الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي3%

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 611

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي
  • البداية
  • السابق
  • 611 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 173214 / تحميل: 7417
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

الامام الحسن عليه السلام في مواجهة الانشقاق الأموي

مؤلف:
العربية

١

٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين

روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبي سعيد عقيصا قال : قلت للحسن بن علي ابن أبي طالبعليه‌السلام : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته؟ قالعليه‌السلام : علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.

أقول : معنى ذلك ان السبب الموجب للصلحين واحد ، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجب له ثم وحدة الموقف ازاءه ثم وحدة النتائج المترتبة وقد تكفلت بحوث الكتاب في تجلية ذلك.

وقد اعترض بعض الباحثين الشيعة على عنوان كتاب صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين قائلا : ان الحسنعليه‌السلام لم يصالح بل هادن ، وهو اعتراض لا وجه له ، لان (الهدنة) في اللغة تعني (الصلح) ، قال ابن منظور في لسان العرب مادة (هدن) ويقال للصلح بعد القتال والموادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين : هُدْنَةٌ ، وربما جعلت للهُدْنة مُدّة معلومة ، فإذا انقضت المدة عادوا إلى القتال ، وبذلك فان هادن وصالح مترادفان كما ورد في الرواية اعلاه في سؤال ابي سعيد ثم اجاب الامامعليه‌السلام بقوله علة مصالحتي لمعاوية ...

٥
٦

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.

استضافتي جماعة العلماء العراقية في مدينة قم سنة ١٤١٠ هجرية لإلقاء محاضرة في موسم ثقافي أقامته في شهر رمضان واخترت ليلة الخامس عشر منه ليكون الحديث عن صلح الحسنعليه‌السلام حيث لم أكن سابقا قد بحثته ، وأمضيت أربع عشرة ليلة ابحث في المصادر الأساسية.

ورأيت نفسي :

أمام قضية جديدة لم يشر إليها أحد من الباحثين قبلي وهي أن كلَّ ما سجّلتْه كتب التاريخ من ترويع وقتل وسجن وتهجير لشيعة الكوفة من قبل ولاة معاوية لم يكن قد وقع أيام الحسنعليه‌السلام بل كان بعد وفاته ، وهذا يعني ان عشر سنوات من حياة الحسنعليه‌السلام بعد الصلح كانت سنوات أمان تام للشيعة لم يُروَّع فيها شيعي واحد.

استوقفتني هذه الحقيقة ؛ الكبيرة ؛ المغيَّبة ؛ لأكثر من اثني عشر قرنا. وقد علق استاذي العلامة العسكريرحمه‌الله في حينها لما عرضت عليه ذلك قائلا : لقد جئت بشيء جديد من أسرار صلح الحسنعليه‌السلام .

ورأيت نفسي أيضا أمام معلومات أخرى لم تأخذ طريقها عند الباحثين في تأسيس الرؤية المناسبة حول موقف العراقيين من الحسنعليه‌السلام من قبيل قوله حين ترك الكوفة :

وما عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري

٧

ومن قبيل قول عبد الله بن الزبير لمعاوية لما اشتكى من قلة تردده عليه عند قدومه إلى المدينة : أنَّ مع الحسن مائة ألف سيف لو شاء لضربك بها ، وقوله : والله ان أهل العراق لأبَرّ بالعراق من أم الحوار بحوارها.

وأمام رواة عرفوا بوضع الأخبار ؛ أمثال عوانة بن الحكم الذي روى عنه الطبري قصة الصلح ؛ التي تؤكد : أنَّ هدف الحسنعليه‌السلام من الصلح هو مسألة الحصول على الأموال! وان السبب الذي دعاه للصلح هو خيانة الجيش! وان الذي حصل على أمان الشيعة هو قيس بن سعد! وليس الحسنعليه‌السلام !

وأدركت من خلال ذلك أنني أمام (مشروع قراءة جديدة للصلح) تستند على معلومات جديدة وليس مجرد رأي وتحليل للمعلومات القديمة ، ثم فرضت هذه القراءة نفسها عليَّ أن أواصل متابعتها بحثاً ومناقشةً ومحاضرةً مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا في مناسبات شهر رمضان وغيره من الشهور في مدينة قم ولندن وسوريا ، وأسبانيا وبغداد واخيرا النجف الأشرف والحلة الفيحاء ونشرت خلالها ملخصا للبحث في صحيفة الراصد سنة ٢٠٠٣ م التي كانت تصدر في بغداد وجريدة البقية ومجلة النجف الاشرف التي تصدر في النجف عن مؤسسة المرتضى للثقافة والإرشاد ثم نشرت ملخصاً في كراس مستقل طبع عدة مرات.

أثارت القراءة الجديدة ردود فعل كان أكثرها إيجابيا ، ولا زلت أذكر حماسة العلامة الحجة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمة الله عليه لطبعه مبكرا وقوله : «إنها قراءة جديدة سوف تهدم أمورا كثيرة تسالم عليها الباحثون». ولم أكن في حينها عجولا في نشر البحث التفصيلي ؛ رغم أني كنت أصحر بالقراءة الجديدة في المناسبات كما أسلفت لعلي أفوز بملاحظة أو مناقشة تغير من وجهة البحث.

ثم حانت الفرصة لمراجعة فصول البحث التي كتبت في فترات زمنية مختلفة لتقديمه للطبع ، فاضفت فصلا آخر الى الباب الثاني وبابا آخر بخمسة فصول ولا يفوتني ان اشكر قرة عيني ولدي السيد حسين الذي اشرف على اخراج الكتاب وتصحيحه وطباعته ، وأخيرا ليس لي إلا أن أقول بقول العلامة المحقق الشيخ راضي آل ياسينرحمه‌الله في مقدمة كتابه :

٨

(وهي ـ بعد ـ بضاعتي المزجاة التي لا أريد منها إلا أن تكون مفتاح بحوث جديدة ، من شأنها أن تكشف كثيرا من الغموض الذي دار مع قضية الحسنعليه‌السلام في التاريخ. فان هي وُفِّقَتْ إلى ذلك ، فقد أوتيتُ خيراً كثيرا. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب).(١)

السيد سامي البدري

١٤٣٣ هـ / حي الكرامة / النجف الاشرف

__________________

(١) آل ياسين ، الشيخ راضي ، صلح الحسنعليه‌السلام ص ٢٢.

٩

المدخل

التمهيد وسير البحث

١٥ تمهيد

١٦ خلاصة الرؤية المشهورة في تعليل الصلح

٢٣ ثلاث ملاحظات أساسية حول الرؤية المشهورة

٢٧ صلح الحسنعليه‌السلام في الاعلام الاموي والعباسي وروايات اهل البيتعليهم‌السلام

٣٣ الرؤية الجديدة

٣٩ أبواب البحث وفصوله

١٠
١١

تمهيد

تعد قضية صلح الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية / كما تصورها لنا المصادر التاريخية الأولى / من أشد القضايا غموضا وتشوها في تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام من جهة ، وفي تاريخ العراق الإسلامي المبكر من جهة أخرى ، وذلك لان القراءة الأولية للمصادر التاريخية الإسلامية حول الموضوع تفرض على القارئ ان يخرج بانطباعين سلبيين هما :

الأول : الانطباع السلبي الشديد عن العراقيين الأوائل الذين عاصروا عليا والحسن والحسينعليهما‌السلام في الكوفة خاصة ، وهو الانطباع السائد لدى كل من درس الموضوع أو كتب فيه ، وهو : كونهم متفرقين متخاذلين / طالما تمنى عليعليه‌السلام فراقهم / غير قادرين على النهوض بدولة مستقلة بهم نظير ما صنعه الشاميون مع معاوية ، بل كان بعض العراقيين / كما في بعض الروايات / يفكر بتسليم الحسنعليه‌السلام حيا إلى معاوية ، ولذلك اضطر الحسنعليه‌السلام إلى تسليم الأمر لمعاوية ، وهذا الانطباع يستوي فيه القراءة المسلمون بغض النظر عن مذاهبهم.

الثاني : الانطباع السلبي عن شخصية الحسنعليه‌السلام لدى القارئ الذي لا تربطه معه رابطة الاعتقاد بإمامته وعصمته أو رابطة الاعتقاد بوجوب محبته واحترامه لأنه من أهل البيتعليهم‌السلام الذين أوجب الله تعالى مودتهم ، كالمستشرقين وقد كادوا يجمعون على كون الحسنعليه‌السلام شخصية غير جديرة بان تكون ابنا لعليعليه‌السلام وانه باع الخلافة بدراهم من اجل شهواته.

١٢

أما القارئ المؤمن بعصمة الإمام الحسنعليه‌السلام فلم يؤثر عليه ذلك الركام الهائل من الروايات الطاعنة في شخصيته لإيمانه المسبق ان الحسنعليه‌السلام منزَّه عن ذلك وان تلك الروايات لا بد ان تكون موضوعة من قبل أعدائه لتشويه صورته.

ويعد كتاب صلح الحسنعليه‌السلام (١) للباحث المحقق الشيخ راضي آل ياسينرحمه‌الله الذي صدرته الطبعة الأولى منه سنة ١٣٧٢ هـ ـ ١٩٥٢ م افضل واشهر كتاب معاصر في الموضوع ، وقدم له في وقته الحجة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدينرحمه‌الله صاحب التآليف القيمة بكلمة تصدرت الكتاب زادت من قيمته وأهميته ، ومن ثَمَّ سادت الرؤية التي قدمها الكتاب في النقد والتحليل وأخذ بها كلُّ من جاء بعده من الباحثين الشيعة.

ولما كنت في دراستي التي أعرضها بين يديك أيها القارئ الكريم قد خرجت برؤية مخالفة للرؤية السائدة بل هادمة لمرتكزاتها ، مع نتائج جديدة للصلح وأَلَقٍ كبيرٍ في شخصية الحسنعليه‌السلام وإمامتمه الإلهية رأيت ان ألخص الرؤية القديمة للصلح بقلم علمين كبيرين من أعلامنا ثم اعرض خلاصة الرؤية الجديدة قبل البدء ببحوث الكتاب.

خلاصة الرؤية المشهورة

في تعليل الصلح

قال العلامة الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه‌الله : «ومن الغريب بقاء الناس في عشواءَ غمّاءَ من هذا الصلح إلى يومهم هذا ، لا يقوم أحد منهم في بيان وجهة الحسن في صلحه ، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيناتها ، عقلية ونقلية ، وكم كنت أحاول ذلك ، لكن الله عز وجل شاء بحكمته أن يختص بهذه المأثرة من هو أولى بها ، وأحق بكل فضيلة ، ذلك هو مؤلف هذا السفر البكر «صلح الحسن» فإذا هو في موضوعه فصل الخطاب ، ومفصل الصواب ، والحد الفاصل بين الحق والباطل. أما المؤلف (أي الشيخ راضي آل ياسين) ـ أعلى الله مقامه ـ فإنك تستطيع أن تستشف ملامحه ، وافر الذهن ، غزير الفهم والعلم ، واسع الرواية ، عليما زاخرا بعلوم آل محمد ، علامة بحاثة ، أمعن

__________________

(١) ظهرت الطبعة الأولى منه سنة ١٣٧٢ هـ ١٩٥٢ م.

١٣

في التنقيب عن أسرارهم ، يستجلي غوامضها ، ويستبطن دخائلها ، لا تفوته منها واردة ولا شاردة ، إلى خصائص في ذاته وسماته يمثلها كتابه هذا بجلاء».

ثم قالرحمه‌الله يلخص الرؤية السائدة عن الصلح :

«ومن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب ، من أحوال الحسن ومعاوية ، علم انهما لم ترتجلهما المعركة ارتجالا ، وإنما كانا في جبهتيهما خليفتين ، استخلفهما الميراث على خُلُقين متناقضين.

وقد وقف الحسن والحسين من دهاء (معاوية) ومكره إزاء خطر فظيع ، يهدد الإسلام باسم الإسلام ، ويطغى على نور الحق باسم الحق ، فكانا في دفع هذا الخطر ، أمام أمرين لا ثالث لهما : اما المقاومة ، واما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلى فناء هذا الصف المدافع عن الدين وأهله ، والهادي إلى الله عز وجل ، والى صراطه المستقيم. إذ لو غامر الحسن يومئذ بنفسه وبالهاشميين وأوليائهم ، فواجه بهم القوة التي لا قِبَل لهم بها(١) مصمما على التضحية ، تصميم أخيه يوم «الطف» لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعا ، ولانتصرت «الأموية» بذلك نصرا تعجز عنه إمكانياتها.

ومن هنا رأى الحسنعليه‌السلام أن يترك معاوية لطغيانه ، ويمتحنه بما يصبو إليه من الملك ، لكن أخذ عليه في عقد الصلح ، أن لا يعدو الكتاب والسنة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه ومقوية سلطانه ، وأن لا يطلب أحدا من الشيعة بذنب أذنبه مع الأموية ، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين ، وأن ، وأن ، وأن. إلى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالما بأن معاوية لا يفي له بشيء منها وأنه سيقوم بنقائضها.

وبالجملة فان هذه الخطة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بد ، أملاها ظرف الحسن ، إذ التبس فيه الحق بالباطل ، وتسنى للطغيان فيه سيطرة مسلحة ضارية. ما كان الحسن ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها ، بل أخذها فيما أخذه من إرثه ، من صلح «الحديبية» فيما أُثِر من سياسة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وله فيه أسوة حسنة ،

__________________

(١) كما أوضحه الشيخ آل ياسين في كتابه صلح الحسنعليه‌السلام .

١٤

إذ أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه ، كما أنكر على الحسن صلح «ساباط» بعض الخاصة من أوليائه ، فلم يهن بذلك عزمه ، ولا ضاق به ذرعه.

تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرسَ في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه ، وتسنى له به أن يُلغم نصرَ الأموية ببارود الأموية نفسها. فيجعل نصرها جفاءا ، وريحا هباءا. لم يطل الوقت حتى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصلح ، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره ، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة. فقال ـ وقد قام خطيبا فيهم ـ : «يا أهل العراق ، إني والله لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا ، ولا لتزكوا ، ولا لتحجوا ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون!. ألا وان كل شيء أعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدمي هاتين!»(١) .

فلما تمت له البيعة خطب فذكر عليا فنال منه ، ونال من الحسن ، فقام الحسين ليرد عليه ، فقال له الحسن : «على رسلك يا أخي». ثم قامعليه‌السلام فقال : «أيها الذاكر عليا! أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول الله وجدك عتبة ، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما ، وأقدمنا كفرا ونفاقا!» فقالت طوائف من أهل المسجد : «آمين».

ثم تتابعت سياسة معاوية ، تنفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الإسلام ، قتلا للأبرار ، وهتكا للإعراض ، وسلبا للأموال ، وسجنا للأحرار ، وتشريدا للمصلحين ، وتأييدا للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته ، كابن العاس ، وابن شعبة ، وابن سعيد ، وابن أرطأة ، وابن جندب ، وابن السمط ، وابن الحكم ، وابن مرجانة ، وابن عقبة ، وابن سمية الذي نفاه عن أبيه الشرعي عُبيد ، وألحقه بالمسافح أبيه أبي أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويفرقهم عباديد ، تحت كل كوكب ، ويحرق بيوتهم ، ويصطفي أموالهم ، لا يألو جهدا في ظلمهم بكل طريق. ختم معاوية منكراته هذه

__________________

(١) سيأتي التعليق على هذه الرواية والتي بعدها.

١٥

بحمل خليعة المهتوك على رقاب المسلمين ، يعيث في دينهم ودنياهم ، فكان من خليعه ما كان يوم الطف ، ويوم الحَرَّة ، ويوم مكة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!. هذه خاتمة أعمال معاوية ، وانها لتلائم كل الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة. وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغط شدائد ، وتدور خطوب ، وتزدحم محن ، ما أدري كيف اتسعت لها مسافة ذلك الزمن ، وكيف اتسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي ـ في الحق ـ لو وزعت على دهر لضاق بها ، وناء بحملها ، ولو وزعت على عالم لكان جديرا أن يحول جحيما لا يطاق.

ومهما يكن من أمر ، فالمهم أن الحوادث جاءت تفسر خطة الحسن وتجلوها.

وكان أهم ما يرمي إليه سلام الله عليه ، أن يرفع اللئام عن هؤلاء الطغاة ، ليحول بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جده من الكيد. وقد تم له كل ما أراد ، حتى برح الخفاء وآذن أمر الأموية بالجلاء والحمد لله رب العالمين.

الفضل في كشف هذه الحقيقة انما هو لمولانا ومقتدانا علم الأمة ، والخبير بأسرار الأئمة ، حجة الإسلام والمسلمين ، شيخنا المقدس الشيخ راضي آل ياسين أعلى الله مقامه. ذلك لان أحدا من الاعلام لم يتفرغ لهذه المهمة تفرغه لها في هذا الكتاب الفذ الذي لا ثاني له ، وها هو ذا مُشرِف من القمة على الأمة ، ليسُدَّ في مكتبتها فراغا كانت في فاقة إلى سده ، فجزاه الله عن الأمة وعن الأئمة ، وعن غوامض العلم التي استجلاها ، ومخبآته التي استخرجها ، ومحص حقائقها ، خير جزاء المحسنين ، وحشره في أعلى عليين [مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا].

حرر في صور (جبل عامل). في الخامس عشر من رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة (١٩٥٢ م). انتهى كلام العلامة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي.

وقال العلامة الشيخ راضي آل ياسين رحمه‌الله في مقدمة كتابه صلح الامام الحسن عليه‌السلام : «... هأنذا مقدم ـ الآن ـ بين يدي قارئي الكريم ، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك ، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ ، التي

١٦

لم يحفل في عرضها ، بما تستحق ـ مؤرخونا القدامى ، ولم يعن في تحليلها ـ كما يجب ـ كتابنا المحدثون.

تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الإسلام والتي جاءت بين دوافع الأولين ، وتساهل الآخرين ، صورة مشوهة من صور التاريخ.

وتعرضت في مختلف أدوارها لما كان يجب ان يتعرض له أمثالها من الفترات المطموسة المعالم ، المنسية للحقائق ، المقصودة ـ على الأكثر ـ بالإهمال أو بالتشويه.

فإذا بالحسن بن علي (عليه وعلى أبيه أفضل الصلاة والسلام) في عرف الأكثرين من المتسرعين بأحكامهم ـ من شرقيين وغربيين ـ الخليفة الضعيف السياسة! المتوفر على حب النساء! الذي باع «الخلافة» لمعاوية بالمال!! إلى كثير من هذا الهذر الظالم ، الذي لا يستند في مقاييسه على منطق ، ولا يرجع في تحكماته إلى دليل ، ولا يعنى في ارتجالياته بتحقيق أو تدقيق.

وعَمَدَتْ هذه الفصول إلى تفلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها «الاستراتيجي» في التاريخ ـ إذا صح هذا التعبير ـ عن أعظم الفترات التي مر بها تاريخ الإسلام منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والى يوم الناس ...

لأنها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الإسلام.

ولأنها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لأول مرة في تاريخ العقائد الإسلامية.

كانت النقود التي جَرح بها وُقّاح الرأي سياسةَ الحسنعليه‌السلام ، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النَّصَف والعمق والإحاطة بالظرف الخاص ، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامامعليه‌السلام ، وكان للشهوة الحزبية من بعض ، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر ، وللجهل بالواقع من ثالث ، أثره فيما أسفَّ به المتسرعون إلى أحكامهم. ونظروا إليه نظرتهم إلى زعيم أخفق في زعامته.

وفاتهم أن ينظروا إلى دوافع هذا الإخفاق المزعوم ، الذي كان ـ في حقيقته ـ

١٧

انعكاسا للحالة القائمة في الجيل الذي قدر للحسن أن يتزعمه في خلافته ، بما كان قد طغى على هذا الجيل من المغريات التي طلعت بها الفتوح الجديدة على الناس.

وأي غضاضة على «الزعيم» إذا فَسَدَ جيلُه ، أو خانته جنودُه ، أو فقد مجتمعُه وجدانه الاجتماعي. وفاتهم ـ بعد ذلك ـ أن ينظروا إليه كألمع سياسي يدرس نفسيات خصومه ونوازع مجتمعه وعوامل زمنه ، فيضع الخطط ويقرر النتائج ، ويحفظ بخططه مستقبل أمة بكاملها ، ويحفر ـ بنتائجه ـ قبور خصومه قبرا قبرا ، ويمر بزوابع الزمن من حوله رسول السلام المضمون النجاح ، المرفوع الرأس بالدعوة إلى الإصلاح. ثم يموت ولا يرضى أن يهرق في أمره محجمة دم ترى ، فأي عظمة أجل من هذه العظمة لو أنصف الناقدون المتحذلقون؟.

وان كتابنا هذا ليضع نقاط هذه الحروف كلها ، مملاة عن دراسة دقيقة سيجدها المطالع ـ كما قلنا ـ أقرب شيء من الواقع ، أو هي الواقع نفسه ، مدلولا عليه بالمقاييس المنطقية ، وبالدراسات النفسية ، وبالشواهد الشوارد من هنا وهناك. كل ذلك هو عماد البحث في الكتاب ، والقاعدة التي خرج منها إلى احكامه بسهولة ويسر ، في سائر ما تناوله من موضوعات أو حاوله من آراء ...

وسيجد القارئ أن الكتاب ليس كتابا في أحوال الامام الحسنعليه‌السلام ، بوجه عام ، وإنما هو كتاب مواقفه السياسية فحسب.

وان موضوعا من العمق والعسر كموضوعنا ، وبحثا فقير المادة قصير المدة كبحثنا ـ ونحن نتطلع إليه بعد ١٣٢٨ من السنين ـ لحري بأن لا يدُرُّ على كاتبه بأكثر مما دَرَّت به هذه الفصول ، احرص ما تكون توفرا على استقصاء المواد ، وتنسيق عناصر الموضوع ، وتهذيبها من الزائف والدخيل.

ونحن إذ نومئ إلى «فقر المادة» وأثره على البحث ، لا نعني بالمادة الا هذه «الموسوعات» التي كان بإمكاننا التعاون معها على تجلية موضوعنا بما هي عليه من تشويش للتناسق أو تشويه للحقايق.

اما المؤلفات الكثيرة العدد التي وردت أسماؤهم في معاجم المؤلفين الأولين ، مما كتب عن قضية الحسنعليه‌السلام فقد حيل بيننا وبين الوقوف عليها. وكانت مع الكثير من تراثنا

١٨

القديم قيد المؤثرات الزمنية ، وطعمة الضياع والانقراض أخيرا. وكان ذلك عصب النكبة في الصحيح الصحيح من تاريخ الإسلام ، وفي المهم المهم من قضاياه الحساسة أمثال قضيتنا ـ موضوع البحث ـ. فلم نجد ـ على هذا ـ من مصادر الموضوع : كتاب (صلح الحسن ومعاوية لأحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن السبيعي الهمداني المتوفى سنة ٣٣٣ هجري) ، ولا كتاب [(صلح الحسن عليه السالم لعبد الرحمن بن كثير الهاشمي (مولاهم)] ، ولا كتاب (قيام الحسنعليه‌السلام لهشام بن محمد بن السائب) ، ولا كتاب (قيام الحسنعليه‌السلام ، لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي المتوفى سنة ٢٨٣ هجري) ولا (كتاب عبد العزيز بن يحيى الجلودي البصري في أمر الحسنعليه‌السلام ) ، ولا كتاب (اخبار الحسنعليه‌السلام ووفاته ، للهيثم بن عدي الثعلبي المتوفى سنة ٢٠٧ هجري) ، ولا كتاب (اخبار الحسن بن عليعليه‌السلام ، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأصفهاني الثقفي)(١) ، ولا نظائرها.

اما هذه المصادر التي قُدِّرَ لنا ان لا نجد غيرها سندا ، فيما احتاجت به هذه البحوث إلى سند ما ، فقد كان أعجب ما فيها انها تتفق جميعها في قضية الحسنعليه‌السلام على ان لا تتفق في عرض حادثة ، أو رواية خطبة ، أو نقل تصريح ، أو الحكم على إحصاء ، بل لا يتفق سندان منها ـ على الأكثر ـ في تأريخ وقت الحادث أو الخطبة من تقديم أو تأخير ، ولا في تعيين اسم القائد مثلا ، أو ترتيب القيادة بين الاثنين أو الثلاثة ، ولا في رواية طرق النكاية التي أريدت بالحسنعليه‌السلام في ميادينه ، أو في التعبير عن صلحه ، أو في قتله أخيرا ، ولا في كل صغيرة أو كبيرة من اخبار الملحمة ، من ألفها إلى يائها. وللمؤثرات التي تحكمت في رقبة هذه المصادر ، عند نقاطها الحساسة اثرها المحسوس في الكثير الكثير من عروضها.

وإذا كان من أصعب مراحل هذا التأليف ، إرجاع هذه الحقائق إلى تسلسلها

__________________

(١) تجد ذكر هذه المؤلفات ضمن تراجم مؤلفيها في كتب الرجال ، كفهرست ابن النديم والنجاشي وغيرهما. وستجد معها أسماء كتب أخرى تخص موضوع الحسنعليه‌السلام في صلحه وفي مقتله ، لا نريد الإطالة باستقصائها بعد ان أصبحت أسماء بلا مسميات.

١٩

الصحيح الذي يجب ان يكون هو واقعها الأول ، فقد كان من أيسر الوسائل إلى تحقيق هذا الغرض ، الاستعانة عليه بقرائن الأحوال ، وتناسق الأحداث ، اللذين لا يتم بدونهما حكم على وضع. وكان من حسن الصدف ، ان لا نخرج في اختيار النسق المطلوب عن الشاهد الصريح ، الذي بعثرته هذه المصادر نفسها ، في اطواء رواياتها الكثيرة المضطربة ، فكانت ـ بمجموعها ـ وعلى نقص كل منها ، أدلتنا الكاملة على ما اخترناه من تنسيق أو تحقيق ، وذلك أروع ما نعتز به من التوفيق. ووقفنا في فلسفة الموقف ـ عند مختلف مراحله ـ وقفاتنا المتأنية المستقرئة الصبور ، التي لا تستلم للنقل أكثر مما تحتكم للعقل. ورجعنا في كثير مما التمسنا تدقيقه ، إلى التصريحات الشخصية التي جاءت أدل على الغرض من روايات كثير من المؤرخين».(١) انتهى كلام العلامة الحجة الشيخ راضي آل ياسينرحمه‌الله .

ثلاث ملاحظات أساسية حول الرؤية المشهورة :

أوردتُ من كلمات ذينك العَلَمين الجليلين ما يغنيني عن ذكر أهمية البحث وصعوبته وضرورته ، وما اودُّ التعليق عليه من الكلمات التي عبرت عن مفاصل الرؤية السائدة والمشهورة ثلاث تعليقات هي :

الأولى : انها لم تميز بين سنوات الصلح العشر زمن حياة الحسنعليه‌السلام التي كانت سنوات أمان وحركة نشيطة لشيعة عليعليه‌السلام في نشر أَخبار سيرته المشرقة وأحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أهل بيتهعليهم‌السلام ، وسنوات المحنة بعد وفاته ، السنوات التي أَعاد فيها معاوية إِعلامه الكاذب ضد عليعليه‌السلام بأشد ما يكون ، وفرض على الناس في كل مكان لعنه ، ومعاقبة المخالف وكان اشدُّ الناس ابتلاءً أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة عليعليه‌السلام . وليس من شك فان اكتشاف هذه الحقيقة سوف يفرض على التحليلات التي كانت قد أغفلتها ان تغير من وجهتها. ومن ابرز هذه التحليلات ان الشروط لم يلتزم بها معاوية منذ اليوم الأول ، اما الرواية التي تقول ان معاوية خطب في الكوفة في اليوم الأول من الصلح ونال من عليعليه‌السلام وهو يسمع ، وأَعلن عن ردِّه للشروط فهي

__________________

(١) آل ياسين ، الشيخ راضي ، صلح الحسنعليه‌السلام ، المقدمة ص ٢٢.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611