهلك هذا الشيء هو أو أقرباؤه، فإن المنطق الفطري يقول هنا : إن ما بقي منه يتعلق بأولئك الذين كان يعمل أثناء حياته من أجل انتفاعهم، وإن ملكيته تعتبر «ملكاً» لهم، وهذا هو الهدف الطبيعي للبشر(١) .

وليست هذه الملكية ملكية «إبتدائية» بل هي ملكية «انتقالية» حيث كان المورث قبل ذلك مالكاً لشيءٍ ما فانتقل بعد ذلك عن طريق الإرث إلى ورثته بشكل قهري.(٢)

وهناك حالات أخرى في الاقتصاد تعتبر انتقالاً قهرياً، فلو كنت مثلاً تملك (١٥٠) كغم من الحنطة وكان جارك يملك (٧٥) كغم منها فحين تمزج هاتان الكميتان يكون ثلث هذه ال(٢٢٥) كغم ملكاً لجارك، وثلثاها ملكاً لك، وما دامت حصة كل منكما غير معزولة فانكما شريكان في كل حبة من حبات الحنطة بالنسبة التي مرّ ذكرها، وحسب الفقه الاسلامي فقد حدث هنا أيضاً نوع من الانتقال القهري، ونظراً لما شرحناه حتى الآن، لو قيل إنّ منبع الملكية وجذرها يكمن في العمل، فان ذلك كلام يطابق الاسلام.

____________________

(١) وحتى في الاتحاد السوفياتي وبعد مداولات طويلة أوردوا مسألة الارث في دستورهم مع ملكية الشخص للدار ومستلزمات المعيشة، وكذلك الحال في الصين (راجع هامش الصفحة القادمة).

(٢) المقصود هنا أصل «الإرث» وليس الارث الذي يبلغ الملايين والمليارات، اذ ان له حساباً آخر، فهذه الاموال مشبوهة ما دام الفرد حياً، فلو مات بقيت تلك الشبهة حولها.

٣٠

أنواع الملكية

١ - الملكية الفردية : في هذا النوع من الملكية يعمل الانسان بنفسه فيصبح مالكاً لعمله.

٢ - ملكية المجموع : وهي نوعان :

أ - الملكية العامة : تحدث حين تكون الملكية متعلقة بجميع البشر، أو «الأراضي الخراجية» التي يملكها كافة المسلمين حتى الذين يأتون فيما بعد، أو

٣١

يسلمون فيما بعد، وقد ولدوا من أبوين غير مسلمين.

ب - الملكية الجماعية : في هذا النوع من الملكية تشترك - مثلاً - مجموعة معينة لتنجز عملاً معيناً، أو تشتري شيئاً ما فتصبح مالكة له بشكل جماعي.

إن مبدأ الملكية الفردية معترف به بشكل عام في الانظمة العالمية المعاصرة،(١) وقد اعترف الاسلام بكلٍّ من الملكية الفردية وملكية المجموع (العامة والجماعية)، وحسب المصطلحات الاقتصادية في عالمنا المعاصر. فالملكية على أربعة أنواع :

١ - الملكية الشخصية.

٢ - الملكية الخاصة.

٣ - الملكية العامة.

٤ - ملكية الدولة.

في اصطلاح الاقتصاد المعاصر يطلق على ملكية الفرد لغير وسائل الانتاج اسم الملكية الشخصية، وملكية فرد معين (أو حتى مجموعة معينة) لوسائل الانتاج تسمى ملكية خاصة، وملكية الناس للأراضي والجبال والمعادن والمياه وأمثالها ملكية عامة، وتسمى ملكية أمثال الأراضي الخراجية (التي يملكها عامة الناس ولكن الحكومة هي التي ينبغي لها التصرف بها) ملكية الدولة.(٢)

____________________

(١) حتى أننا نرى البلدان الماركسية كالصين والاتحاد السوفياتي قد اعترفت بشكل مجمل بمبدأ الملكية الفردية، إذ ورد في المادة الثالثة عشرة من الدستور الرابع للاتحاد السوفياتي الذي أقِرَّ عام ١٩٧٧م بهذا الصدد ما يلي : «إن أساس الملكية الشخصية لمواطني الاتحاد السوفياتي يكمن في الدخل الناتج عن عملهم، ويمكن للملكية الشخصية أن تشمل الأشياء المستخدمة في تمشية أمور المعيشة اليومية، والأشياء اللازمة للاستهلاك والترفيه الشخصي، والأعمال الثانوية، وبيت السكن، ومبالغ التوفير الناتجة عن العمل، والحكومة تدعم ملكية المواطنين الشخصية وحقهم في وراثتها، ويجوز اعطاء المواطنين قطع الأراضي المخصصة قانوناً للاستثمار الثانوي في تربية الدواجن والمواشي والبستنة وزراعة الخضروات، وكذلك لإنشاء دار خاصة، وعلى المواطنين استخدام قطع الأراضي الممنوحة لهم بشكل معقول، والحكومة والكالخوزات تساعد المواطنين في الأمور المتعلقة بالاستثمار الثانوي.

لا يجوز استخدام الأملاك الشخصية التي تمنح للمواطنين أو توضع تحت تصرفهم للاستفادة منها، في الحصول على دخول لا تحصل نتيجة لعمل الفرد نفسه، أو تلحق الضرر بمصالح المجتمع».

(٢) لأجل التعرف أكثر على أنواع الملكية راجع كتاب (مواقفنا) باب السياسة الاقتصادية ص ٦٢.

٣٢

ما يترتب على الملكية

حق الاستهلاك والاستثمار

حين يصبح الانسان مالكاً لشيءٍ ما فإنه بذلك يمتلك الحق في استهلاك ذلك الشيء، والمسألة التي تطرح نفسها في هذا البحث تدور حول، هل أن هناك حدوداً ومقاييس لهذا الاستهلاك أم لا(١) ؟ فلو غرس شخص ما شجرة - مثلاً - وحصل منها على بعض الثمار، فهل يحق لصاحب هذه الشجرة أن يستهلك من الثمار أيَّ مقدار يرغب فيه بسبب كونه مالكاً لها ؟ هل هناك حدود لهذا الأمر ؟ وان كانت فما هي تلك الحدود ؟ هل ان هذه الحدود ترسمها الحاجة الطبيعية(٢) أم الامكانية الاجتماعية(٣) أم الحد الأدنى لها ؟ ويقال في الاجابة عن هذه الاسئلة، انه لا توجد هناك حدود من حيث الملكية، بل هناك حدود أخلاقية، ومعنى ذلك أن الملكية تعطي الحق لصاحب هذه الشجرة في أن يستفيد من ثمارها إلى أقصى حدٍّ يرغب فيه. ولا حدود لهذا الأمر، ولكنه مسؤول من الناحية الأخلاقية أن لا يستفيد أكثر من معدل ما يحصل عليه جميع الناس، ولو قيل إنه مقيد من حيث الملكية فذلك يعني أنه لو أخذ أكثر من معدل ما يحصل عليه المجتمع بكافة أفراده فقد ارتكب عملاً اغتصابياً، ولكننا لو اعتبرنا ذلك حكماً أخلاقياً تحتمه المسؤولية الاجتماعية فإنه بذلك قد ارتكب عملاً يخالف مسؤوليته الانسانية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : لو أن هذا الفرد (في المثال نفسه) أكل من الشجرة التي زرعها بنفسه الى حد «الشبع» في الوقت الذي لم يكن متوسط ما يحصل عليه أفراد المجتمع قد بلغ درجة «الشبع» هذه فأية مخالفة ارتكب هذا الفرد ؟ هل ان مخالفته هذه مخالفة قانونية واقتصادية أم هي مخالفة لقوانين

____________________

(١) ان ما يخضع لبحثنا في هذه المرحلة ليس من وجهة نظر النصوص الاسلامية بل هو من وجهة نظر منطق الانسان الفطري والطبيعي.

(٢) الحاجة الطبيعية تعني أن صاحب هذه الشجرة يحق له أن يأكل من ثمارها أي مقدار يحتاج اليه وهذا بحد ذاته يعتبر حداً مرسوماً، لأن الانسان لا يستطيع استهلاك أكثر من حاجته الطبيعية.

(٣) معدل الامكانية الاجتماعية يعني ملاحظة ما يحصل عليه كلّ من افراد المجتمع من ثمار هذه الشجرة فيما لو قسمناها بينهم جميعاً، فيكون لكل فرد منهم حق استهلاك تلك الكمية.

٣٣

الملكية ؟ أم هي مخالفة أخلاقية في مجال الاقتصاد ؟ ولنضرب مثالاً آخر : لو كنت مرتدياً بعض الملابس وصادفت شخصاً عرياناً فوجب عليك اعطاؤه ملابسك ولم تفعل ذلك، فهل ارتكبت هنا مخالفة قانونية ؟ أم مخالفة لأحد الواجبات الاجتماعية ؟ وهنا تبرز مسألة طريفة جديرة بالاهتمام وهي:

ان الفقه المتبع يفرق بين المخالفة القانونية والمخالفة الأخلاقية والدينية. وهناك نوعان من التعامل مع هذه المسألة : -

يقال حيناً : ان هذه (الملابس) لم تأت من دخلك الخاص، وان الشخص المحتاج الذي صادفته هو في الأصل شريك لك فيها، ولو استملكها فانه لم يرتكب عملاً اغتصابياً تجاه أموال الغير.

ويقال حيناً آخر : ان هذه الأموال (الملابس) ملك لك من الناحية الاقتصادية ولكن تقع عليك مسؤولية اجتماعية واقتصادية لم تعطها حقها، فارتكبت بذلك عملاً محرماً وخاطئاً. وعليه فقد أصبحت مستحقاً لجميع أنواع العقاب الدنيوي والأخروي.

ويمكن استناداً الى بحث الانفاق في الاسلام الوصول الى استنتاجين :

١ - الاستنتاج المتبع من قبل فقهاء العامة والخاصة يقول بأنه لو ملك الانسان أموالاً من الطرق الصحيحة فان هذه الاموال ملك له ولكن انفاقها واجب عليه :

( الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ) (١)

فالمال في هذه الحالة ماله، ولا يتسبب وجوب الانفاق في سبيل اللّه في خروج هذا المال عن ملكيته، لأن الانفاق واجب من الواجبات وعلاقة الملكية محفوظة في مكانها، ولو خالف هذا الانفاق الواجب فلن يقضي ذلك على علاقة الملكية، بل يعتبر ذلك مخالفة لأحد الواجبات الدينية.

٢ - الاستنتاج الثاني يقضي بأنه لو وجب عليه الانفاق تزعزعت علاقة الملكية واضطربت، وعلى هذا الأساس فانني حين أنتج شيئاً ما فسوف أصبح مالكاً له كله في حالة عدم وجود أية حاجة وأرضية للانفاق الواجب لدى المجتمع، ولكنني وبمجرد بروز أرضية كهذه لن أعود مالكاً لجميع ذلك الشيء بل سأصبح مالكاً لذلك الجزء الفائض عن الكمية الواجب انفاقها.

____________________

(١) البقرة : ٢٦٢.

٣٤

وينطبق هذان الرأيان على الخمس والزكاة أيضاً، فأحدهما يقضي بأن الكمية المساوية للخمس والزكاة ليست ملكاً للشخص أساساً، بل هي ملك خاص لمصارف هاتين الضريبتين، والرأي الآخر يقضي بأن الشخص هو المالك في جميع الأحوال، فلو ارتكب مخالفة من هذا النوع فانه قد خالف حكماً من الأحكام التكليفية.(١) ويختلف فقهاؤنا في وجهات نظرهم حول الخمس والزكاة وهما ضريبتان قد حدد الشرع مقدار كلٍّ منهما، فيرى عدد كبير منهم أن الانسان لا يعتبر أساساً مالكاً لذلك المقدار (الذي تحدده هاتان الضريبتان) بل هو ملك خاص لمصارف الخمس والزكاة،(٢) وفي هذه الحالة يكون الفرد - في الخمس - مالكاً في البداية لأربعة أخماس عمله الانتاجي الفائض عن حاجته السنوية، ولا يملك الخمس الباقي أساساً، ولذا فهم يقولون إنه لو مارس مرة ثانية عملاً اقتصادياً بجميع هذا الدخل فان الربح الناتج عن خمسه يذهب الى حساب الخمس لا الى حسابه الخاص، وعلى هذا الأساس فان وجهة نظر كثير من الفقهاء حول الضرائب التي حدد مقدارها وكميتها تقول بأن الشخص لا يملك ذلك المقدار وتلك الكمية أساساً، بل انه ومنذ بداية انتاجه يتعلق مقدار من هذا الانتاج بمصارف تلك الضرائب.(٣)

____________________

(١) ورد كل من «الحكم التكليفي» و«الحكم الوضعي» في المصطلحات الاسلامية، فالحكم الوضعي يعني العلاقة القانونية، والحكم التكليفي هو بالضبط ما عبرنا عنه بالحكم الأخلاقي.

(٢) البحث يدور هنا حول الضرائب التي حدد مقدارها، ولا يوجد مثل هذا الرأي حول الحقوق التي لم يحدد مقدارها، ولم يسبق وجود هذه النظرة لدى الفقهاء فيما يتعلق بحالات الانفاق غير المحدود الذي يعين وفقاً للظروف الزمانية والمكانية المختلفة.

(٣) تعود بنا هذه المسألة الى البحث حول قضية الاختيار، والاختيار الذي نطرحه نحن يعني أن الانسان مخير حتى في المعصية، فالانسان مخلوق قادر على ارتكاب المعصية ولو وجب عليه الاتيان بعمل معين فانه يستطيع أن لا يأتي به. وعلى هذا الأساس كان الوجوب التكليفي لا يقضي على الاختيار الطبيعي والتكويني لدى الانسان، وهكذا فالمال ملك له ويرتبط به بعلاقة الملكية وهو بالاضافة الى ذلك هناك واجب يتحمل مسؤولية أدائه وهو يقدر على عدم ادائه دون أن يؤدي ذلك الى انقطاع علاقة الملكية القانونية بينه وبين هذا المال، حتى أن العقاب لا يزحزح - أيضاً - العلاقة القانونية بين المالكين وأملاكهم، وعلى ضوء ذلك فانه قد لا يعطي المال، بل وقد يدخل السجن أيضاً ولكن المال يبقى ملكاً له.

وهناك سؤال مهم يقول : هل هناك فرق بين الحكم القانوني - أو بتعبير أدق الحكم الوضعي - والحكم التكليفي، أم لا ؟ أي هل انه كلما جاء الحكم التكليفي بوجوب الانفاق، جاء الحكم القانوني والوضعي بزوال الملكية معه ؟ أم ان الملكية محفوظة في مكانها ؟ وهل يعتبر الفرد الذي يطبق الحكم التكليفي قد أحسن عملاً، والذي لم يطبقه قد أساء عملاً ؟

٣٥

وفي الحديث عن القضايا الاقتصادية بصورة عامة يمكن القول : إنه قد يفصل الحكم الوضعي والقانوني عن الحكم الأخلاقي والتكليفي، فحين نتحدث مع بعض الأفراد حول وجوب اجراء الكثير من التعديلات نراهم يردّون بأن ذلك وجوب تكليفي وليس حكماً قانونياً.(١)

الاسراف والاتلاف(٢)

هل ان حق الاستهلاك الناشئ عن الملكية يصل الى حد الاتلاف والافناء الذي لا داعي له أم لا ؟ فمثلاً لو غرس شخص ما شجرة كمثرى، فنمت وحملت الثمار، وصار مالكاً لثمار الكمثرى هذه، ثم ترك هذه الثمار وشأنها حتى تتلف فهل يحق له ذلك من الناحية القانونية بسبب كونه مالكاً لها ؟ وان لم تعطه ملكية ثمار الكمثرى مثل هذا الحق، فهل يحق لآخرين أن يملكوها ويستهلكوها بعد معرفتهم بأنه ينوي تركها وشأنها ؟ هنا يمكن طرح رأيين :

١ - ان ثمار الكمثرى ملك للشخص الذي غرس الشجرة، وهو بذلك يستطيع أن يتركها و شأنها حتى تتفسخ (وتتلف)، ولو قام بهذا العمل فقد ارتكب أبشع أشكال الإسراف (التبذير) وهو إتلاف الأموال، ومع انه ارتكب معصية لكن احداً لا يستطيع استهلاك شيء من هذه الثمار دون إذن منه، أو مبادلة، أو هبة. لأن علاقة الملكية ما زالت قائمة هنا.

____________________

(١) هناك بحث حول العلاقات القانونية في كُلٍّ من علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، فالمذهب يحدد المبادئ الاقتصادية العامة وكل ما يجب أن يعمل به، والعلم يشرح الأفعال وردود الأفعال العلمية على أساس هذه المبادئ فهو تحليل لما هو قائم، أو يبين كيفية التطبيق العلمي لما يجب أن يحدث. فمثلاً يقول المذهب : يجب أن يتمتع جميع أفراد المجتمع بالحد الأدنى من مستوى المعيشة، وهذا مبدأ مذهبي لم يكتسب حقيقة خارجية لحد الآن، ولكن العلم يوضح لنا الطرق العينية التي يمكننا اتباعها من الناحية العملية لتلبية الحد الأدنى من احتياجات جميع أفراد مجتمعٍ ما، أي الشيء الذي لم يتحقق بعد، ولكنه يبين الطريقة العلمية لتحقيق ما يجب تحقيقه، مثلاً تريد أنت أن تجعل أبناءك أشخاصاً حركين (وهذا الأمر يتعلق بالمذهب، وكيفية انجاز هذا الأمر واضحة وهي تخص العلم الذي يقول بوجوب الاستفادة من تجارب الآخرين في تحريك أبنائهم) فهل يجب لجعل ولدك فرداً متحركاً أن تقول له دوماً : تحرك ؟ أم أن الطريق الى ذلك يتمثل في أن تضع أمامه الدوافع الى التحرك لتخلق فيه اندفاعاً ذاتياً ؟ هذه أمور يجب على العلم أن يجيبنا عنها.

(٢) الاسراف يعني استهلاك ما هو أكثر من الحد المعقول، والاتلاف يعني الإهلاك والإفناء.

٣٦

٢ - إن ملكية الثمار لا تعطيه مثل هذا الحق أساساً، وعليه فلو علم الآخرون بأنه يقصد تركها وشأنها فإنّ لهم حق استهلاكها.

إن ما قيل حتى الآن بصدد مصدر الملكية في المنطق الفطري، وجواز تصرف المالك بملكه، لا يسري على الإتلاف، على كل حال ان عدم جواز الإتلاف في المنطق الفطري السليم واضح تماماً، وما يتبادر الى الذهن هو أن المنطق الفطري لا يمنح المالك حق الإتلاف، وإن حق التصرف لا يبلغ حد الاتلاف. ولو أراد المالك اتلاف ما يملك فان ذلك يعتبر شكلاً من أشكال «الاعراض»(١) بحيث يخرج (ذلك المال) عن ملكيته بشكل تام، وتزول علاقة الملكية بينه وبين هذا الشيء. إن مثل هذا الشخص قد ارتكب معصية لأن حق الملكية الذي منحه اللّه له لا يبلغ حدّ الاتلاف، وان تصرفه أساساً هو تصرف غير لائق في ملك اللّه، مثلاً لو أراد شخص أن يرمي قدحاً من أعلى السطح بقصد كسره والتقط أحد المارة ذلك القدح فأيّ منهما يكون هنا مالكاً لهذا القدح ؟ وهذا بحث قانوني مطروح في الفقه أيضاً، فالشخص الذي كان يقصد رمي القدح من أعلى السطح ليكسره قد انقطعت علاقة ملكيته للقدح برميه إيّاه. ويسمى هذا الأمر «اعراضاً»، فلو كان يحق له إتلاف أمواله لما كان ينبغي لهذه العلاقة أن تقطع، فانقطاع هذه العلاقة لمجرد قيامه بذلك العمل يعني عدم وجود حق الإتلاف هنا.

ومع قرار الشخص وأول خطوة تنفيذية له (نحو إتلاف ماله) تبرز مسألتان:

الاولى : انه ارتكب معصية تكليفية.

الثانية : تتمثل في نتيجة قانونية وهي انقطاع ملكيته بحيث لو جاء شخص آخر وأنقذ هذا المال من التلف فإنه يصبح مالكاً له.

وهذا بحث مهم، فقد برز مثل هذا الوضع قبل فترة من الزمن في إحدى البلدان ذات الحركة الانتاجية الواسعة جداً، حيث أتلفوا كمية من أحد المنتجات من أجل تقليل الكمية المعروضة منه في السوق، وتطرح هذه المسألة أحياناً كاحدى وسائل تنظيم الحركة الاقتصادية على صعيد الانتاج والاستهلاك، وعلى صعيد

____________________

(١) «الإعراض» من عوامل سلب الملكية بحيث يمكن للآخرين التصرف في ذلك المال.

٣٧

انتاج البضائع وتبادلها وتوزيعها.(١)

____________________

(١) حدث في احدى السنين في قرية من قرى أمريكا أن امتلأت أشجار الخوخ الى حد كبير فتعاهد المزارعون مع بعضهم على قطف ٥٠ % من هذه الثمار مثلاً لغرض بيعها وترك ال ٥٠ % الأخرى وشأنها لتسقط وتتحول بعد تفسخها الى سماد للأرض، وقد اعتبروا مراعاة هذا العهد واجباً عليهم حتى من الناحية الأخلاقية، ولو تخلف أحد عنه كان - في الوجدان الأخلاقي لأولئك المزارعين - قد ارتكب مخالفة أخلاقية، وهي مخالفة لعهد ترك تأثيره في تنظيم مصاريفهم ودخولهم، وهكذا نجد أن مثل هذه الأمور تبلغ احياناً هذا الحد.

٣٨

رأس المال

المسألة الثانية التي تطرح نفسها حول ما يترتب على الملكية هي استثمار الملك والمال بصورة رأس مال، أي أن يستثمر الانسان ما حصل عليه بإحدى الطرق التي مرّ ذكرها بصورة رأس مال، وهذه قضية من القضايا الأساس.

تعريف رأس المال

هو تعبير عن الكمية التي يحصل عليها الفرد من القيمة الاستهلاكية التي يمكنها أن تكون عاملاً مساعداً في الحصول على كمية أخرى منها، فمثلاً هناك مزارع يزرع القطن ليحصل من مزرعته على (٥٠٠) كغم منه، وفي فصل الشتاء يحول (٥٠) كغم من هذا القطن بعمله اليدوي الى خيوط ليبيعها بسعر أعلى. وعليه فهو يملك في نهاية السنة (٤٥٠) كغم من القطن و(٥٠) كغم من الخيوط، فيحدِّثُ نفسه قائلاً : إنه لو استطاع بطريقة ما أن يحول جميع ال(٥٠٠) كغم من القطن الى خيوط في فصل الشتاء فسوف يحصل على دخل أكبر، وبهذا الدافع يتحرك تفكيره المبدع فيخترع ماكنة الغزل، وفي السنة التالية يزرع هذا المزارع القطن مرة أخرى فيحصل على (٥٠٠) كغم منه ولكنه ينجح بمساعدة ماكنة الغزل في أن يحول جميع هذا القطن الى خيوط.

فأية معجزة حدثت هنا ؟ إن ماكنة الغزل البسيطة هذه قد أصبحت مصدراً لزيادة الانتاج، لقد أصبح الزارع مالكاً لوسيلة رفعت من مقدار الربح الناتج عن فترة العمل نفسها، فماكنة الغزل تعين القروي في أن يرفع من مستوى إنتاجه، وليتمكن من انتاج كمية اكبر من القيم الاستهلاكية، وفي هذه الحالة يملك

٣٩

المزارع كل شيء حتى ماكنة الغزل البسيطة التي اخترعها بنفسه، فقد نجح باستعماله الخشب والامكانات الأخرى التي وضعتها الطبيعة تحت تصرفه، وكذلك فكره المبدع وساعديه وعمله، في رفع كمية القيمة الاستهلاكية، فهل هناك أدنى شك في ملكية هذا الشخص للقطن والخيوط وماكنة الغزل الخشبية ؟ إنّ هذا الشخص لم يرتكب لحدِّ الآن عملاً مخالفاً للحكمين : الوضعي والقانوني.

في هذا المثال الذي أوردناه هنا يعتبر كلّ من ال(٥٠٠) كغم من القطن وماكنة الغزل البسيطة وسيلة من وسائل عمل القروي، وسبباً لإنتاج ال(٥٠٠) كغم من الخيوط، فكلاهما إنضم الى قوة العمل الحيِّ للقروي الذي يغزل القطن، ولكن دور ماكنة الغزل يختلف، فهي حقاً تؤثر في انتاج القيمة الاستهلاكية المضافة، ولكن القطن لا يؤثر هنا.

ولتوضيح هذا الموضوع لاحظ الجدول الآتي حيث اعتبرنا في هذا المثال سعر القطن(١٠) ريالات لكل كغم وسعر الخيط (٢٠) ريالاً لكل كغم:

إن القيمة الاستهلاكية الجديدة التي أضيفت هنا تعادل (٤٥٠٠) ريال (١٠٠٠٠ - ٥٥٠٠ = ٤٥٠٠)، وبناءً على ما تقدم فإن الشيء الذي أصبح عاملاً في إيجاد هذه القيمة المضافة هو ماكنة الغزل التي استعملت كوسيلة في زيادة القيمة المنتجة، ذلك لأن كمية ال(٥٠٠) كغم من القطن موجودة بحوزة الزارع في كلتا الحالتين.

أنواع رأس المال

يمكن لرأس المال أن يتخذ أشكالاً ثلاثة :

١ - وسائل إنتاج.

٢ - استثمارات.

٤٠