الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي12%

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 611

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173213 / تحميل: 7416
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

مؤلف:
العربية

١

٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبي سعيد عقيصا قال : قلت للحسن بن علي ابن أبي طالبعليه‌السلام : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته؟ قالعليه‌السلام : علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.

أقول : معنى ذلك ان السبب الموجب للصلحين واحد ، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجب له ثم وحدة الموقف ازاءه ثم وحدة النتائج المترتبة وقد تكفلت بحوث الكتاب في تجلية ذلك.

وقد اعترض بعض الباحثين الشيعة على عنوان كتاب صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين قائلا : ان الحسنعليه‌السلام لم يصالح بل هادن ، وهو اعتراض لا وجه له ، لان (الهدنة) في اللغة تعني (الصلح) ، قال ابن منظور في لسان العرب مادة (هدن) ويقال للصلح بعد القتال والموادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين : هُدْنَةٌ ، وربما جعلت للهُدْنة مُدّة معلومة ، فإذا انقضت المدة عادوا إلى القتال ، وبذلك فان هادن وصالح مترادفان كما ورد في الرواية اعلاه في سؤال ابي سعيد ثم اجاب الامامعليه‌السلام بقوله علة مصالحتي لمعاوية ...

٥
٦

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.

استضافتي جماعة العلماء العراقية في مدينة قم سنة ١٤١٠ هجرية لإلقاء محاضرة في موسم ثقافي أقامته في شهر رمضان واخترت ليلة الخامس عشر منه ليكون الحديث عن صلح الحسنعليه‌السلام حيث لم أكن سابقا قد بحثته ، وأمضيت أربع عشرة ليلة ابحث في المصادر الأساسية.

ورأيت نفسي :

أمام قضية جديدة لم يشر إليها أحد من الباحثين قبلي وهي أن كلَّ ما سجّلتْه كتب التاريخ من ترويع وقتل وسجن وتهجير لشيعة الكوفة من قبل ولاة معاوية لم يكن قد وقع أيام الحسنعليه‌السلام بل كان بعد وفاته ، وهذا يعني ان عشر سنوات من حياة الحسنعليه‌السلام بعد الصلح كانت سنوات أمان تام للشيعة لم يُروَّع فيها شيعي واحد.

استوقفتني هذه الحقيقة ؛ الكبيرة ؛ المغيَّبة ؛ لأكثر من اثني عشر قرنا. وقد علق استاذي العلامة العسكريرحمه‌الله في حينها لما عرضت عليه ذلك قائلا : لقد جئت بشيء جديد من أسرار صلح الحسنعليه‌السلام .

ورأيت نفسي أيضا أمام معلومات أخرى لم تأخذ طريقها عند الباحثين في تأسيس الرؤية المناسبة حول موقف العراقيين من الحسنعليه‌السلام من قبيل قوله حين ترك الكوفة :

وما عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري

٧

ومن قبيل قول عبد الله بن الزبير لمعاوية لما اشتكى من قلة تردده عليه عند قدومه إلى المدينة : أنَّ مع الحسن مائة ألف سيف لو شاء لضربك بها ، وقوله : والله ان أهل العراق لأبَرّ بالعراق من أم الحوار بحوارها.

وأمام رواة عرفوا بوضع الأخبار ؛ أمثال عوانة بن الحكم الذي روى عنه الطبري قصة الصلح ؛ التي تؤكد : أنَّ هدف الحسنعليه‌السلام من الصلح هو مسألة الحصول على الأموال! وان السبب الذي دعاه للصلح هو خيانة الجيش! وان الذي حصل على أمان الشيعة هو قيس بن سعد! وليس الحسنعليه‌السلام !

وأدركت من خلال ذلك أنني أمام (مشروع قراءة جديدة للصلح) تستند على معلومات جديدة وليس مجرد رأي وتحليل للمعلومات القديمة ، ثم فرضت هذه القراءة نفسها عليَّ أن أواصل متابعتها بحثاً ومناقشةً ومحاضرةً مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا في مناسبات شهر رمضان وغيره من الشهور في مدينة قم ولندن وسوريا ، وأسبانيا وبغداد واخيرا النجف الأشرف والحلة الفيحاء ونشرت خلالها ملخصا للبحث في صحيفة الراصد سنة ٢٠٠٣ م التي كانت تصدر في بغداد وجريدة البقية ومجلة النجف الاشرف التي تصدر في النجف عن مؤسسة المرتضى للثقافة والإرشاد ثم نشرت ملخصاً في كراس مستقل طبع عدة مرات.

أثارت القراءة الجديدة ردود فعل كان أكثرها إيجابيا ، ولا زلت أذكر حماسة العلامة الحجة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمة الله عليه لطبعه مبكرا وقوله : «إنها قراءة جديدة سوف تهدم أمورا كثيرة تسالم عليها الباحثون». ولم أكن في حينها عجولا في نشر البحث التفصيلي ؛ رغم أني كنت أصحر بالقراءة الجديدة في المناسبات كما أسلفت لعلي أفوز بملاحظة أو مناقشة تغير من وجهة البحث.

ثم حانت الفرصة لمراجعة فصول البحث التي كتبت في فترات زمنية مختلفة لتقديمه للطبع ، فاضفت فصلا آخر الى الباب الثاني وبابا آخر بخمسة فصول ولا يفوتني ان اشكر قرة عيني ولدي السيد حسين الذي اشرف على اخراج الكتاب وتصحيحه وطباعته ، وأخيرا ليس لي إلا أن أقول بقول العلامة المحقق الشيخ راضي آل ياسينرحمه‌الله في مقدمة كتابه :

٨

(وهي ـ بعد ـ بضاعتي المزجاة التي لا أريد منها إلا أن تكون مفتاح بحوث جديدة ، من شأنها أن تكشف كثيرا من الغموض الذي دار مع قضية الحسنعليه‌السلام في التاريخ. فان هي وُفِّقَتْ إلى ذلك ، فقد أوتيتُ خيراً كثيرا. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب).(١)

السيد سامي البدري

١٤٣٣ هـ / حي الكرامة / النجف الاشرف

__________________

(١) آل ياسين ، الشيخ راضي ، صلح الحسنعليه‌السلام ص ٢٢.

٩

المدخل

التمهيد وسير البحث

١٥ تمهيد

١٦ خلاصة الرؤية المشهورة في تعليل الصلح

٢٣ ثلاث ملاحظات أساسية حول الرؤية المشهورة

٢٧ صلح الحسنعليه‌السلام في الاعلام الاموي والعباسي وروايات اهل البيتعليهم‌السلام

٣٣ الرؤية الجديدة

٣٩ أبواب البحث وفصوله

١٠
١١

تمهيد

تعد قضية صلح الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية / كما تصورها لنا المصادر التاريخية الأولى / من أشد القضايا غموضا وتشوها في تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام من جهة ، وفي تاريخ العراق الإسلامي المبكر من جهة أخرى ، وذلك لان القراءة الأولية للمصادر التاريخية الإسلامية حول الموضوع تفرض على القارئ ان يخرج بانطباعين سلبيين هما :

الأول : الانطباع السلبي الشديد عن العراقيين الأوائل الذين عاصروا عليا والحسن والحسينعليهما‌السلام في الكوفة خاصة ، وهو الانطباع السائد لدى كل من درس الموضوع أو كتب فيه ، وهو : كونهم متفرقين متخاذلين / طالما تمنى عليعليه‌السلام فراقهم / غير قادرين على النهوض بدولة مستقلة بهم نظير ما صنعه الشاميون مع معاوية ، بل كان بعض العراقيين / كما في بعض الروايات / يفكر بتسليم الحسنعليه‌السلام حيا إلى معاوية ، ولذلك اضطر الحسنعليه‌السلام إلى تسليم الأمر لمعاوية ، وهذا الانطباع يستوي فيه القراءة المسلمون بغض النظر عن مذاهبهم.

الثاني : الانطباع السلبي عن شخصية الحسنعليه‌السلام لدى القارئ الذي لا تربطه معه رابطة الاعتقاد بإمامته وعصمته أو رابطة الاعتقاد بوجوب محبته واحترامه لأنه من أهل البيتعليهم‌السلام الذين أوجب الله تعالى مودتهم ، كالمستشرقين وقد كادوا يجمعون على كون الحسنعليه‌السلام شخصية غير جديرة بان تكون ابنا لعليعليه‌السلام وانه باع الخلافة بدراهم من اجل شهواته.

١٢

أما القارئ المؤمن بعصمة الإمام الحسنعليه‌السلام فلم يؤثر عليه ذلك الركام الهائل من الروايات الطاعنة في شخصيته لإيمانه المسبق ان الحسنعليه‌السلام منزَّه عن ذلك وان تلك الروايات لا بد ان تكون موضوعة من قبل أعدائه لتشويه صورته.

ويعد كتاب صلح الحسنعليه‌السلام (١) للباحث المحقق الشيخ راضي آل ياسينرحمه‌الله الذي صدرته الطبعة الأولى منه سنة ١٣٧٢ هـ ـ ١٩٥٢ م افضل واشهر كتاب معاصر في الموضوع ، وقدم له في وقته الحجة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدينرحمه‌الله صاحب التآليف القيمة بكلمة تصدرت الكتاب زادت من قيمته وأهميته ، ومن ثَمَّ سادت الرؤية التي قدمها الكتاب في النقد والتحليل وأخذ بها كلُّ من جاء بعده من الباحثين الشيعة.

ولما كنت في دراستي التي أعرضها بين يديك أيها القارئ الكريم قد خرجت برؤية مخالفة للرؤية السائدة بل هادمة لمرتكزاتها ، مع نتائج جديدة للصلح وأَلَقٍ كبيرٍ في شخصية الحسنعليه‌السلام وإمامتمه الإلهية رأيت ان ألخص الرؤية القديمة للصلح بقلم علمين كبيرين من أعلامنا ثم اعرض خلاصة الرؤية الجديدة قبل البدء ببحوث الكتاب.

خلاصة الرؤية المشهورة

في تعليل الصلح

قال العلامة الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه‌الله : «ومن الغريب بقاء الناس في عشواءَ غمّاءَ من هذا الصلح إلى يومهم هذا ، لا يقوم أحد منهم في بيان وجهة الحسن في صلحه ، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيناتها ، عقلية ونقلية ، وكم كنت أحاول ذلك ، لكن الله عز وجل شاء بحكمته أن يختص بهذه المأثرة من هو أولى بها ، وأحق بكل فضيلة ، ذلك هو مؤلف هذا السفر البكر «صلح الحسن» فإذا هو في موضوعه فصل الخطاب ، ومفصل الصواب ، والحد الفاصل بين الحق والباطل. أما المؤلف (أي الشيخ راضي آل ياسين) ـ أعلى الله مقامه ـ فإنك تستطيع أن تستشف ملامحه ، وافر الذهن ، غزير الفهم والعلم ، واسع الرواية ، عليما زاخرا بعلوم آل محمد ، علامة بحاثة ، أمعن

__________________

(١) ظهرت الطبعة الأولى منه سنة ١٣٧٢ هـ ١٩٥٢ م.

١٣

في التنقيب عن أسرارهم ، يستجلي غوامضها ، ويستبطن دخائلها ، لا تفوته منها واردة ولا شاردة ، إلى خصائص في ذاته وسماته يمثلها كتابه هذا بجلاء».

ثم قالرحمه‌الله يلخص الرؤية السائدة عن الصلح :

«ومن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب ، من أحوال الحسن ومعاوية ، علم انهما لم ترتجلهما المعركة ارتجالا ، وإنما كانا في جبهتيهما خليفتين ، استخلفهما الميراث على خُلُقين متناقضين.

وقد وقف الحسن والحسين من دهاء (معاوية) ومكره إزاء خطر فظيع ، يهدد الإسلام باسم الإسلام ، ويطغى على نور الحق باسم الحق ، فكانا في دفع هذا الخطر ، أمام أمرين لا ثالث لهما : اما المقاومة ، واما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلى فناء هذا الصف المدافع عن الدين وأهله ، والهادي إلى الله عز وجل ، والى صراطه المستقيم. إذ لو غامر الحسن يومئذ بنفسه وبالهاشميين وأوليائهم ، فواجه بهم القوة التي لا قِبَل لهم بها(١) مصمما على التضحية ، تصميم أخيه يوم «الطف» لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعا ، ولانتصرت «الأموية» بذلك نصرا تعجز عنه إمكانياتها.

ومن هنا رأى الحسنعليه‌السلام أن يترك معاوية لطغيانه ، ويمتحنه بما يصبو إليه من الملك ، لكن أخذ عليه في عقد الصلح ، أن لا يعدو الكتاب والسنة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه ومقوية سلطانه ، وأن لا يطلب أحدا من الشيعة بذنب أذنبه مع الأموية ، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين ، وأن ، وأن ، وأن. إلى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالما بأن معاوية لا يفي له بشيء منها وأنه سيقوم بنقائضها.

وبالجملة فان هذه الخطة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بد ، أملاها ظرف الحسن ، إذ التبس فيه الحق بالباطل ، وتسنى للطغيان فيه سيطرة مسلحة ضارية. ما كان الحسن ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها ، بل أخذها فيما أخذه من إرثه ، من صلح «الحديبية» فيما أُثِر من سياسة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وله فيه أسوة حسنة ،

__________________

(١) كما أوضحه الشيخ آل ياسين في كتابه صلح الحسنعليه‌السلام .

١٤

إذ أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه ، كما أنكر على الحسن صلح «ساباط» بعض الخاصة من أوليائه ، فلم يهن بذلك عزمه ، ولا ضاق به ذرعه.

تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرسَ في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه ، وتسنى له به أن يُلغم نصرَ الأموية ببارود الأموية نفسها. فيجعل نصرها جفاءا ، وريحا هباءا. لم يطل الوقت حتى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصلح ، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره ، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة. فقال ـ وقد قام خطيبا فيهم ـ : «يا أهل العراق ، إني والله لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا ، ولا لتزكوا ، ولا لتحجوا ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون!. ألا وان كل شيء أعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدمي هاتين!»(١) .

فلما تمت له البيعة خطب فذكر عليا فنال منه ، ونال من الحسن ، فقام الحسين ليرد عليه ، فقال له الحسن : «على رسلك يا أخي». ثم قامعليه‌السلام فقال : «أيها الذاكر عليا! أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول الله وجدك عتبة ، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما ، وأقدمنا كفرا ونفاقا!» فقالت طوائف من أهل المسجد : «آمين».

ثم تتابعت سياسة معاوية ، تنفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الإسلام ، قتلا للأبرار ، وهتكا للإعراض ، وسلبا للأموال ، وسجنا للأحرار ، وتشريدا للمصلحين ، وتأييدا للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته ، كابن العاس ، وابن شعبة ، وابن سعيد ، وابن أرطأة ، وابن جندب ، وابن السمط ، وابن الحكم ، وابن مرجانة ، وابن عقبة ، وابن سمية الذي نفاه عن أبيه الشرعي عُبيد ، وألحقه بالمسافح أبيه أبي أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويفرقهم عباديد ، تحت كل كوكب ، ويحرق بيوتهم ، ويصطفي أموالهم ، لا يألو جهدا في ظلمهم بكل طريق. ختم معاوية منكراته هذه

__________________

(١) سيأتي التعليق على هذه الرواية والتي بعدها.

١٥

بحمل خليعة المهتوك على رقاب المسلمين ، يعيث في دينهم ودنياهم ، فكان من خليعه ما كان يوم الطف ، ويوم الحَرَّة ، ويوم مكة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!. هذه خاتمة أعمال معاوية ، وانها لتلائم كل الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة. وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغط شدائد ، وتدور خطوب ، وتزدحم محن ، ما أدري كيف اتسعت لها مسافة ذلك الزمن ، وكيف اتسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي ـ في الحق ـ لو وزعت على دهر لضاق بها ، وناء بحملها ، ولو وزعت على عالم لكان جديرا أن يحول جحيما لا يطاق.

ومهما يكن من أمر ، فالمهم أن الحوادث جاءت تفسر خطة الحسن وتجلوها.

وكان أهم ما يرمي إليه سلام الله عليه ، أن يرفع اللئام عن هؤلاء الطغاة ، ليحول بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جده من الكيد. وقد تم له كل ما أراد ، حتى برح الخفاء وآذن أمر الأموية بالجلاء والحمد لله رب العالمين.

الفضل في كشف هذه الحقيقة انما هو لمولانا ومقتدانا علم الأمة ، والخبير بأسرار الأئمة ، حجة الإسلام والمسلمين ، شيخنا المقدس الشيخ راضي آل ياسين أعلى الله مقامه. ذلك لان أحدا من الاعلام لم يتفرغ لهذه المهمة تفرغه لها في هذا الكتاب الفذ الذي لا ثاني له ، وها هو ذا مُشرِف من القمة على الأمة ، ليسُدَّ في مكتبتها فراغا كانت في فاقة إلى سده ، فجزاه الله عن الأمة وعن الأئمة ، وعن غوامض العلم التي استجلاها ، ومخبآته التي استخرجها ، ومحص حقائقها ، خير جزاء المحسنين ، وحشره في أعلى عليين [مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا].

حرر في صور (جبل عامل). في الخامس عشر من رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة (١٩٥٢ م). انتهى كلام العلامة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي.

وقال العلامة الشيخ راضي آل ياسين رحمه‌الله في مقدمة كتابه صلح الامام الحسن عليه‌السلام : «... هأنذا مقدم ـ الآن ـ بين يدي قارئي الكريم ، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك ، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ ، التي

١٦

لم يحفل في عرضها ، بما تستحق ـ مؤرخونا القدامى ، ولم يعن في تحليلها ـ كما يجب ـ كتابنا المحدثون.

تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الإسلام والتي جاءت بين دوافع الأولين ، وتساهل الآخرين ، صورة مشوهة من صور التاريخ.

وتعرضت في مختلف أدوارها لما كان يجب ان يتعرض له أمثالها من الفترات المطموسة المعالم ، المنسية للحقائق ، المقصودة ـ على الأكثر ـ بالإهمال أو بالتشويه.

فإذا بالحسن بن علي (عليه وعلى أبيه أفضل الصلاة والسلام) في عرف الأكثرين من المتسرعين بأحكامهم ـ من شرقيين وغربيين ـ الخليفة الضعيف السياسة! المتوفر على حب النساء! الذي باع «الخلافة» لمعاوية بالمال!! إلى كثير من هذا الهذر الظالم ، الذي لا يستند في مقاييسه على منطق ، ولا يرجع في تحكماته إلى دليل ، ولا يعنى في ارتجالياته بتحقيق أو تدقيق.

وعَمَدَتْ هذه الفصول إلى تفلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها «الاستراتيجي» في التاريخ ـ إذا صح هذا التعبير ـ عن أعظم الفترات التي مر بها تاريخ الإسلام منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والى يوم الناس ...

لأنها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الإسلام.

ولأنها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لأول مرة في تاريخ العقائد الإسلامية.

كانت النقود التي جَرح بها وُقّاح الرأي سياسةَ الحسنعليه‌السلام ، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النَّصَف والعمق والإحاطة بالظرف الخاص ، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامامعليه‌السلام ، وكان للشهوة الحزبية من بعض ، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر ، وللجهل بالواقع من ثالث ، أثره فيما أسفَّ به المتسرعون إلى أحكامهم. ونظروا إليه نظرتهم إلى زعيم أخفق في زعامته.

وفاتهم أن ينظروا إلى دوافع هذا الإخفاق المزعوم ، الذي كان ـ في حقيقته ـ

١٧

انعكاسا للحالة القائمة في الجيل الذي قدر للحسن أن يتزعمه في خلافته ، بما كان قد طغى على هذا الجيل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس.

وأي غضاضة على «الزعيم» إذا فَسَدَ جيلُه ، أو خانته جنودُه ، أو فقد مجتمعُه وجدانه الاجتماعي. وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا إليه كألمع سياسي يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه ، فيضع الخطط ويقرر النتائج ، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها ، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبرا قبرا ، ويمر بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح ، المرفوع الرأس بالدعوة إلى الإصلاح. ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم ترى ، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟.

وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها ، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع ، أو هي الواقع نفسه ، مدلولا عليه بالمقاييس المنطقية ، وبالدراسات النفسية ، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب ، والقاعدة التي خرج منها إلى احكامه بسهولة ويسر ، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء ...

وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتابا في أحوال الامام الحسنعليه‌السلام ، بوجه عام ، وإنما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب.

وان موضوعا من العمق والعسر كموضوعنا ، وبحثا فقير المادة قصير المدة كبحثنا ـ ونحن نتطلع إليه بعد ١٣٢٨ من السنين ـ لحري بأن لا يدُرُّ على كاتبه بأكثر مما دَرَّت به هذه الفصول ، احرص ما تكون توفرا على استقصاء المواد ، وتنسيق عناصر الموضوع ، وتهذيبها من الزائف والدخيل.

ونحن إذ نومئ إلى «فقر المادة» وأثره على البحث ، لا نعني بالمادة الا هذه «الموسوعات» التي كان بإمكاننا التعاون معها على تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق.

اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤهم في معاجم المؤلفين الأولين ، مما كتب عن قضية الحسنعليه‌السلام فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا

١٨

القديم قيد المؤثرات الزمنية ، وطعمة الضياع والانقراض أخيرا. وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الإسلام ، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة أمثال قضيتنا ـ موضوع البحث ـ. فلم نجد ـ على هذا ـ من مصادر الموضوع : كتاب (صلح الحسن ومعاوية لأحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة ٣٣٣ هجري) ، ولا كتاب [(صلح الحسن عليه السالم لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم)] ، ولا كتاب (قيام الحسنعليه‌السلام لهشام بن محمد بن السائب) ، ولا كتاب (قيام الحسنعليه‌السلام ، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة ٢٨٣ هجري) ولا (كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في أمر الحسنعليه‌السلام ) ، ولا كتاب (اخبار الحسنعليه‌السلام ووفاته ، للهيثم بن عدي الثعلبي المتوفى سنة ٢٠٧ هجري) ، ولا كتاب (اخبار الحسن بن عليعليه‌السلام ، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأصفهاني الثقفي)(١) ، ولا نظائرها.

اما هذه المصادر التي قُدِّرَ لنا ان لا نجد غيرها سندا ، فيما احتاجت به هذه البحوث إلى سند ما ، فقد كان أعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسنعليه‌السلام على ان لا تتفق في عرض حادثة ، أو رواية خطبة ، أو نقل تصريح ، أو الحكم على إحصاء ، بل لا يتفق سندان منها ـ على الأكثر ـ في تأريخ وقت الحادث أو الخطبة من تقديم أو تأخير ، ولا في تعيين اسم القائد مثلا ، أو ترتيب القيادة بين الاثنين أو الثلاثة ، ولا في رواية طرق النكاية التي أريدت بالحسنعليه‌السلام في ميادينه ، أو في التعبير عن صلحه ، أو في قتله أخيرا ، ولا في كل صغيرة أو كبيرة من اخبار الملحمة ، من ألفها إلى يائها. وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر ، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.

وإذا كان من أصعب مراحل هذا التأليف ، إرجاع هذه الحقائق إلى تسلسلها

__________________

(١) تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال ، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما. وستجد معها أسماء كتب أخرى تخص موضوع الحسنعليه‌السلام في صلحه وفي مقتله ، لا نريد الإطالة باستقصائها بعد ان أصبحت أسماء بلا مسميات.

١٩

الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الأول ، فقد كان من أيسر الوسائل إلى تحقيق هذا الغرض ، الاستعانة عليه بقرائن الأحوال ، وتناسق الأحداث ، اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع. وكان من حسن الصدف ، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح ، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها ، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة ، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلى نقص كل منها ، أدلتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق ، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق. ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور ، التي لا تستلم للنقل أكثر مما تحتكم للعقل. ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه ، إلى التصريحات الشخصية التي جاءت أدل على الغرض من روايات كثير من المؤرخين».(١) انتهى كلام العلامة الحجة الشيخ راضي آل ياسينرحمه‌الله .

ثلاث ملاحظات أساسية حول الرؤية المشهورة :

أوردتُ من كلمات ذينك العَلَمين الجليلين ما يغنيني عن ذكر أهمية البحث وصعوبته وضرورته ، وما اودُّ التعليق عليه من الكلمات التي عبرت عن مفاصل الرؤية السائدة والمشهورة ثلاث تعليقات هي :

الأولى : انها لم تميز بين سنوات الصلح العشر زمن حياة الحسنعليه‌السلام التي كانت سنوات أمان وحركة نشيطة لشيعة عليعليه‌السلام في نشر أَخبار سيرته المشرقة وأحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أهل بيتهعليهم‌السلام ، وسنوات المحنة بعد وفاته ، السنوات التي أَعاد فيها معاوية إِعلامه الكاذب ضد عليعليه‌السلام بأشد ما يكون ، وفرض على الناس في كل مكان لعنه ، ومعاقبة المخالف وكان اشدُّ الناس ابتلاءً أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة عليعليه‌السلام . وليس من شك فان اكتشاف هذه الحقيقة سوف يفرض على التحليلات التي كانت قد أغفلتها ان تغير من وجهتها. ومن ابرز هذه التحليلات ان الشروط لم يلتزم بها معاوية منذ اليوم الأول ، اما الرواية التي تقول ان معاوية خطب في الكوفة في اليوم الأول من الصلح ونال من عليعليه‌السلام وهو يسمع ، وأَعلن عن ردِّه للشروط فهي

__________________

(١) آل ياسين ، الشيخ راضي ، صلح الحسنعليه‌السلام ، المقدمة ص ٢٢.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

في يد الـمُستعير هل يكون الولد مضموناً في يده؟ إن قلنا : إنّ العارية مضمونة ضمانَ الغاصب(١) ، كان مضموناً عليه ، وإلّا فلا. وليس له استعماله إجماعاً.

وهذا الخلاف الجاري في العارية أنّها كيف تُضمن آتٍ في المأخوذ على وجه السوم.

لكنّ الأصحّ عند بعض الشافعيّة : إنّ الاعتبار في المستام بقيمته يوم القبض ؛ لأنّ تضمين أجزائه غير ممتنعٍ(٢) .

وقال غيره : الأصحّ كهو في العارية(٣) .

وهذا كلّه فيما إذا تلفت العين بغير الاستعمال.

مسألة ١١٨ : لو تلفت العين المستعارة المضمونة بالاستعمال‌ ، مثل أن ينمحق الثوب باللُّبْس ، فالوجه : ضمان العين وقت التلف ؛ لأنّ حقّ العارية أن تُردّ ، والإذن في الانتفاع إنّما ينصرف غالباً إلى استعمالٍ غير مُتلفٍ ، فإذا تعذّر الردّ لزم الضمان ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والأصحّ عندهم : إنّ العين لا تُضمن كالأجزاء ؛ لأنّه إتلاف استند إلى فعلٍ مأذونٍ فيه(٤) .

وعلى الأوّل لهم وجهان :

أحدهما : كما قلناه من أنّه تُضمن العين وقت التلف ، وهو آخر حالات التقويم.

____________________

(١) الظاهر : « ضمانَ الغصب ».

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

٢٨١

والثاني : إنّه تُضمن العين بجميع أجزائها(١) .

مسألة ١١٩ : قد مضى البحث في ضمان العين‌ ، وأمّا ضمان الأجزاء فإن تلف منها شي‌ء بسبب الاستعمال المأذون فيه كانمحاق الثوب باللُّبْس المأذون فيه ، لم يلزم الـمُستعير ضمانه ؛ لحدوثه عن سببٍ مأذونٍ فيه ، وهو قول الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر ضعيف : إنّه يلزمه الضمان ؛ لأنّ العارية مؤدّاة ، فإذا تلف بعضها فقد فات ردّه ، فيضمن بدله(٣) .

والمعتمد : الأوّل.

وأمّا إن تلف من الأجزاء شي‌ء بغير الاستعمال ، فإن كانت العين مضمونةً كان الـمُستعير ضامناً للأجزاء ، وإلّا كانت أمانةً كالعين ، كما لو تلفت العين بأسرها ، وهو أصحّ قولَي الشافعي.

والثاني : إنّه لا يجب ضمانها على الـمُستعير ، كما لو تلفت بالاستعمال ، ويكتفى بردّ الباقي(٤) .

واعلم أنّ تلف الدابّة بسبب الركوب والحمل المعتاد كانمحاق الثوب ، وتعيّبها بالركوب أو الحمل وشبهه كالانسحاق.

ولو قرّح ظهرها بالحمل وتلفت منه ، قال بعض الشافعيّة : يضمن ، سواء كان متعدّياً بما حمل أو لا ؛ لأنّه إنّما أذن له في الحمل ، لا في الجراحة ، وردُّها إلى المالك لا يُخرجه عن الضمان ؛ لأنّ السراية تولّدت من مضمونٍ ، فصار كما لو قرّح دابّة الغير في يده(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ - ٢٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٢

وفيه نظر.

مسألة ١٢٠ : المستأجر يملك المنفعة ملكاً تامّاً‌ ، ولهذا جاز له أن يؤجر العين مدّة إجارته ، والمنفعة قابلة للنقل ، فجاز أن يعيرها ، فإذا استعار من المستأجر أو الموصى له بالمنفعة ، كان حكمها حكم العارية من المالك في الضمان وعدمه.

والشافعي القائل بالضمان في مطلق العارية له هنا قولان :

أحدهما : إنّه يضمن الـمُستعير هنا ، كما لو استعار من المالك.

والثاني - وهو الأصح عنده - : إنّه لا يضمن ؛ لأنّ المستأجر لا يضمن ، وهو نائب المستأجر ، ألا ترى أنّه إذا انقضت مدّة الإجارة ارتفعت العارية واستقرّت الإجارة على المستأجر بانتفاع الـمُستعير.

ومئونة الردّ في هذه الاستعارة على الـمُستعير إن ردّ على المستأجر ، وعلى المالك إن ردّ عليه ، كما لو ردّ عليه المستأجر(١) .

مسألة ١٢١ : إذا استعار من الغاصب العينَ المغصوبة وكان عالماً أو جاهلاً ثمّ قامت البيّنة بالغصب ، لم يجز له ردّها على الـمُعير‌ ؛ لأنّه ظالم ، ووجب عليه ردّها إلى مالكها ، فإن كان قد استعملها الـمُستعير مدّةً لمثلها أُجرة كان للمغصوب منه الرجوعُ بأُجرة مثلها على أيّهما شاء.

وكذا إن نقص شي‌ء من أجزائها ، فله الرجوع بقيمة ذلك ؛ لأنّ الغاصب ضمنها باليد المتعدّية ، والـمُستعير أتلف منافع الغير بغير إذنه ، وأتلف أجزاء عينه.

فإن رجع على الـمُستعير ، فالأقرب : إنّه لا يرجع على الـمُعير ؛ لأنّ‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨١ - ٢٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٣

التلف وقع في يده ، ولأنّه ضمن ما أتلفه ، ولا يرجع به على غيره ، وهو القول الجديد للشافعي.

وقال في القديم : يرجع عليه - وبه قال أحمد - لأنّه غرّه بأنّه دخل في العارية على أنّه لا يضمن المنفعة والأجزاء(١) .

وإن رجع على الـمُعير ، فهل يرجع الـمُعير على الـمُستعير؟ يبنى على القولين ، إن قلنا : لو رجع على الـمُستعير رجع به على الـمُعير ، فإنّ الـمُعير لا يرجع به ، وإن قلنا : لو رجع على الـمُستعير لم يرجع به ، فإنّ الـمُعير يرجع به.

فأمّا إن تلفت العين في يد الـمُستعير ، فإنّ لصاحبها أن يرجع على مَنْ شاء منهما بقيمتها ، و [ قرار ](٢) الضمان على الـمُستعير ؛ لأنّ المال حصل في يده بجهةٍ مضمونة.

ثمّ إن تساوت القيمة في يده ويد الغاصب فلا بحث ، وإن تفاوتت فإن كانت قيمتها في يد الـمُستعير يوم التلف أكثر ، فإن رجع المالك بها على الـمُستعير لم يرجع الـمُستعير بها على الـمُعير قولاً واحداً ؛ لأنّ العارية مضمونة على الـمُستعير.

وإن كانت قيمتها في يد الـمُعير أكثر ، لم يطالب المالكُ الـمُستعير بالزيادة ؛ لأنّها تلفت في يد الـمُعير ولم يحصل في يده ، وإنّما يطالب بالزيادة الـمُعير ؛ لأنّها تلفت في يده.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ١٩٤ ، البيان ٦ : ٤٥٧ - ٤٥٨ ، وانظر : المغني ٥ : ٤١٤ - ٤١٥ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٢٣.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في « ث » : « من ». وفي « ج » والطبعة الحجريّة : « من أنّ ». وكلاهما ساقط في « خ ، ر ». والمثبت من العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، وروضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٤

وإذا طالَب المالك بغرامة المنافع ، فإن طالَب الـمُستعير غُرْمها ، فالمنفعة التي تلفت تحت يده قرار ضمانها على الـمُعير ؛ لأنّ يد الـمُستعير الجاهل في المنافع ليست يدَ ضمانٍ ، والتي استوفاها بنفسه الأقوى : إنّ الضمان يستقرّ عليه ؛ لأنّه مباشر للإتلاف ، وهو أظهر قولَي الشافعي.

والثاني : إنّ الضمان على الـمُعير ؛ لأنّه غرّه(١) .

والـمُستعير من المستأجر من الغاصب حكمه حكم الـمُستعير من الغاصب إن قلنا بأنّ الـمُستعير من المستأجر ضامن ، وإلّا فيرجع بالقيمة التي غرمها على المستأجر ، ويرجع المستأجر على الغاصب.

مسألة ١٢٢ : لو أنفذ وكيله إلى موضعٍ وسلّم إليه دابّةً ليركبها إليه في شغله‌ فتلفت الدابّة في يد الوكيل من غير تعدٍّ ، لم يكن عليه ضمان ، وهو ظاهرٌ عندنا ؛ فإنّا لا نوجب الضمان على الـمُستعير.

وأمّا الشافعي القائل بالضمان فإنّه نفاه هنا أيضاً ؛ لأنّ الوكيل لم يأخذ الدابّة لغرض نفسه ، بل لنفع الموكّل ، فالـمُستعير في الحقيقة المالك(٢) .

وكذا لو سلّم الدابّة إلى الرائض ليروضها(٣) فتلفت ، لم يضمن ؛ لأنّه في مصلحة المالك.

وكذا لو كان له عليها متاع فأركب إنساناً غيره فوق ذلك المتاع ليحفظه ويحترز عليه ، فتلفت الدابّة ، لم يكن على الراكب ضمان ؛ لأنّه في شغل المالك.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٧١ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٣) راض الدابّة يروضها : وطّأها وذلّلها أو علّمها السير. لسان العرب ٧ : ١٦٤ « روض ».

٢٨٥

ولو وجد ماشياً في الطريق قد تعب من المشي فأركبه دابّته ، فعندنا لا ضمان إذا لم يتعدّ ؛ بناءً على أصلنا من عدم تضمين العارية.

وأمّا عند الشافعي فالمشهور أنّ الراكب يضمن ، سواء التمس الراكب الركوبَ للاستراحة ، أو ابتدأ المالك بإركابه ؛ لأنّها عارية محضة ، والعارية على أصله مضمونة(١) .

وقال الجويني من الشافعيّة : إنّه لا يضمن الراكب ؛ لأنّ القصد من هذه العارية التصدّق والقربة ، والصدقات في الأعيان تفارق الهبات ، ألا ترى أنّه يرجع في الهبة ولا يرجع في الصدقة ، فلذلك يجوز أن تفارق العارية التي هي صدقة سائر العواريّ في الضمان(٢) .

ولو أركبه مع نفسه ، فلا ضمان عندنا على الرديف. وعلى قول الشافعي إنّه يضمن النصف(٣) .

وقال الجويني : لا يلزمه شي‌ء ؛ تشبيهاً له بالضيف(٤) .

وعلى الأوّل لو وضع متاعه على دابّة غيره وأمره أن يسيّر بالدابّة ففعل ، كان صاحب المتاع مستعيراً من الدابّة بقسط متاعه ممّا عليها ، حتى لو كان عليها مثل متاعه وتلفت ضمن نصف الدابّة(٥) .

ولو لم يقل صاحب المتاع : سيِّرها ، ولكن سيَّرها المالك ، لم يكن صاحب المتاع مستعيراً ، وضمن صاحب الدابّة المتاعَ ؛ لأنّه كان من حقّه أن‌

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٧١ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ - ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٣) الوسيط ٣ : ٣٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

٢٨٦

يطرح المتاع.

ولو كان لأحد الرفيقين في السفر متاع وللآخَر دابّة ، فقال صاحب المتاع للآخَر : احمل متاعي على دابّتك ، ففَعَل ، فصاحب المتاع مستعير لها.

ولو قال صاحب الدابّة : أعطني متاعك لأضعه على الدابّة ، فهو مستودع للمتاع.

ولا تدخل الدابّة في ضمان صاحب المتاع في الصورتين عندنا ، وفي الثانية عند الشافعي(١) .

مسألة ١٢٣ : تجوز استعارة الدابّة للركوب والحمل‌ ، سواء أطلق أو قيّد بالزمان أو المنفعة ، وأن يستعيرها ليركبها ؛ لأنّه تجوز إجارتها لذلك ، والإعارة أوسع ؛ لجوازها فيما لا تجوز إجارته ، فإن استعارها إلى موضعٍ فتجاوزه فقد تعدّى في العارية من وقت المجاوزة ، وكان ضامناً من حين العدوان ، ومطلقاً عند الشافعي(٢) ، فإذا استعارها من بغداد إلى الحلّة فتجاوزها إلى الكوفة ، فعليه أُجرة ما بين الحلّة والكوفة ذهاباً وعوداً.

وهل تلزمه الأُجرة من ذلك الموضع الذي وقع فيه العدوان - وهو الحلّة - إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه ، وهو بغداد؟ الأقرب : العدم ؛ لأنّه مأذون فيه من جهة المالك ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : اللزوم ؛ لأنّ ذلك الإذن قد انقطع بالمجاوزة(٣) . وهو ممنوع.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٧

إذا عرفت هذا ، فلو شرط الضمان في العارية أو أطلق وقلنا بضمان العواري ، فإنّ الدابّة تكون مضمونةً عليه إلى الحلّة ضمانَ العارية ، ولا أُجرة عليه ؛ لأنّه مأذون له في ركوبها ، فإذا جاوز ضمنها ضمانَ الغصب ، ووجب عليه أُجرة منافعها ، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي(١) .

وأبو حنيفة يقول : إنّها أمانة إلى الحلّة ، فإذا جاوزها كانت مغصوبةً ، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل ضمان الغصب ، بخلاف قوله في الوديعة إذا أخرجها من حرزها ثمّ ردّها إليه(٢) .

إذا ثبت هذا ، فعلى قول الشافعي بانقطاع الإذن من حين التعدّي ليس له الركوب من الحلّة إلى بغداد ، بل يسلّم الدابّة إلى حاكم الحلّة الذي استعار إليه(٣) .

مسألة ١٢٤ : إذا دفع إليه ثوباً وقال : إن شئت أن تلبسه فالبسه‌ ، فهو قبل اللُّبْس وديعة ، وبعده عارية ، وهو المشهور عند الشافعيّة(٤) .

ولهم وجهٌ آخَر مخرَّج من السوم ؛ لأنّه مقبوض على توقّع الانتفاع ، فكما أنّ المأخوذ على سبيل السوم مقبوض على توقّع عقد ضمانٍ ، كذا هنا.

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٣ / ٤٤٤ ، البيان ٦ : ٤٦٠.

(٢) بدائع الصنائع ٦ : ٢١٦ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٤ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٣٧ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٣ / ٤٤٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٤ ، وراجع أيضاً الهامش (٢) من ص ١٦٠.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٨

قال هذا القائل : لو قيل : لا ضمان في السوم أيضاً تخريجاً ممّا نحن فيه ، لم يبعد(١) .

ولو استعار صندوقاً فوجد فيه شيئاً ، فهو أمانة عنده ، كما لو طيّر الريح الثوبَ في داره ، فلا ضمان فيه وإن كانت العارية مضمونةً ، إلّا مع التفريط أو التعدّي.

مسألة ١٢٥ : قد بيّنّا أنّه لا يجوز للمُحْرم أن يستعير الصيد‌ ، فإن استعاره من الـمُحلّ لم يجز ، فإن قبضه ضمنه لله تعالى بالجزاء ، ولصاحبه ضمان العارية.

فإن استعار مُحلٌّ من مُحْرمٍ صيداً كان يملكه قبل أن يُحرم ، كان ذلك مبنيّاً على القولين في زوال ملكه عنه بالإحرام.

فإن قلنا : لـمّا أحرم زال ملكه عنه بالإحرام ، فقد وجب عليه إرساله ، فإذا دفعه إلى الـمُحلّ لم يجز له ، إلّا أنّ الـمُحلّ لا يضمنه له ؛ لأنّه ليس يملكه ، ولا يضمنه لله تعالى ؛ لأنّه مأذون له في إتلاف الصيد ، إلّا أنّه إذا تلف ضمنه الـمُحْرم ؛ لأنّه تلف بسببٍ من جهته ، وهو تسليمه إلى الـمُحلّ.

وإن قلنا ببقاء ملك الـمُحْرم فيه ، جاز له إعارته ، ويكون مضموناً على الـمُحلّ ضمانَ العارية لصاحبه.

ولو كان الـمُحْرم في الحرم والصيد فيه ، لم يجز له إعارته ، ولا للمُحلّ استعارته.

مسألة ١٢٦ : إذا ردّ الـمُستعير العاريةَ إلى مالكها أو إلى وكيله ، برئ من ضمانها.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٩

وإن ردّها إلى ملك مالكها بأن حمل الدابّةَ إلى اصطبل المالك وأرسلها فيه ، أو ردّ آلةَ الدار إليها ، لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي(١) ، بل عندنا إن لم تكن العارية مضمونةً فإنّها تصير بهذا الردّ مضمونةً ؛ لأنّه لم يدفعها إلى مالكها ، بل فرّط بوضعها في موضعٍ لم يأذن له المالك بالردّ إليه ، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها فتلفت قبل أن يتسلّمها المالك ؛ لأنّه لم يردّها إلى صاحبها ولا إلى مَنْ ينوب عنه ، فلم يحصل به الردّ ، كما لو ردّها إلى أجنبيٍّ.

وقال أبو حنيفة : إذا ردّها إلى ملك المالك ، صارت كأنّها مقبوضة ؛ لأنّ ردّ العواري في العادة يكون إلى أملاك أصحابها ، فيكون ذلك مأذوناً فيه من طريق العادة(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه يبطل بالسارق إذا ردّ المسروق إلى الحرز ، ولا نعرف العادة التي ذكرها ، فبطل ما قاله.

المبحث الثالث : في التنازع.

مسألة ١٢٧ : إذا اختلف المالك والـمُستعير ، فقال المالك : آجرتك هذه العين مدّة كذا بكذا‌ ، وقال الـمُستعير : بل أعرتنيها ، والعين باقية بعد انقضاء المدّة بأسرها أو بعضها ممّا له أُجرة في العادة ، قال الشيخرحمه‌الله في الخلاف :

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٢ - ٢٧٣ / ٤٤٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٣١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٣ ، البيان ٦ : ٤٦٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٩١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٥ / ٣١٧٣.

(٢) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٨٣ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٥ / ٣١٧٢ ، الفقه النافع ٣ : ٩٤٩ / ٦٧٥ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٣١ ، البيان ٦ : ٤٦٠.

٢٩٠

القول قول الـمُستعير - وبه قال أبو حنيفة(١) - لأنّهما اتّفقا على أنّ تلف المنافع كان على ملك الـمُستعير ؛ لأنّ المالك يزعم أنّه ملَّكها بالإجارة ، والـمُستعير يزعم أنّه مَلَكها بالاستيفاء ؛ لأنّ الـمُستعير يملك بذلك ، وقد ادّعي عليه عوض ما تلف على ملكه ، والأصل عدم وجوبه ، فكان القولُ قولَه ، ولأنّ الأصل براءة الذمّة ، والمالك يدّعي شغلها ، فيحتاج إلى البيّنة(٢) .

وقال مالك : القول قول المالك مع اليمين ؛ لأنّ المنافع جارية مجرى الأعيان ، وقد ثبت أنّه لو كان أتلف عليه عيناً كما لو أكل طعامه وقال : كنتَ أبحتَه لي ، وأنكر المالك ، فإنّ القول قول المالك ، أو كانت في يده وادّعى أنّه وهبها منه وأنكر صاحبها ذلك وادّعى أنّه باعها منه : إنّ القول قول صاحبها ، كذا هنا ، ولأنّ المنافع تابعة للأعيان في الملك ، فهي بالأصالة لمالك العين ، فادّعاء الـمُستعير التفرّدَ بالملكيّة لها على خلاف الأصل ، فيحتاج إلى البيّنة(٣) .

وأمّا الشافعي فقد قال في كتاب العارية : إنّه إذا اختلف مالك الدابّة وراكبها ، فقال صاحبها : آجرتكها بكذا ، وقال الراكب : أعرتنيها ولا أُجرة لك علَيَّ ، فالقول قول الراكب(٤) .

____________________

(١) روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣١٩٨ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٩ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٥ ، بحر المذهب ٩ : ١٦ ، البيان ٦ : ٤٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٦ / ٤٥٤.

(٢) الخلاف ٣ : ٣٨٨ ، المسألة ٣ من كتاب العارية.

(٣) النوادر والزيادات ١٠ : ٤٦٢ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١.

(٤) الأُم ٣ : ٢٤٥ ، مختصر المزني : ١١٦ و ١٣٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ ، =

٢٩١

وقال في كتاب المزارعة : ولو اختلف الزارع وصاحب الأرض ، وادّعى صاحب الأرض أنّه آجره إيّاها ، وادّعى الزارع أنّه أعاره إيّاها : إنّ القولَ قولُ صاحب الأرض(١) .

واختلف أصحابه في ذلك :

فقال أبو إسحاق وجماعة : إنّه لا فرق بين المسألتين ، وإنّ فيها قولين ، ونقلوا جوابه من كلّ واحدةٍ منهما إلى أُخرى(٢) .

ومنهم مَنْ قال : إنّ المسألتين مختلفتان ، وفرّق بينهما بأنّ العادة جارية بأنّ الدوابّ تُعار ، فكان الظاهر مع الراكب ، ولم تَجْر العادة بإعارة الأرضين ، فكان الظاهر مع صاحبها(٣) .

قال الأوّلون : هذا ليس بصحيحٍ ؛ لأنّ مثل هذه العادة لا اعتبار بها في التداعي ، ولهذا لو اختلف العطّار والدبّاغ في آلة العطر لا يُرجّح قول العطّار‌

____________________

= الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٦ / ٤٥٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، الوجيز ١ : ٢٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣١٩٩.

(١) مختصر المزني : ١٣٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، الوجيز ١ : ٢٠٥ ، الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣٢٠٠.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ - ٤٧٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٢ و ٤٧٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠.

٢٩٢

وإن كانت العادة جاريةً بأنّ آلة العطّار لا تكون للدبّاغ.

وفرّقوا بين هذه المسألة وبين ما إذا غسل ثوبه غسّال أو خاطه خيّاط ثمّ قال : فعلتُه بالأُجرة ، وقال المالك : بل فعلتَ ذلك مجّاناً ، فإنّ القول قول المالك مع يمينه قولاً واحداً ؛ لأنّ الغسّال فوّت منفعة نفسه ثمّ ادّعى لها عوضاً على الغير ، وهناك المتصرّف فوّت منفعة مال الغير وأراد إسقاط الضمان عن نفسه ، فلم يُقبل(١) .

إذا عرفت هذا ، فإن قلنا : القول قول الـمُستعير ، فحلف على نفي الإجارة ، كفاه ، وسقط عنه المطالبة ، وردّ العين ، وإن نكل حلف المالك ، واستحقّ بيمينه المسمّى ؛ لأنّ اليمين مع النكول إمّا أن تكون بمنزلة البيّنة أو الإقرار ، وأيّهما كان يثبت به المسمّى ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر ضعيف : إنّه يستحقّ أُجرة المثل ؛ لأنّ الناكل ينفي أصل الإجارة ، فتقع يمين المدّعي على إثباته(٣) .

وليس هذا الوجه عندي بعيداً من الصواب.

وإن قلنا : القول قول المالك مع يمينه ، فإنّه يحلف على نفي الإعارة التي تدّعى عليه ، ولا يتعرّض لإثبات الإجارة ؛ لأنّه مدّعٍ فيها ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

فحينئذٍ إذا حلف على نفي الإعارة ، فالأقوى عندي : إنّ الـمُستعير يحلف على نفي الإجارة ، فإذا حلف ثبت للمالك أقلّ الأمرين من أُجرة‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٢ ، بحر المذهب ٩ : ١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، البيان ٦ : ٤٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢.

(٣) البيان ٦ : ٤٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٤) الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

٢٩٣

المثل والمسمّى ؛ لأنّه إن كانت أُجرة المثل أقلَّ فهو لم يُقم حجّةً على الزيادة ، وإن كان المسمّى أقلَّ فقد أقرّ بأنّه لا يستحقّ الزيادة.

وقال بعض الشافعيّة : إذا حلف المالك على نفي الإعارة ، استحقّ أقلَّ الأمرين من أُجرة المثل والمسمّى إن لم يحلف الـمُستعير.

قال : وإن قلنا : إنّ المالك يحلف على إثبات الإجارة ونفي الإعارة ويجمع بينهما في يمينه ، ففيما يستحقّه وجهان :

أحدهما : المسمّى إتماماً لتصديقه.

وأظهرهما - وهو مقتضى منصوص الشافعي في الأُم(١) - أُجرة المثل ؛ لأنّهما لو اتّفقا على الإجارة واختلفا في الأُجرة كان الواجب أُجرة المثل ، فإذا اختلفا في أصل الإجارة كان أولى(٢) .

والجويني حكى الوجه الثاني على غير ما ذكر ، بل حكى بدله : إنّه يستحقّ أقلَّ الأمرين ؛ لما(٣) تقدّم.

قال : والتعرّض للإجارة على هذا ليس لإثبات المال الذي يدّعيه ، لكن لينتظم كلامه من حيث إنّه اعترف بأصل الإذن ، فحصل فيما يستحقّه ثلاثة أوجُه(٤) .

ولو نكل المالك عن اليمين المعروضة عليه ، لم تُردّ اليمين على الراكب والزارع ؛ لأنّهما لا يدّعيان حقّاً على المالك حتى يُثبتاه باليمين ، وإنّما يدّعيان الإعارة ، وليست حقّاً لازماً على الـمُعير.

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢٤٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٣) الظاهر : « كما » بدل « لما ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

٢٩٤

وقال بعض الشافعيّة : إنّها تُردّ ؛ ليتخلّص من الغرم(١) .

مسألة ١٢٨ : لو وقع هذا الاختلاف عقيب العقد قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أجر‌ ، فالقول هنا قول الـمُستعير مع اليمين ، فإذا حلف على نفي الإجارة سقط عنه دعوى الأُجرة ، واستردّ المالك العين ، وإن نكل حلف المالك اليمينَ المردودة ، واستحقّ الأُجرة.

وهذا قول الشافعي أيضاً ، ولا قول له سواه ؛ لأنّ الراكب هنا لا يدّعي لنفسه حقّاً ولا أتلف المنافع على المالك ، والمدّعي في الحقيقة هنا هو المالك ، وإذا تمحّضت الدعوى له لم يتعدّد قوله كما يتعدّد في الصورة الأُولى ؛ لأنّ المنافع هناك تلفت تحت يد الراكب ، وكان القول بسقوطها مجّاناً بعيداً ، فلهذا كان له في الصورة الأُولى قولان(٢) .

مسألة ١٢٩ : لو حصل هذا الاختلاف بعد تلف العين‌ ، فإن تلفت عقيب الأخذ قبل أن يثبت لمثلها أُجرة وشرط في العارية الضمان أو قلنا به على مذهب القائلين بضمان العارية ، فلا معنى للاختلاف ؛ لأنّ صاحبها يدّعي الإجارة وقد انفسخت بتلفها ، والـمُستعير يُقرّ بالقيمة ويعترف باستحقاقها في ذمّته ، والمالك ينكرها ، فليس للمالك حينئذٍ المطالبة بها.

ولو لم نقل بالضمان في العارية ولا شرطه المالك ، فلا بحث هنا ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعترف ببراءة ذمّة الـمُستعير.

وإن تلفت بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة مع شرط الضمان أو القول به ، فالـمُستعير يُقرّ بالقيمة ، والمالك ينكرها ويدّعي الأُجرة ، فيبنى على الخلاف بين العامّة في أنّ اختلاف الجهة هل يمنع الأخذ؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٢) البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

٢٩٥

إن قلنا : نعم ، سقطت القيمة بردّه ، والقول في الأُجرة قول المالك أو الـمُستعير على الخلاف الذي تقدّم في الحالة الأُولى.

وإن قلنا : إنّ اختلاف الجهة لا يمنع الأخذ ، فإن كانت الأُجرة مثلَ القيمة أو أقلَّ أخذها بغير يمينٍ ، وإن كانت أكثر أخذ قدر القيمة ، وفي المصدّق في الزيادة الخلافُ المتقدّم(١) .

مسألة ١٣٠ : لو انعكس هذا الاختلاف ، فادّعى المالكُ الإعارةَ ، والمتصرّفُ الإجارةَ‌ ، فإن كانت العين باقيةً وكان الاختلاف عقيب التسليم قبل مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة ، كان القولُ قولَ المالك ؛ لأنّ المتصرّف يدّعي عليه عقداً واستحقاق منفعةٍ ، والمالك ينكره ، وإذا لم تكن بيّنة كان القولُ قولَ المنكر مع اليمين ، ثمّ تُستردّ العين.

وإن نكل حلف المتصرّف ، واستحقّ المنفعة المدّة والإمساك طولها.

وإن كان بعد مضيّ مدّة الإجارة ، فلا معنى للاختلاف ؛ لأنّهما اتّفقا على وجوب ردّها ، والمتصرّف يُقرّ للمالك بالأُجرة ، والمالك ينكرها.

وإن كان بعد مضيّ بعض المدّة ، فالقول قول المالك ؛ لأنّ الأصل عدم استحقاق الغير منفعة مال الغير ، فإذا حلف على نفي الإجارة أخذ العين ، وليس له مطالبته بالأُجرة عمّا مضى من المدّة ؛ لأنّه ينكرها والمتصرّف معترف له بها.

هذا إذا كان الاختلاف والعين باقية ، وأمّا إن اختلفا والعين تالفة ، فإن كان الاختلاف عقيب القبض قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة ، فالمالك هنا يدّعي قيمتها على المتصرّف مع شرط الضمان عندنا ، ومطلقاً عند‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٢٩٦

الشافعي(١) ، والمتصرّف ينكرها ، فيُقدَّم هنا قول المالك مع اليمين ؛ لأنّهما اختلفا في صفة القبض ، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمانُ ؛ لقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(٢) .

وإن كان الاختلاف بعد مضيّ المدّة ، فالمتصرّف يُقرّ بالأُجرة ، والمالك يدّعي عليه القيمة في المضمونة ، فإن كانت القيمة بقدر الأُجرة دفع إليه من غير(٣) يمينٍ ؛ لاتّفاقهما على استحقاق ذلك المقدار ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

وقال بعضهم : لا تثبت الأُجرة ؛ لأنّه لا يدّعيها ، ويكون القولُ قولَه في وجوب القيمة(٥) .

وإن كانت أقلَّ ، كان في قدرها الوجهان.

وإن كانت أكثر ، كان قدر الأُجرة منهما على الوجهين ، والباقي يستحقّه بيمينه.

وإن كان التلف في أثناء المدّة ، فقد أقرّ له ببعض الأُجرة ، وهو يدّعي القيمة ، والحكم في ذلك على ما ذكر.

مسألة ١٣١ : لو ادّعى المالكُ الغصبَ ، والمتصرّفُ الإعارةَ والعين باقية قائمة ، ولم تمض مدّة لمثلها أُجرة ، فلا معنى لهذا الاختلاف‌ ؛ إذ لم تفت العين ولا المنفعة ، ويردّ المتصرّفُ العينَ إلى المالك.

وإن مضت مدّة لمثلها أُجرة ، فالأقوى : إنّ القولَ قولُ المالك مع‌

____________________

(١) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٧١ ، الهامش (٢)

(٣) في « ج » : « بغير » بدل « من غير ».

(٤ و ٥) البيان ٦ : ٤٧٦.

٢٩٧

يمينه ؛ لما تقدّم(١) من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان في التملّك ، فالقول قول مَنْ يدّعيها مع اليمين وعدم البيّنة ؛ لأنّ المتصرّف يدّعي انتقال المنفعة إليه بالإعارة وبراءة ذمّته من التصرّف في مال الغير ، فعليه البيّنة.

وقال الشيخرحمه‌الله في الخلاف : القول قول المتصرّف - وهو أحد أقوال الشافعي نقله المزني عنه(٢) - لأنّ المالك يدّعي عليه عوضاً ، والأصل براءة ذمّته منه ، ولأنّ الظاهر من اليد أنّها بحقٍّ ، فكان القولُ قولَ صاحبها(٣) .

وليس بجيّدٍ ؛ لما بيّنّا من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان ، ولأصالة عدم الإذن ، وكما أنّ الظاهر أنّ اليد بحقٍّ ، كذا الظاهر التبعيّة.

ولأصحاب الشافعي هنا ثلاثة طُرق :

أظهرها : إنّ الحكم هنا على ما تقدّم في المسألة السالفة ، فيُفرّق بين الدابّة والأرض على طريقٍ ، ويُجعلان على قولين في طريقٍ ؛ لأنّ المالك ادّعى أُجرة المثل هنا ، كما ادّعى المسمّى في الإجارة هناك ، والأصل براءة الذمّة.

والثاني : القطع بأنّ القول قول المالك ، بخلاف تلك المسألة ؛ لأنّهما متّفقان على الإذن هناك ، وهنا المالك منكر له ، والأصل عدمه. ومَنْ قال بهذا خطّأ المزني في النقل.

قال أبو حامد : لكنّه ضعيف ؛ لأنّ الشافعي نصّ في الأُمّ على ما رواه‌

____________________

(١) في ص ٢٩٠.

(٢) مختصر المزني : ١١٦ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٩٠ ، البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩ ، المغني ٥ : ٣٧٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٧٤.

(٣) الخلاف ٣ : ٣٨٩ ، المسألة ٥ من كتاب العارية.

٢٩٨

المزني(١) .

والثالث : القطع بأنّ القول قول المتصرّف ؛ لأنّ الظاهر من حال المسلم أنّه لا يتصرّف إلّا على وجهٍ جائز(٢) .

هذا إذا تنازعا والعين باقية.

مسألة ١٣٢ : لو وقع هذا الاختلاف وقد تلفت العين‌ ، فإن هلكت بعد انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة ، فالمالك يدّعي أُجرة المثل والقيمة بجهة الغصب ، والمتصرّف يُنكر الأُجرة ويُقرّ بالقيمة بجهة العارية إن كانت مضمونةً ، فالحكم في الأُجرة على ما تقدّم عند بقاء العين.

وأمّا القيمة فإنّه يُحكم فيها بقول المتصرّف ؛ لأصالة براءة ذمّته من الزائد عن القيمة وقت التلف إن أوجبنا على الغاصب أعلى القِيَم.

وقال بعض الشافعيّة : إن قلنا : إنّ اختلاف الجهة يمنع الأخذ ، فلا يأخذ المالك إلّا باليمين. وإن قلنا : لا يمنع فإن قلنا : العارية تُضمن ضمانَ الغصب ، أو لم نقل به لكن كانت قيمته يوم التلف أكثر ، أخذها باليمين ، وإن كانت قيمته يوم التلف أقلَّ ، أخذها بغير يمينٍ ، وفي الزيادة يحتاج إلى اليمين(٣) .

وإن هلكت عقيب القبض قبل مضيّ وقتٍ يثبت لمثله أُجرة ، لزمه القيمة.

ثمّ قياس القول الأوّل أن يقال : إن جعلنا اختلاف الجهة مانعاً من

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩ ، وراجع الأُم ٣ : ٢٤٥ ، ومختصر المزني : ١١٦.

(٢) البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٢٩٩

الأخذ ، حلف ، وإلّا أخذ بغير يمينٍ.

وقضيّة ما قاله الجويني في مسألة التنازع بين الإجارة والعارية : إنّه لا يُخرّج على ذلك الخلاف لا هذه الصورة ولا ما إذا كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ يثبت لمثلها أُجرة.

قال : لأنّ العين متّحدة ، ولا وَقْع للاختلاف في الجهة مع اتّحاد العين(١) .

والظاهر : الأوّل عندهم(٢) .

وإن كانت العارية غيرَ مضمونةٍ ، فإنّ القولَ قولُ المالك في عدم الإعارة ، وقولُ المتصرّف في عدم الغصب لئلّا يضمن ضمانَ الغصب ، ثمّ يثبت على المتصرّف بعد حلف المالك على نفي الإعارة قيمتُها وقت التلف.

مسألة ١٣٣ : لو انعكس الفرض ، فقال المالك : أعرتُكها ، وقال المتصرّف : بل غصبتُها ، فلا فائدة في هذا الخلاف‌ ؛ لأنّ المتصرّف يُقرّ بالضمان ، والمالك يُنكره إن كانت العارية غير مضمونةٍ ، وإن كانت مضمونةً فإنّه يُنكر ضمان الغصب.

وإن مضت مدّة لمثلها أُجرة ، فالمالك ينفي استحقاق العوض عنها ، والمتصرّف يعترف له بها.

ولو قال المالك : غصبتَها ، وقال المتصرّف : بل آجرتني ، فإن كانت العين باقيةً ولم تمض مدّة لمثلها أُجرة ، فالأقوى : التحالف.

أمّا حلف المتصرّف على نفي الغصب : فلنفي زيادة الضمان إن‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611