الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام27%

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 216

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام
  • البداية
  • السابق
  • 216 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63467 / تحميل: 5982
الحجم الحجم الحجم
الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

الحياة السياسية للامام الحسن عليه السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

٥ ـ بل إننا نجد بعض المؤلفين في الأصول ، قد عقد باباً في كتابه ، لكون قول الصحابي فيما يمكن فيه الرأي ملحق بالنسبة لغيره ، أي لغير الصحابي بالسنة. وقيل : إن ذلك خاص بقول الشيخين : أبي بكر ، وعمر(١) .

٦ ـ وحينما أُخبِرَ عمر بقضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في المرأة التي قتلت أخرى بعمود : « كبّر. وأخذ عمر بذلك ، وقال : لو لم أسمع بهذا لقلت فيه »(٢) .

٧ ـ ثم هو يصر على رأيه فيمن تحيض بعد الأفاضة ، رغم إخبارهم إياه بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها(٣) .

٨ ـ وفي قصة التكنية بأبي عيسى ، نرى عمر لا يتزحزح عن موقفه ، رغم إخبارهم إياه : بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أذن لهم بذلك ، وتصديق عمر لهم لكنه عده ذنباً مغفوراً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

٩ ـ وقال عمر بن عبد العزيز : « ألا إن ، ما سنه أبو بكر وعمر ، فهو دين نأخذ به ، وندعو إليه ». وزاد المتقي الهندي : « وما سن سواهما فإنا نرجيه »(٥) .

__________________

١ ـ فواتح الرحموت في شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى ج ٢ ص ١٨٦ وراجع التراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٦٦ / ٣٦٧.

٢ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ١٠ ص ٥٧.

٣ ـ الغدير ج ٦ ص ١١١ / ١١٢ عن عدة مصادر.

٤ ـ راجع : سنن أبي داود ج ٤ ص ٢٩١ وسنن البيهقي ج ٩ ص ٣١٠ وتيسير الوصول ط الهند ج ١ ص ٢٥ والنهية لابن الأثير ج ١ ص ٢٨٣ والإصابة ج ٣ ص ٣٨٨ والغدير ج ٦ ص ٣١٩ / ٣١٠ عنهم وعن الأسماء والكنى للدولابي ج ١ ص ٨٥.

٥ ـ كنز العمال ج ١ ص ٣٣٢ عن ابن عساكر وكشف الغمة للشعراني ج ١ ص ٦ والنص له

وفي رسالة عمر بن عبد العزيز لأبي بكر ، ومحمد بن عمرو بن حزم : « اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله ، وبحديث عمر ، فإني الخ » سنن الدارمي ج ١ ص ١٢٦. لكن في تقييد العلم ص ١٠٥ و ١٠٦ وهوامش : « أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن » وهي امرأة أنصارية أكثر ما تروى عن عائشة.

وراجع : السنة قبل التدوين ص ٣٢٨ ـ ٣٣٣ ، وتاريخ السنة المشرفة ص ٢٢٦

=

١٠١

وذكر في كنز العمال : أن فتوى عمر تصير سنة.

١٠ ـ وفي حادثة أخرى : نجد عمر لا يرتدع عن مخالفته للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى يستدل عليه ذلك الرجل بقوله تعالى :( لقد كان لكم في رسول الله أسوة ) (١) .

١١ ـ وقد رووا : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين »(٢) .

وبهذا استدل الشافعي على حجية قول أبي بكر وعمر.

مع أن المقصود بالخلفاء الراشدين هو الأئمة الإثنا عشر ،عليهم‌السلام لكن هذا اللقب سرق منهم (ع).

١٢ ـ وعثمان بن عفان يقول : « إن السنة سنة رسول الله ، وسنة صاحبيه »(٣) .

١٣ ـ كما أن عبد الرحمن بن عوف يعرض على أمير المؤمنين : أن يبايعه على العمل بسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسنة الشيخين أبي بكر وعمر ، فيأبىعليه‌السلام ذلك ، ويقبل عثمان ، فيفوز بالأمر(٤) .

١٤ ـ وخطب عثمان حينما بويع ، فقال : « إن لكم عليّ بعد كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه صلى عليه وآله ثلاثاً : إتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم

__________________

=

و ٢٢٧ وتاريخ الخلفاء ص ٢٤١ والجزء الأول من كتابنا : الصحيح من سيرة النبي الأعظم.

١ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٢ ص ٣٨٢.

٢ ـ راجع : الثقات لابن حبان ج ١ ص ٤ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٢ ، وعن كشف الغمة للشعراني ج ١ ص ٦.

٣ ـ سنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ ، والغدير ج ٨ ص ١٠٠ عنه.

ولتراجع رواية صالح بن كيسان والزهري في تقييد العلم ص ١٠٦ / ١٠٧ وفي هامشه عن العديد من المصادر وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ١٣٥.

٤ ـ راجع قصة الشورى في أي كتاب تاريخي شئت

١٠٢

عليه ، وسننتم ، وسنّ سنة أهل الخير فيما لم تسنّوا عن ملأ »(١) .

١٥ ـ وبعد فإن الأمويين يصرون على معاوية : أن يصلي بهم صلاة عثمان بن عفان في منى تماماً ، ويرفضون الاستمرار على صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رغم اعترافهم بذلك

وعثمان نفسه يصر على رأيه في مقابل سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رغم اعترافه بأن ذلك رأي رآه(٢) .

وقد عرض عثمان على أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يصلي بالناس في منى ، فلم يقبلعليه‌السلام إلا أن يصلي بهم صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيأبى عثمان ذلك ، ويأبى هو القبول : « وقد استمر الأمراء على صلاة عثمان فيما بعد ذلك »(٣) !.

١٦ ـ بل إننا لنجد ربيعة بن شداد لا يرضى بأن يبايع أمير المؤمنينعليه‌السلام . على كتاب الله وسنة رسوله ، وقال : على سنة أبي بكر وعمر. فقال له عليعليه‌السلام : « ويلك ، لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسوله لم يكونا على شيء الخ »(٤) .

١٧ ـ وحتى معاوية فإنه يصر على رأيه ، ويرفض الحكم النبوي بشكل

__________________

١ ـ حياة الصحابة ج ٣ ص ٥٠٥ عن تاريخ الطبري ج ٣ ص ٤٤٦.

٢ ـ راجع البداية والنهاية ج ٣ ص ١٥٤ وحياة الصحابة ج ٣ ص ٥٠٧ / ٥٠٨ عن كنز العمال ج ٤ ص ٢٣٩ عن ابن عساكر والبيهقي ، والغدير ج ٨ ص ١٠١ / ١٠٢ عن المصادر التالية : أنساب الأشراف ج ٥ ص ٣٩ والطبري ج ٥ ص ٥٦ حوادث سنة ٢٩ ، والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٤٢ والبداية والنهاية جح ٧ ص ١٥٤ ، وتاريخ ابن خلدون ج ٢ ص ٣٨٦.

٣ ـ راجع : الكافي ج ٤ ص ٥١٨ / ٥١٩ والوسائل ج ٥ ص ٥٠٠ / ٥٠١ وحاشية ابن التركماني ذيل سنن البيهقي ج ٣ ص ١٤٤ / ١٤٥ والغدير ج ٨ ص ١٠٠ عنه وعن المحلى ج ٤ ص ٢٧٠ وليراجع الغدير ج ٨ ص ٩٨ ـ ١١٦.

٤ ـ بهج الصباغة ج ١٢ ص ٢٠٣.

١٠٣

صريح(١) .

١٨ ـ وحينما ينكر أبو الدرداء على معاوية بعض قبائحه ، ويذكر بنهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ، نجده يقول : أما أنا فلا أرى به بأساً(٢) .

١٩ ـ وقد كتب ابن الزبير إلى قاضيه يأمره بأن يعمل بفتوى أبي بكر في الجد ، فيجعله أباً لأن النبي صلى عليه وآله قال : لو كنت متخذاً خليلاً دون ربي لاتخذت أبا بكر إلى أن قال : « وأحق ما أخذناه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه »(٣) .

٢٠ ـ كما أن عطاء قد استدل بقضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العُمْرَى ، فاعترض عليه رجل ـ وقد صرحت بعض النصوص بأنه : الزهري!! ـ بقوله : «لكن عبد الملك بن مروان لم يقض بهذا » أو قال : « إن الخلفاء لا يقضون بذلك » فقال : بل قضى بها عبد الملك في بني فلان(٤)

٢١ ـ واعترض البعض على مروان : بانه أخرج المنبر ، ولم يكن يخرج ، وبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، وجلس في الخطبة. فقال له مروان : « إن تلك السنة قد تركت »(٥) .

٢٢ ـ بل لقد بلغ بهم الأمر : أن ادعى البعض : أن من خالف الحجاج فقد

__________________

١ ـ راجع : المصنف لعبد الرزاق ج ١١ ص ٢٠١.

٢ ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ٥ ص ١٣٠ والموطأ المطبوع مع تنوير الحوالك ج ٢ ص ١٣٥ ، وسنن البيهقي ج ٥ ص ٢٨٠ وسنن النسائي ج ٧ ص ٢٧٧ ، واختلاف الحديث للشافعي بهامش الأم ج ٧ ص ٢٣ والغدير ج ١٠ ص ١٨٤ عن بعض من تقدم.

٣ ـ مسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٤ وراجع ص ٥.

٤ ـ المصنف لعبد الرزاق ج ٩ ص ١٨٨ وسنن البيهقي ج ٦ ص ١٧٤.

٥ ـ لسان الميزان ج ٦ ص ٨٩.

١٠٤

٢٣ ـ وعن ابن عباس : السنة سنتان : من نبي ، أو من إمام عادل(١) .

٢٤ ـ وقضية إمضاء عمر للطلاق ثلاثاً ، لأنهم استعجلوا ذلك تدل على أنه كان يرى أن لهم الحق في ذلك(٢) .

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه(٣) .

هذا كله عدا عن ادعائهم :

نزول الوحي على الخلفاء ،

وأفضلية الخليفة على الرسول ،

ونزول الوحي على الحجاج ، والخلفاء وغير ذلك

ولقد صدق أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما قال في كتابه للأشتر : « فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار ، يعمل فيه بالهوى ، وتطلب به الدنيا »(٤) .

الأئمة عليهم‌السلام في مواجهة الخطة :

إنما نتحدث هنا عن موضوع مواجهة هذه الخطة بمقدار ما يرتبط بمواقف الإمام الحسنعليه‌السلام منها وإن كانت الأساليب التي اتبعها الأئمة في هذا الصدد كثيرة ومتنوعة.

وقد تقدم بعض ما يرتبط بمواقف الأئمةعليهم‌السلام من قضية التمييز

__________________

١ ـ كنز العمال ج ١ ص ١٦٠.

٢ ـ راجع : تفسير القرآن العظيم ( الخاتمة ) ، ج ٤ ص ٢٢ والغدير ج ٦ ص ١٧٨ ـ ١٨٣ عن مصادر كثيرة.

٣ ـ راجع أيضاً المصنف لعبد الرزاق ج ١١ ص ٢٥٨ / ٢٥٩ و ج ٨٨ و ٤٧٥ / ٤٧٦ وطبقات ابن سعد ج ٢ قسم ٢ ص ١٣٤ ـ ١٣٦.

٤ ـ راجع عهد الأشتر في نهج البلاغة ، بشرح عبده ج ٣ ص ١٠٥ وعهد الاشتر موجود في كثير من المصادر.

١٠٥

العنصري البغيض ، وتقدم كذلك بعض اللمحات عن موقف أمير المؤمنين وغيره من الأئمة ، ومنهم الإمام الحسنعليه‌السلام من قضية الحديث والرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وحيث إننا لا نستطيع الإلمام ـ في عجالة كهذه ـ بكل ما يرتبط بمواقف الأئمة الهادفة إلى إفشال تلك الخطة ، لأن ذلك يستدعي تأليف كتاب مستقل ، وقد لا يكفي له العديد من المجلدات وبما أن أهم عنصر تستهدفه تلك الخطة هو عنصر الإمامة والخلافة ، والأحقية بالأمر. وبمعالجتها ، واتخاذ الموقف الصحيح منها ، لا يبقى لمجمل تلك الخطة تأثير يذكر ، ولا خطر يخاف. ـ من أجل ذلك فإننا سوف نقتصر هنا على الإشارة إلى لمحات من مواقفهمعليهم‌السلام ـ وبالأخص موقف الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ـ من هذه القضية بالذات فنقول :

قضية الإمامة هي الأساس :

ليس خافياً على أحد مدى خطورة النتائج التي سوف تتمخض عنها تلك السياسة ، التي تقدمت لمحات خاطفة وسريعة عن بعض خيوطها وفقراتها سواء على الإسلام ، أو على المسلمين ، في الحاضر ، أو في المستقبل. والأخطار المستقبلية هي الأعظم ، وهي الأدهى وقد أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث معروف : بأن في كل خلف عدول ينفون عنه ( أي عن الإسلام ) تحريف الغالين.

وقد عودنا الأئمةعليهم‌السلام : أنهم باستمرار يعيشون بالقرب من الأحداث ، ويتواجدون دائماً وأبداً في صميمها وفي العمق منها ، حتى إن المطالع للتاريخ ليجد ـ نتيجة لذلك التواجد ـ أن قضايا أهل البيت بصورة عامة ، وقضية أحقيتهم بالأمر ، وإمامتهم على الخصوص ، تبقى على الدوام محتفظة بحيويتها وعمقها في ضمير الأمة وفي وجدانها.

وأن كل صراع ، فإنما له ارتباط مباشر أحياناً ، أو غير مباشر أحياناً أخرى بهذه القضية بالذات ، حتى ليصرح الشهرستاني بقوله :

١٠٦

« وأعظم خلاف بين الأمَّة خلاف الإمامة ، إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان »(١) .

وقد رأينا أن تلك الخطة الملعونة التي أسلفنا الإشارة إليها ، إنما كانت تستهدف بالدرجة الأولى قضية الإمامة بالذات ، الأمر الذي يعني : أن الخصوم قد أدركوا مدى خطورة هذه القضية ، على مجمل خطهم ، على المدى البعيد

كما أننا نجد في المقابل : أن تواجد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام على الساحة ، ورصدهم الأحداث بدقة ووعي ، وإحساسهم العميق بالمسؤولية الإلهية والإنسانية الملقاة على عواتقهم تجاه هذه السياسة ، التي رأوا فيها خطراً داهماً ، يتهدد كيان الإسلام ومصيره على المدى البعيد إن كل ذلك لم يترك لهم أي خيار ، سوى خخيار المواجهة لهذه السياسة ، والعمل على إفشالها ، فإن ذلك واجب شرعي ، ومسؤولية إلهية ، لا يمكن التساهل ولا التواني فيها على الإطلاق : إذ على حد تعبير العبد الصالح حجر بن عدي الكندي : « إن هذا الأمر لا يصلح إلا في آل علي بن أبي طالب »(٢) .

نعم وقد أدوا عليهم الصلاة والسلام ، وشيعتهم الأبرار وضوان الله تعالى عليهم واجباتهم على أكمل وجه في هذا المجال ، وفي كل مجال وبذلوا جهوداً جبارة ، وتعرضوا لمختلف أنواع القهر ، والاضطهاد والبلاء ، نتيجة لمواقفهم ومواجهاتهم تلك وبذلوا مهجهم الغالية في هذا السبيل

وذلك لأن قضية الإمامة بنظرهم هي قضية الإسلام الكبرى ، وعلى أساس الاعتقاد بها يتحدد اتجاه الإنسان ، وخطه الفكري ، ثم السياسي ، بل وحتى الاجتماعي في الحياة. فهي المنطلق والأساس لكل المفاهيم ، والاعتقادات ، والقضايا التي يؤمن بها ، والمواقف التي يتخذها ، والمصير الذي ينتهي إليه ـ.

وعلى هذا الأساس ، فإننا نجد الأئمةعليهم‌السلام على استعداد للاستفادة

__________________

١ ـ الملل والنحل ج ١ ص ٢٤.

٢ ـ البداية والنهاية ج ٨ ص ٥١.

١٠٧

من عنصر التقية الإيجابية البناءة ، وإيثار الله عند مداحض الباطل في مكان التقية بحسن الروية ، على حد تعبير الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام(١) وهو يؤبن أخاه الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه.

ـ إنهمعليهم‌السلام يستفيدون من عنصر التقية في كل القضايا ، باستثناء قضية الإمامة ، وشؤونها لأنهم أدركوا : أن التقية من شأنها أن تحفظ كل تلك القضايا إلا قضية الإمامة ، وأحقيتهم بالأمر ، فإنها يمكن أن تضيعها

وإذن ومن أجل درء الخطر الذي يتهدد كيان الإسلام ووجوده من الأساس فقد كان لا بد من بذل المهج ، وخوض اللجج ، من أجل أن( يحق الله الحق بكلماته ، ولو كره المجرمون ) (٢)

ومن الأمثلة على ذلك قول الإمام الكاظمعليه‌السلام : السلام عليك يا أبة ، وذلك حينما جاء الرشيد إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : السلام عليك يا ابن عم ، في محاولة منه لإظهار : أن خلافته تتسم بالشرعية ، لاتصاله نسباً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكونه ابن عمه ـ وقد نشأ عن هذا الموقف اعتقال الإمام موسى الكاظم عليه الصلاة والسلام وإيداعه السجن ، حيث قضىعليه‌السلام مسموماً ، شهيداً ، صابراً ، محتسباً ـ.

وحتى حينما يضطر الإمام الحسنعليه‌السلام للصلح مع معاوية ، إيثاراً

__________________

١ ـ راجع : تهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٢٣٠ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ٣١٤ ، وحياة الحسن بن عليعليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ٤٣٩ عنه ، وليراجع حول التقية كتابنا : الصحيح من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ج ٢ ص ٤٠ ـ ٤٦.

وكلمات الإمام الحسينعليه‌السلام عند قبر أخيه ـ حسب نص ابن قتيبة هي : « رحمك الله أبا محمد ، إن كنت لتباصر الحق مظانَّة ، وتؤثر الله عند تداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية ، وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة ، وتفيض عليها يداً طاهرة الأطراف ، نقية الأسرة ، وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المؤونة ، ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لبان الحكمة ، فإلى روح وريحان وجنة نعيم ، أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ، ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه ».

٢ ـ سورة يونس : آية ٨٢.

١٠٨

لطاعة الله في مداحض الباطل ، في مكان التقية ، فإنَّه يحسن الرَّوية ، ويهتم في أن لا يقدم تنزلاً في قضية الإمامة ـ وإن توهم ذلك ابن قتيبة ـ ولا في قضية الخلافة ـ وإن توهم ذلك آخر ـ وإنما تنازل عن الأمر(١) وإنما يقصد معاوية من الأمر : الأمرة والملك ، فإنه لم يقاتلهم ليصموا ولا ليصلوا ، « وإنما ليتأمر عليهم » أو « ليلي رقابهم »!! كما قال(٢) .

ويقول معاوية بعد صلحه مع الإمام الحسنعليه‌السلام : « رضينا بها ملكاً »(٣) .

وقد عبَّر عن ذلك هو وغيره في عدة مناسبات(٤) .

وكان معاوية يقول عن نفسه : « أنا أول الملوك »(٥) .

كما أن سعد بن أبي وقاص يقول لمعاوية : «السلام عليك أيها الملك»(٦) .

والإمام الحسنعليه‌السلام يقول مشيراً إلى ذلك : « ليس الخليفة من سار بالجور ، ذاك ملك ملكاً يتمتع به قليلاً ، ثم تنقطع لذته ، وتبقى تبعته »(٧) .

هذا وقد اشترط عليه : السلام على معاوية أن لا يقيم عنده شهادة!! وأن لا يسميه « أمير المؤمنين »(٨) . الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على ما ذكرناه..

وليس موقف الإمام الحسنعليه‌السلام هنا ، وتعبيره بكلمة : « الأمر » ،

__________________

١ ـ الإمام الحسن لآل يس ص ١٠٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٢٢ وعن الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٥٠ و ١٥٦ وعن الصواعق المحرقة ص ٨١.

٢ ـ راجع شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٥ و ٤٦ ومقاتل الطالبيين.

٣ ـ البداية والنهاية ج ٦ ص ٢٠٠.

٤ ـ الإمام الحسن بن علي لآل يس ص ١١٠ ـ ١١٤ عن المصادر التالية : تاريخ الطبري ج ٥ ص ٥٣٤ و ٥٣٦ / ٥٣٧ والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٢٠٥ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٢١ و ٢٢٠ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٨٣ ومروج الذهب ج ٢ ص ٣٤٠.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٣٢.

٦ ـ المصنف ج ١ ص ٢٩١.

٧ ـ تقدمت المصادر لذلك.

٨ ـ البحار ج ٤٤ ص ٢ وليراجع كلام الصدوق رضوان الله تعالى عليه في البحار ج ٤٤ ص ٢ ـ ١٩ وفي علل الشرايع ج ١ ص ٢١٢ فما بعدها

١٠٩

واشتراطه ماذكر إلا كتعبير النبي صلى عليه وآله عن حاكم الروم بـ « عظيم الروم » ، وعن حاكم القبط والفرس بـ « عظيم القبط »(١) و« عظيم فارس »(٢) . ولم يقل : ملك الروم ، ولا ملك القبط وفارس ، لئلا يكون ذلك تقريراً لملكهما.

وما يدل على ذلك في كلمات أمير المؤمنينعليه‌السلام وغيره من الأئمة ، كثير ، لا مجال لتتبعه

فالإمام الحسنعليه‌السلام لم يستعمل التقية في أمر الأمامة ، وإنما سلَّم إلى معاوية الأمر النيوي الذي أُشيرَ إليه بقوله تعالى :( وشاورهم في الأمر ) . وهو حكم الدنيا وسلطانها ، والملك المحض ، ولم يعترف له بالإمامة الدينية والبيعة ، والخلافة الشرعية(٣) .

هذا وقد صرح الإمام الحسنعليه‌السلام في كتبه وخطبه ، بأنه لم يكن يرى معاوية للخلافة أهلاً ، وإنما صالحه من أجل حقن دماء المسلمين ، وحفاظاً على شيعة أمير المؤمنين بل لقد قال له فور تسليمه الأمر إليه :

« إن معاوية بن صخر زعم إني رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً ، فكذب معاوية. وأيم الله ، لأنا أولى الناس بالناس في كتاب الله ، وعلى لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير أنا لم نزل أهل البيت مخيفين مظلومين ، مضطهدين ، منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالله بيننا وبين من ظلمنا حقنا الخ »(٤) .

وقد كتب له أيضاً فور البيعة لهعليه‌السلام : « فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله »(٥) .

__________________

١ ـ راجع التراتيب الإدارية ج ١ ص ١٤٢.

٢ ـ كنز العمال ج ٤ ص ٢٧٤.

٣ ـ راجع : الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص ١١٠ و ١١٤ وعن شرح نهج البلاغة

٤ ـ أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ١٧٢ والاحتجاج ج ٢ ص ٨ والبحار ج ٤٤ ص ٢٢ و ٦٣ و ج ١٠ ص ١٤٢ وبهج الصباغة ج ٣ ص ٤٤٨.

٥ ـ راجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ٣٤ وستأتي بقية المصادر حين الكلام تحت

=

١١٠

وسيأتي قولهعليه‌السلام : « نحن أولى الناس بالناس ، في كتاب الله ، وعلى لسان نبيه ». ومثل ذلك كثير عنه.

هذا وقد تمدَّحه أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام على استعماله التقية ، وعلى حسن رويّته فيها ، كما تقدم

كما أنه حينما ذُكر له عدم استجابة الإمام الحسنعليه‌السلام لمن دعاه للثورة على معاوية بعد الصلح ، قالعليه‌السلام : « صدق أبو محمد ، فليكن كل رجل منكم من أحلاس بيته ، ما دام هذا الإنسان حياً »(١) .

كما أنه بعد استشهاد أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام ، يدافع عن موقف أخيه في قضية الصلح ، في رسالة منه لأهل الكوفة ، ويأمرهم بالسكون إلى أن يموت معاوية(٢) .

بل إن الإمام الحسنعليه‌السلام نفسه يعتبر صلحه مع معاوية خيراً من ألف شهر ، فقد سئل مرة عن أسباب صلحه مع معاوية ، فأجاب : ليلة القدر خير من ألف شهر(٣)

وما ذلك إلا لأن صلحه هذا قد فضح الأمويين ، وفضح معاوية بالذات ، وجعله يعلن عن أهدافه الشريرة ، وفوت عليهم الفرصة لهدم الإسلام ، والقضاء على أهل البيت وشيعتهم(٤) . ومهد الطريق لثورة الإمام الحسين ، ثم إلى زوال الحكم الأموي البغيض ، وإلى الأبد

مواقف هامة :

وبعد فإننا نرى : أن مما يدخل في مجال العمل على إفشال تلك الخطة

__________________

= عنوان : هل كان الإمام الحسنعليه‌السلام عثمانياً حين ذكر الشواهد على أنه كان مدافعاً قوياً عن حق أبيه في النموذج رقم ٤.

١ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢١ وراجع ص ٢٢٠.

٢ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢٢.

٣ ـ الإمام الحسن بن علي ، لآل يس ص ١٤٩.

٤ ـ الأخبار الطوال ص ٢٢٠ و ٢٢١ والبحار ج ٤٤ ص ٢ وغير ذلك كثير.

١١١

أيضاً ، وإبقاء حق أهل البيتعليهم‌السلام ، وقضيتهم حية في ضمير الأمة ووجدانها ، بالإضافة إلى ما تقدم من تأكيدات الإمام الحسنعليه‌السلام على بنوته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى أنه من أهل البيت ، الذين افترض الله طاعتهم إلى آخر ما تقدم.

ـ إن مما يدخل في هذا المجال : وصيتهعليه‌السلام بأن يدفن عند جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع علمه بعدم رضا عائشة والأمويين بذلك ، حسبما أشار إليه هو نفسهعليه‌السلام في وصيته تلك ، وصدقته الوقايع التالية(١) وكان ذلك هو السبب في ضرب الجدار على القبر الشريف(٢) ، فإن تلك الوصية لم تكن إلا

__________________

١ ـ راجع : البحار ج ٤٤ ص ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٦ و ١٤٣ و ١٤١ و ١٤٢ و ١٥٤ عن عيون المعجزات ، والمعتزلي ، والكافي ، وعلل الشرايع ، وأمالي المفيد ، والخرايج والجرايح ، وغير ذلك ، والفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٢٠٧ / ٢٠٨ عن الترجمة الفارسية ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٤ ، وأمالي الشيخ الطوسي ج ١ ص ١٦١ وعلل الشرايع ج ١ ص ٢٢٥والخرايج والجرايح ص ٢٢٣ وتذكرة الخواص ص ٢١٣ ومقاتل الطالبيين ص ٧٤ و ٧٥ والأخبار الطول ٢٢١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٤ و ١٥ و ٥٠ / ٥١ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ٢٢٥ وكتاب الفتن لنعيم بي حماد ( مخطوط ) الورقة ٤٠ ، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٢٢٩ / ٢٣٠ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص ٣٢ ووفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ وصلح الحسن لآل يس ص ٣٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٧٨ ومقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١٣٩ وكشف الغمة للاربلي ج ٢ ص ٢١١ و ٢١٢ والإرشاد للمفيد ص ٢١٢ و ٢١٣ وحليم أهل البيت الإمام الحسن بن علي ص ٢٥٢ و ذخائر العقبى ص ١٤٢ وإثبات الوصية ص ١٦٠ والاستيعاب بهامش الإصابة ج ١ ص ٣٧٧ وأنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٦٢ و ٦٠ و ٦١ و ٦٤ و ٦٥ غن تاريخ ابن عساكر ج ١٢ ص ٦٣ و ج ٦٤ ص ٩٩ وغيرها ، ونقل عن إثبات الهداة ج ٥ ص ١٧٠ وعن الكافي ج ١ ص ٣٠٤ وعن الخرايج وعن نظم درر السمطين ص ٢٠٣ والغدير ج ١١ ص ١٤.

٢ ـ وفاء الوفاء ج ٢ ص ٥٤٨ عن الكازروني شارح المصابيح.

وقال : إنه سأل جمعاً من العلماء فذكر له بعضهم ذلك.

١١٢

لإظهار صلته بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي يجهد الأمويون وأعوانهم لقطعها وطمسها. كما أن هذه الوصية تهدف إلى التأكيد على أنهمعليهم‌السلام مظلومون مقهورون ، مغتصبة حقوقهم ، منتهب براثهم ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( أرى تراثي نهباً )(١) .

بالأضافة إلى تعريف الناس على ما يكنه أولئك الحكام وأعوانهم من حقد وكره لأهل بيت النبوة ، الذين أمر الله ورسوله مراراً وتكراراً ليس فقط بمحبتهم ، وإنما « بمودتهم أيضاً »(٢) .

انزل عن منبر أبي :

ومما يدخل في هذا المجال أيضاً موقف آخر ، هام جداً للإمام الحسنعليه‌السلام في مقابل أبي بكر ، حيث جاء إليه يوماً وهو يخطب على المنبر ، فقال له :

انزل عن منبر أبي.

فأجابه أبو بكر : صدقت. والله ، إنه لمنبر أبيك ، لا منبر أبي. فبعث علي إلى أبي بكر : إنَّه غلام حدث ، وإنا لم نأمره. فقال أبو بكر : إنا لم نتهمك(٣) .

__________________

١ ـ الخطبة الشقشقية في نهج البلاغة.

٢ ـ راجع بحث : الحب في التشريع الاسلامي في كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج ٢ للمؤلف.

٣ ـ راجع : تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٨٠ و ١٤٣ وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٤١ عن أبي نعيم ، وغيره ، وأنساب الأشراف ، بتحقيق المحمودي ج ٢ ص ٢٦ /٢٧ بسند صحيح عندهم والصواعق المحرقة ص ١٧٥ عن الدار قطني ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٠ عن فضائل السمعاني ، وأبي السعادات ، وتارسخ الخطيب ، وسير الأئمة الإثني عشر ج ١ ص ٥٢٩ ، وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٢٣ عن الدارقطني ، وشرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٤٢ / ٤٣ ومقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ٩٣ وينابيع المودة ص ٣٠٦ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٩٤ عن الكنز وأبي سعد وأبي نعيم والجابري في جزئه والغدير ج ٧ ص ١٢٦ عن السيوطي ، وعن الرياض النضرة ج ١

=

١١٣

وليتأمل قولهعليه‌السلام : إنا لم نأمره. فإنه لا يتضمن إنكاراً على الإمام الحسنعليه‌السلام ، ولا إدانة لموقفه.

ولقد صدق أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ؛ فلم يكن الإمام الحسنعليه‌السلام يحتاج إلى أمر ، فلقد أدرك خطة الخصوم بما آتاه الله من فضله ، وبإحساسه المرهف ، وفكره الثاقب. وهو الذي عايش الأحداث عن كثب ، بل كان في صميمها.

وإذن فمن الطبيعي أن يدرك : أن عليه فيه مسؤولية العمل على إفشال تلك الخطة ، وإبقاء حق أهل البيت وقضيتهم على حيويتها في ضمير ووجدان الأمة. وكان علي وصي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتاط للأمر ، حتى لا تحدث تشنجات حادة ، ليس من مصلحة القضية ، ولا من مصلحة الإسلام المساهمة في حدوثها في تلك الظروف.

والإمام الحسين أيضاً :

ولا عجب إذا رأينا للإمام السبط الشهيد الحسينعليه‌السلام موقفاً مماثلاً تماماً مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ونجد أن عمر قد أخذه إلى بيته ، وحاول تقريره : إن كان أبوه أمره بهذا ، أو لا. فأجابه عن ذلك بالنفي.

وبعض الروايات تقول : إنه سأله عن ذلك في نفس ذلك الموقف أيضاً ، فنفى ذلك. فقال عمر : منبر أبيك والله ، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم(١)

__________________

=

ص ١٣٩ ، وعن كنز العمال ج ٣ ص ١٣٢. وحياة الحسن للقرشي ج ١ ص ٨٤ عن بعض من تقدم. والاتحاف بحب الأشراف ص ٢٣.

١ ـ راجع : مقتل الحسين للخوارزمي ج ١ ص ١٤٥، والإصابة ج ١ ص ٣٣٣ وقال سنده صحيح وأمالي الطوسي ج ٢ ص ٣١٣ /٣١٤ وإسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص ١٢٣ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٤٩٥ عن كنز العمال ج ٧ ص ١٠٥ عن ابن كثير

=

١١٤

فأبو بكر لم يكن يرى : أن اتهام أمير المؤمنين في قضية الإمام الحسن من صالحه أما عمر الذي رأى أنه قد أصبح قوياً في الحكم ، وقد تكرس الموقف لصالح غير أهل البيت على الصعيد السياسي عمر هذا ـ يهتم بالتعرف على مصدر هذه الأرهاصات ، ليعمل على القضاء عليها قبل فوات الأوان ، مادام يملك القدرة على ذلك بنظره.

لقد كانت مواقف الحسنين هذه تعتبر تحدياً عميقاً للسلطة ، في أدقِّ وأخطر قضية عملت من أجل حسم الأمور فيها لصالحها ، ورأت أنها قد وفقت في مقاصدها تلك إلى حدٍ بعيد فجاءت هذه المواقف لتهز من الأعماق ما كاد يعتبر ، أو قد اعتبر بالفعل من الثوابت الراسخة.

والحسنان هما ذانك الفرعان من دوحة الإمامة ، وغرس الرسالة ، اللذان يفهمان الظروف التي تحيط بهما ، ويقيمانها التقييم الصحيح والسليم ، ليتخذا مواقفهما على أساس أنها وظيفة شرعية ، ومسؤولية إلهية.

أما التكليف الشرعي ، والموقف الذي لأبيهما ، فهو وإن كان في ظاهره

__________________

=

وابن عساكر وابن سعد وابن راهويه والخطيب والصواعق المحرقة ص ١٧٥ عن ابن سعد ، وغيره، والاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ١٣ ، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٤٠ ، وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٤١ ، وكشف الغمة للأربلي ج ٢ ص ٤٢ ، وحياة الحسن للقرشي ج ١ ص ٨٤ ، والإمام الحسن للعلايلي ص ٣٠٥ عن الإصابة ، وصححه ، وينابيع المودة ص ١٦٨ ، وتذكرة الخواص ٢٣٥ ، وسيرة الأئمة الاثني عشر للحسني ج ٢ ص ١٥ وكفاية الطالب ص ٢٢٤ عن مسند احمد ، وابن سعد وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٤ ص ٣٢٤ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٣٤٦ وصححه ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٣ ص ٣٦٩ وهامش أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٢٧ عن تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١٣ ص ١٥ ، أو ١١٠ بعدة أسانيد ، وترجمة الإمام الحسين من تاريخ دمشق بتحقيق المحمودي ص ١٤١ و ١٤٢ وفي هامشه عن ابن سعد ج ٨ في ترجمة الإمام الحسين وعن كنز العمال ج ٧ ص ١٠٥ عن ابن راهويه وغيره والغدير ج ٧ ص ١٢٦ عن ابن عساكر.

١١٥

مختلفاً هنا ، إلا أنه ولا شك يخدم نفس الهدف ، ويسير في نفس الإتجاه ، حسبما ألمحنا إليه.

الحسنان وأذان بلال :

ولعلنا لا نبعد كثيراً إذا قلنا : إن قضية أذان بلال كانت كذلك تخدم نفس الهدف ، وتسير في نفس الاتجاه الذي توخياه صلوات الله وسلامه عليهما من موقفيهما من أبي بكر وعمر ، حسبما تقدمت الإشارة إليه

ومجمل تلك القضية هو : أن بلالاً كان في الشام ، فقدم إلى المدينة لزيارة قبر الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لرؤيا رآها.

وفيما هو يناجيه ، وإذا بالحسن والحسين قد أقبلا لزيارة جدهما وأمهما ، فلما رآهما تجددت أحزانه ، وأقبل إليهما يضمهما إلى صدره ، ويقول : كأني بكما رسول الله.

والتفتا إليه ، وقالا : إذا رأيناك ذكرنا صوتك ، وأنت تؤذن لرسول الله ، ونشتهي أن نسمعه الآن بعد غيابك الطويل.

وانطلق بلال من ساعته إلى سطح المسجد ، تلبية لرغبة السبطين ، فأجهش بالبكاء ، وانطلق صوته من ناحية المسجد إلى كل بيت في المدينة : الله أكبر ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فهز المشاعر ، وارتجت المدينة من أصوات الباكين.

ومضى الذهبي يقول : فلما قال بلال : أشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهن ، وظن الناس أنَّ رسول الله قد بعث من قبره. وما رؤي يوم أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول الله من ذلك اليوم(١) .

__________________

١ ـ تهذيب تاريخ دمشق ج ٢ ص ٢٥٩ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٥٨ وسيرة الأئمة

=

١١٦

وهذه القضية هي غير قضية أذان بلال ، بطلب من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وذلك لأن الأذان الذي كان بطلب من الحسنينعليهما‌السلام إنَّما كان بعد وفاتها ، كما نصت عليه الرواية آنفاً(١) .

ومهما يكن من أمر ، فإن السياسة قد كانت تتجه إلى تناسي ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمنع من حديثه ومن العمل بسنته(٢) وجعل ذكره مجرد أمر روتيني لا أكثر ، فجاءت هذه الهزة لتعيد الربط العاطفي والشعوري بالرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون ذلك بمثابة إدانة للتوجه العام تجاه الرسول وكل ما يرتبط به.

الإمام الحسن عليه‌السلام وأسئلة الأعرابي :

وإذا كانت الإمامة تقوم على ركنين رئيسين ، أحدهما :النص ، والآخر: العلم . فإننا نجد الأئمةعليهم‌السلام يهتمون بإظهار هذاالنص ، والتركيز عليه باستمرار. وقد رأينا الإمام الحسنعليه‌السلام يهتم بهذه الناحية ، في كثير من أقواله ومواقفه ، فلقد ذكر في خطبه : أنهم هم الذين افترض الله طاعتهم ، وأنهم أحد الثقلين ، واستدل بحديث الغدير ، وبالأعلمية(٣) وغير ذلك.

وكان هذا دأب الأئمةعليهم‌السلام وشيعتهم الأبرار بصورة عامة ، حتى لقد رأينا الإمام علياًعليه‌السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في رحبة

__________________

=

الاثني عشر للسيد هاشم معروف الحسني ج ١ ص ٥٣١ / ٥٣٢ وراجع : أُسد الغابة ج ١ ص ٢٠٨ ، وقاموس الرجال ج ٢ ص ٢٣٩.

١ ـ راجع قاموس الرجال ج ٢ ص ٢٣٩ / ٢٤٠.

٢ ـ راجع : كتاب الصحيح من سيرة النبي ج ١ ، الطبعة الثانية.

٣ ـ راجع : الغدير ج ١ ص ١٩٨ عن ابن عقدة ومروج الذهب ج ٢ ص ٤٣١ و ٤٣٢ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ١١ و ١٢ وينابيع المودة ص ٤٨٢.

١١٧

الكوفة وغيرها(١) .

والإمام الحسينعليه‌السلام يستشهد الناس على حديث الغدير في منى(٢) إلى غير ذلك من مواقف لا مجال لتتبعها هنا.

وكذلك الحال بالنسبة إلى العلم ، فإنهمعليهم‌السلام ما فتئوا يؤكدون على أنهم هم ورثة علم رسول الله صلى عليه وآله ، وعندهم الجفر ، والجامعة ، وغير ذلك(٣)

وقد رأينا : أن الإمام علياًعليه‌السلام يهتم في إثبات صفة علم الإمامة للإمام الحسنعليه‌السلام منذ طفولته حتى ليصبح إطلاعه على تلك العلوم ، التي لم ينل الآخرون منها شيئاً دليلاً على إمامته عليه آلاف التحية والسلام

ويلاحظ : أن أمير المومنينعليه‌السلام يهتم في إظهار ذلك لخصوص أولئك الذين استأثروا بالأمر ، وأقصوا أصحاب الحق الحقيقيين عن حقهم الذي جعله الله تعالى لهم ، وما ذلك إلا ليؤكد لهم ، ولكل أحد على أنهم ليسوا أهلاً لما تصدّوا له ، فضلاً عن أن يكون لهم أدنى حق فيه

وقد اتبععليه‌السلام في صياغة الحدث أسلوباً من شأنه أن يتناقله الناس ، ويتندروا به في مجالسهم إذ أن إجابة طفل لم يبلغ عمره العشر سنوات على أسئلة عويصة وغامضة ، لأمر يثير عجبهم ، ويستأثر باهتمامهم.

__________________

١ ـ راجع : الغدير ج ١ ودلائل الصدق ج ٣ وغير ذلك كثير

٢ ـ راجع : الغدير ج ١ ودلائل الصدق ج ٣ وغير ذلك كثير

٣ ـ راجع مكاتيب الرسول ج ١ ص ٥٩ حتى ص ٨٩ فقد أسهب القول حول هذه الكتب واستشهادات الأئمة بها ، وغير ذلك.

ومن الطريف في الأمر : أننا وجدنا العباسيين يحاولون أن يدَّعوا : أن عندهم صحيفة الدولة ، ولكنها تنتهي إلى محمد بن الحنفية ، ثم إلى عليعليه‌السلام . وقد أشرنا إلى ذلك في كتابنا : الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام

بل لقد حاول الأمويون أن يدَّعوا مثل ذلك أيضاً راجع : محاضرات الراغب ج ٢ ص ٣٤٣.

١١٨

فقد ذكر القاضي النعمان في شرح الأخبار ، بإسناده عن عبادة بن الصامت ، ورواه جماعة عن غيره : أن أعرابياً سأل أبا بكر ، فقال : إني أصبت بيض نعام ، فشويته ، وأكلته وأنا مُحرم ، فما يجب عليّ؟

فقال له : يا أعرابي ، أشكلت عليّ في قضيتك. فدلهّ على عمر ، ودلَّه عمر على عبد الرحمن بن عوف. فلما عجزوا قالوا : عليك بالأصلع.

فقال أمير المؤمنين : سل أي الغلامين شئت. ( وأشار إلى الحسن والحسينعليهما‌السلام ).

فقال الحسن : يا أعرابي ، ألك إبل؟

قال : نعم.

قال : فاعمد إلي عدد ما أكلت من البيض نوقاً ، فاضربهن بالفحول ، فما فصل منها فأهده إلى بيت الله العتيق الذي حجبت إليه.

فقال أمير المؤمنين : إن من النوق السلوب. ومنها ما يزلق(١) .

فقال : إن يكن من النوق السلوب وما يزلق ، فإن من البيض ما يمرق(٢) .

قال : فسمع صوت : أيها الناس ، إن الذي فهًّم هذا الغلام هو الذي فهًّمها سليمان بن داود(٣) .

__________________

١ ـ الناقة السلوب : التي مات ولدها ، أو القته لغير تمام ، وأزلقت الفرس : أجهضت ، أي ألقت ولدها قبل تمامه..

٢ ـ مرقت البيضة : فسدت.

٣ ـ المناقب لابن شهرآشوب ج ٤ ص ٣٥٤ / ٣٥٥ و ٣٣٥ عنه وعن العدد ، وحياة الحسنعليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ٨٦ / ٨٧.

وقد ذكر القضية لكن بدون إحالة السؤال على الإمام الحسن كل من : ذخائر العقبى ص ٨٢ وإحقاق الحق ج ٨ ص ٢٠٧ وفرائد السمطين ج ١ ص ٣٤٢ / ٣٤٣ والغدير ج ٦ ص ٤٣ عن بعض من تقدم ، وعن كفاية الشنقيطي ص ٥٧ والرياض النضرة ج ٢ ص ٥٠ و ١٩٤ وفي هامش ترجمة أمير المؤمنين لابن عساكر ج ٤٩ ص ٨٣ ، أو ٤٩٨ ترجمة محمد بن الزبير.

١١٩

وثمة قضية أخرى ، وهي قضية ذلك الذي أقرّ على نفسه بالقتل ، حينما رأى : أن بريئاً سيقتل ، فحكم عليه أمير المؤمنينعليه‌السلام بعدم وجوب القَود ، فإنه إن كان قتل فعلاً ، فقد أحيا نفساً ، و من أحيا نفساً ، فلا قَوَد عليه.

قال ابن شهرآشوب : « وفي الكافي والتهذيب : أبو جعفر : إن أمير المؤمنينعليه‌السلام سأل فتوى ذلك الحسن ، فقال : يطلق كلاهما ، والدية من بيت المال. قال : ولم؟ قال : لقوله : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً »(١) .

وهناك أيضاً أسئلة الإمامعليه‌السلام لولده الإمام الحسنعليه‌السلام عن السداد ، والشرف ، والمروّة ، وغير ذلك من صفات فأجاب عنها ، فلتراجع(٢) .

وأيضاً فهناك أسئلة ذلك الرجل عن الناس ، أشباه الناس ، وعن النسناس ، فأحاله الإمام على ولده الإمام الحسنعليه‌السلام : فأجابه عنها(٣) .

وسأل أمير المؤمنينعليه‌السلام ولده الإمام الحسنعليه‌السلام : كم بين الإيمان واليقين؟ قال : أربع أصابع. قال : كيف ذلك؟ قال : الإيمان كل ما سمعته أذناك الخ(٤)

وجاء رجل إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فسأله عن الرجل ، إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى ، وعن الرجل كيف يشبه الأعمام

__________________

١ ـ المناقب لابن شهر آشوب ج ٤ ص ١١. والآية في سورة المائدة آية ٣٤.

٢ ـ راجع : نور الأبصار ص ١٢١ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٤ ص ٢٢٠ / ٢٢١ وحلية الأولياء ج ٢ ص ٣٦ والبداية والنهاية ج ٨ ص ٣٩ وحياة الحسنعليه‌السلام للقرشي ج ١ ص ١٣٨ ـ ١٤٠ وكشف الغمة ج ٢ ص ١٩٤ / ١٩٥ ، والفصول المهمة للمالكي ١٤٤ ومعاني الأخبار ص ٢٤٣ و ٢٤٥ وتحف العقول ص ١٥٨ / ١٥٩ وعن شرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٢٥٠ وعن البحار ج ١٧ وعن إرشاد القلوب للديلمي ج ١ ص ١١٦ وعن مطالب السؤل.

٣ ـ تفسير فرات ص ٨ وعن البحار ج ٧ ص ١٥٠ ط عبد الرحيم.

٤ ـ العقد الفريد ج ٦ ص ٢٦٨ وليراجع البحار ج ٤٣ ص ٣٥٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦