الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام27%

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 216

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63438 / تحميل: 5977
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٥ ـ بل إننا نجد بعض المؤلفين في الأصول ، قد عقد باباً في كتابه ، لكون قول الصحابي فيما يمكن فيه الرأي ملحق بالنسبة لغيره ، أي لغير الصحابي بالسنة. وقيل : إن ذلك خاص بقول الشيخين : أبي بكر ، وعمر(١) .

٦ ـ وحينما أُخبِرَ عمر بقضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في المرأة التي قتلت أخرى بعمود : « كبّر. وأخذ عمر بذلك ، وقال : لو لم أسمع بهذا لقلت فيه »(٢) .

٧ ـ ثم هو يصر على رأيه فيمن تحيض بعد الأفاضة ، رغم إخبارهم إياه بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها(٣) .

٨ ـ وفي قصة التكنية بأبي عيسى ، نرى عمر لا يتزحزح عن موقفه ، رغم إخبارهم إياه : بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أذن لهم بذلك ، وتصديق عمر لهم لكنه عده ذنباً مغفوراً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

٩ ـ وقال عمر بن عبد العزيز : « ألا إن ، ما سنه أبو بكر وعمر ، فهو دين نأخذ به ، وندعو إليه ». وزاد المتقي الهندي : « وما سن سواهما فإنا نرجيه »(٥) .

__________________

١ ـ فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى ج ٢ ص ١٨٦ وراجع التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٦٦ / ٣٦٧.

٢ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ١٠ ص ٥٧.

٣ ـ الغدير ج ٦ ص ١١١ / ١١٢ عن عدة مصادر.

٤ ـ راجع : سنن أبي داود ج ٤ ص ٢٩١ وسنن البيهقي ج ٩ ص ٣١٠ وتيسير الوصول ط الهند ج ١ ص ٢٥ والنهية لابن الأثير ج ١ ص ٢٨٣ والإصابة ج ٣ ص ٣٨٨ والغدير ج ٦ ص ٣١٩ / ٣١٠ عنهم وعن الأسماء والكنى للدولابي ج ١ ص ٨٥.

٥ ـ كنز العمال ج ١ ص ٣٣٢ عن ابن عساكر وكشف الغمة للشعراني ج ١ ص ٦ والنص له

وفي رسالة عمر بن عبد العزيز لأبي بكر ، ومحمد بن عمرو بن حزم : « اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله ، وبحديث عمر ، فإني الخ » سنن الدارمي ج ١ ص ١٢٦. لكن في تقييد العلم ص ١٠٥ و ١٠٦ وهوامش : « أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن » وهي امرأة أنصارية أكثر ما تروى عن عائشة.

وراجع : السنة قبل التدوين ص ٣٢٨ ـ ٣٣٣ ، وتاريخ السنة المشرفة ص ٢٢٦

=

١٠١

وذكر في كنز العمال : أن فتوى عمر تصير سنة.

١٠ ـ وفي حادثة أخرى : نجد عمر لا يرتدع عن مخالفته للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى يستدل عليه ذلك الرجل بقوله تعالى :( لقد كان لكم في رسول الله أسوة ) (١) .

١١ ـ وقد رووا : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين »(٢) .

وبهذا استدل الشافعي على حجية قول أبي بكر وعمر.

مع أن المقصود بالخلفاء الراشدين هو الأئمة الإثنا عشر ،عليهم‌السلام لكن هذا اللقب سرق منهم (ع).

١٢ ـ وعثمان بن عفان يقول : « إن السنة سنة رسول الله ، وسنة صاحبيه »(٣) .

١٣ ـ كما أن عبد الرحمن بن عوف يعرض على أمير المؤمنين : أن يبايعه على العمل بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسنة الشيخين أبي بكر وعمر ، فيأبىعليه‌السلام ذلك ، ويقبل عثمان ، فيفوز بالأمر(٤) .

١٤ ـ وخطب عثمان حينما بويع ، فقال : « إن لكم عليّ بعد كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه صلى عليه وآله ثلاثاً : إتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم

__________________

=

و ٢٢٧ وتاريخ الخلفاء ص ٢٤١ والجزء الأول من كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم.

١ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٢ ص ٣٨٢.

٢ ـ راجع : الثقات لابن حبان ج ١ ص ٤ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٢ ، وعن كشف الغمة للشعراني ج ١ ص ٦.

٣ ـ سنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ ، والغدير ج ٨ ص ١٠٠ عنه.

ولتراجع رواية صالح بن كيسان والزهري في تقييد العلم ص ١٠٦ / ١٠٧ وفي هامشه عن العديد من المصادر وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ١٣٥.

٤ ـ راجع قصة الشورى في أي كتاب تاريخي شئت

١٠٢

عليه ، وسننتم ، وسنّ سنة أهل الخير فيما لم تسنّوا عن ملأ »(١) .

١٥ ـ وبعد فإن الأمويين يصرون على معاوية : أن يصلي بهم صلاة عثمان بن عفان في منى تماماً ، ويرفضون الاستمرار على صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رغم اعترافهم بذلك

وعثمان نفسه يصر على رأيه في مقابل سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رغم اعترافه بأن ذلك رأي رآه(٢) .

وقد عرض عثمان على أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يصلي بالناس في منى ، فلم يقبلعليه‌السلام إلا أن يصلي بهم صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيأبى عثمان ذلك ، ويأبى هو القبول : « وقد استمر الأمراء على صلاة عثمان فيما بعد ذلك »(٣) !.

١٦ ـ بل إننا لنجد ربيعة بن شداد لا يرضى بأن يبايع أمير المؤمنينعليه‌السلام . على كتاب الله وسنة رسوله ، وقال : على سنة أبي بكر وعمر. فقال له عليعليه‌السلام : « ويلك ، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء الخ »(٤) .

١٧ ـ وحتى معاوية فإنه يصر على رأيه ، ويرفض الحكم النبوي بشكل

__________________

١ ـ حياة الصحابة ج ٣ ص ٥٠٥ عن تاريخ الطبري ج ٣ ص ٤٤٦.

٢ ـ راجع البداية والنهاية ج ٣ ص ١٥٤ وحياة الصحابة ج ٣ ص ٥٠٧ / ٥٠٨ عن كنز العمال ج ٤ ص ٢٣٩ عن ابن عساكر والبيهقي ، والغدير ج ٨ ص ١٠١ / ١٠٢ عن المصادر التالية : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ والطبري ج ٥ ص ٥٦ حوادث سنة ٢٩ ، والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٤٢ والبداية والنهاية جح ٧ ص ١٥٤ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٢ ص ٣٨٦.

٣ ـ راجع : الكافي ج ٤ ص ٥١٨ / ٥١٩ والوسائل ج ٥ ص ٥٠٠ / ٥٠١ وحاشية ابن التركماني ذيل سنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ / ١٤٥ والغدير ج ٨ ص ١٠٠ عنه وعن المحلى ج ٤ ص ٢٧٠ وليراجع الغدير ج ٨ ص ٩٨ ـ ١١٦.

٤ ـ بهج الصباغة ج ١٢ ص ٢٠٣.

١٠٣

صريح(١) .

١٨ ـ وحينما ينكر أبو الدرداء على معاوية بعض قبائحه ، ويذكر بنهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ، نجده يقول : أما أنا فلا أرى به بأساً(٢) .

١٩ ـ وقد كتب ابن الزبير إلى قاضيه يأمره بأن يعمل بفتوى أبي بكر في الجد ، فيجعله أباً لأن النبي صلى عليه وآله قال : لو كنت متخذاً خليلاً دون ربي لاتخذت أبا بكر إلى أن قال : « وأحق ما أخذناه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه »(٣) .

٢٠ ـ كما أن عطاء قد استدل بقضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العُمْرَى ، فاعترض عليه رجل ـ وقد صرحت بعض النصوص بأنه : الزهري!! ـ بقوله : «لكن عبد الملك بن مروان لم يقض بهذا » أو قال : « إن الخلفاء لا يقضون بذلك » فقال : بل قضى بها عبد الملك في بني فلان(٤)

٢١ ـ واعترض البعض على مروان : بانه أخرج المنبر ، ولم يكن يخرج ، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، وجلس في الخطبة. فقال له مروان : « إن تلك السنة قد تركت »(٥) .

٢٢ ـ بل لقد بلغ بهم الأمر : أن ادعى البعض : أن من خالف الحجاج فقد

__________________

١ ـ راجع : المصنف لعبد الرزاق ج ١١ ص ٢٠١.

٢ ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٥ ص ١٣٠ والموطأ المطبوع مع تنوير الحوالك ج ٢ ص ١٣٥ ، وسنن البيهقي ج ٥ ص ٢٨٠ وسنن النسائي ج ٧ ص ٢٧٧ ، واختلاف الحديث للشافعي بهامش الأم ج ٧ ص ٢٣ والغدير ج ١٠ ص ١٨٤ عن بعض من تقدم.

٣ ـ مسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٤ وراجع ص ٥.

٤ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٩ ص ١٨٨ وسنن البيهقي ج ٦ ص ١٧٤.

٥ ـ لسان الميزان ج ٦ ص ٨٩.

١٠٤

٢٣ ـ وعن ابن عباس : السنة سنتان : من نبي ، أو من إمام عادل(١) .

٢٤ ـ وقضية إمضاء عمر للطلاق ثلاثاً ، لأنهم استعجلوا ذلك تدل على أنه كان يرى أن لهم الحق في ذلك(٢) .

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه(٣) .

هذا كله عدا عن ادعائهم :

نزول الوحي على الخلفاء ،

وأفضلية الخليفة على الرسول ،

ونزول الوحي على الحجاج ، والخلفاء وغير ذلك

ولقد صدق أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما قال في كتابه للأشتر : « فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار ، يعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدنيا »(٤) .

الأئمة عليهم‌السلام في مواجهة الخطة :

إنما نتحدث هنا عن موضوع مواجهة هذه الخطة بمقدار ما يرتبط بمواقف الإمام الحسنعليه‌السلام منها وإن كانت الأساليب التي اتبعها الأئمة في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة.

وقد تقدم بعض ما يرتبط بمواقف الأئمةعليهم‌السلام من قضية التمييز

__________________

١ ـ كنز العمال ج ١ ص ١٦٠.

٢ ـ راجع : تفسير القرآن العظيم ( الخاتمة ) ، ج ٤ ص ٢٢ والغدير ج ٦ ص ١٧٨ ـ ١٨٣ عن مصادر كثيرة.

٣ ـ راجع أيضاً المصنف لعبد الرزاق ج ١١ ص ٢٥٨ / ٢٥٩ و ج ٨٨ و ٤٧٥ / ٤٧٦ وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ٢ ص ١٣٤ ـ ١٣٦.

٤ ـ راجع عهد الأشتر في نهج البلاغة ، بشرح عبده ج ٣ ص ١٠٥ وعهد الاشتر موجود في كثير من المصادر.

١٠٥

العنصري البغيض ، وتقدم كذلك بعض اللمحات عن موقف أمير المؤمنين وغيره من الأئمة ، ومنهم الإمام الحسنعليه‌السلام من قضية الحديث والرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وحيث إننا لا نستطيع الإلمام ـ في عجالة كهذه ـ بكل ما يرتبط بمواقف الأئمة الهادفة إلى إفشال تلك الخطة ، لأن ذلك يستدعي تأليف كتاب مستقل ، وقد لا يكفي له العديد من المجلدات وبما أن أهم عنصر تستهدفه تلك الخطة هو عنصر الإمامة والخلافة ، والأحقية بالأمر. وبمعالجتها ، واتخاذ الموقف الصحيح منها ، لا يبقى لمجمل تلك الخطة تأثير يذكر ، ولا خطر يخاف. ـ من أجل ذلك فإننا سوف نقتصر هنا على الإشارة إلى لمحات من مواقفهمعليهم‌السلام ـ وبالأخص موقف الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ـ من هذه القضية بالذات فنقول :

قضية الإمامة هي الأساس :

ليس خافياً على أحد مدى خطورة النتائج التي سوف تتمخض عنها تلك السياسة ، التي تقدمت لمحات خاطفة وسريعة عن بعض خيوطها وفقراتها سواء على الإسلام ، أو على المسلمين ، في الحاضر ، أو في المستقبل. والأخطار المستقبلية هي الأعظم ، وهي الأدهى وقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث معروف : بأن في كل خلف عدول ينفون عنه ( أي عن الإسلام ) تحريف الغالين.

وقد عودنا الأئمةعليهم‌السلام : أنهم باستمرار يعيشون بالقرب من الأحداث ، ويتواجدون دائماً وأبداً في صميمها وفي العمق منها ، حتى إن المطالع للتاريخ ليجد ـ نتيجة لذلك التواجد ـ أن قضايا أهل البيت بصورة عامة ، وقضية أحقيتهم بالأمر ، وإمامتهم على الخصوص ، تبقى على الدوام محتفظة بحيويتها وعمقها في ضمير الأمة وفي وجدانها.

وأن كل صراع ، فإنما له ارتباط مباشر أحياناً ، أو غير مباشر أحياناً أخرى بهذه القضية بالذات ، حتى ليصرح الشهرستاني بقوله :

١٠٦

« وأعظم خلاف بين الأمَّة خلاف الإمامة ، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان »(١) .

وقد رأينا أن تلك الخطة الملعونة التي أسلفنا الإشارة إليها ، إنما كانت تستهدف بالدرجة الأولى قضية الإمامة بالذات ، الأمر الذي يعني : أن الخصوم قد أدركوا مدى خطورة هذه القضية ، على مجمل خطهم ، على المدى البعيد

كما أننا نجد في المقابل : أن تواجد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام على الساحة ، ورصدهم الأحداث بدقة ووعي ، وإحساسهم العميق بالمسؤولية الإلهية والإنسانية الملقاة على عواتقهم تجاه هذه السياسة ، التي رأوا فيها خطراً داهماً ، يتهدد كيان الإسلام ومصيره على المدى البعيد إن كل ذلك لم يترك لهم أي خيار ، سوى خخيار المواجهة لهذه السياسة ، والعمل على إفشالها ، فإن ذلك واجب شرعي ، ومسؤولية إلهية ، لا يمكن التساهل ولا التواني فيها على الإطلاق : إذ على حد تعبير العبد الصالح حجر بن عدي الكندي : « إن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب »(٢) .

نعم وقد أدوا عليهم الصلاة والسلام ، وشيعتهم الأبرار وضوان الله تعالى عليهم واجباتهم على أكمل وجه في هذا المجال ، وفي كل مجال وبذلوا جهوداً جبارة ، وتعرضوا لمختلف أنواع القهر ، والاضطهاد والبلاء ، نتيجة لمواقفهم ومواجهاتهم تلك وبذلوا مهجهم الغالية في هذا السبيل

وذلك لأن قضية الإمامة بنظرهم هي قضية الإسلام الكبرى ، وعلى أساس الاعتقاد بها يتحدد اتجاه الإنسان ، وخطه الفكري ، ثم السياسي ، بل وحتى الاجتماعي في الحياة. فهي المنطلق والأساس لكل المفاهيم ، والاعتقادات ، والقضايا التي يؤمن بها ، والمواقف التي يتخذها ، والمصير الذي ينتهي إليه ـ.

وعلى هذا الأساس ، فإننا نجد الأئمةعليهم‌السلام على استعداد للاستفادة

__________________

١ ـ الملل والنحل ج ١ ص ٢٤.

٢ ـ البداية والنهاية ج ٨ ص ٥١.

١٠٧

من عنصر التقية الإيجابية البناءة ، وإيثار الله عند مداحض الباطل في مكان التقية بحسن الروية ، على حد تعبير الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام(١) وهو يؤبن أخاه الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه.

ـ إنهمعليهم‌السلام يستفيدون من عنصر التقية في كل القضايا ، باستثناء قضية الإمامة ، وشؤونها لأنهم أدركوا : أن التقية من شأنها أن تحفظ كل تلك القضايا إلا قضية الإمامة ، وأحقيتهم بالأمر ، فإنها يمكن أن تضيعها

وإذن ومن أجل درء الخطر الذي يتهدد كيان الإسلام ووجوده من الأساس فقد كان لا بد من بذل المهج ، وخوض اللجج ، من أجل أن( يحق الله الحق بكلماته ، ولو كره المجرمون ) (٢)

ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الكاظمعليه‌السلام : السلام عليك يا أبة ، وذلك حينما جاء الرشيد إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : السلام عليك يا ابن عم ، في محاولة منه لإظهار : أن خلافته تتسم بالشرعية ، لاتصاله نسباً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكونه ابن عمه ـ وقد نشأ عن هذا الموقف اعتقال الإمام موسى الكاظم عليه الصلاة والسلام وإيداعه السجن ، حيث قضىعليه‌السلام مسموماً ، شهيداً ، صابراً ، محتسباً ـ.

وحتى حينما يضطر الإمام الحسنعليه‌السلام للصلح مع معاوية ، إيثاراً

__________________

١ ـ راجع : تهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٢٣٠ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٣١٤ ، وحياة الحسن بن عليعليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ٤٣٩ عنه ، وليراجع حول التقية كتابنا : الصحيح من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج ٢ ص ٤٠ ـ ٤٦.

وكلمات الإمام الحسينعليه‌السلام عند قبر أخيه ـ حسب نص ابن قتيبة هي : « رحمك الله أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحق مظانَّة ، وتؤثر الله عند تداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة ، ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى روح وريحان وجنة نعيم ، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه ».

٢ ـ سورة يونس : آية ٨٢.

١٠٨

لطاعة الله في مداحض الباطل ، في مكان التقية ، فإنَّه يحسن الرَّوية ، ويهتم في أن لا يقدم تنزلاً في قضية الإمامة ـ وإن توهم ذلك ابن قتيبة ـ ولا في قضية الخلافة ـ وإن توهم ذلك آخر ـ وإنما تنازل عن الأمر(١) وإنما يقصد معاوية من الأمر : الأمرة والملك ، فإنه لم يقاتلهم ليصموا ولا ليصلوا ، « وإنما ليتأمر عليهم » أو « ليلي رقابهم »!! كما قال(٢) .

ويقول معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسنعليه‌السلام : « رضينا بها ملكاً »(٣) .

وقد عبَّر عن ذلك هو وغيره في عدة مناسبات(٤) .

وكان معاوية يقول عن نفسه : « أنا أول الملوك »(٥) .

كما أن سعد بن أبي وقاص يقول لمعاوية : «السلام عليك أيها الملك»(٦) .

والإمام الحسنعليه‌السلام يقول مشيراً إلى ذلك : « ليس الخليفة من سار بالجور ، ذاك ملك ملكاً يتمتع به قليلاً ، ثم تنقطع لذته ، وتبقى تبعته »(٧) .

هذا وقد اشترط عليه : السلام على معاوية أن لا يقيم عنده شهادة!! وأن لا يسميه « أمير المؤمنين »(٨) . الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على ما ذكرناه..

وليس موقف الإمام الحسنعليه‌السلام هنا ، وتعبيره بكلمة : « الأمر » ،

__________________

١ ـ الإمام الحسن لآل يس ص ١٠٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٢ وعن الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥٠ و ١٥٦ وعن الصواعق المحرقة ص ٨١.

٢ ـ راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٥ و ٤٦ ومقاتل الطالبيين.

٣ ـ البداية والنهاية ج ٦ ص ٢٠٠.

٤ ـ الإمام الحسن بن علي لآل يس ص ١١٠ ـ ١١٤ عن المصادر التالية : تاريخ الطبري ج ٥ ص ٥٣٤ و ٥٣٦ / ٥٣٧ والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٢٠٥ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٢١ و ٢٢٠ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٨٣ ومروج الذهب ج ٢ ص ٣٤٠.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٣٢.

٦ ـ المصنف ج ١ ص ٢٩١.

٧ ـ تقدمت المصادر لذلك.

٨ ـ البحار ج ٤٤ ص ٢ وليراجع كلام الصدوق رضوان الله تعالى عليه في البحار ج ٤٤ ص ٢ ـ ١٩ وفي علل الشرايع ج ١ ص ٢١٢ فما بعدها

١٠٩

واشتراطه ماذكر إلا كتعبير النبي صلى عليه وآله عن حاكم الروم بـ « عظيم الروم » ، وعن حاكم القبط والفرس بـ « عظيم القبط »(١) و« عظيم فارس »(٢) . ولم يقل : ملك الروم ، ولا ملك القبط وفارس ، لئلا يكون ذلك تقريراً لملكهما.

وما يدل على ذلك في كلمات أمير المؤمنينعليه‌السلام وغيره من الأئمة ، كثير ، لا مجال لتتبعه

فالإمام الحسنعليه‌السلام لم يستعمل التقية في أمر الأمامة ، وإنما سلَّم إلى معاوية الأمر النيوي الذي أُشيرَ إليه بقوله تعالى :( وشاورهم في الأمر ) . وهو حكم الدنيا وسلطانها ، والملك المحض ، ولم يعترف له بالإمامة الدينية والبيعة ، والخلافة الشرعية(٣) .

هذا وقد صرح الإمام الحسنعليه‌السلام في كتبه وخطبه ، بأنه لم يكن يرى معاوية للخلافة أهلاً ، وإنما صالحه من أجل حقن دماء المسلمين ، وحفاظاً على شيعة أمير المؤمنين بل لقد قال له فور تسليمه الأمر إليه :

« إن معاوية بن صخر زعم إني رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً ، فكذب معاوية. وأيم الله ، لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله ، وعلى لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين ، مضطهدين ، منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا الخ »(٤) .

وقد كتب له أيضاً فور البيعة لهعليه‌السلام : « فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله »(٥) .

__________________

١ ـ راجع التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٤٢.

٢ ـ كنز العمال ج ٤ ص ٢٧٤.

٣ ـ راجع : الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص ١١٠ و ١١٤ وعن شرح نهج البلاغة

٤ ـ أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ١٧٢ والاحتجاج ج ٢ ص ٨ والبحار ج ٤٤ ص ٢٢ و ٦٣ و ج ١٠ ص ١٤٢ وبهج الصباغة ج ٣ ص ٤٤٨.

٥ ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٣٤ وستأتي بقية المصادر حين الكلام تحت

=

١١٠

وسيأتي قولهعليه‌السلام : « نحن أولى الناس بالناس ، في كتاب الله ، وعلى لسان نبيه ». ومثل ذلك كثير عنه.

هذا وقد تمدَّحه أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام على استعماله التقية ، وعلى حسن رويّته فيها ، كما تقدم

كما أنه حينما ذُكر له عدم استجابة الإمام الحسنعليه‌السلام لمن دعاه للثورة على معاوية بعد الصلح ، قالعليه‌السلام : « صدق أبو محمد ، فليكن كل رجل منكم من أحلاس بيته ، ما دام هذا الإنسان حياً »(١) .

كما أنه بعد استشهاد أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام ، يدافع عن موقف أخيه في قضية الصلح ، في رسالة منه لأهل الكوفة ، ويأمرهم بالسكون إلى أن يموت معاوية(٢) .

بل إن الإمام الحسنعليه‌السلام نفسه يعتبر صلحه مع معاوية خيراً من ألف شهر ، فقد سئل مرة عن أسباب صلحه مع معاوية ، فأجاب : ليلة القدر خير من ألف شهر(٣)

وما ذلك إلا لأن صلحه هذا قد فضح الأمويين ، وفضح معاوية بالذات ، وجعله يعلن عن أهدافه الشريرة ، وفوت عليهم الفرصة لهدم الإسلام ، والقضاء على أهل البيت وشيعتهم(٤) . ومهد الطريق لثورة الإمام الحسين ، ثم إلى زوال الحكم الأموي البغيض ، وإلى الأبد

مواقف هامة :

وبعد فإننا نرى : أن مما يدخل في مجال العمل على إفشال تلك الخطة

__________________

= عنوان : هل كان الإمام الحسنعليه‌السلام عثمانياً حين ذكر الشواهد على أنه كان مدافعاً قوياً عن حق أبيه في النموذج رقم ٤.

١ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢١ وراجع ص ٢٢٠.

٢ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢٢.

٣ ـ الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص ١٤٩.

٤ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢٠ و ٢٢١ والبحار ج ٤٤ ص ٢ وغير ذلك كثير.

١١١

أيضاً ، وإبقاء حق أهل البيتعليهم‌السلام ، وقضيتهم حية في ضمير الأمة ووجدانها ، بالإضافة إلى ما تقدم من تأكيدات الإمام الحسنعليه‌السلام على بنوته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى أنه من أهل البيت ، الذين افترض الله طاعتهم إلى آخر ما تقدم.

ـ إن مما يدخل في هذا المجال : وصيتهعليه‌السلام بأن يدفن عند جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع علمه بعدم رضا عائشة والأمويين بذلك ، حسبما أشار إليه هو نفسهعليه‌السلام في وصيته تلك ، وصدقته الوقايع التالية(١) وكان ذلك هو السبب في ضرب الجدار على القبر الشريف(٢) ، فإن تلك الوصية لم تكن إلا

__________________

١ ـ راجع : البحار ج ٤٤ ص ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٦ و ١٤٣ و ١٤١ و ١٤٢ و ١٥٤ عن عيون المعجزات ، والمعتزلي ، والكافي ، وعلل الشرايع ، وأمالي المفيد ، والخرايج والجرايح ، وغير ذلك ، والفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٢٠٧ / ٢٠٨ عن الترجمة الفارسية ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٤ ، وأمالي الشيخ الطوسي ج ١ ص ١٦١ وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٢٥والخرايج والجرايح ص ٢٢٣ وتذكرة الخواص ص ٢١٣ ومقاتل الطالبيين ص ٧٤ و ٧٥ والأخبار الطول ٢٢١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٤ و ١٥ و ٥٠ / ٥١ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ٢٢٥ وكتاب الفتن لنعيم بي حماد ( مخطوط ) الورقة ٤٠ ، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٢٢٩ / ٢٣٠ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص ٣٢ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ وصلح الحسن لآل يس ص ٣٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٧٨ ومقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١٣٩ وكشف الغمة للاربلي ج ٢ ص ٢١١ و ٢١٢ والإرشاد للمفيد ص ٢١٢ و ٢١٣ وحليم أهل البيت الإمام الحسن بن علي ص ٢٥٢ و ذخائر العقبى ص ١٤٢ وإثبات الوصية ص ١٦٠ والاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٣٧٧ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٦٢ و ٦٠ و ٦١ و ٦٤ و ٦٥ غن تاريخ ابن عساكر ج ١٢ ص ٦٣ و ج ٦٤ ص ٩٩ وغيرها ، ونقل عن إثبات الهداة ج ٥ ص ١٧٠ وعن الكافي ج ١ ص ٣٠٤ وعن الخرايج وعن نظم درر السمطين ص ٢٠٣ والغدير ج ١١ ص ١٤.

٢ ـ وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ عن الكازروني شارح المصابيح.

وقال : إنه سأل جمعاً من العلماء فذكر له بعضهم ذلك.

١١٢

لإظهار صلته بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي يجهد الأمويون وأعوانهم لقطعها وطمسها. كما أن هذه الوصية تهدف إلى التأكيد على أنهمعليهم‌السلام مظلومون مقهورون ، مغتصبة حقوقهم ، منتهب براثهم ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( أرى تراثي نهباً )(١) .

بالأضافة إلى تعريف الناس على ما يكنه أولئك الحكام وأعوانهم من حقد وكره لأهل بيت النبوة ، الذين أمر الله ورسوله مراراً وتكراراً ليس فقط بمحبتهم ، وإنما « بمودتهم أيضاً »(٢) .

انزل عن منبر أبي :

ومما يدخل في هذا المجال أيضاً موقف آخر ، هام جداً للإمام الحسنعليه‌السلام في مقابل أبي بكر ، حيث جاء إليه يوماً وهو يخطب على المنبر ، فقال له :

انزل عن منبر أبي.

فأجابه أبو بكر : صدقت. والله ، إنه لمنبر أبيك ، لا منبر أبي. فبعث علي إلى أبي بكر : إنَّه غلام حدث ، وإنا لم نأمره. فقال أبو بكر : إنا لم نتهمك(٣) .

__________________

١ ـ الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.

٢ ـ راجع بحث : الحب في التشريع الاسلامي في كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ٢ للمؤلف.

٣ ـ راجع : تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٨٠ و ١٤٣ وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٤١ عن أبي نعيم ، وغيره ، وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٦ /٢٧ بسند صحيح عندهم والصواعق المحرقة ص ١٧٥ عن الدار قطني ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٠ عن فضائل السمعاني ، وأبي السعادات ، وتارسخ الخطيب ، وسير الأئمة الإثني عشر ج ١ ص ٥٢٩ ، وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٢٣ عن الدارقطني ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٤٢ / ٤٣ ومقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ٩٣ وينابيع المودة ص ٣٠٦ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٩٤ عن الكنز وأبي سعد وأبي نعيم والجابري في جزئه والغدير ج ٧ ص ١٢٦ عن السيوطي ، وعن الرياض النضرة ج ١

=

١١٣

وليتأمل قولهعليه‌السلام : إنا لم نأمره. فإنه لا يتضمن إنكاراً على الإمام الحسنعليه‌السلام ، ولا إدانة لموقفه.

ولقد صدق أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ؛ فلم يكن الإمام الحسنعليه‌السلام يحتاج إلى أمر ، فلقد أدرك خطة الخصوم بما آتاه الله من فضله ، وبإحساسه المرهف ، وفكره الثاقب. وهو الذي عايش الأحداث عن كثب ، بل كان في صميمها.

وإذن فمن الطبيعي أن يدرك : أن عليه فيه مسؤولية العمل على إفشال تلك الخطة ، وإبقاء حق أهل البيت وقضيتهم على حيويتها في ضمير ووجدان الأمة. وكان علي وصي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتاط للأمر ، حتى لا تحدث تشنجات حادة ، ليس من مصلحة القضية ، ولا من مصلحة الإسلام المساهمة في حدوثها في تلك الظروف.

والإمام الحسين أيضاً :

ولا عجب إذا رأينا للإمام السبط الشهيد الحسينعليه‌السلام موقفاً مماثلاً تماماً مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ونجد أن عمر قد أخذه إلى بيته ، وحاول تقريره : إن كان أبوه أمره بهذا ، أو لا. فأجابه عن ذلك بالنفي.

وبعض الروايات تقول : إنه سأله عن ذلك في نفس ذلك الموقف أيضاً ، فنفى ذلك. فقال عمر : منبر أبيك والله ، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم(١)

__________________

=

ص ١٣٩ ، وعن كنز العمال ج ٣ ص ١٣٢. وحياة الحسن للقرشي ج ١ ص ٨٤ عن بعض من تقدم. والاتحاف بحب الأشراف ص ٢٣.

١ ـ راجع : مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١٤٥، والإصابة ج ١ ص ٣٣٣ وقال سنده صحيح وأمالي الطوسي ج ٢ ص ٣١٣ /٣١٤ وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٢٣ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٩٥ عن كنز العمال ج ٧ ص ١٠٥ عن ابن كثير

=

١١٤

فأبو بكر لم يكن يرى : أن اتهام أمير المؤمنين في قضية الإمام الحسن من صالحه أما عمر الذي رأى أنه قد أصبح قوياً في الحكم ، وقد تكرس الموقف لصالح غير أهل البيت على الصعيد السياسي عمر هذا ـ يهتم بالتعرف على مصدر هذه الأرهاصات ، ليعمل على القضاء عليها قبل فوات الأوان ، مادام يملك القدرة على ذلك بنظره.

لقد كانت مواقف الحسنين هذه تعتبر تحدياً عميقاً للسلطة ، في أدقِّ وأخطر قضية عملت من أجل حسم الأمور فيها لصالحها ، ورأت أنها قد وفقت في مقاصدها تلك إلى حدٍ بعيد فجاءت هذه المواقف لتهز من الأعماق ما كاد يعتبر ، أو قد اعتبر بالفعل من الثوابت الراسخة.

والحسنان هما ذانك الفرعان من دوحة الإمامة ، وغرس الرسالة ، اللذان يفهمان الظروف التي تحيط بهما ، ويقيمانها التقييم الصحيح والسليم ، ليتخذا مواقفهما على أساس أنها وظيفة شرعية ، ومسؤولية إلهية.

أما التكليف الشرعي ، والموقف الذي لأبيهما ، فهو وإن كان في ظاهره

__________________

=

وابن عساكر وابن سعد وابن راهويه والخطيب والصواعق المحرقة ص ١٧٥ عن ابن سعد ، وغيره، والاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ١٣ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٠ ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٤١ ، وكشف الغمة للأربلي ج ٢ ص ٤٢ ، وحياة الحسن للقرشي ج ١ ص ٨٤ ، والإمام الحسن للعلايلي ص ٣٠٥ عن الإصابة ، وصححه ، وينابيع المودة ص ١٦٨ ، وتذكرة الخواص ٢٣٥ ، وسيرة الأئمة الاثني عشر للحسني ج ٢ ص ١٥ وكفاية الطالب ص ٢٢٤ عن مسند احمد ، وابن سعد وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٣٢٤ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٣٤٦ وصححه ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٣ ص ٣٦٩ وهامش أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٢٧ عن تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١٣ ص ١٥ ، أو ١١٠ بعدة أسانيد ، وترجمة الإمام الحسين من تاريخ دمشق بتحقيق المحمودي ص ١٤١ و ١٤٢ وفي هامشه عن ابن سعد ج ٨ في ترجمة الإمام الحسين وعن كنز العمال ج ٧ ص ١٠٥ عن ابن راهويه وغيره والغدير ج ٧ ص ١٢٦ عن ابن عساكر.

١١٥

مختلفاً هنا ، إلا أنه ولا شك يخدم نفس الهدف ، ويسير في نفس الإتجاه ، حسبما ألمحنا إليه.

الحسنان وأذان بلال :

ولعلنا لا نبعد كثيراً إذا قلنا : إن قضية أذان بلال كانت كذلك تخدم نفس الهدف ، وتسير في نفس الاتجاه الذي توخياه صلوات الله وسلامه عليهما من موقفيهما من أبي بكر وعمر ، حسبما تقدمت الإشارة إليه

ومجمل تلك القضية هو : أن بلالاً كان في الشام ، فقدم إلى المدينة لزيارة قبر الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لرؤيا رآها.

وفيما هو يناجيه ، وإذا بالحسن والحسين قد أقبلا لزيارة جدهما وأمهما ، فلما رآهما تجددت أحزانه ، وأقبل إليهما يضمهما إلى صدره ، ويقول : كأني بكما رسول الله.

والتفتا إليه ، وقالا : إذا رأيناك ذكرنا صوتك ، وأنت تؤذن لرسول الله ، ونشتهي أن نسمعه الآن بعد غيابك الطويل.

وانطلق بلال من ساعته إلى سطح المسجد ، تلبية لرغبة السبطين ، فأجهش بالبكاء ، وانطلق صوته من ناحية المسجد إلى كل بيت في المدينة : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فهز المشاعر ، وارتجت المدينة من أصوات الباكين.

ومضى الذهبي يقول : فلما قال بلال : أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهن ، وظن الناس أنَّ رسول الله قد بعث من قبره. وما رؤي يوم أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم(١) .

__________________

١ ـ تهذيب تاريخ دمشق ج ٢ ص ٢٥٩ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٥٨ وسيرة الأئمة

=

١١٦

وهذه القضية هي غير قضية أذان بلال ، بطلب من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وذلك لأن الأذان الذي كان بطلب من الحسنينعليهما‌السلام إنَّما كان بعد وفاتها ، كما نصت عليه الرواية آنفاً(١) .

ومهما يكن من أمر ، فإن السياسة قد كانت تتجه إلى تناسي ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمنع من حديثه ومن العمل بسنته(٢) وجعل ذكره مجرد أمر روتيني لا أكثر ، فجاءت هذه الهزة لتعيد الربط العاطفي والشعوري بالرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون ذلك بمثابة إدانة للتوجه العام تجاه الرسول وكل ما يرتبط به.

الإمام الحسن عليه‌السلام وأسئلة الأعرابي :

وإذا كانت الإمامة تقوم على ركنين رئيسين ، أحدهما :النص ، والآخر: العلم . فإننا نجد الأئمةعليهم‌السلام يهتمون بإظهار هذاالنص ، والتركيز عليه باستمرار. وقد رأينا الإمام الحسنعليه‌السلام يهتم بهذه الناحية ، في كثير من أقواله ومواقفه ، فلقد ذكر في خطبه : أنهم هم الذين افترض الله طاعتهم ، وأنهم أحد الثقلين ، واستدل بحديث الغدير ، وبالأعلمية(٣) وغير ذلك.

وكان هذا دأب الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم الأبرار بصورة عامة ، حتى لقد رأينا الإمام علياًعليه‌السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في رحبة

__________________

=

الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني ج ١ ص ٥٣١ / ٥٣٢ وراجع : أُسد الغابة ج ١ ص ٢٠٨ ، وقاموس الرجال ج ٢ ص ٢٣٩.

١ ـ راجع قاموس الرجال ج ٢ ص ٢٣٩ / ٢٤٠.

٢ ـ راجع : كتاب الصحيح من سيرة النبي ج ١ ، الطبعة الثانية.

٣ ـ راجع : الغدير ج ١ ص ١٩٨ عن ابن عقدة ومروج الذهب ج ٢ ص ٤٣١ و ٤٣٢ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ١١ و ١٢ وينابيع المودة ص ٤٨٢.

١١٧

الكوفة وغيرها(١) .

والإمام الحسينعليه‌السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في منى(٢) إلى غير ذلك من مواقف لا مجال لتتبعها هنا.

وكذلك الحال بالنسبة إلى العلم ، فإنهمعليهم‌السلام ما فتئوا يؤكدون على أنهم هم ورثة علم رسول الله صلى عليه وآله ، وعندهم الجفر ، والجامعة ، وغير ذلك(٣)

وقد رأينا : أن الإمام علياًعليه‌السلام يهتم في إثبات صفة علم الإمامة للإمام الحسنعليه‌السلام منذ طفولته حتى ليصبح إطلاعه على تلك العلوم ، التي لم ينل الآخرون منها شيئاً دليلاً على إمامته عليه آلاف التحية والسلام

ويلاحظ : أن أمير المومنينعليه‌السلام يهتم في إظهار ذلك لخصوص أولئك الذين استأثروا بالأمر ، وأقصوا أصحاب الحق الحقيقيين عن حقهم الذي جعله الله تعالى لهم ، وما ذلك إلا ليؤكد لهم ، ولكل أحد على أنهم ليسوا أهلاً لما تصدّوا له ، فضلاً عن أن يكون لهم أدنى حق فيه

وقد اتبععليه‌السلام في صياغة الحدث أسلوباً من شأنه أن يتناقله الناس ، ويتندروا به في مجالسهم إذ أن إجابة طفل لم يبلغ عمره العشر سنوات على أسئلة عويصة وغامضة ، لأمر يثير عجبهم ، ويستأثر باهتمامهم.

__________________

١ ـ راجع : الغدير ج ١ ودلائل الصدق ج ٣ وغير ذلك كثير

٢ ـ راجع : الغدير ج ١ ودلائل الصدق ج ٣ وغير ذلك كثير

٣ ـ راجع مكاتيب الرسول ج ١ ص ٥٩ حتى ص ٨٩ فقد أسهب القول حول هذه الكتب واستشهادات الأئمة بها ، وغير ذلك.

ومن الطريف في الأمر : أننا وجدنا العباسيين يحاولون أن يدَّعوا : أن عندهم صحيفة الدولة ، ولكنها تنتهي إلى محمد بن الحنفية ، ثم إلى عليعليه‌السلام . وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام

بل لقد حاول الأمويون أن يدَّعوا مثل ذلك أيضاً راجع : محاضرات الراغب ج ٢ ص ٣٤٣.

١١٨

فقد ذكر القاضي النعمان في شرح الأخبار ، بإسناده عن عبادة بن الصامت ، ورواه جماعة عن غيره : أن أعرابياً سأل أبا بكر ، فقال : إني أصبت بيض نعام ، فشويته ، وأكلته وأنا مُحرم ، فما يجب عليّ؟

فقال له : يا أعرابي ، أشكلت عليّ في قضيتك. فدلهّ على عمر ، ودلَّه عمر على عبد الرحمن بن عوف. فلما عجزوا قالوا : عليك بالأصلع.

فقال أمير المؤمنين : سل أي الغلامين شئت. ( وأشار إلى الحسن والحسينعليهما‌السلام ).

فقال الحسن : يا أعرابي ، ألك إبل؟

قال : نعم.

قال : فاعمد إلي عدد ما أكلت من البيض نوقاً ، فاضربهن بالفحول ، فما فصل منها فأهده إلى بيت الله العتيق الذي حجبت إليه.

فقال أمير المؤمنين : إن من النوق السلوب. ومنها ما يزلق(١) .

فقال : إن يكن من النوق السلوب وما يزلق ، فإن من البيض ما يمرق(٢) .

قال : فسمع صوت : أيها الناس ، إن الذي فهًّم هذا الغلام هو الذي فهًّمها سليمان بن داود(٣) .

__________________

١ ـ الناقة السلوب : التي مات ولدها ، أو القته لغير تمام ، وأزلقت الفرس : أجهضت ، أي ألقت ولدها قبل تمامه..

٢ ـ مرقت البيضة : فسدت.

٣ ـ المناقب لابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٥٤ / ٣٥٥ و ٣٣٥ عنه وعن العدد ، وحياة الحسنعليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ٨٦ / ٨٧.

وقد ذكر القضية لكن بدون إحالة السؤال على الإمام الحسن كل من : ذخائر العقبى ص ٨٢ وإحقاق الحق ج ٨ ص ٢٠٧ وفرائد السمطين ج ١ ص ٣٤٢ / ٣٤٣ والغدير ج ٦ ص ٤٣ عن بعض من تقدم ، وعن كفاية الشنقيطي ص ٥٧ والرياض النضرة ج ٢ ص ٥٠ و ١٩٤ وفي هامش ترجمة أمير المؤمنين لابن عساكر ج ٤٩ ص ٨٣ ، أو ٤٩٨ ترجمة محمد بن الزبير.

١١٩

وثمة قضية أخرى ، وهي قضية ذلك الذي أقرّ على نفسه بالقتل ، حينما رأى : أن بريئاً سيقتل ، فحكم عليه أمير المؤمنينعليه‌السلام بعدم وجوب القَود ، فإنه إن كان قتل فعلاً ، فقد أحيا نفساً ، و من أحيا نفساً ، فلا قَوَد عليه.

قال ابن شهرآشوب : « وفي الكافي والتهذيب : أبو جعفر : إن أمير المؤمنينعليه‌السلام سأل فتوى ذلك الحسن ، فقال : يطلق كلاهما ، والدية من بيت المال. قال : ولم؟ قال : لقوله : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً »(١) .

وهناك أيضاً أسئلة الإمامعليه‌السلام لولده الإمام الحسنعليه‌السلام عن السداد ، والشرف ، والمروّة ، وغير ذلك من صفات فأجاب عنها ، فلتراجع(٢) .

وأيضاً فهناك أسئلة ذلك الرجل عن الناس ، أشباه الناس ، وعن النسناس ، فأحاله الإمام على ولده الإمام الحسنعليه‌السلام : فأجابه عنها(٣) .

وسأل أمير المؤمنينعليه‌السلام ولده الإمام الحسنعليه‌السلام : كم بين الإيمان واليقين؟ قال : أربع أصابع. قال : كيف ذلك؟ قال : الإيمان كل ما سمعته أذناك الخ(٤)

وجاء رجل إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فسأله عن الرجل ، إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه الأعمام

__________________

١ ـ المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ١١. والآية في سورة المائدة آية ٣٤.

٢ ـ راجع : نور الأبصار ص ١٢١ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٤ ص ٢٢٠ / ٢٢١ وحلية الأولياء ج ٢ ص ٣٦ والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣٩ وحياة الحسنعليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٤٠ وكشف الغمة ج ٢ ص ١٩٤ / ١٩٥ ، والفصول المهمة للمالكي ١٤٤ ومعاني الأخبار ص ٢٤٣ و ٢٤٥ وتحف العقول ص ١٥٨ / ١٥٩ وعن شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٢٥٠ وعن البحار ج ١٧ وعن إرشاد القلوب للديلمي ج ١ ص ١١٦ وعن مطالب السؤل.

٣ ـ تفسير فرات ص ٨ وعن البحار ج ٧ ص ١٥٠ ط عبد الرحيم.

٤ ـ العقد الفريد ج ٦ ص ٢٦٨ وليراجع البحار ج ٤٣ ص ٣٥٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216