حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام7%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213426 / تحميل: 8095
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

« إذن تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه ».

واندفع الصحابي العظيم عمار بن ياسر فأيد مقالة الامام ، وأعلن نقمته على عثمان فقال :

« أشهد ان أنفى أول راغم من ذلك »

ولما منح سعيد بن العاص مائة الف درهم ، انطلق الامام أمير المؤمنين مع جماعة من اعلام الصحابة فعابوا عليه عمله ، وانكروا عليه هذا العطاء فقال لهم :

« إن له قرابة ورحما »

فردوا عليه حجته ، وقالوا له :

« أفما كان لأبي بكر وعمر قرابة؟ »

فأجابهم :

« ان ابا بكر ، وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما وأنا أحتسب في اعطاء قرابتى »(١)

لقد نقم المسلمون من عثمان ، وسخط عليه خيارهم لأنه استأثر بالفيء ، ومنح أموال المسلمين الى بني أميّة ، ولم يطبق فى سياسته العدل الاجتماعى الذي جاء به الاسلام.

اعتذار عثمان

واعتذر عثمان للناقدين لسياسته بأنه أوصل رحمه ، وبرّ بذي قرباه وليس فى ذلك مأثم عليه او مخالفة للشرع ـ كما يراه ـ ولا بد لنا من وقفة قصيرة أمام هذا الاعتذار لنعرف مدى واقعيته ، وصحته ، والذي

__________________

(١) الانساب ٥ / ٢٨

٢٢١

يقتضيه النظر أنه منطق مفلوج لا يتفق مع الشرع ، ولا يلتقي بصالح الامة وذلك ـ أولا ـ ان الاموال التي منحها لأسرته لم تكن من أمواله الخاصة لتكون له مندوحة في انفاقها عليهم ، وانما هي أموال المسلمين فيجب انفاقها عليهم ، وليس لرئيس الدولة أن يتصرف فيها بقليل ، ولا بكثير فقد ورد عقيل من يثرب وهو بائس مضطر الى أخيه أمير المؤمنين٧ فطلب منه وفاء دينه ، فقال له الامام :

ـ كم دينك؟

ـ أربعون الفا

ـ ما هي عندي ، ولكن اصبر حتى يخرج عطائي فادفعه إليك ـ بيوت المال بيدك وأنت تسوفنى بعطائك؟

ـ أتأمرني ان أدفع إليك أموال المسلمين ، وقد ائتمنوني عليها.(١)

هذا هو منطق الاسلام ، وهذا عدله ، وهذه مساواته إنه لا يفرق بين القريب والبعيد فالجميع سواسية في العطاء وغيره.

و ـ ثانيا ـ إن اسرته التي برّ بها خليقة بالقطيعة وجديرة بأن لا توصل لأنها ناهضت الاسلام وناجزته الحرب ، وهي الشجرة الملعونة في القرآن فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمرو ان النبي٦ قال : رأيت ولد الحكم بن ابي العاص على المنابر كأنهم القردة فانزل الله : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة : يعنى الحكم وولده(٢) وقالت عائشة لمروان سمعت رسول الله٦ يقول

__________________

(١) اسد الغابة ٣ / ٤٢٣

(٢) تفسير الطبري ١٥ / ٧٧ ، تفسير القرطبي ١٠ / ٢٨٣

٢٢٢

لأبيك : « أبي العاص بن أميّة » انكم الشجرة الملعونة في القرآن(١) وقد نهى الله عن موادة المعادين له ، وحرم مواصلتهم قال تعالى : « لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم »(٢)

لقد كان عثمان شديد الحب للامويين فقد قال : « لو أن بيدي مفاتيح الجنة لأعطيتها بنى أميّة حتى يدخلوا عن آخرهم »(٣) وهذا الحب العارم لأسرته هو الذي اجهز عليه ، وحفز القوى الاسلامية الى الثورة عليه والاطاحة بحكمه وقتله.

٢ ـ منحه للاعيان

ووهب عثمان أموال المسلمين الى الوجوه والاعيان ، وذوي النفوذ السياسى ممن يحذر جانبهم ، فوصل طلحة بمائتي الف دينار(٤) وكانت له عليه خمسون الفا ، فقال له طلحة : تهيأ مالك فاقبضه ، فوهبه له ، وقال : هو لك يا أبا محمد على مروءتك(٥) ووصل الزبير بستمائة الف ، ولما قبضها جعل يسأل عن خير المال ليستغل صلته فدل على اتخاذ الدور فى الاقاليم والامصار(٦) فبنى احدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ / ١٩١

(٢) سورة المجادلة : آية ٢٢

(٣) مسند احمد ١ / ٦٢

(٤) طبقات ابن سعد

(٥) تأريخ الطبري ٥ / ١٣٩

(٦) طبقات ابن سعد

٢٢٣

ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر(١) ووهب أموالا طائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء انه لما توفى خلف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الاموال والضياع مائة الف دينار(٢) ومنح أموالا أخرى الى السائرين في ركابه ، والمؤيدين لسياسته ، وقد ذكر بالتفصيل تلك الهبات شيخ المحققين الاميني في موسوعته الخالدة(٣)

وبأي وجه تصحح هذه الهبات وهي أموال المسلمين وقد فرض فيها ان تصرف على اصلاح المجتمع ، وانقاذ الفقير والمحروم من البؤس والفاقة ، لا أن يتاجر بها في شراء الضمائر ، وتأييد الحكم القائم فان ذلك لا يقره الاسلام بحال من الاحوال.

٣ ـ استئثاره بالاموال

واستنزف عثمان بيوت الاموال فاصطفى منها ما شاء لنفسه وعياله ، وبالغ في البذخ والاسراف فبنى دارا فى يثرب شيدها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة(٤) وكان ينضد اسنانه بالذهب ، ويتلبس بأثواب الملوك ، وانفق اكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره(٥) ولما قتل كان عند خازنه ثلاثون الف الف درهم ، وخمسمائة الف درهم وخمسون ومائة الف دينار ، وترك الف

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ٢١

(٢) مروج الذهب ١ / ٣٣٤

(٣) الغدير الجزء الثامن

(٤) مروج الذهب ١ / ٤٣٣

(٥) السيرة الحلبية ٢ / ٨٧

٢٢٤

بعير وصدقات ببراديس وخيبر ، ووادي القرى قيمة مائتى الف دينار(١)

إن عثمان قد نهج منهجا خاصا في سياسته المالية ، فلم يتقيد بكتاب الله ، ولا بسنة نبيه ، فتصرف في بيت المال تصرفا كيفيا فأخذ منه ما شاء ومنح من أحب ، ووهب لمن سار في ركابه ، وقد وصف الامام امير المؤمنين هذه السياسة الملتوية بقوله :

« الى ان قام ثالث القوم ـ يعني عثمان ـ نافجا حضنيه(٢) بين نثيله ومعتلفه(٣) وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع »

وهذا أبدع ما توصف به السياسة المنحرفة التي تتخذ الحكم وسيلة للثراء والتمتع بملاذ الحياة ، ولا تقيم وزنا للامة ، ولا تعتني بمصالحها وأهدافها.

وقد أصدر الامام أمير المؤمنين قراره الحاسم بعد ان استولى على زمام الحكم بمصادرة جميع الاموال التي استأثر بها عثمان لنفسه ، والتي وهبها لخاصته وأقربائه ، وهذا نص قراره :

« الا ان كل قطيعة اقطعها عثمان ، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال ، فان الحق القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوج به النساء ، وفرق في البلدان لرددته الى حاله فان في العدل سعة

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٣ / ٥٣

(٢) نافجا حضنيه : اي رافعا لهما ، والحضن ما بين الابط والكشح ، يقال للمتكبر : جاء نافجا حضنيه ، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاما : جاء نافجا حضنيه ، ومراده (ع) هو الثاني.

(٣) النثيل : الروث ، والمعتلف : موضع العلف يريد به ان همه الاكل والرجيع ، وهذا من ممض الذم كما يقول ابن ابى الحديد.

٢٢٥

ومن ضاق عنه الحق فالجور عنه أضيق »(١)

وكان هذا الاجراء الذي اتخذه الامام على وفق العدل الاسلامي الذي حدد صلاحية المسئولين ، ولم يطلق لهم العنان فى التصرف بأموال الامة ، والاستئثار بها ، فليس لهم أن يصطفوا منها لأنفسهم ولا لذراريهم فهذا رسول الله٦ قد جاءته ابنته الوحيدة التي لا عقب له سواها تطلب منه ان يبغي لها وصيفا يخدمها لأن يديها قد مجلت من الرحى ، فلم يجد٦ مجالا لأن يأخذ من بيت المال ما يشتري به وصيفا يعين ابنته فردها ، وعلمها التسبيح الذي ينسب لها ، وقد سار على هذه السيرة وصيه وباب مدينة علمه الامام امير المؤمنين٧ فقد جاء أخوه عقيل يستميحه البر ، ويطلب منه السعة والرفاهية فاحمى له حديدة كاد ان يحترق من ميسمها ، هذا هو منطق الاسلام الذي جاء لاسعاد الشعوب واصلاحها وانقاذها من البؤس والفقر والحرمان.

مع الدكتور طه حسين

وتناقضت أقوال الدكتور طه حسين تناقضا صريحا في تصوير السياسة المالية التي انتهجها عثمان ، فتارة يسف في قوله فيزعم انه كان محافظا على سيرة عمر فى سياسة المال فلم يخالفه فى ذلك ، ولم يشذ عنه فى جميع أعماله الادارية والحربية ، وفيما كان يأخذ به عامة المسلمين من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والتزام السنة الموروثة ، واجتناب التكلف والابتداع(٢) واخرى يستقيم فى قوله فيذهب الى أنه انحرف عن سياسة عمر فى الابقاء على بيت المال ، وفى ألا ينفق منه إلا بمقدار الحاجة الى الانفاق ، وأنه

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ٤٦

(٢) الفتنة الكبرى ١ / ٧٢

٢٢٦

كان ينكر تشدد عمر ، ويرى أن فى بيت المال ما يسع الناس اكثر مما وسعهم أيام عمر فهو نقد غير مباشر لسيرة عمر فى سياسة بيت المال(١) ومعنى هذا انه لم يتقيد بسيرة عمر ، ولم يطبق سياسته على واقع حكومته وهذا ينافى ما ذكره أولا ، من انه كان يسير على وفق الاهداف التي سار عليها عمر.

وعلى أي حال فقد مال أخيرا الى تصحيح سياسته المالية وانها لم تخالف السنة الموروثة ، ولم تخل من الخير ومراعاة الصالح العام ، ونسوق نص كلامه فى ذلك مع مواقع النظر فيه وهو كما يلي :

أفاد الدكتور ما نصه : « الشيء المحقق هو ان عثمان لم يدهن في دينه والشيء المحقق أيضا هو ان عثمان لم ير في سياسته تلك مخالفة خطيرة او غير خطيرة لسيرة الشيخين ، فهو لم يعتمد الجور ولا المحاباة ، وإنما وسع على الناس من أموالهم ، رأى فى بيت المال غنى فآثر الناس به ، ولم يغل فى الادخار. وأي حرج فى أن يصل اصحاب النبي بشيء من هذا المال قليل او كثير ، وهم أئمة الاسلام وبناة الدولة وأصحاب البلاء الحسن ايام النبيّ ، وهم قد احتملوا من الشدة والحرمان شيئا كثيرا! وقد صدق الله وعده واكثر الخير ، فأي الناس أحق من هؤلاء المهاجرين ان يستمتعوا بشيء من هذا الخير الكثير »(٢)

ومواقع النظر فى كلامه ما يلي :

١ ـ انه ذهب الى أن عثمان لم يدهن فى دينه ، وأنه لم ير في سياسته مخالفة خطيرة او غير خطيرة لسيرة الشيخين ، ولم يتعمد الجور ولا المحاباة.

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ / ٧٤

(٢) الفتنة الكبرى ١ / ٧٧

٢٢٧

أما ان عثمان لم يدهن فى دينه فيزيفه اعلانه للتوبة ، وانه قد جافى العدل ، وانحرف عن الطريق القويم وهذا نص توبته :

« أما بعد : أيها الناس ، فو الله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله وما جئت إلا وأنا أعرفه ، ولكني منتنى نفسي ، وكذبتني ، وضل عني رشدي ، ولقد سمعت رسول الله٦ يقول : من زلّ فليتب(١) ومن أخطأ فليتب ، ولا يتمادى في الهلكة إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق ، فانا أول من اتعظ ، استغفر الله عما فعلت وأتوب إليه »(٢)

وهي صريحة في أنه سلك غير الجادة ، وشذ عن السنة الموروثة ، وأنه على بصيرة من ذلك لم يجهله ، ولم يغب عنه علمه وانما ارتكب ما ارتكب من المخالفات للسنة كهباته للأمويين ، وصلاته لآل أبى معيط ، وتنكيله باعلام الصحابة الناقدين لسياسته ، وغير ذلك من الاحداث الجسام ، انما هو استجابة لعواطفه ورغباته فان نفسه قد منته بذلك حتى ضل عنه رشده وفقد صوابه ـ على حد تعبيره ـ ومع اعترافه بذلك ، وتسجيله على نفسه انه انحرف عن الطريق كيف يمكن ان يقال إنه لم يدهن في دينه ، ولم يتعمد الجور والمحاباة.

٢ ـ أما ما ذكره من أن عثمان وسع على الناس من أموالهم لأنه رأى فى بيت المال غنى فآثر الناس به ، ولم يغل في الادخار فان هذا لا يمكن المساعدة عليه بوجه فان عثمان لم يوسع على الناس ، ولم يبسط لهم فى العيش وإلا لما ثاروا عليه ، وقتلوه ، وإنما وسع على نفسه وخاصته ،

__________________

(١) في رواية البلاذري من زل فلينب

(٢) تاريخ الطبري

٢٢٨

ووسع على بنى أميّة والمؤيدين لسياسته فآثرهم بالفىء ، وخصهم بأموال الدولة الامر الذي اوجب شيوع التذمر ، ونقمة المسلمين عليه في جميع اقطارهم وأقاليمهم حتى أطاحوا بحكمه ، وأردوه قتيلا لم يواروه فى قبره حتى ندم خيار المسلمين على عدم حرق جثته(١)

٣ ـ وأما ما أفاده من أنه لا حرج ، ولا اثم على عثمان في صلته لأصحاب النبي٦ بالاموال لأنهم أئمة المسلمين ، وأصحاب البلاء الحسن ، فأي الناس احق منهم بالاستمتاع بشيء من هذا الخير. فانه ظاهر البطلان لأن بيت المال ـ كما ذكرنا غير مرة ـ هو للمسلمين جميعا لا يختص به قوم دون آخرين ، ويجب صرفه على مصالحهم ، واصلاح شئونهم ، وليس لطائفة مهما علا شأنها ان تختص به ، وتحرم منه الاكثرية الساحقة ، على ان الاسلام فى ذلك الوقت احوج ما يكون الى بسط عدله الاجتماعي بين الشعوب المتعطشة الى مساواته العادلة التي لا تميز قوما على آخرين ، ولكن عثمان آثر بنى أميّة في كل شيء آثرهم بالاموال والوظائف وحملهم على رقاب الناس الامر الذي أدى الى تحطيم المساواة التي جاء بها الاسلام.

وأما سبق المهاجرين من اصحاب رسول الله٦ الى الاسلام ودفاعهم عن حياضه ، وتحملهم للعناء والبلاء فى سبيله فامر لا مجال للشك فيه ، وهم مشكورون عليه ، والله هو الذي يتولى جزاءهم عن ذلك ، ولكن منحهم بالاموال والاغداق عليهم بالنعم فامر لا مساغ له لأن فيه إحياء للطبقية التي حاربها الاسلام وشجب جميع مظاهرها.

ويمضى الدكتور فى تصحيح سياسة عثمان ، ومشروعية هباته للصحابة

__________________

(١) قال ذلك الصحابي العظيم عمار بن ياسر انظر الغدير ٩ / ٢١٦

٢٢٩

وانه لم يخالف بذلك السنة الموروثة ، وإنما جرى على طبعه السخي ، ولم يذكر هباته الضخمة ، وعطاياه الوافرة للامويين وآل أبي معيط فقد اعرض سيادته عن ذلك ولم يذكره بقليل ولا بكثير ، وهو فيما نحسب من أهم الاسباب التي أدت الى الانكار عليه ، لقد أهمل الدكتور هذه الناحية أما لأنه لم يجد مجالا للاعتذار عنها أو انه لا يرى بأسا في ذلك كما لا يرى بأسا في عطاياه للصحابة ، ومن المؤسف ان يسف فى ذلك ، ويبرر ما خالف السنة.

ولاته على الامصار

ويحتم الاسلام على خليفة المسلمين ، وولي أمرهم أن يجهد نفسه في اختيار ذوي القابليات والمواهب ممن تتوفر فيهم الشروط المطلوبة من العدالة والتقوى ، والنزاهة ، والنصح للرعية ، والسهر على صالحها ، ورعاية شئونها بأمانة واخلاص ليجعلهم ولاة على الامصار والاقاليم ، ولا يجوز ان يولي أي احد مهما كان قريبا له محاباة او اثرة فان ذلك خيانة لله ولرسوله ، وللمسلمين لأن الولاة يتحملون مسئولية الحكم ، والقضاء بين الناس ، وادارة شئونهم والاصلاح فيما بينهم ، والائتمان على أموالهم ودمائهم فلا بد ان يكونوا من خيرة الرجال ومن اكثرهم دينا ، ووقوفا في الشبهات ، وأبعدهم عن الطمع والحرص ، واصبرهم على تكشف الامور هذا هو رأي الاسلام ، وهذه خطته التي حفل بها نظامه الخالد ، وقد ابتعد عثمان عن ذلك فعمد الى توظيف اسرته وذوى قرباه الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الارض فسادا فحملهم على رقاب المسلمين وأسند إليهم اهم الوظائف فجعلهم أمراء على الامصار والاقاليم ، ونشير الى بعضهم مع بيان تراجمهم وهم :

١ ـ الوليد بن عقبة

٢٣٠

وكان على الكوفة واليا سعد بن أبي وقاص الزهري فعزله عثمان عنها وولى عليها الوليد بن عقبة بن ابي معيط ولم يعهد الى اهل الكفاية والقدرة من المهاجرين والانصار الذين احسنوا البلاء فى الاسلام ليتولوا شئون هذا المصر الذي هو من اعظم امصار المسلمين أهمية وأكثرها ثغورا.

وعلى أي حال فهل ان الوليد كان خليقا لأن يعهد إليه بهذا المنصب الخطير الذي يوكل إليه القضاء بين الناس وإتمامهم به في الصلاة ، والائتمان على بيت المال وغير ذلك من الشؤون التي تتوقف على العدالة والتقوى والحريجة فى الدين ونقدم عرضا موجزا لبعض شئونه ليتضح حاله وهي :

أ ـ نشأته

نشأ فى مجتمع جاهلي ، وتربى تربية جاهلية ، ولم يدخل بصيص من نور الاسلام فى قلبه ، كان ابوه من ألد اعداء رسول الله٦ روت عائشة عن رسول الله٦ قال : كنت بين شرّ جارين بين أبي لهب وبين عقبة بن ابي معيط ، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي حتى أنهم ليأتون ببعض ما يطرحونه من الاذى فيطرحونه على بابي(١) وقد بصق هذا اللعين فى وجه رسول الله٦ وشتمه ، فقال له النبي : إن وجدتك خارجا من جبال مكة اضرب عنقك صبرا ، فلما كان يوم بدر وخرج اصحابه امتنع من الخروج فقال له اصحابه اخرج معنا ، قال وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة ان يضرب عنقى صبرا ، فقالوا له : لك جمل احمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم ، فلما هزم الله المشركين حمل به جمله في جدود من الارض فأخذه رسول الله٦

__________________

(١) طبقات ابن سعد ١ / ١٨٦ ط مصر

٢٣١

أسيرا في سبعين من قريش فقدم إليه فقال عقبة أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال نعم بما بزقت في وجهي ، ثم أمر عليا فضرب عنقه(١) وقد اترعت نفس الوليد بالحقد والكراهية من النبيّ٦ لأنه قد وتره بأبيه ، ولما لم يجد بدا من الدخول فى الاسلام اسلم ولكن قلبه كان مطمئنا بالكفر والنفاق.

ب ـ فسقه

ونطق القرآن الكريم بفسقه ، وعدم ايمانه مرتين « الاولى » انه جرت بينه وبين امير المؤمنين مشادة ، فقال الوليد له : اسكت فانك صبي وأنا شيخ ، والله اني ابسط منك لسانا ، وأحد منك سنانا ، واشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكثيبة ، فقال له علي : اسكت فانك فاسق فانزل الله تعالى فيهما قوله :( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً ) (٢) وقد نظم ذلك حسان بن ثابت بقوله :

أنزل الله والكتاب عزيز

في علي وفى الوليد قرانا

فتبوا الوليد من ذاك فسقا

وعلي مبوأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف الله

كمن كان فاسقا خوانا

فعلي يلقى لدى الله عزا

ووليد يلقى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزيا ونارا

وعلي لا شك يجزى جنانا(٣)

« الثانية » أنه غش النبيّ وكذب عليه وذلك حينما ارسله في بنى المصطلق ، فعاد الى النبيّ يزعم انهم منعوه الصدقة ، فخرج النبي

__________________

(١) الغدير ٨ / ٢٧٣

(٢) تفسير الطبري ٢١ / ٦٢

(٣) تذكرة الخواص ص ١١٥

٢٣٢

٦ إليهم غازيا فتبين له كذب الوليد ، ونزلت عليه الآية بفسقه قال تعالى :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١)

ومع اعلان القرآن بفسقه وأثمه كيف يجوز أن يجعل حاكما على المسلمين واماما لهم ومؤتمنا على أموالهم ودمائهم.

ج ـ ولايته على الكوفة

واستعمله عثمان واليا على الكوفة بعد عزله لسعد ، فسار فيها سيرة عبث ومجون وتهتك ، ولم يرع للدين حرمة ووقارا ، وأخذ يعيث فسادا في الارض حتى ضجت الكوفة من مجونه واستهتاره وتذمر الاخيار والصلحاء من سوء سيرته.

د ـ شربه للخمر

واقترف الوليد افحش جريمة ، وافظع ذنب فقد ثمل وصلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات ، وصار يقول : في ركوعه وسجوده : اشرب واسقنى. ثم قاء فى المحراب وسلم ، وقال هل ازيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيرا ، ولا من بعثك إلينا ، وأخذ فردة نعله ، وضرب به وجه الوليد ، وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه ، وهو مترنح(٢) وفي فعله يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه

إن الوليد أحق بالعذر

نادى وقد تمت صلاتهم

أأزيدكم؟ ثملا ولا يدرى

__________________

(١) سورة الحجرات : آية ٦ يقول ابن عبد البر فى الاستيعاب ٢ / ٦٢ لا خلاف بين اهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت ان الآية نزلت فى الوليد.

(٢) السيرة الحلبية ٢ / ٣١٤

٢٣٣

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا

منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو فعلوا

لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك اذ جريت

ولو خلوا عنانك لم تزل تجري(١)

وقال الحطيئة فيه أيضا :

تكلم في الصلاة وزاد فيها

علانية وجاهر بالنفاق

ومج الخمر عن سنن المصلي

ونادى والجميع الى افتراق

أزيدكم على أن تحمدوني

فما لكم وما لي من خلاق(٢)

وهذه البادرة قد دلت على تهتكه ، وتماديه فى الاثم والفسوق ، فلم يرع حرمة للصلاة التي هي من اهم الشعائر الدينية ، واعظمها حرمة عند الله رأي طه حسين

ويعتقد طه حسين ان صلاة الوليد بالمسلمين ، وهو ثمل وزيادته فيها قصة مخترعة لا نصيب لها من الصحة قد وضعها خصوم الوليد والصقوها به ويستدل على ذلك أنه لو زاد فيها لما تبعته جماعة المسلمين من اهل الكوفة ، وفيهم نفر من اصحاب النبي ، وفيهم القراء والصالحون ، ولما رضى المسلمون من عثمان بما اقام عليه من حد الخمر ، فان الزيادة في الصلاة والعبث بها اعظم خطرا عند الله وعند المسلمين من شرب الخمر ، كما يذهب الى ان الشعر الذي هجي به الوليد لم يقله الحطيئة ، وانما قال الحطيئة شعرا يمدح به الوليد مدح حب حريص على رضاه ، وذكر أبياتا قالها في مدحه والثناء عليه(٣) والذي ذكره الدكتور لا يمكن المساعدة

__________________

(١) الاغاني ٤ / ١٧٨ ـ ١٧٩

(٢) الاغاني ٤ / ١٧٨ ، الاستيعاب

(٣) الفتنة الكبرى ١ / ٩٦ ـ ٩٧

٢٣٤

عليه بوجه وذلك ـ أولا ـ ان النصوص قد تضافرت بذلك ودونها الكثير ممن ترجم الوليد أو تعرض لأحداث عثمان فقد قال ابو عمر في الاستيعاب : « ان صلاته ـ اي الوليد ـ بهم وهو سكران ، وقوله ازيدكم؟ بعد ان صلى الصبح اربعا مشهورة من رواية الثقات من أهل الحديث وأهل الاخبار » وقال ابن حجر في الاصابة : « قصة صلاته بالناس الصبح وهو سكران مشهورة مخرجة » وحكى أبو الفرج في الاغاني ( ١٤ / ١٧٨ ) عن ابى عبيد والكلبي والاصمعي ان الوليد بن عقبة كان زانيا شريب خمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح فى المسجد الجامع فصلى بهم اربع ركعات ثم التفت إليهم ، وقال لهم ازيدكم؟ وتقيأ في المحراب ، وقرأ بهم في الصلاة :

علق القلب الربابا

بعد ما شابت وشابا

إن التشكيك في هذا الحادث والاعتقاد بأنه من الموضوعات انكار للضروريات ، وتشكيك في البديهيات وفي الهامش ثبت الى المصادر التي دونت ذلك ، وهي توجب القطع بصحته ، وعدم الريب فيه(١) ـ وثانيا ـ إن الله تعالى هو العالم بسرائر عباده ونياتهم ، وقد اعلن في كتابه الكريم فسق الوليد وفجوره في آيتين فلا يستبعد منه بعد ذلك أن تصدر منه افحش الموبقات واعظم الجرائم ـ وثالثا ـ ان صلحاء المسلمين وخيارهم

__________________

(١) مسند احمد ١ / ١٤٤ ، سنن البيهقي ٨ / ٣١٨ ، اسد الغابة ٥ / ٩١ ـ ٩٢ ، مروج الذهب ٢ / ٢٢٤ ، الكامل لابن الاثير ٣ / ٤٢ ، تأريخ ابى الفدا ٢ / ١٧٦ ، تأريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٠٤ ، تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٤٢ ، الاصابة ٣ / ٦٣٨ ، هذه بعض المصادر التي نصت على ذلك ، فعلى اي مصدر اعتمد الدكتور فى افتعال القصة وعدم صحتها.

٢٣٥

قد انكروا عليه ونقموا منه وثاروا في وجهه ، فقد ضربه عبد الله بن مسعود بنعله ، وحصبه الناس ـ كما تقدم ـ وخرج رهط من الكوفة فاستجاروا باعلام الصحابة ، لينقذوهم من امارة الوليد واستهتاره ـ كما سنذكر ذلك ـ وما زعمه الدكتور طه حسين ان جماعة من المسلمين من أهل الكوفة قد تبعته وفيهم من أصحاب النبيّ والصالحين ، قد غالط بذلك الحقائق التأريخية التي نصت على ما ذكرناه ـ ورابعا ـ ان الحطيئة وان كان قد مدح الوليد واخلص له فانه لا ينافي أنه نقم منه وهجاه على ارتكابه هذه الجريمة النكراء التي سود بها وجه التأريخ الاسلامى والعربي.

إن الحطيئة عرف بالهجاء والمدح فهو قد يمدح شخصا يأمل منه البر والخير فاذا لم يعطه هجاه وذمه فقد قصد بنى ذهل يسترفدهم ، ويستميحهم العطاء ، ويقول في مدحهم :

إن اليمامة خير ساكنها

أهل القرية من بني ذهل

قوم اذا انتسبوا ففرعهم

فرعي وأثبت أصلهم اصلي

فلم يعطوه شيئا فقال يهجوهم :

ان اليمامة شر ساكنها

أهل القرية من بني ذهل

وكان اذا غضب على بنى عبس يهجوهم ويقول انا من بنى ذهل وإذا غضب على بنى ذهل يهجوهم ويقول لهم : أنا من بنى عبس ، وقد غضب على أمه فهجاها بقوله :

تنحي فاجلسى منى بعيدا

أراح الله منك العالمينا

أغربالا اذا استودعت سرا

وكانونا على المحدثينا

حياتك ما علمت حياة سوء

وموتك قد يسر الصالحينا

٢٣٦

والتمس انسانا يهجوه فلم يجده فانشأ يقول :

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما

بشر فما ادري لمن انا قائله

وجعل يردد البيت ، ولا يرى انسانا حتى اذا طلع على حوض فرأى وجهه فقال :

أرى لي وجها شوه الله خلقه

فقبح من وجه وقبح حامله(١)

هذا هو الحطيئة فهل خفى حاله على الدكتور حتى يستبعد منه ان يمدح الوليد ويهجوه؟

وعلى أي حال فان طه حسين قد حاول تبرير الوليد ، وتنزيهه عن الموبقات والآثام وإلحاقه بالامراء الصالحين الذين لم يجوروا عن القصد فى حكمهم وقد قال فيه ما نصه :

« إن الوليد قد سار في اثناء ولايته على الكوفة سيرة فيها كثير جدا من الغناء وحسن البلاء. فهو لم يقصر في سد الثغور والامعان فى الفتح ، وإنما بلغ من ذلك غاية عرفت له وتحدث بها الناس في حياته وبعد موته وهو قد ساس الكوفة سياسة حزم وعزم ومضاء ، فاقر الامن ، وضرب على ايدي المفسدين من الاحداث والذين لا يرعون للنظام حرمة ، ولا يرجون للدين وقارا. »(٢)

وهل يستطيع الدكتور ان يثبت ذلك ويدلنا على معالم تلك السياسة الرشيدة التي سار عليها الوليد وتحدث الناس بها في حياته وبعد وفاته ، ولو كان الامر كما ذكره لما قام سعيد بن العاص ـ الذي عينه عثمان واليا على الكوفة بعد عزله للوليد ـ بغسل المنبر تحرجا من موبقات الوليد

__________________

(١) الاغاني المجلد الثانى القسم الاول ص ٧٦ ـ ٨٤ ط دار الفكر

(٢) الفتنة الكبرى ١ / ٩٤ ـ ٩٥

٢٣٧

وآثامه. نعم لقد تحدث الناس ، ولا زالوا يتحدثون عن مهازل الحكم الاموي الذي بنى على الاثرة والاستغلال والتحكم فى رقاب المسلمين ، وخيانة الامة ، وقهرها واذلالها باستعمال الوليد وأمثاله من الماجنين والمستهترين حكاما وولاة عليها وإنا لنأسف من الدكتور ان يدافع عن هؤلاء الخونة الذين هم صفحة عار وخزي على الامة العربية والاسلامية.

ه ـ اقامة الحد عليه

واسرع قوم من الكوفيين ممن يهمهم الاصلاح الى يثرب ليعرضوا على عثمان جريمة الوليد ، وانتهاكه لحرمة الاسلام ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه وهو في حالة السكر ، ولما انتهوا الى يثرب قابلوا عثمان ، وشهدوا عنده ان الوليد قد شرب الخمر فزجرهم عثمان وقال لهم :

« وما يدريكما أنه شرب خمرا؟. »

« هى الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية »

وأخرجوا له خاتمه الذي انتزعوه منه ، فثار عثمان ، وقام فدفع في صدورهم ، وقابلهم بأمر القول ، فانطلقوا الى امير المؤمنين(١) وأخبروه بالامر فأقبل الامام الى عثمان وقال له :

__________________

(١) وذكر ابو الفرج فى الاغاني ٤ / ١٧٩ ان القوم فزعوا الى عائشة فاستجاروا بها واصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال : اما يجد مراق اهل العراق وفساقهم ملجأ الا بيت عائشة ، فسمعت فرفعت نعل رسول الله «ص» وقالت تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل. فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل : احسنت ، ومن قائل ما للنساء ولهذا؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ودخل رهط من اصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له : اتّق الله لا تعطل الحد واعزل اخاك.

٢٣٨

« دفعت الشهود وأبطلت الحدود؟ »

« ما ترى؟ »

« أرى ان تبعث الى صاحبك فان اقاما الشهادة في وجهه ، ولم يدل بحجة أقمت عليه الحد. »

ولم يجد عثمان بدا من الاذعان ، والاستجابة لقول الامام فكتب الى الوليد يأمره بالشخوص إليه ، ولما وصلت رسالته إليه نزح عن الكوفة فانتهى الى يثرب ، ودعا عثمان الشهود فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بأي حجة يدافع بها عن نفسه ، وامتنع حضار المجلس من القيام بحده نظرا لقربه من عثمان ، فانبرى امير المؤمنين فأخذ السوط ودنا منه فسبه الوليد ، وقال : يا صاحب مكس(١) فاندفع عقيل بن أبي طالب ، فرد على الوليد قائلا :

« إنك لتتكلم يا بن ابي معيط ، كأنك لا تدري من أنت ، وأنت علج من أهل صفورية ـ وهى قرية بين عكة واللجون من اعمال الاردن من بلاد طبرية ، كان ذكوان اباه يهوديا منها ـ

وجعل الوليد يروغ من الامام فاجتذبه ، وضرب به الارض وعلاه بالسوط ، فثار عثمان ، وقد علاه الغضب فقال للامام :

« ليس لك ان تفعل به هذا »

« بلى وشر من هذا اذا فسق ومنع حق الله ان يؤخذ منه »(٢)

واقام الامام عليه الحد وكان اللازم بعد هذا الحادث أن يبعده عثمان ولا يقربه إليه حتى يرتدع هو وغيره من ارتكاب المنكر والفساد ولكنه

__________________

(١) المكس : النقص والظلم.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٢٢٥

٢٣٩

لم يلبث ان رق عليه وولاه صدقات كلب ، وبلقين(١) وكيف يؤتمن هذا الخليع الفاسق على صدقات المسلمين وأموالهم؟

إن الامصار الاسلامية التي استجد تأسيس بعضها ، والتي لم يستجد تأسيسها كان يقيم فيها العربي وغيره من النازحين عن أوطانهم لطلب الرزق والعيش ، والاسرى الذين كانوا يقيمون مع الفاتحين وكل اولئك كانوا جديدى عهد بالاسلام فكانوا ينتظرون من خليفة المسلمين وولي أمرهم ان يستعمل عليهم رجالا اترعت نفوسهم بالتقوى والصلاح ، وتوفرت فيهم النزعات الخيرة ليكونوا قدوة لهم وهداة قبل ان يكونوا حكاما وامراء ولكن عثمان آثر في الحكم بنى أميّة وآل أبي معيط وهم لا يمثلون إلا الترف والدعارة والبطالة والفراغ والتهالك على اللذة والمجون.

٢ ـ سعيد بن العاص

وبعد ان اقترف الوليد تلك الجريمة النكراء اقصاه عثمان عن امارة الكوفة على كره منه ، وكان من المتوقع ان يسند الحكم الى أحد اعلام الصحابة من الذين أبلوا فى الاسلام بلاء حسنا ، ولكنه عمد الى سعيد ابن العاص فولاه هذا المصر العظيم ، وقد استقبله الكوفيون بالكراهية وعدم الرضا لأنه كان شابا مترفا(٢) لا يتحرج من الاثم ولا يتورع من الإفك روى ابن سعد أنه قال مرة في فطر رمضان ـ بعد أن ولي المصر ـ من رأى منكم الهلال؟ فقال إليه هاشم بن عتبة الصحابي العظيم « انا رأيته »

فوجه إليه لاذع القول وأقساه قائلا :

« بعينك هذه العوراء رأيته؟! »

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٤٢

(٢) طبقات ابن سعد ٥ / ٢١ ، تاريخ ابن عساكر ٦ / ١٣٥

٢٤٠

فالتاع هاشم واجابه

« تعيرني بعينى ، وإنما فقئت في سبيل الله ـ وكانت عينه اصيبت يوم اليرموك ـ ».

واصبح هاشم في داره مفطرا عملا بقول رسول الله6 : « صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وفطر الناس لإفطاره ، وبلغ ذلك سعيدا ، فأرسل إليه وضربه ، وحرق داره ، وقد أثار حفائظ النفوس بهذا الاعتداء الصارخ على علم من أعلام الاسلام.

وأثر عنه انه قال : إنما السواد ـ اي سواد الكوفة ـ بستان لقريش فقام إليه الاشتر فقال له : أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ، وانضم الى الاشتر قراء المصر وفقهاؤهم فأيدوا مقالته ، وغضب صاحب شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا فقاموا إليه فضربوه ضربا منكرا حتى اغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وهم يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالب عثمان ، وسيئات قريش ، وجرائم بنى أميّة وكتب سعيد الى عثمان بخبره بأمر هؤلاء ، فأجابه عثمان ان يسيرهم الى الشام ، وكتب في نفس الوقت الى معاوية يأمره باستصلاحهم.

والمهم ان هؤلاء لم يرتكبوا اثما او فسادا ، ولم يقترفوا جرما حتى يستحقوا هذا التنكيل والنفى وانما نقدوا اميرهم لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، والاسلام قد منح الحرية التامة للمواطنين ، ومنها حرية النقد للحاكمين إن سلكوا غير الجادة ، وعدلوا عن الطريق القويم ، فعلى اي وجه يصحح نفيهم عن اوطانهم وهم لم يخلعوا يدا عن طاعة ولم يفارقوا جماعة وعلى أي حال فقد اخرجهم سعيد بالعنف ، وأرسلهم الى الشام

٢٤١

الى بلد لا يألفون الى اهلها ولا يسكنون الى من فيها ، وتلقاهم معاوية فانزلهم في كنيسة ، واجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويعظهم ولكنه لم ينجح في اقناعهم ، فقد كان منطقهم منطق الاحرار ، فأي ، مزية تمتاز بها قريش حتى يكون السواد ملكا لها ، وأي مأثرة صدرت لها حتى تمتاز على بقية العرب والمسلمين ، ولما يئس منهم معاوية كتب الى عثمان يستعفيه من بقائهم فى الشام خوفا من ان يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره ان يردهم الى الكوفة ، فعادوا إليها وهم مصرون على نقد الحكم القائم وأطلقوا السنتهم في ذكر مثالب سعيد ومعاوية وعثمان وأعاد سعيد الكتابة الى عثمان يطلب منه ابعاد القوم عن مصرهم ، فأجابه عثمان الى ذلك ، وأمره ان ينفيهم الى حمص والجزيرة فاخرجهم من وطنهم الى حمص ، فقابلهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عامل معاوية على حمص اعنف لقاء وأشده ، وأخذ يسومهم سوء العذاب ، ويقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، وكان اذا ركب أمر بهم فساروا حول ركابه ، ليظهر هوانهم واذلالهم ، ويغري الناس بانتقاصهم ولما رأوا تلك القسوة اظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة ، وطلبوا منه ان يقيلهم من ذنوبهم فأقالهم ، وكتب الى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله العفو عنهم فأجابه الى ذلك وردهم الى الكوفة ونزح سعيد بن العاص الى يثرب في مهمة له فوجد القوم هناك يشكونه الى عثمان ويسألونه عزله ، ولكن عثمان ابى وامتنع من اجابتهم ، وأمره ان يرجع الى عمله فقفل القوم راجعين الى مصرهم قبله فاحتلوا الكوفة وأقسموا ان لا يدخلها سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جمع بقيادة الاشتر حتى بلغوا الجرعة ، فانتظروا سعيدا فلما أقبل ردوه ومنعوه من دخول المصر ، وأجبروا عثمان على عزله وتولية غيره فاستجاب عثمان على

٢٤٢

كره منه لذلك.(1)

والمهم ان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص وهم قراء المصر وفقهاؤه ونفاهم عن اوطانهم وبالغ في ارهاقهم من أجل شاب طائش لأنه من ذويه واسرته الامر الذي أوجب شيوع التذمر وانتشار السخط عليه ، وكراهية الامة لحكمه.

3 ـ عبد الله بن عامر

وعزل عثمان أبا موسى الاشعري عن ولاية البصرة ، واختار لها ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز(2) فولاها اياه وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة(3) وبلغ ذلك ابا موسى فقال للناس : « يأتيكم غلام خراج ولاج ، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.(4)

والمهم أنه ولاه هذا المصر العظيم وهو شاب حدث السن ، وكان الاولى ان يختار له من خيار الصحابة وثقاتهم ليستفيد الناس من هديه وصلاحه ، ولكنه عمد الى اختيار هذا الفتى لأنه ابن خاله ، وقد سار في اثناء ولايته سيرة ترف وبذخ ، فكان ـ كما قال الاشعري ـ ولاجا خراجا فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء فقال الناس : لبس الامير جلد دب ، فغير لباسه ولبس جبة حمراء(5) وقد انكر عليه

__________________

(1) الانساب 5 / 39 ـ 43 ، تأريخ الطبري 5 / 88 ، تأريخ ابي الفداء 1 / 168

(2) تهذيب التهذيب 5 / 282 ، وجاء فيه ان أم عثمان اروى بنت كريز

(3) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة 2 / 253

(4) الكامل 3 / 38

(5) اسد الغابة 3 / 192

٢٤٣

عامر بن عبد الله التميمي الزاهد العابد وعاب عليه سياسته كما عاب على عثمان فقد روى الطبري : انه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، وما صنع فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه فارسلوا إليه عامر بن عبد الله ، ولما التقى به قال له :

« إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتق الله عز وجل وتب إليه ، وانزع عنها. »

فاحتقره عثمان وقد لسعه قوله فقال لمن حوله :

« انظروا الى هذا فان الناس يزعمون انه قارة ثم هو يجيء فيكلمنى في المحقرات ، فو الله ما يدري أين الله؟. »

فقال له عامر : أنا لا أدري اين الله؟

ـ نعم

ـ اني لأدرى أن الله بالمرصاد

وارسل عثمان الى مستشاريه وعماله فعرض عليهم الامر فأشار عليه عبد الله بن عامر فقال له :

« رأيي لك ، يا أمير المؤمنين ان تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمهرهم فى المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة احدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته »

واشار عليه آخرون بغير ذلك إلا انه استجاب الى رأى عبد الله فرد عماله ، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، كما عزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ، ويحتاجوا إليه.(1)

ولما وصل عبد الله بن عامر الى البصرة عمد الى التنكيل بعامر بن

__________________

(1) تأريخ الطبري 5 / 94 ، تاريخ ابن خلدون 2 / 39

٢٤٤

عبد الله ، فقد اوعز الى عملائه واذنابه أن يشهدوا عنده بأن عامرا قد خالف المسلمين في امور أحلها الله فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ولا يشهد الجمعة(1) ورفع تقريرا الى عثمان فامره بنفيه الى الشام على قتب فحمل إليها ، وانزله معاوية ( الخضراء ) وبعث إليه بجارية ، وأمرها ان تتعرف على حاله وتكون عينا عليه ، فرأت أنه يقوم في الليل متعبدا ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يجىء بكسر من الخبز وبجعلها فى ماء ، ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرته الجارية بشأنه ، فكتب معاوية الى عثمان بأمره ، فأوعز إليه بصلته(2)

وقد نقم المسلمون من عثمان لأنه نفى رجلا من صلحاء المسلمين(3) وأبعده عن اهله ووطنه لأنه نقد عماله وعاب ولاته ، وليس لولي الامر الصلاحية في هذا النفي فانه إنما شرع لمن حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا.

وعلى اي حال فان عبد الله بن عامر ظل واليا على البصرة الى أن قتل عثمان فلما سمع بمقتله نهب ما في بيت المال ، وسار الى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضم إليهم ، وأمد المتمردين بالاموال ، وكان من عزمهم ان يتوجهوا الى الشام إلا انه صرفهم عنه ، وأشار عليهم بالمسير الى البصرة(4)

__________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 116

(2) الاصابة 3 / 85

(3) العقد الفريد 2 / 261

(4) اسد الغابة 3 / 192

٢٤٥

4 ـ معاوية بن أبي سفيان

ومعاوية بن أبي سفيان اكثر ولاة عثمان حظا ، وأعظمهم نفوذا ، واسبقهم امرة كما ان شعبه من اكثر الشعوب طاعة واخلاصا له قد أحبه وأحبهم ، وقد منحه عمر بالامارة ، وحباه بالولاية ، وأيده بجميع ألوان التأييد فرفع شأنه ، وأعلا قدره فكان في كل سنة يحاسب عماله ، ويشاطرهم أموالهم وان اكتسبوها بالتجارة او ربحوها بسائر الوجوه المشروعة ، سوى معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يشاطره ، ولم يتفقد اموره وانما كان يضفى عليه المديح والثناء ، ويبالغ في تسديده والاعتذار عنه ، فكانوا يقولون له : إنه يلبس الديباج والحرير وهو لباس محرم في الاسلام ، وانه يسرف ويبذخ وهو مجاف للنظم الادارية التي جاء بها الاسلام فانها تلزم الولاة بالاقتصاد وعدم البسط في العيش من أموال المسلمين.

كانوا يقولون لعمر ذلك : فيعتذر عنه ، ويقول : ذاك كسرى العرب ، ولو فرضنا انه كان كذلك فهل يباح له أن يلبس المحرم ، ويسرف في أموال المسلمين؟ ولم يكتف بهذا المد والتأييد ، فقد نفخ فيه روح الطموح ، وفتح له باب الامل بالخلافة ، فقد قال لأعضاء الشورى : « ان تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم ، غلبكم على هذا معاوية بن ابي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام(1) وقد دفعه ذلك الى الاتجاه للخلافة ، واتخاذ جميع الوسائل للظفر بالحكم ، واعلانه للتمرد على حكومة الامام أمير المؤمنين ، ومناجزته له ، كما سنذكر ذلك بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

وعلى اي حال فقد ظل معاوية واليا على الشام والاردن طيلة خلافة

__________________

(1) نهج البلاغة لابن ابي الحديد 1 / 187

٢٤٦

عمر يتصرف حيثما شاء ، قد استأثر بالاموال فشرى بها الضمائر ، واحاط نفسه بالاتباع لا رقيب عليه ، ولم توجه له اي مسئولية ، وانما يرى التسديد ، والمديح والرضا بما يعمل ، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله ، وزاد في سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن ابن علقمة الكناني ، كما ضم إليه حمص بعد ان استعفاه عاملها عمير بن سعد الانصاري ، وبذلك خلصت له ارض الشام كلها ، واصبح من اعظم الولاة قوة ، ومن اكثرهم نفوذا ، واصبح قطره من اهم الاقطار الاسلامية وامنعها واكثرها هدوءا واستقرارا.

ومما لا شبهة فيه ان عثمان قد زاد في نفوذه ، ووسع رقعة سلطانه ، ومهد له نقل الخلافة الاسلامية الى آل ابي سفيان ، وقد صرح بذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« وليس من شك في ان عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم الى آل أبي سفيان وتثبيتها في بنى أميّة. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية فضم إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الارجاء ، وجمع له قيادة الاجناد الاربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر ، واطلق يده فى امور الشام اكثر مما اطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فاذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته. »(1)

إن عثمان قد عبّد له الطريق ، وأتاح له الفرصة لمنازعة أمير المؤمنين ومحاربته ، وارتكابه لفظائع المنكرات والموبقات ، وقتله صلحاء المسلمين

__________________

(1) الفتنة الكبرى 1 / 120

٢٤٧

وثقاتهم كحجر بن عدي واخوانه المؤمنين ، وغير ذلك من المآثم والجرائم

5 ـ عبد الله بن سعد

وحبا عثمان اخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحه إمارة هذا القطر العظيم فجعل بيده امر صلاته وخراجه(1) وقبل ذلك منحه الاموال الطائلة ، ووهبه خمس غنائم إفريقية ، ولم يكن خليقا بذلك كله لأن له تأريخا أسودا حافلا بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركا بعد اسلامه ، وصار الى قريش بمكة يسخر بالنبي ويقول لهم : اني اصرفه حيث اريد ، واهدر النبي دمه يوم الفتح ، وان وجد متعلقا باستار الكعبة ، ففر الى عثمان ، واستجار به فغيبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكة أتى به الى النبي6 فصمت طويلا ثم آمنه وعفا عنه فلما انصرف عثمان قال النبي6 : ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ، فقال له رجل من الانصار : هلا أومأت الي يا رسول الله؟ فقال : إن النبي لا ينبغى ان تكون له خائنة الاعين(2)

ونزل القرآن الكريم بكفره وذمه قال تعالى :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ) (3) واجمع المفسرون أنه هو المعنى بهذه الآية ، وسبب ذلك انه لما نزلت الآية( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) دعاه النبي فأملاها عليه فلما انتهى الى قوله :( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) عجب عبد الله فى تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال

__________________

(1) الولاة والقضاة : ص 11

(2) تفسير القرطبى 7 / 40 ، تفسير الشوكاني 2 / 134 ، سنن ابى داود 2 / 220

(3) سورة الانعام : آية 93

٢٤٨

النبي : هكذا انزلت علي فشك عبد الله ، وقال : لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحى إليه ، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال : فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين(1)

أمثل هذا المرتد الذي سخر بالنبي ورجع عن حظيرة الاسلام يكون واليا على المسلمين وتسلم له قيادتهم ، ويكون مؤتمنا على أموالهم ، ودمائهم إن ذلك والله هو الرزء القاصم الذي يذيب لفائف القلوب ، وتذوب النفوس من هوله اسى وحسرات ، أتعطي امارة المسلمين ، وتمنح اقطارهم وامصارهم الى اعداء الاسلام وخصومه الذين لم يألوا جهدا في البغى على الاسلام والكيد له فانا لله وإنا إليه راجعون.

وعلى اي حال فقد مكث الرجل واليا على مصر سنين ، وكلف المصريين فوق ما يطيقون ، وساسهم سياسة عنف وجور ، واظهر الكبرياء والغطرسة ، فضجر الناس منه ، وسئموا حكمه فخف أخيارهم يشكونه الى عثمان فبعث إليه رسالة يتهدده فيها ، ويتوعده بالعزل ان لم يئوب الى الرشاد ولكنه ابى أن ينزع عما نهاه ، ونكل بمن شكاه الى عثمان حتى قتله فخرج سبع مائة رجل من مصر الى يثرب فنزلوا الجامع ، وشكوا الى اصحاب النبيّ ما صنع بهم ابن ابي سرح ، فانبرى طلحة الى عثمان فكلمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة ان ينصف القوم من عاملهم ، ودخل عليه أمير المؤمنين فقال له :

« إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما فأعزله عنهم ، واقض بينهم ، فان وجب عليه حق فانصفهم منه ».

فاستجاب لذلك ، وقال لهم : اختاروا رجلا اوليه عليكم مكانه ،

__________________

(1) تفسير الرازي 4 / 96 تفسير الخازن 2 / 37 الكشاف 1 / 461

٢٤٩

فاشار الناس عليه بمحمد بن ابي بكر فكتب عهده الى مصر ، ووجه معه عدة من المهاجرين والانصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن ابي سرح(1) ونزحوا عن يثرب فلما بلغوا الى المحل المعروف ( بحمس ) وإذا بقادم من المدينة تأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان فتفحصوا عن حاله واذا يحمل رسالة الى ابن ابي سرح يأمره التنكيل بالقوم ، تأملوا الكتاب فاذا هو بخط مروان ، فرجعوا الى يثرب ، وصمموا على خلع عثمان او قتله.

إن عثمان قد سمى لحتفه بظلفه ، وجر البلاء لنفسه ، وعرض الامة للخطوب والويلات في سبيل اسرته ، وتدعيم كيانها ، ولو أنه استجاب لرأي الامام ، والناصحين له فاقصى بنى أميّة عن مراكز الحكم لكان بمنجاة عن تلك الثورة التي اودت بحياته ، وفتحت باب الفتن بين المسلمين ، وفرقت كلمتهم ، وجعلتهم احزابا( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض عماله وولاته الذين ما استعملهم الا اثرة ومحاباة.

تنكيله بالصحابة :

ونكل عثمان بخيار المسلمين وثقاتهم من الذين أبلوا في الاسلام بلاء حسنا. وساهموا فى بنائه ، لأنهم عابوا عليه سياسته ، وطلبوا منه أن يسير على المحجة البيضاء ، ويهتدي بسنة الرسول ، ويقتفى اثره ، فلم يستجب لارشادهم ولم يثب لنصحهم ، فشددوا عليه فى المعارضة والنكير فصب عليهم جام غضبه ، وبالغ في اضطهادهم وارهاقهم ، وهم كما يلي :

1 ـ عبد الله بن مسعود

وعبد الله بن مسعود اشبه الناس هديا وسمتا برسول الله صلى الله

__________________

(1) الانساب 5 / 26

٢٥٠

عليه وآله(1) ويقول فيه رسول الله6 : « من سره ان يقرأ القرآن غضا او رطبا كما انزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد »(2) واثنى عليه قوم عند أمير المؤمنين فقال7 : أقول فيه مثل ما قالوا : وهو أفضل من قرأ القرآن ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه فى الدين ، عالم بالسنة(3) وهو ممن نزلت فيهم الآية الكريمة(4) ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (5) وهو أيضا ممن نزلت فيهم الآية(6) قال تعالى :( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (7)

ان عبد الله بن مسعود من أقطاب المسلمين فى هديه ، وصلاحه ، وورعه ، وتحرجه فى الدين ، سيره عمر فى عهده الى الكوفة مع عمار بن ياسر ، وكتب لأهل الكوفة كتابا جاء فيه :

« إني قد بعثت عمار بن ياسر اميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من اصحاب رسول الله من اهل بدر فاقتدوا بهما ، واطيعوا

__________________

(1) مسند احمد 5 / 389 ، حلية الاولياء 1 / 126 كنز العمال 7 / 55

(2) صفة الصفوة 1 / 156 سنن ابن ماجة 1 / 63

(3) مستدرك الحاكم 3 / 315

(4) طبقات ابن سعد 3 / 108

(5) سورة آل عمران آية 172

(6) تفسير الطبرى 7 / 128 الدر المنثور 3 / 13

(7) سورة الانعام آية 52

٢٥١

واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسى(1)

وبقى ابن مسعود فى الكوفة طيلة خلافة عمر وهو يفقه المسلمين فى دينهم ، ويعلمهم كتاب الله ، ويغذيهم بمعارف الاسلام وهديه ويرشدهم الى سواء السبيل ، وكان في نفس الوقت خازنا لبيت المال ، ولما آل الامر الى عثمان وبعث الوليد واليا على الكوفة جرت بينه وبين الوليد مشادة ـ ذكرناها عند البحث عن امارة الوليد على الكوفة ـ أوجبت أن يستقيل من منصبه وبقى فى الكوفة وقتا ثم غادرها فشيعه الكوفيون وحزنوا على فراقه ، وقالوا له عند وداعه :

« جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ، ونعم الخليل »

ثم ودعوه وانصرفوا وواصل ابن مسعود المسير حتى انتهى الى يثرب وكان عثمان على منبر رسول الله6 يخطب فلما رآه قال للمسلمين وأشار الى ابن مسعود « ألا انه قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه يقىء ويسلح »

أيشتم صاحب رسول الله6 بهذا الكلام المر ، ويقابل بمثل هذه الجفوة من أجل الوليد الذي خان الله ورسوله ونهب أموال المسلمين؟! ورد عليه ابن مسعود قائلا :

« لست كذلك ، ولكني صاحب رسول الله6 يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان. »

وقد اثار كلام عثمان حفائظ النفوس فاندفعت عائشة تعلن انكارها وسخطها عليه قائلة :

__________________

(1) اسد الغابة 3 / 258

٢٥٢

« أي عثمان. اتقول هذا لصاحب رسول الله؟! »

وأمر عثمان جلاوزته فاخرجوا الصحابي العظيم من المسجد اخراجا عنيفا ، وقام إليه عبد الله بن زمعة فضرب به الارض ، وقيل بل احتمله « يحموم » غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارض فدق ضلعه.

وثار أمير المؤمنين فانبرى الى عثمان فقال له :

ـ يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول6 بقول الوليد بن عقبة؟؟

ـ ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال

ـ احلت عن زبيد على غير ثقة!!(1)

وحمل امير المؤمنين ابن مسعود الى منزله فقام برعايته حتى أبل من مرضه ، فقاطعه عثمان ، وهجره ، ولم يأذن له في الخروج من يثرب ، كما قطع عطاءه ، ومرض ابن مسعود مرضه الذي توفى فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

ـ ما تشتكي؟

ـ ذنوبي

ـ فما تشتهي؟؟

ـ رحمة ربي

ـ ألا ادعو لك طبيبا؟

ـ الطبيب امرضني

__________________

(1) الانساب 5 / 36

٢٥٣

ـ آمر لك بعطائك

ـ منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينه وأنا مستغن عنه

ـ يكون لولدك

ـ رزقهم على الله

ـ استغفر لي يا ابا عبد الرحمن؟

ـ أسأل الله ان يأخذ لي منك بحقى

وانصرف عثمان ولم يظفر برضائه ولما ثقل حاله اوصى ان لا يصلي عليه عثمان ، وان يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر ، ولما انتقل الى دار الحق قامت الصفوة من اصحابه بأمره فدفنوه بالبقيع ، ولم يخبروا عثمان فلما علم غضب وقال : سبقتموني ، فرد عليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر قائلا :

« انه اوصى ان لا تصلي عليه »

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفى حياتي ما زودتني زادي(1)

لقد صب عثمان جام غضبه على ابن مسعود فاهانه وحقره وجفاه ، وقطع عطاءه ، واوعز الى شرطته بضربه ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، ولم يرع شبهه بالنبي فى هديه وسمته ، وماله من عظيم الجهاد وحسن البلاء في الاسلام ، لقد نقم منه عثمان لأنه انكر عليه منحه للوليد أموال المسلمين وهو خازن لها ، ولم يجد اي مبرر لهذا التلاعب في ميزانية الدولة ، فراح بوحى من دينه وعقيدته ينكر عليه ويشجب تصرفاته

__________________

(1) الانساب تأريخ ابن كثير 7 / 163 ، مستدرك الحاكم 3 / 13 وغيرها

٢٥٤

2 ـ أبو ذر

وأبو ذر أعظم شخصية عرفها التأريخ الاسلامى فقد تجسدت فيه جميع طاقات الاسلام ، وعناصره ومقوماته ، ووعى حقيقة الاسلام ، وتغذى بجوهره وواقعه ، وهو اقدم من سبق الى اعتناقه والايمان به(1) وجهر بالشهادتين أمام قريش فانبرت إليه عتاتهم فأوجعوه ضربا ، والهبوا جسمه بالسياط حتى كاد أن يتلف(2) ولم يثنه ذلك فقد انطلق كالمارد الجبار يدعو قومه الى الاسلام ، وهجر الاوثان ، وكان من ابرز الصحابة في علمه وورعه وتقواه وزهده وتحرجه في الدين ، وقد أثر عن رسول الله6 أنه قال فيه :

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة اصدق من أبي ذر ، من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى ابي ذر »(3)

لقد كان ازهد الناس فى الدنيا ، وأقلهم احتفالا بمنافعها ، وأشدهم خوفا من الله وانصرافا عن اباطيل الحياة ، وكان رسول الله6 يأتمنه حين لا يأتمن أحدا ، ويسر إليه حين لا يسر الى احد(4) وهو أحد الثلاثة الذي أحبهم الله ، وامر نبيه بحبهم(5) كما انه احد

__________________

(1) طبقات ابن سعد 4 / 161 ، وجاء فيه عن ابي ذر قال : كنت في الاسلام خامسا.

(2) مسند الامام احمد 5 / 174 ، مجمع الزوائد 9 / 329

(3) سنن ابن ماجة 1 / 68

(4) كنز العمال 8 / 15

(5) مجمع الزوائد 9 / 330

٢٥٥

الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة(1) .

ولما حدثت الفتن ، واستأثر عثمان مع بني أميّة بأموال المسلمين فكنزوا لأنفسهم ، واكثروا من شراء الضياع وبناء القصور وقف أبو ذر عملاق الامة الاسلامية فأخذ يندد ، ويهدد عثمان ، ويدعو المسلمين الى الثورة ، وقلب الحكم ، واعادة النظام الاسلامي الحافل بكل مقومات النهوض والارتقاء وتطبيق سياسته البناءة على واقع الحياة.

إن صيحة ابي ذر كانت صيحة رجل يقظ وعى الاسلام ، ووقف على اهدافه ، واحاط بواقعه فانه ليس من الاسلام فى شيء أن تستغل أموال المسلمين ، وتمنح للوجوه والاعيان ، فيمعنون في التلذذ والاسراف وقد اخذ الفقر بخناق المسلمين ، وعمت في بلادهم المجاعة والفاقة والبطالة فانكر أبو ذر ذلك ، واندفع بوحي من عقيدته الى تلك الصيحة التي دوخت عثمان وانكرها المستغلون من اتباعه. يقول الاستاذ السيد قطب : « إن صيحة ابي ذر كانت دفعة من دفعات الروح الاسلامى أنكرها الذين فسدت قلوبهم ولا يزال ينكرها امثالهم من مطايا الاستغلال فى هذه الايام ، لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير لم تخدره الاطماع امام تضخم فاحش فى الثروات يفرق الجماعة الاسلامية طبقات ، ويحطم الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها »(2)

وانطلق أبو ذر يوالي انكاره ، ومعارضته للحكم القائم لا يعبأ به ، ولا يبالي بشدة ارهابه وقسوته فكان يقف على اولئك الذين منحهم عثمان بهباته فيتلو قوله تعالى :( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 330

(2) العدالة الاجتماعية : ص 211

٢٥٦

فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ورفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان فارسل إليه ينهاه عن ذلك فقال أبو ذر :

« اينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله فو الله لأن ارضي الله بسخط عثمان أحب الي وخير لي من أن اسخط الله برضاه »

فالتاع عثمان من ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، وقد أعياه امر ابي ذر وضاق به ذرعا.

نفيه الى الشام

واستمر صاحب رسول الله في اداء رسالته الاصلاحية لم يصانع ولم يحاب ، وانما يبغي الحق ويلتمس وجه الله ورضاه ، وقد وجد عليه عثمان وامر بنفيه الى الشام ، ويقول الرواة : إن السبب في ذلك هو ان عثمان سأل حضار مجلسه فقال لهم :

« أيجوز ان يأخذ من المال فاذا ايسر قضى؟ »

فانبرى كعب الاحبار فأجاب عن سؤاله فقال :

« لا ارى بذلك بأسا »

ولما رأى أبو ذر كعب الاحبار يتدخل في امور الدين وهو يهودي النزعة ، ويشك في اسلامه غضب من ذلك ورد عليه قائلا :

« يا ابن اليهوديين. أتعلمنا ديننا؟ »

فثار عثمان وقال له :

« ما اكثر أذاك ، وأولعك بأصحابي؟ الحق بمكتبك في الشام. »

وذهب أبو ذر الى الشام ، فلما انتهى إليها ورأى منكرات معاوية وبدعه جعل ينكر على معاوية ويندد بالسياسة الاموية ، ويذيع مساوئ

٢٥٧

عثمان وبعد سيرته عن سيرة الرسول وسنته ، وقد نقم من معاوية حينما قال : المال مال الله ، فقال له : المال مال المسلمين ، وانكر عليه بناء الخضراء التي انفق عليها الاموال الطائلة من بيت المال فكان يقول له :

« يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وان كانت من مالك فهذا الاسراف؟ »

واخذ يوقظ النفوس ، ويبعث روح الثورة على معاوية فكان يقول لأهل الشام :

« والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها. والله ما هي فى كتاب الله ولا في سنة نبيه ، والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه »(1)

وكان الناس يسمعون قوله ، ويؤمنون بحديثه ، وخاف معاوية من دعوة أبي ذر فكتب الى عثمان يخبره بخطره على الشام ، فكتب عثمان إليه ان يرسله على اغلظ مركب وأوعره ، فارسله معاوية مع جماعة لا يعرفون مكانته ، ولا يحترمون مقامه فساروا به ليلا ونهارا حتى تسلخت بواطن أفخاذه وكاد ان يتلف ، ولما بلغ المدينة مضى في دعوته فكان ينكر على عثمان أشد الانكار ويقول له :

« تستعمل الصبيان ، وتحمى الحمى(2) وتقرب أولاد الطلقاء؟! »

__________________

(1) الانساب 5 / 52

(2) اشار بذلك الى ما فعله عثمان فى منحه جميع المراعى التي حول المدينة لبنى أميّة ترعى فيها اغنامهم ، وحمى مواشي المسلمين منها وهو مناف للسنة فانها جعلت المراعي التي لا مالك لها لجميع المسلمين لأنها من المباحات الاصلية ، وقد قال رسول الله (ص) : الناس شركاء فى ثلاث فى الكلأ والماء والنار.

٢٥٨

وانطلق يبين للمسلمين ما سمعه من رسول الله6 في ذم الامويين ، ومدى خطرهم على الاسلام يقول : قال رسول الله :

« اذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ودين الله دغلا »

واصدر عثمان اوامره بمنع مجالسة أبي ذر ، كما حرم الكلام معه ، والاختلاط به.

نفيه الى الربذة

وثقل أبو ذر على عثمان ، وضاق به ذرعا ، فقد ايقظ النفوس ، واوجد فيها وعيا أصيلا يبعثها على الثورة العارمة ، والاجهاز على النظام القائم الذي آثر الاغنياء بأموال الدولة ، وحجبها عن المصالح العامة ، الامر الذي أدى الى فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، وشيوع الفقر والمجاعة في البلاد.

ورأى عثمان ان خير وسيلة له من الخطر الذي يتهدده ابعاد ابي ذر عن يثرب ونفيه عن سائر الامصار الاسلامية الى بعض المجاهل والقرى التي لا تزدحم بالسكان ، فأرسل خلفه فلما حضر بادره أبو ذر بالكلام فقال له :

« ويحك يا عثمان!! أما رأيت رسول الله ، ورأيت ابا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبارين. »

فقطع عثمان كلامه ، وصاح به

ـ اخرج عنا من بلادنا

ـ اتخرجني من حرم رسول الله؟

ـ نعم وانفك راغم

٢٥٩

ـ اخرج الى مكة؟

ـ لا

ـ الى البصرة؟

ـ لا

ـ الى الكوفة

ـ لا

ـ الى اين اخرج؟

ـ الى الربذة حتى تموت فيها

وأوعز الى مروان باخراجه فورا من المدينة ، وهو مهان الجانب محقر الكيان ، وحرم على المسلمين ان يشايعوه ويخرجوا لتوديعه ، ولكن أهل الحق ، ومن طبعوا على نصرته ابوا إلا مخالفة عثمان فقد خف الامام أمير المؤمنين لتوديعه ، ومعه عقيل وعبد الله بن جعفر ، والحسن والحسين وبادر مروان الى الحسن فقال له :

« إيه يا حسن!! ألا تعلم ان عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟

فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك »

فحمل امير المؤمنين عليه ، وضرب أذنى راحلته بالسوط ، وصاح به : تنح نحاك الله الى النار ، وولى مروان منهزما الى عثمان يخبره بالحال.

ووقف الامام أمير المؤمنين على أبي ذر فودعه والقى إليه كلمات كانت له سلوى طيلة حياته في تلك البقعة الجرداء قال له :

« يا أبا ذر ، انك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما احوجهم الى ما منعتهم وما اغناك عما

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530