حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 214063 / تحميل: 8125
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

فالتاع هاشم واجابه

« تعيرني بعينى ، وإنما فقئت في سبيل الله ـ وكانت عينه اصيبت يوم اليرموك ـ ».

واصبح هاشم في داره مفطرا عملا بقول رسول الله٦ : « صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وفطر الناس لإفطاره ، وبلغ ذلك سعيدا ، فأرسل إليه وضربه ، وحرق داره ، وقد أثار حفائظ النفوس بهذا الاعتداء الصارخ على علم من أعلام الاسلام.

وأثر عنه انه قال : إنما السواد ـ اي سواد الكوفة ـ بستان لقريش فقام إليه الاشتر فقال له : أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ، وانضم الى الاشتر قراء المصر وفقهاؤهم فأيدوا مقالته ، وغضب صاحب شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا فقاموا إليه فضربوه ضربا منكرا حتى اغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وهم يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالب عثمان ، وسيئات قريش ، وجرائم بنى أميّة وكتب سعيد الى عثمان بخبره بأمر هؤلاء ، فأجابه عثمان ان يسيرهم الى الشام ، وكتب في نفس الوقت الى معاوية يأمره باستصلاحهم.

والمهم ان هؤلاء لم يرتكبوا اثما او فسادا ، ولم يقترفوا جرما حتى يستحقوا هذا التنكيل والنفى وانما نقدوا اميرهم لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، والاسلام قد منح الحرية التامة للمواطنين ، ومنها حرية النقد للحاكمين إن سلكوا غير الجادة ، وعدلوا عن الطريق القويم ، فعلى اي وجه يصحح نفيهم عن اوطانهم وهم لم يخلعوا يدا عن طاعة ولم يفارقوا جماعة وعلى أي حال فقد اخرجهم سعيد بالعنف ، وأرسلهم الى الشام

٢٤١

الى بلد لا يألفون الى اهلها ولا يسكنون الى من فيها ، وتلقاهم معاوية فانزلهم في كنيسة ، واجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويعظهم ولكنه لم ينجح في اقناعهم ، فقد كان منطقهم منطق الاحرار ، فأي ، مزية تمتاز بها قريش حتى يكون السواد ملكا لها ، وأي مأثرة صدرت لها حتى تمتاز على بقية العرب والمسلمين ، ولما يئس منهم معاوية كتب الى عثمان يستعفيه من بقائهم فى الشام خوفا من ان يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره ان يردهم الى الكوفة ، فعادوا إليها وهم مصرون على نقد الحكم القائم وأطلقوا السنتهم في ذكر مثالب سعيد ومعاوية وعثمان وأعاد سعيد الكتابة الى عثمان يطلب منه ابعاد القوم عن مصرهم ، فأجابه عثمان الى ذلك ، وأمره ان ينفيهم الى حمص والجزيرة فاخرجهم من وطنهم الى حمص ، فقابلهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عامل معاوية على حمص اعنف لقاء وأشده ، وأخذ يسومهم سوء العذاب ، ويقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، وكان اذا ركب أمر بهم فساروا حول ركابه ، ليظهر هوانهم واذلالهم ، ويغري الناس بانتقاصهم ولما رأوا تلك القسوة اظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة ، وطلبوا منه ان يقيلهم من ذنوبهم فأقالهم ، وكتب الى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله العفو عنهم فأجابه الى ذلك وردهم الى الكوفة ونزح سعيد بن العاص الى يثرب في مهمة له فوجد القوم هناك يشكونه الى عثمان ويسألونه عزله ، ولكن عثمان ابى وامتنع من اجابتهم ، وأمره ان يرجع الى عمله فقفل القوم راجعين الى مصرهم قبله فاحتلوا الكوفة وأقسموا ان لا يدخلها سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جمع بقيادة الاشتر حتى بلغوا الجرعة ، فانتظروا سعيدا فلما أقبل ردوه ومنعوه من دخول المصر ، وأجبروا عثمان على عزله وتولية غيره فاستجاب عثمان على

٢٤٢

كره منه لذلك.(١)

والمهم ان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص وهم قراء المصر وفقهاؤه ونفاهم عن اوطانهم وبالغ في ارهاقهم من أجل شاب طائش لأنه من ذويه واسرته الامر الذي أوجب شيوع التذمر وانتشار السخط عليه ، وكراهية الامة لحكمه.

٣ ـ عبد الله بن عامر

وعزل عثمان أبا موسى الاشعري عن ولاية البصرة ، واختار لها ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز(٢) فولاها اياه وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة(٣) وبلغ ذلك ابا موسى فقال للناس : « يأتيكم غلام خراج ولاج ، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.(٤)

والمهم أنه ولاه هذا المصر العظيم وهو شاب حدث السن ، وكان الاولى ان يختار له من خيار الصحابة وثقاتهم ليستفيد الناس من هديه وصلاحه ، ولكنه عمد الى اختيار هذا الفتى لأنه ابن خاله ، وقد سار في اثناء ولايته سيرة ترف وبذخ ، فكان ـ كما قال الاشعري ـ ولاجا خراجا فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء فقال الناس : لبس الامير جلد دب ، فغير لباسه ولبس جبة حمراء(٥) وقد انكر عليه

__________________

(١) الانساب ٥ / ٣٩ ـ ٤٣ ، تأريخ الطبري ٥ / ٨٨ ، تأريخ ابي الفداء ١ / ١٦٨

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٨٢ ، وجاء فيه ان أم عثمان اروى بنت كريز

(٣) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٢ / ٢٥٣

(٤) الكامل ٣ / ٣٨

(٥) اسد الغابة ٣ / ١٩٢

٢٤٣

عامر بن عبد الله التميمي الزاهد العابد وعاب عليه سياسته كما عاب على عثمان فقد روى الطبري : انه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، وما صنع فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه فارسلوا إليه عامر بن عبد الله ، ولما التقى به قال له :

« إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتق الله عز وجل وتب إليه ، وانزع عنها. »

فاحتقره عثمان وقد لسعه قوله فقال لمن حوله :

« انظروا الى هذا فان الناس يزعمون انه قارة ثم هو يجيء فيكلمنى في المحقرات ، فو الله ما يدري أين الله؟. »

فقال له عامر : أنا لا أدري اين الله؟

ـ نعم

ـ اني لأدرى أن الله بالمرصاد

وارسل عثمان الى مستشاريه وعماله فعرض عليهم الامر فأشار عليه عبد الله بن عامر فقال له :

« رأيي لك ، يا أمير المؤمنين ان تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمهرهم فى المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة احدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته »

واشار عليه آخرون بغير ذلك إلا انه استجاب الى رأى عبد الله فرد عماله ، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، كما عزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ، ويحتاجوا إليه.(١)

ولما وصل عبد الله بن عامر الى البصرة عمد الى التنكيل بعامر بن

__________________

(١) تأريخ الطبري ٥ / ٩٤ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٩

٢٤٤

عبد الله ، فقد اوعز الى عملائه واذنابه أن يشهدوا عنده بأن عامرا قد خالف المسلمين في امور أحلها الله فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ولا يشهد الجمعة(١) ورفع تقريرا الى عثمان فامره بنفيه الى الشام على قتب فحمل إليها ، وانزله معاوية ( الخضراء ) وبعث إليه بجارية ، وأمرها ان تتعرف على حاله وتكون عينا عليه ، فرأت أنه يقوم في الليل متعبدا ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يجىء بكسر من الخبز وبجعلها فى ماء ، ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرته الجارية بشأنه ، فكتب معاوية الى عثمان بأمره ، فأوعز إليه بصلته(٢)

وقد نقم المسلمون من عثمان لأنه نفى رجلا من صلحاء المسلمين(٣) وأبعده عن اهله ووطنه لأنه نقد عماله وعاب ولاته ، وليس لولي الامر الصلاحية في هذا النفي فانه إنما شرع لمن حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا.

وعلى اي حال فان عبد الله بن عامر ظل واليا على البصرة الى أن قتل عثمان فلما سمع بمقتله نهب ما في بيت المال ، وسار الى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضم إليهم ، وأمد المتمردين بالاموال ، وكان من عزمهم ان يتوجهوا الى الشام إلا انه صرفهم عنه ، وأشار عليهم بالمسير الى البصرة(٤)

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ / ١١٦

(٢) الاصابة ٣ / ٨٥

(٣) العقد الفريد ٢ / ٢٦١

(٤) اسد الغابة ٣ / ١٩٢

٢٤٥

٤ ـ معاوية بن أبي سفيان

ومعاوية بن أبي سفيان اكثر ولاة عثمان حظا ، وأعظمهم نفوذا ، واسبقهم امرة كما ان شعبه من اكثر الشعوب طاعة واخلاصا له قد أحبه وأحبهم ، وقد منحه عمر بالامارة ، وحباه بالولاية ، وأيده بجميع ألوان التأييد فرفع شأنه ، وأعلا قدره فكان في كل سنة يحاسب عماله ، ويشاطرهم أموالهم وان اكتسبوها بالتجارة او ربحوها بسائر الوجوه المشروعة ، سوى معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يشاطره ، ولم يتفقد اموره وانما كان يضفى عليه المديح والثناء ، ويبالغ في تسديده والاعتذار عنه ، فكانوا يقولون له : إنه يلبس الديباج والحرير وهو لباس محرم في الاسلام ، وانه يسرف ويبذخ وهو مجاف للنظم الادارية التي جاء بها الاسلام فانها تلزم الولاة بالاقتصاد وعدم البسط في العيش من أموال المسلمين.

كانوا يقولون لعمر ذلك : فيعتذر عنه ، ويقول : ذاك كسرى العرب ، ولو فرضنا انه كان كذلك فهل يباح له أن يلبس المحرم ، ويسرف في أموال المسلمين؟ ولم يكتف بهذا المد والتأييد ، فقد نفخ فيه روح الطموح ، وفتح له باب الامل بالخلافة ، فقد قال لأعضاء الشورى : « ان تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم ، غلبكم على هذا معاوية بن ابي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام(١) وقد دفعه ذلك الى الاتجاه للخلافة ، واتخاذ جميع الوسائل للظفر بالحكم ، واعلانه للتمرد على حكومة الامام أمير المؤمنين ، ومناجزته له ، كما سنذكر ذلك بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

وعلى اي حال فقد ظل معاوية واليا على الشام والاردن طيلة خلافة

__________________

(١) نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١ / ١٨٧

٢٤٦

عمر يتصرف حيثما شاء ، قد استأثر بالاموال فشرى بها الضمائر ، واحاط نفسه بالاتباع لا رقيب عليه ، ولم توجه له اي مسئولية ، وانما يرى التسديد ، والمديح والرضا بما يعمل ، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله ، وزاد في سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن ابن علقمة الكناني ، كما ضم إليه حمص بعد ان استعفاه عاملها عمير بن سعد الانصاري ، وبذلك خلصت له ارض الشام كلها ، واصبح من اعظم الولاة قوة ، ومن اكثرهم نفوذا ، واصبح قطره من اهم الاقطار الاسلامية وامنعها واكثرها هدوءا واستقرارا.

ومما لا شبهة فيه ان عثمان قد زاد في نفوذه ، ووسع رقعة سلطانه ، ومهد له نقل الخلافة الاسلامية الى آل ابي سفيان ، وقد صرح بذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« وليس من شك في ان عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم الى آل أبي سفيان وتثبيتها في بنى أميّة. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية فضم إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الارجاء ، وجمع له قيادة الاجناد الاربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر ، واطلق يده فى امور الشام اكثر مما اطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فاذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته. »(١)

إن عثمان قد عبّد له الطريق ، وأتاح له الفرصة لمنازعة أمير المؤمنين ومحاربته ، وارتكابه لفظائع المنكرات والموبقات ، وقتله صلحاء المسلمين

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ / ١٢٠

٢٤٧

وثقاتهم كحجر بن عدي واخوانه المؤمنين ، وغير ذلك من المآثم والجرائم

٥ ـ عبد الله بن سعد

وحبا عثمان اخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحه إمارة هذا القطر العظيم فجعل بيده امر صلاته وخراجه(١) وقبل ذلك منحه الاموال الطائلة ، ووهبه خمس غنائم إفريقية ، ولم يكن خليقا بذلك كله لأن له تأريخا أسودا حافلا بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركا بعد اسلامه ، وصار الى قريش بمكة يسخر بالنبي ويقول لهم : اني اصرفه حيث اريد ، واهدر النبي دمه يوم الفتح ، وان وجد متعلقا باستار الكعبة ، ففر الى عثمان ، واستجار به فغيبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكة أتى به الى النبي٦ فصمت طويلا ثم آمنه وعفا عنه فلما انصرف عثمان قال النبي٦ : ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ، فقال له رجل من الانصار : هلا أومأت الي يا رسول الله؟ فقال : إن النبي لا ينبغى ان تكون له خائنة الاعين(٢)

ونزل القرآن الكريم بكفره وذمه قال تعالى :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ) (٣) واجمع المفسرون أنه هو المعنى بهذه الآية ، وسبب ذلك انه لما نزلت الآية( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) دعاه النبي فأملاها عليه فلما انتهى الى قوله :( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) عجب عبد الله فى تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال

__________________

(١) الولاة والقضاة : ص ١١

(٢) تفسير القرطبى ٧ / ٤٠ ، تفسير الشوكاني ٢ / ١٣٤ ، سنن ابى داود ٢ / ٢٢٠

(٣) سورة الانعام : آية ٩٣

٢٤٨

النبي : هكذا انزلت علي فشك عبد الله ، وقال : لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحى إليه ، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال : فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين(١)

أمثل هذا المرتد الذي سخر بالنبي ورجع عن حظيرة الاسلام يكون واليا على المسلمين وتسلم له قيادتهم ، ويكون مؤتمنا على أموالهم ، ودمائهم إن ذلك والله هو الرزء القاصم الذي يذيب لفائف القلوب ، وتذوب النفوس من هوله اسى وحسرات ، أتعطي امارة المسلمين ، وتمنح اقطارهم وامصارهم الى اعداء الاسلام وخصومه الذين لم يألوا جهدا في البغى على الاسلام والكيد له فانا لله وإنا إليه راجعون.

وعلى اي حال فقد مكث الرجل واليا على مصر سنين ، وكلف المصريين فوق ما يطيقون ، وساسهم سياسة عنف وجور ، واظهر الكبرياء والغطرسة ، فضجر الناس منه ، وسئموا حكمه فخف أخيارهم يشكونه الى عثمان فبعث إليه رسالة يتهدده فيها ، ويتوعده بالعزل ان لم يئوب الى الرشاد ولكنه ابى أن ينزع عما نهاه ، ونكل بمن شكاه الى عثمان حتى قتله فخرج سبع مائة رجل من مصر الى يثرب فنزلوا الجامع ، وشكوا الى اصحاب النبيّ ما صنع بهم ابن ابي سرح ، فانبرى طلحة الى عثمان فكلمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة ان ينصف القوم من عاملهم ، ودخل عليه أمير المؤمنين فقال له :

« إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما فأعزله عنهم ، واقض بينهم ، فان وجب عليه حق فانصفهم منه ».

فاستجاب لذلك ، وقال لهم : اختاروا رجلا اوليه عليكم مكانه ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ / ٩٦ تفسير الخازن ٢ / ٣٧ الكشاف ١ / ٤٦١

٢٤٩

فاشار الناس عليه بمحمد بن ابي بكر فكتب عهده الى مصر ، ووجه معه عدة من المهاجرين والانصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن ابي سرح(١) ونزحوا عن يثرب فلما بلغوا الى المحل المعروف ( بحمس ) وإذا بقادم من المدينة تأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان فتفحصوا عن حاله واذا يحمل رسالة الى ابن ابي سرح يأمره التنكيل بالقوم ، تأملوا الكتاب فاذا هو بخط مروان ، فرجعوا الى يثرب ، وصمموا على خلع عثمان او قتله.

إن عثمان قد سمى لحتفه بظلفه ، وجر البلاء لنفسه ، وعرض الامة للخطوب والويلات في سبيل اسرته ، وتدعيم كيانها ، ولو أنه استجاب لرأي الامام ، والناصحين له فاقصى بنى أميّة عن مراكز الحكم لكان بمنجاة عن تلك الثورة التي اودت بحياته ، وفتحت باب الفتن بين المسلمين ، وفرقت كلمتهم ، وجعلتهم احزابا( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض عماله وولاته الذين ما استعملهم الا اثرة ومحاباة.

تنكيله بالصحابة :

ونكل عثمان بخيار المسلمين وثقاتهم من الذين أبلوا في الاسلام بلاء حسنا. وساهموا فى بنائه ، لأنهم عابوا عليه سياسته ، وطلبوا منه أن يسير على المحجة البيضاء ، ويهتدي بسنة الرسول ، ويقتفى اثره ، فلم يستجب لارشادهم ولم يثب لنصحهم ، فشددوا عليه فى المعارضة والنكير فصب عليهم جام غضبه ، وبالغ في اضطهادهم وارهاقهم ، وهم كما يلي :

١ ـ عبد الله بن مسعود

وعبد الله بن مسعود اشبه الناس هديا وسمتا برسول الله صلى الله

__________________

(١) الانساب ٥ / ٢٦

٢٥٠

عليه وآله(١) ويقول فيه رسول الله٦ : « من سره ان يقرأ القرآن غضا او رطبا كما انزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد »(٢) واثنى عليه قوم عند أمير المؤمنين فقال٧ : أقول فيه مثل ما قالوا : وهو أفضل من قرأ القرآن ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه فى الدين ، عالم بالسنة(٣) وهو ممن نزلت فيهم الآية الكريمة(٤) ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٥) وهو أيضا ممن نزلت فيهم الآية(٦) قال تعالى :( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٧)

ان عبد الله بن مسعود من أقطاب المسلمين فى هديه ، وصلاحه ، وورعه ، وتحرجه فى الدين ، سيره عمر فى عهده الى الكوفة مع عمار بن ياسر ، وكتب لأهل الكوفة كتابا جاء فيه :

« إني قد بعثت عمار بن ياسر اميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من اصحاب رسول الله من اهل بدر فاقتدوا بهما ، واطيعوا

__________________

(١) مسند احمد ٥ / ٣٨٩ ، حلية الاولياء ١ / ١٢٦ كنز العمال ٧ / ٥٥

(٢) صفة الصفوة ١ / ١٥٦ سنن ابن ماجة ١ / ٦٣

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ٣١٥

(٤) طبقات ابن سعد ٣ / ١٠٨

(٥) سورة آل عمران آية ١٧٢

(٦) تفسير الطبرى ٧ / ١٢٨ الدر المنثور ٣ / ١٣

(٧) سورة الانعام آية ٥٢

٢٥١

واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسى(١)

وبقى ابن مسعود فى الكوفة طيلة خلافة عمر وهو يفقه المسلمين فى دينهم ، ويعلمهم كتاب الله ، ويغذيهم بمعارف الاسلام وهديه ويرشدهم الى سواء السبيل ، وكان في نفس الوقت خازنا لبيت المال ، ولما آل الامر الى عثمان وبعث الوليد واليا على الكوفة جرت بينه وبين الوليد مشادة ـ ذكرناها عند البحث عن امارة الوليد على الكوفة ـ أوجبت أن يستقيل من منصبه وبقى فى الكوفة وقتا ثم غادرها فشيعه الكوفيون وحزنوا على فراقه ، وقالوا له عند وداعه :

« جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ، ونعم الخليل »

ثم ودعوه وانصرفوا وواصل ابن مسعود المسير حتى انتهى الى يثرب وكان عثمان على منبر رسول الله٦ يخطب فلما رآه قال للمسلمين وأشار الى ابن مسعود « ألا انه قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه يقىء ويسلح »

أيشتم صاحب رسول الله٦ بهذا الكلام المر ، ويقابل بمثل هذه الجفوة من أجل الوليد الذي خان الله ورسوله ونهب أموال المسلمين؟! ورد عليه ابن مسعود قائلا :

« لست كذلك ، ولكني صاحب رسول الله٦ يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان. »

وقد اثار كلام عثمان حفائظ النفوس فاندفعت عائشة تعلن انكارها وسخطها عليه قائلة :

__________________

(١) اسد الغابة ٣ / ٢٥٨

٢٥٢

« أي عثمان. اتقول هذا لصاحب رسول الله؟! »

وأمر عثمان جلاوزته فاخرجوا الصحابي العظيم من المسجد اخراجا عنيفا ، وقام إليه عبد الله بن زمعة فضرب به الارض ، وقيل بل احتمله « يحموم » غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارض فدق ضلعه.

وثار أمير المؤمنين فانبرى الى عثمان فقال له :

ـ يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول٦ بقول الوليد بن عقبة؟؟

ـ ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال

ـ احلت عن زبيد على غير ثقة!!(١)

وحمل امير المؤمنين ابن مسعود الى منزله فقام برعايته حتى أبل من مرضه ، فقاطعه عثمان ، وهجره ، ولم يأذن له في الخروج من يثرب ، كما قطع عطاءه ، ومرض ابن مسعود مرضه الذي توفى فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

ـ ما تشتكي؟

ـ ذنوبي

ـ فما تشتهي؟؟

ـ رحمة ربي

ـ ألا ادعو لك طبيبا؟

ـ الطبيب امرضني

__________________

(١) الانساب ٥ / ٣٦

٢٥٣

ـ آمر لك بعطائك

ـ منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينه وأنا مستغن عنه

ـ يكون لولدك

ـ رزقهم على الله

ـ استغفر لي يا ابا عبد الرحمن؟

ـ أسأل الله ان يأخذ لي منك بحقى

وانصرف عثمان ولم يظفر برضائه ولما ثقل حاله اوصى ان لا يصلي عليه عثمان ، وان يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر ، ولما انتقل الى دار الحق قامت الصفوة من اصحابه بأمره فدفنوه بالبقيع ، ولم يخبروا عثمان فلما علم غضب وقال : سبقتموني ، فرد عليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر قائلا :

« انه اوصى ان لا تصلي عليه »

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفى حياتي ما زودتني زادي(١)

لقد صب عثمان جام غضبه على ابن مسعود فاهانه وحقره وجفاه ، وقطع عطاءه ، واوعز الى شرطته بضربه ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، ولم يرع شبهه بالنبي فى هديه وسمته ، وماله من عظيم الجهاد وحسن البلاء في الاسلام ، لقد نقم منه عثمان لأنه انكر عليه منحه للوليد أموال المسلمين وهو خازن لها ، ولم يجد اي مبرر لهذا التلاعب في ميزانية الدولة ، فراح بوحى من دينه وعقيدته ينكر عليه ويشجب تصرفاته

__________________

(١) الانساب تأريخ ابن كثير ٧ / ١٦٣ ، مستدرك الحاكم ٣ / ١٣ وغيرها

٢٥٤

٢ ـ أبو ذر

وأبو ذر أعظم شخصية عرفها التأريخ الاسلامى فقد تجسدت فيه جميع طاقات الاسلام ، وعناصره ومقوماته ، ووعى حقيقة الاسلام ، وتغذى بجوهره وواقعه ، وهو اقدم من سبق الى اعتناقه والايمان به(١) وجهر بالشهادتين أمام قريش فانبرت إليه عتاتهم فأوجعوه ضربا ، والهبوا جسمه بالسياط حتى كاد أن يتلف(٢) ولم يثنه ذلك فقد انطلق كالمارد الجبار يدعو قومه الى الاسلام ، وهجر الاوثان ، وكان من ابرز الصحابة في علمه وورعه وتقواه وزهده وتحرجه في الدين ، وقد أثر عن رسول الله٦ أنه قال فيه :

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة اصدق من أبي ذر ، من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى ابي ذر »(٣)

لقد كان ازهد الناس فى الدنيا ، وأقلهم احتفالا بمنافعها ، وأشدهم خوفا من الله وانصرافا عن اباطيل الحياة ، وكان رسول الله٦ يأتمنه حين لا يأتمن أحدا ، ويسر إليه حين لا يسر الى احد(٤) وهو أحد الثلاثة الذي أحبهم الله ، وامر نبيه بحبهم(٥) كما انه احد

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ / ١٦١ ، وجاء فيه عن ابي ذر قال : كنت في الاسلام خامسا.

(٢) مسند الامام احمد ٥ / ١٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ٣٢٩

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٦٨

(٤) كنز العمال ٨ / ١٥

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ٣٣٠

٢٥٥

الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة(١) .

ولما حدثت الفتن ، واستأثر عثمان مع بني أميّة بأموال المسلمين فكنزوا لأنفسهم ، واكثروا من شراء الضياع وبناء القصور وقف أبو ذر عملاق الامة الاسلامية فأخذ يندد ، ويهدد عثمان ، ويدعو المسلمين الى الثورة ، وقلب الحكم ، واعادة النظام الاسلامي الحافل بكل مقومات النهوض والارتقاء وتطبيق سياسته البناءة على واقع الحياة.

إن صيحة ابي ذر كانت صيحة رجل يقظ وعى الاسلام ، ووقف على اهدافه ، واحاط بواقعه فانه ليس من الاسلام فى شيء أن تستغل أموال المسلمين ، وتمنح للوجوه والاعيان ، فيمعنون في التلذذ والاسراف وقد اخذ الفقر بخناق المسلمين ، وعمت في بلادهم المجاعة والفاقة والبطالة فانكر أبو ذر ذلك ، واندفع بوحي من عقيدته الى تلك الصيحة التي دوخت عثمان وانكرها المستغلون من اتباعه. يقول الاستاذ السيد قطب : « إن صيحة ابي ذر كانت دفعة من دفعات الروح الاسلامى أنكرها الذين فسدت قلوبهم ولا يزال ينكرها امثالهم من مطايا الاستغلال فى هذه الايام ، لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير لم تخدره الاطماع امام تضخم فاحش فى الثروات يفرق الجماعة الاسلامية طبقات ، ويحطم الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها »(٢)

وانطلق أبو ذر يوالي انكاره ، ومعارضته للحكم القائم لا يعبأ به ، ولا يبالي بشدة ارهابه وقسوته فكان يقف على اولئك الذين منحهم عثمان بهباته فيتلو قوله تعالى :( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ٣٣٠

(٢) العدالة الاجتماعية : ص ٢١١

٢٥٦

فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ورفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان فارسل إليه ينهاه عن ذلك فقال أبو ذر :

« اينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله فو الله لأن ارضي الله بسخط عثمان أحب الي وخير لي من أن اسخط الله برضاه »

فالتاع عثمان من ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، وقد أعياه امر ابي ذر وضاق به ذرعا.

نفيه الى الشام

واستمر صاحب رسول الله في اداء رسالته الاصلاحية لم يصانع ولم يحاب ، وانما يبغي الحق ويلتمس وجه الله ورضاه ، وقد وجد عليه عثمان وامر بنفيه الى الشام ، ويقول الرواة : إن السبب في ذلك هو ان عثمان سأل حضار مجلسه فقال لهم :

« أيجوز ان يأخذ من المال فاذا ايسر قضى؟ »

فانبرى كعب الاحبار فأجاب عن سؤاله فقال :

« لا ارى بذلك بأسا »

ولما رأى أبو ذر كعب الاحبار يتدخل في امور الدين وهو يهودي النزعة ، ويشك في اسلامه غضب من ذلك ورد عليه قائلا :

« يا ابن اليهوديين. أتعلمنا ديننا؟ »

فثار عثمان وقال له :

« ما اكثر أذاك ، وأولعك بأصحابي؟ الحق بمكتبك في الشام. »

وذهب أبو ذر الى الشام ، فلما انتهى إليها ورأى منكرات معاوية وبدعه جعل ينكر على معاوية ويندد بالسياسة الاموية ، ويذيع مساوئ

٢٥٧

عثمان وبعد سيرته عن سيرة الرسول وسنته ، وقد نقم من معاوية حينما قال : المال مال الله ، فقال له : المال مال المسلمين ، وانكر عليه بناء الخضراء التي انفق عليها الاموال الطائلة من بيت المال فكان يقول له :

« يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وان كانت من مالك فهذا الاسراف؟ »

واخذ يوقظ النفوس ، ويبعث روح الثورة على معاوية فكان يقول لأهل الشام :

« والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها. والله ما هي فى كتاب الله ولا في سنة نبيه ، والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه »(١)

وكان الناس يسمعون قوله ، ويؤمنون بحديثه ، وخاف معاوية من دعوة أبي ذر فكتب الى عثمان يخبره بخطره على الشام ، فكتب عثمان إليه ان يرسله على اغلظ مركب وأوعره ، فارسله معاوية مع جماعة لا يعرفون مكانته ، ولا يحترمون مقامه فساروا به ليلا ونهارا حتى تسلخت بواطن أفخاذه وكاد ان يتلف ، ولما بلغ المدينة مضى في دعوته فكان ينكر على عثمان أشد الانكار ويقول له :

« تستعمل الصبيان ، وتحمى الحمى(٢) وتقرب أولاد الطلقاء؟! »

__________________

(١) الانساب ٥ / ٥٢

(٢) اشار بذلك الى ما فعله عثمان فى منحه جميع المراعى التي حول المدينة لبنى أميّة ترعى فيها اغنامهم ، وحمى مواشي المسلمين منها وهو مناف للسنة فانها جعلت المراعي التي لا مالك لها لجميع المسلمين لأنها من المباحات الاصلية ، وقد قال رسول الله (ص) : الناس شركاء فى ثلاث فى الكلأ والماء والنار.

٢٥٨

وانطلق يبين للمسلمين ما سمعه من رسول الله٦ في ذم الامويين ، ومدى خطرهم على الاسلام يقول : قال رسول الله :

« اذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ودين الله دغلا »

واصدر عثمان اوامره بمنع مجالسة أبي ذر ، كما حرم الكلام معه ، والاختلاط به.

نفيه الى الربذة

وثقل أبو ذر على عثمان ، وضاق به ذرعا ، فقد ايقظ النفوس ، واوجد فيها وعيا أصيلا يبعثها على الثورة العارمة ، والاجهاز على النظام القائم الذي آثر الاغنياء بأموال الدولة ، وحجبها عن المصالح العامة ، الامر الذي أدى الى فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، وشيوع الفقر والمجاعة في البلاد.

ورأى عثمان ان خير وسيلة له من الخطر الذي يتهدده ابعاد ابي ذر عن يثرب ونفيه عن سائر الامصار الاسلامية الى بعض المجاهل والقرى التي لا تزدحم بالسكان ، فأرسل خلفه فلما حضر بادره أبو ذر بالكلام فقال له :

« ويحك يا عثمان!! أما رأيت رسول الله ، ورأيت ابا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبارين. »

فقطع عثمان كلامه ، وصاح به

ـ اخرج عنا من بلادنا

ـ اتخرجني من حرم رسول الله؟

ـ نعم وانفك راغم

٢٥٩

ـ اخرج الى مكة؟

ـ لا

ـ الى البصرة؟

ـ لا

ـ الى الكوفة

ـ لا

ـ الى اين اخرج؟

ـ الى الربذة حتى تموت فيها

وأوعز الى مروان باخراجه فورا من المدينة ، وهو مهان الجانب محقر الكيان ، وحرم على المسلمين ان يشايعوه ويخرجوا لتوديعه ، ولكن أهل الحق ، ومن طبعوا على نصرته ابوا إلا مخالفة عثمان فقد خف الامام أمير المؤمنين لتوديعه ، ومعه عقيل وعبد الله بن جعفر ، والحسن والحسين وبادر مروان الى الحسن فقال له :

« إيه يا حسن!! ألا تعلم ان عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟

فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك »

فحمل امير المؤمنين عليه ، وضرب أذنى راحلته بالسوط ، وصاح به : تنح نحاك الله الى النار ، وولى مروان منهزما الى عثمان يخبره بالحال.

ووقف الامام أمير المؤمنين على أبي ذر فودعه والقى إليه كلمات كانت له سلوى طيلة حياته في تلك البقعة الجرداء قال له :

« يا أبا ذر ، انك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما احوجهم الى ما منعتهم وما اغناك عما

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300


تاريخ البلاذري وحلية الأولياء(١) : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت، أبليل نزلت أم بنهار نزلت، في سهل أو جبل، إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً.

قوت القلوب: قال عليعليه‌السلام : لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير الفاتحة.(٢)

و منهم الفقهاء وهو أفقههم، فإنّه ما ظهر عن جميعهم ما ظهر عنه، ثمّ إنّ جميع فقهاء الأمصار إليه يرجعون، ومن بحره يغترفون.

أمّا أهل الكوفة ففقهاؤهم: سفيان الثوريّ، والحسن بن صالح بن حيّ، وشريك بن عبد الله، وابن أبي ليلى، وهؤلاء يفرّعون المسائل ويقولون: هذا قياس قول عليّ بن أبي طالب، ويترجمون الأبواب بذلك.

وأمّا أهل البصرة ففقهاؤهم: الحسن، وابن سيرين، وكلاهما كانا يأخذان عن ابن عبّاس، وهو أخذ عن عليّ بن أبي طالب(٣) ، وابن سيرين يفصح بأنّه أخذ عن أهل الكوفة وعن عبيدة السلماني(٤) ، وهو أخصّ الناس بعليّ صلوات الله عليه.

وأمّا أهل مكّة فأخذوا عن ابن عبّاس، وعن عليعليه‌السلام .

وأمّا أهل المدينة فعنه أخذوا.(٥)

____________

١ - أشراف الأنساب: ٢ / ٩٨ ح ٢٧ وص ٩٩ ح ٢٨، حلية الأولياء: ١ / ٦٧.

٢ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٣، عنه البحار: ٤٠ / ١٥٧. وما في الأصل وقع فيه التصحيف، وصحّحناه وفقاً لما في المناقب.

٣ - في المناقب: يأخذان عمّن أخذ عن عليّ.

٤ - في المناقب: السمعاني، وهو اشتباه. انظر جامع الرواة: ١ / ٥٣١.

٥ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٤، عنه البحار: ٤٠ / ١٥٨.


٣٠١


وقد صنّف الشافعي كتباً مفرداً في الدلالة على اتّباع أهل المدينة لعليعليه‌السلام وعبد الله.

و قال محمدبن الحسن الفقيه: لولا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ما علمنا حكم أهل البغي.

ولمحمد بن الحسن كتاب يشتمل على ثلاثمائة مسألة في قتال أهل البغي بناء على فعلهعليه‌السلام .(١)

مسند أبي حنيفة: هشام بن الحكم قال: قال الصادقعليه‌السلام لأبي حنيفة: من أين أخذت القياس؟

قال: من قول عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وزيد بن ثابت حين سألهما(٢) عمر في الجدّ مع الإخوة، فقال له عليعليه‌السلام : لو أنّ شجرة انشعب منها غصن، وانشعب(٣) من الغصن غصنان أيّما أقرب إلى أحد الغصنين، أصحابه الذي يخرج معه أم الشجرة؟

فقال زيد: لو أنّ جدولاً انبعث فيه(٤) ساقيه، وانبعث من الساقيه ساقيتان، أيّما أقرب، أحد الساقيتين إلى صاحبتهما أم الجدول؟(٥)

ومنهم الفرضيّون وهو أمهرهم(٦) . فضائل أحمد(٧) : قال عبد الله: إنّ أعلم

____________

١ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٤، عنه البحار: ٤٠ / ١٥٩.

٢ - في المناقب: شاهدهما.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: وانبعث.

٤ - كذا في المناقب، وفي الأصل: من.

٥ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٤، عنه البحار: ٤٠ / ١٥٩.

٦ - في المناقب: أشهرهم.

٧ - فضائل الصحابة: ١ / ٥٣٤ ح ٨٨٨.


٣٠٢


أهل المدينة بالفرائض عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

قال الشعبي: ما رأيت أفرض من علي بن أبي طالب، ولا أحسب منه، وقد سئل - وهو على المنبر يخطب -: رجل مات وترك امرأة وأبوين وابنتين، كم نصيب الامرأة؟

قالعليه‌السلام : صار ثمنها تسعاً، فلقّبت بالمسألة المنبريّة.

شرح ذلك: للأبوين السدسان، وللبنتين الثلثان، وللمرأة الثمن، عالت الفريضة فكان لها ثلاث من أربعة وعشرين ثمنها، فلمّا صارت إلى سبعة وعشرين صار ثمنها تسعاً، فإنّ ثلاثة من سبعة وعشرين تسعها، ويبقى أربعة وعشرون، للبنتين ستّة عشر وللأبوين ثمانية.

و هذا القول صدر منه صلوات الله عليه إمّا على سبيل الاستفهام، أو على قولهم صار ثمنها تسعاً(١) ، أو بيّن كيف [ يجيء ](٢) الحكم على مذهب من يقول بالعول، أو على سبيل الانكار فبيّن الحساب والجواب، والقسمة والنسبة بأوجز لفظ.(٣)

ومنه أنّه سئلعليه‌السلام عن عدد تخرج منه الآحاد صحاحاً لا كسر فيها، فقال من غير تروٍّ: اضرب أيّام سنتك في أيّام اُسبوعك، والآحاد هي النصف والثلث والربع والخمس، هكذا إلى العشرة.

ومنهم الرواة وهم نيّف وعشرون رجلاً، منهم: ابن عباس، وابن مسعود،

____________

١ - زاد في المناقب: أو على مذهب نفسه.

٢ - من المناقب.

٣ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٤، عنه البحار: ٤٠ / ١٥٩.


٣٠٣


[ وجابر الأنصاري، وأبو أيّوب، وأبو هريرة، وأنس، ](١) وأبو سعيد الخدري، وأبو رافع، وغيرهم، وهو صلوات الله عليه أكثرهم رواية، وأثبتهم(٢) حجّة، ومأمون الباطن، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ.

قال الترمذي(٣) والبلاذري(٤) : قيل لعليّ صلوات الله عليه: ما لك(٥) أكثر أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حديثاً؟

قال: كنت إذا سألته أنبأني، ,إذا سكتّ ابتدأني.(٦)

و منهم المتكلّمون وهو الأصل في الكلام. قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ ربّاني هذه الاُمّة.(٧)

قال صلوات الله عليه: أوّل معرفة الله توحيده، وأصل توحيده نفي الصفات عنه، إلى آخر العبر.

وهو الذي وضع اُصول الكلام وفرّع المتكلّمون على ذلك، فالإماميّة يرجعون إلى الصادقعليه‌السلام ، وهو إلى آبائه، والمعتزلة والزيديّة يرجعون إلى رواية القاضي عبد الجبّار [ بن ](٨) أحمد، عن أبي عبد الله الحسين البصري، وأبو إسحاق عبّاس، عن أبي هاشم الجبّائيّ، عن أبيه أبي علي، عن أبي يعقوب الشحّام، عن أبي الهذيل العلّاف، عن ابي عثمان الطويل، عن واصل بن

____________

١ و ٨ - من المناقب.

٢ - في المناقب: وأتقنهم.

٣ - الجامع الصحيح: ٥ / ٦٣٧ ح ٣٧٢٢.

٤ - أنساب الأشراف: ٢ / ٩٨ ح ٢٦.

٥ - في الماقب: ما بالك؟

٦ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٥، عنه البحار: ٤٠ / ١٥٩ - ١٦٠.

٧ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٥، عنه البحار: ٤٠ / ١٦٠.


٣٠٤


عطاء، عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي، عن أبيه محمد بن الحنفيّة، عن أبيه صلوات الله عليه.(١)

و منهم الخطباء والفصحاء، وهو أفصح الخلق، ألا ترى إلى خطبه مثل: خطبة التوحيد، [ والشقشقيّة ](٢) ، والهداية، والملاحم، واللؤلؤة، والغرّاء، والقاصعة، والافتخار، وخطبة الأشباح، والدرّة اليتيمة، والأقاليم، والوسيلة(٣) ، والطالوتيّة، والقصبيّة، والنخيليّة، والسلمانيّة، والناطقة، والدامغة، والفاضحة؟(٤)

بل تفكّر في نهج البلاغة فإنّ فيها عجباً لمن كان له حظّ من الذوق السليم، والفهم القويم، وأكثر الخطباء والبلغاء من مواعظه أخذوا، ومن شواظه اقتبسوا، وعلى مثاله احتذوا، وإذا تأمّل من له قلب سليم ولبّ مستقيم رأى من كلامه صلوات الله عليه ما يدلّ على أنّه صلوات الله عليه كان آية من آيات الله، وحجّة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دالّة على صحّة نبوّته، لكون كلامه قد اشتمل من أدلّة التوحيد، والتعظيم للملك المجيد، وإبطال كلّما يدّعى من دونه، وإدحاض حجّة من ألحد في آياته، وأبدع في صفاته، من الملاحدة والمشبّهة والمعطّلة والمجبّرة ما لا مزيد عليه.

وقد يذمّ مقال القائلين من متألّهة الحكماء كاُرسطوطاليس وجالينوس

____________

١ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٦، عنه البحار: ٤٠ / ١٦١.

٢ - من المناقب.

٣ - كذا في المناقب، وفي الأصل: والدرّة، واليتيمة، والوسيلة.

٤ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٧، عنه البحار: ٤٠ / ١٦٢.


٣٠٥


وبطليموس، وغيرهم ممّن وضع قوانين العلوم الربّانيّة، وشققوا الشعر في تحصيل القواعد الفلسفيّة، وغاصوا في بحار المعارف الإلهيّة، وهو صلوات الله عليه لم يتردّد إلى عالم غير سيّد المرسلين، ولم يكن بمكّة وما والاها من البلاد من أرباب العلوم الإلهيّة وغيرها من يسند عنه ذلك، وإنّما كانوا جاهليّة أجلافاً لا بصيرة لهم بالعلوم، ولا تمييز بين صحيح الفكر وفاسده، ولا استنباط دليل يهديهم إلى سبيل الرشاد، ولو كان لهم أدنى فكر صائب وترتيب مقدّمات تهديهم إلى سواء السبيل لم يتّخذوا الأصنام آلهة من دون الله، ولا نصبوا الأنصاب، ولا استقسموا بالأزلام، ولا بحروا البحيرة، ولا سيّبوا السائبة، ولا وصلوا الوصيلة، ولا وأدوا البنات، ولا عظّموا هبل واللات، ولم يعتقدوا من الجاهليّة، ولا أبطلوا القول بالدليل القاطع، ولم يقلّدوا آباءهم السالفين من لدن خندف إلى عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإنّما سمّوا جاهليّة لفرط جهلهم، وشدّة عنادهم، وعدم انقيادهم، فإذا خرج منهم رجل لم يتردّد إلى عالم، ولم يطالع ما دوّنه القدماء من المتألّهة في دفاترهم عن المنطقي والطبيعي والإلهي والعلوم الرياضيّة من الحساب والهندسة وغيرها، ثمّ أتى بكلام أبطل مقالهم، وأدحض حجّتهم، وأبطل شبهتهم، ودلّ على وحدة الصانع سبحانه وقدمه، وحدوث ما سواه، وعلى قدرته واختياره، وعلمه بالحريّ الزماني وغيره ممّا كان قبل أن يكون وما هو كائن، ونزّهه عمّا لا يليق بكماله، علم أنّ علمه من علم صاحب الشريعة الّذي علمه بالوحي الإلهي من حضرة واجب الوجود سبحانه تعلى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.(١)

__________________

١ - اقتباس من الآية: ٤٣ من سورة الإسراء.


٣٠٦


قال شيخنا وسيّدنا ومفخرنا السيد الجليل محمد الرضي الموسوي رضي الله عنه في خطبة كتاب نهج البلاغة: من كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ومن عجائبه التي تفرّد بها، وأمن المشاركة فيها أنّ كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر إذا تأمّله المتأمّل، وفكّر فيه المتفكّر، وخلع عن قلبه أنّه كلام مثله ممّن عظم قدره [ ونفذ أمره ](١) ، وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشكّ في أنه كلام مَن لا حظّ له في غير الزهادة، ولا شغل له في غير العبادة، قد قبع في كسر بيت(٢) ، أو انقطع في(٣) سفح جبل، لا يسمع الا حسّه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنّه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه يقطّ الرقاب(٤) ، ويجدّل الأبطال، ويعود به ينطف(٥) دماً، ويقطر مُهَجاً، وهو مع ذلك زاهد الزهّاد، وبدل الأبدال(٦) ، وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع [ بها ](٧) بين الأضداد، وألّف بين الأشتات.(٨)

قال الفاضل عبد الحميد بن أبي الحديد عند شرحه الخطبة الّتي قالها أمير المؤمنين صلوات الله عليه عند تلاوته( ألهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ) (٩) وهي: يا له

__________________

١ - من النهج.

٢ - كسر بيت: جانب الخباء.

٣ - في النهج: إلى.

٤ - يقطّ الرقاب: يقطعها عرضاً. فإن كان القطع طولاً قيل: يقدّ.

٥ - ينطف: يسيل.

٦ - الأبدال: قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم، إذا مات منهم واحد بدّل الله مكانه آخر، والواحد: بدل أو بديل.

٧ - من النهج والمناقب.

٨ - نهج البلاغة ( صبحى الصالح ): ٣٥ - ٣٦ وفي « عبده »: ١٢، عنه مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٩.

٩ - سورة التكاثر: ١.


٣٠٧


مراماً ما أبعده! [ وزَوراً ما أغفله! ](١) وخطراً ما أفظعه(٢) ! إلى آخرها(٣) ، وقد أتى في هذه الخطبة ما لا مزيد عليه من ذكر الموت، والتحذير من الدنيا، وما يؤول من الانسان إليه حين الموت من السكرات والغمرات، وذكر من اعتزّ بالدنيا وركن إليها:

هذا موضع المثل ملعا يا ظليم وإلاّ فالتّخوية(٤) ، مَن أراد أن يعظ ويخوّف الناس، ويعرّفهم قدر الدنيا وتقلّبها بأهلها فليأت بمثل هذا الكلام الفصيح في مثل هذه الموعظة البالغة وإلاّ فليسكت، فإنّ السكوت أصلح، والعيّ خير من منطق يفضح صاحبه.

ولعمري من وقف على هذه الخطبة علم مصداق قول معاوية: والله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره، وينبغي إذا اجتمع الفصحاء وتليت عليهم هذه الخطبة أن يسجدوا لها كما سجد الشعراء لقول عديّ بن الرقاع:

قلم أصابَ من الدواةِ مدادها(٥) .

فقيل لهم في ذلك، فقالوا: إنّا نعلم سجدات الشعر كما تعلمون أنتم سجدات القرآن.

وإنّي لاُطيل التعجّب من رجل يخطب في مقام الحرب بكلام يدلّ على أنّ طبعه مشابه لطباع الأسود والنمور وغيرهما من السباع الضارية، ثمّ يخطب

__________________

١ - من النهج: والزَور: الزائرون.

٢ - كذا في النهج، وفي الأصل: ما أوصفه.

٣ - نهج البلاغة ( صبحي الصالح ): ٣٣٨ خطبة رقم ٢٢١.

٤ - الملع: السير السريع. ويقال: خوّى الطائر، إذا أرسل جاحيه.

٥ - صدره:

تُزجِي أغنّ كأن إبرة روقه


٣٠٨


في ذلك المقام بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدلّ على أنّ طبعه مشابه لطباع الرهبان لابسي المُسوح الّذين يأكلون لحماً، ولم يريقوا(١) دماً قطّ، فتارة يكون في صورة سقراط الحبر اليونانيّ، ويوحنّا المعمدان الإسرائيلي، وعيسى بن مريم الإلهيّ، وتارة يكون في صورة عتيبة بن الحارث اليربوعيّ، وعامر بن الطفيل العامريّ، وبسطان بن قيس الشيبانيّ.

واُقسم بالذي تقسم الاُمم كلّها به ؛ لقد تلوت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرّة، وما تلوتها مرّة إلا وأحدثت في قلبي وجيباً، وفي أعضائي رعدة، وخيّل لي مصارع من مضى من أسلافي، وتصوّرت في نفسي أنّي أنا ذلك الشخص الذي وصف أمير المؤمنين صلوات الله عليه في قوله:

فكم أكلت الأرض من عزيز جسدٍ، وأنيق لون كان في الدنيا غذيّ ترف، وربيب شرف، إلى آخرها(٢) ؟

وكم قال الناس، وكم سمعت، وما دخل كلام ما دخل هذا الكلام من قلبي(٣) ، فإمّا أن يكون ذلك لفرط حبّي لصاحبه، أو أنّ نيّة القائل كانت صادقة، ويقينه ثابت، فصار لكلامه تأثير في النفوس.(٤)

وقال أيضاً الفاضل ابن ابي الحديد عند شرحه كلامه صلوات الله عليه في خطبة الأشباح(٥) : عالم السر من ضمائر(٦) المضمرين، إلى آخر الفصل: لو

__________________

١ - كذا في شرح النهج، وفي الأصل: يرتعوا.

٢ - نهج البلاغة ( صبحي الصالح ): ٢٤٠ خطبة رقم ٢٢١.

٣ - في شرح النهج: فلم أجد لشيء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي.

٤ - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١١ / ١٥٢ - ١٥٣.

٥ - نهج البلاغة ( صبحي الصالح ): ١٣٤ خطبة رقم ٩١.


٣٠٩


سمع النضر بن كنانة هذا الكلام لقال لقائله ما قاله عليّ بن العبّاس بن جريح لإسماعيل بن بلبل:

قالوا أبو الصَقرِ مِن شَيبانَ قلتُ لهم

حاشا وكلّا ولكن منهُ(٧) شَيبانٌ

وكم أبٍ قد عـلا بابنٍ ذًُرا شرف(٨)

كما علا برسولِ اللـهِ عدنان

إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان، بل كان يقرّ به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن(٩) ويقول له: إنّه لم يُعفِ ما شيّدتُ من معالم التوحيد، بل أخرج الله تعالى لك من ظهري ولداً ابتدع من علوم التوحيد في جاهليّة العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهليّة النبط(١٠) ، بل لو سمع هذا الكلام أرسطو طاليس القائل بأنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات ؛ لخشع قلبه، وقَفّ شعره(١١) ، وارتعدت فرائصه، واضطرب قلبه، أما ترى ما عليه من الرواء والجزالة والفخامة(١٢) ، مع ما قد اُشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة؟ لا أرى كلاماً قطّ يشبه هذا الكلام إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإنّه نبعة من تلك الشجرة، أو جدول

__________________

٦ - كذا في النهج، وفي الأصل: ضمير.

٧ - في شرح النهج: كلّا ولكن لعمري منه.

٨ - كذا في شرح النهج، وفي الأصل: بابن له شرفاً.

٩ - كذا في شرح النهج، وفي الأصل: بل كان يفخر على عدنان وقحطان، بل كان يفخر على إبراهيم الخليل.

١٠ - كذا في شرح النهج، وفي الأصل: ويقول له: إنّ الله قد أخرج من صلبي ولداً وسيّدا من معالم التوحيد في جاهليّة العرب ما لم تشيّده أنت في جاهليّة النبط.

١١ - كذا في شرح النهج، وفي الأصل: لا يعلم الحري الزماني لفقّ شعره.

١٢ - في شرح النهج: من الرواء والمهابة، والعظمة والفخامة، والمتانة والجزالة.


٣١٠


من ذلك البحر، أو جذوة من تلك النار.(١)

و منهم الفصحاء والبلغاء وهو أوفرهم حظّاً.

قال السيد الرضي الموسوي رضي الله عنه: كان أمير المؤمنينعليه‌السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها.(٢)

قال الجاحظ في كتاب الغرّة: كتب عليّ إلى معاوية: غرّك غزّك، فصار قصار ذلك ذلّك، فاخش فاحش فعلك فعلّك تهدأ بهذا، والسلام.(٣)

وروى أبو جعفر بن بابويه رضي الله عنه بإسناده عن الرضاعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام أنّ الصحابة اجتمعت فتذاكروا أنّ الألف أكثر دخولاً في الكلام من غيره، فارتجل صلوات الله عليه الخطبة المونقة(٤) وهي: حمدت من عظمت منّته، وسبقت نعمته، وسبقت رحمته(٥) ، وتمّت كلمته، ونفذت مشيئته، وبلغت قضيّته(٦) ، إلى آخرها.

ثم ارتجل صلوات الله عليه خطبة اُخرى على غير نقطة، أوّلها(٧) : الحمد

____________

١ - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ٧ / ٢٣ - ٢٤.

٢ - نهج البلاغة ( صبحي الصالح ): ٣٤.

٣ - مناقب ابن شهراشوب: ٢ / ٤٨، عنه البحار: ٤٠ / ١٦٣.

وأورد القطعة الأخيرة في مطالب السؤول: ١ / ١٧٦، عنه البحار: ٧٨ / ٨٣ ح ٨٦.

٤ - انظر: شرح نهج البلاغة: ١٩ / ١٤٠، الخرائج والجرائح: ٢ / ٧٤٠ ح ٥٦، كفاية الطالب: ٣٩٣، مطالب السؤول: ١ / ١٧٣، مصباح الكفعمي: ٧٤١ ف ٤٩، الصراط المستقيم: ١ / ٢٢٢، البحار: ٤١ / ٣٠٤ ح ٣٦، وج ٧٧ / ٣٤٠، إثبات الهداة: ٢ / ٤٩٩ ح ٣٧٢ وص ٥١٤ ح ٤٣٢ وص ٥١٩ ح ٤٥٧.

٥ - في بعض المصادر: وسبقت رحمته غضبه.

٦ - أي حكمه وقضاؤه.

٧ - في المناقب: من غير النقط، التي أوّلها.


٣١١


لله اهل الحمد ومأواه، وله أوكد الحمد(١) وأحلاه، واسرع الحمد وأسراه، واطهر الحمد وأسماه وأكرم الحمد وأولاه الي آخرها.

و مثل قوله: من جهل شيئاً عاداه مثل قوله سبحانه:( بَل كَذَّبُوا بِمَا لَم يُحِيطُوا بِعِلمِهِ ) (٢) ، وقوله: المرء مخبوء تحت لسانه، مثله:( وَلَتَعرِفَنَّهُم فِي لَحنِ القَولِ ) (٣) وقوله: قيمة كل امرىء ما يحسنه مثله(٤) : « إنَّ اللهَ اصطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بَسطَةً فِي العِلمِ وَالجِسمِ ».(٥) (٦)

ومنهم الشعراء والبلغاء [ وهو اشعرهم ].(٧)

قال الجاحظ في البيان والتبيين [ وفي كتاب فضائل بني هاشم أيضاً والبلاذري في أنساب الأشراف )(٨) : انَّ علياً كان أشعر الصحابه.

تاريخ البلاذري(٩) : كان ابوبكر يقول الشعر وعمر يقول الشعر وعثمان يقول الشعر وعلي أشعر الثلاثه.

ومنهم العروضيّون ومن داره خرجت دائره العروض.

روي أنّ الخليل بن احمد اخذ رسم العروض عن رجل من اصحاب محمد بن علي الباقر [ أو علي بن الحسين ](١٠) عليه‌السلام ، ووضع لذلك اُصولاً.

____________

١ - كذا في المناقب وفي الأصل: وأهل الحمدز

٢ - سورة يونس: ٣٩.

٣ - سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله : ٣٠.

٤ - كذا في المناقب، وفي الاصل: قوله.

٥ - سورة البقرة: ٢٤٧.

٦ - مناقب ابن شهر اشوب: ٤٨/٢، عنه البحار: ١٦٣/٤٠.

٧ و ٨ و ١٠ - من المناقب.

٩ - أنساب الأشراف: ٢/ ١٥٢ ح ١٥٥.


٣١٢


و منهم أصحاب اللغه العربّيه وهو أحكمهم.

قال أبو محمد القاسم(١) الحريري في كتابه درّة الغواص(٢) [ وابن فياض في شرح الاخبار ](٣) : إنّ الصحابه اختلفوا في الموءودة فقال لهم عليّعليه‌السلام : إنّها لا تكون موءودة حتى تاتي عليها التارات السبع.

فقال له عمر: صدقت اطال الله بقاءك أراد بذلك [ المبيّنه ](٤) بقوله سبحانه:( وَلَقَد خَلَقنَا الإنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِن طِينٍ ) (٥) إلى آخرها فاشار الي أنّه [ اذا ](٦) استهل بعد الولادة ثم دفن فقد وُئد.(٧)

ومنهم الوعّاظ وليس لأحد من الامثال والعبر [ والمواعظ ](٨) والزواجر ما له، نحو قوله: من زرع العدوان حصد الخسران، من ذكر المنيّه نسي الاُمنيّه من قعد به العقل قام به الجهل، يا أهل الغرور ما ألهجكم بدار خيرها زهيد، وشرّها عتيد ونعيمها مسلوب، [ وعزيزها منكوب ](٩) ومسالمها محروب، ومالكها مملوك، وتراثها متروك، وصنّف عبدالواحد الآمدي كتاب غرر الحكم(١٠) على حروف المعجم من كلامهعليه‌السلام .

ومنهم الفلاسفه وهو ارجحهمعليه‌السلام .

____________

١ - كذا الصحيح وفي الاصل: أبوالقاسم.

وهو ابو محمد القاسم بن علي الحريري، منسوب الي صناعه الحرير او بيعه، ولد قرب البصرة سنة ٤٤٦ ه‍، وتوفي فيها سنة ٥١٦ ه‍، « مقدمة كتاب: درّة الغواّص في أوهام الغواصّ ».

٢ - درّة الغواّص: ٨.

٣ و ٦ و ٨ و ٩ - من المناقب.

٤ - من المناقب. وفي درّة الغواّص: واراد عليّعليه‌السلام السبع طبقات الخلق السبعه المبيّنه في قوله تعالي.

٧ - قصدعليه‌السلام بذلك أن يدفع قولَ من توهم أن الحامل إذا اسقطت جنينها بالتداوي فقد وأدَته.

١٠ - غرر الحكم ودرر الكَلِم جمعه عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي المتوفي سنة « ٥١٠ » ه‍.


٣١٣


قال: آنا النقطة، انا الخط [ انا الخط، ](١) أنا النقطه، أنا النقطه والخطّ.

فقال جماعه: إن النقطه(٢) هي الأصل، والجسم حجابه والصوره حجاب الجسم لأنّ النقطه هي الأصل، والخط حجابه [ ومقامه ](٣) ، والحجاب غير الجسد الناسوتي.

و سئل صلوات الله عليه عن العالم العلوي، فقال: صور عاريه عن الموادّ، عاليه عن القوّه والاستعداد، تجلّى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت واُلقي في هويتّها مثاله فأظهر عنها أفعاله، وخلق الإنسان ذا نفسٍ ناطقه، إن زكّاها بالعلم فقد شابهت جواهر اوائل عللها، واذا عللها، واذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.

قال الشيخ الرئيس ابو علي سينا: لم يكن فيلسوفاً شجاعاً قطّ إلا عليّ بن ابي طالبعليه‌السلام .(٤)

ومنهم المجمّون وهو أكيسهم.

سعيد بن جبير، قال: استقبل أمير المؤمنينعليه‌السلام دهقان: قيل: ان اسمه كان مرخان بن شاسوا(٥) استقبله من المدائن الي جسر توران(٦) ، فقال: يا امير المؤمنين، تناحست النجوم الطالعات وتمازجت النحوس بالسعود(٧) ، واذا كان مثل هذا وجب على الحكيم الاختفاء ويومك هذا يوم صعب قد

____________

١ و ٣ - من المناقب.

٢ - في المنافقب: القدره.

٤ - مناقب ابن شهر اشوب: ٢ / ٤٨ - ٤٩ عنه البحار: ٤٠ / ١٦٤ - ٦٥.

٥ - في المناقب: وفي رواية قيس بن سعد: مرجان بن شاشوا.

٧ - في المناقب: وتناحست السعود بالنحوس.


٣١٤


اقترن فيه كوكبان، وانكفأ فيه الميزان، وانقدح من برجك النيران، وليس الحرب لك بمكان.

فقال أمير المؤمنين: أيّها الدهقان، المبنىء بالآثار، المخوف من الأقدار، ما كان البارحة صاحب الميزان، وفي أيّ برج كان صاحب السرطان؟ وكم الطالع من الأسد والساعات في الحركات؟ وكم بين السراري والزراري؟

قال: سأنظر في الاسطرلاب.

فتبسّم أمير المؤمنين وقال: ويلك يا دهقان، انت مسيّر الثابتات؟ أم كيف تقضي علي الحادثات(١) ؟ وأين ساعات الاسد من المطالع؟ وما الزهرة من التوابع والجوامع؟ وما دور السراري المحرّكات؟ وكم قدر شعاع المنيرات؟ وكم التحصيل بالغدوات؟

فقال: لا علم بذلك، يا أمير المؤمنين.

فقال له: يا دهقان، هل نتج علمك أنّه انتقل بيت ملك الصين، واحترقت دور بالزنج، وخمد بيت نار فارس، وانهدمت منارة الهند، وغرقت سرانديب، وانقضّ حصن الأندلس [ ونتج بترك الروم بالروميّه ](٢) . وفي رواية: البارحه وقع بيت بالصين، وانفرج برج ماجين، وسقط سور سرانديب، وانهزم بطريق الروم بأرمينية، وفقد ديّان اليهود بايلة، وهاج النمل بوادي النمل، وهلك ملك افريقية، أكنت عالماً بهذا؟

قال: لا يا أمير المؤمنين وفي رواية: أظنّك حكمت باختلاف المشتري وزحل، إنّما أنارا لك في الشفق، ولاح لك شعاع المرّيخ في السحر،

__________________

١ - في المناقب: الجاريات.

٢ - من المناقب.


٣١٥


واتّصل جرمه بجرم القمر.

ثم قال صلوات الله عليه: البارحه سعد سبعون ألف عالم، وولد في كلّ عالم سبعون ألفاً، والليله يموت مثلهم، وأومأ ما بيده إلي سعد بن مسعدة الخارجي(١) وكان جاسوساً للخوارج في عسكره، وقال: هذا منهم فظنّ الملعون بأنّه يقول: خذوه، فأخذ بنفسه فمات، فخرّ الدهقان ساجداً، فلمّا أفاق قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ألم أروّك من عين اليقين(٢) ؟

قال: بلي يا أمير المؤمنين.

فقالعليه‌السلام : أنا وصاحبي لا غريبّون ولا شرقيوّن، نحن ناشئه القطب واعلام الفلك، أمّا قولك انقدح من برجلك النيران(٣) ، فكان الواجب أن تحكم به لي لا عليَّ، اما نوره وضياؤه فعندي، وأمّا حريقه ولهبه فذهب عنّي، وهذه مسأله عقيمة احسبها ان كنت حاسباً.

فقال الدهقان: اشهد ان لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وأنّك وليّ الله(٤) .

قلت: اللّهمّ انك اطلعته علي اسرار عظمتك، واظهرته علي آثار قدرتك، وجعلت قلبه مشكاة مخزون علمك، ونفسه مرآة مكنون حلمك، وكشفت عن بصر بصيرته فشاهد غرائب حكمتك، وعرجت بروحه إلى

____________

١ - في المناقب: الحارثي.

٢ - في المناقب: التوفيق.

٣ - كذا في المناقب، وزاد في الأصل: وظهر منه السرطان وذكر في هامش البحار أن هذه الجمله مشطوب عليها في النسخ وهي أيضاً ليست في كلام الدهقان.

٤ - مناقب ابن شهر اشوب: ٢ / ٥١ - ٥٢، عنه البحار: ٤٠ / ١٦٦ - ١٦٨، ومدينه المعاجز: ٢ / ١٥٤ ح ٤٦٤.


٣١٦


الصفيح الأعلى فعاين عجائب صنعتك، وأريته ملكوت سماواتك فعلم من اختلاف حركاتها ما أشبه علي غيره واحصي بلطيف روحانيّته مقادير كلّ من أفلاكها وتقديره في مسيره، ولاحظ ما رصعت به أجرامها من درر دراريها وزواهرها، وزّينت صفيحها بجواهر نيّراتها من ثابتها وسائرها، فالشمس والقمر بحسبان حسابه عرف انتقالهما بتحّولهما، وبكشف صور الأشياء لهوّيته علم مقدار صعودهما وهبوطهما.

آتيته من لدنك علماً فخرق بتأييدك صفوف ملائكتك، وكشفت الحجاب عن بصيرته فشاهد صفات أشباحهم بعين عنايتك، فعرفنا هيئاتهم، واختلاف اشخاصهم وأعلمنا بتقارب درجاتهم وخواصّهم، حتى كأنّه عمّر فيهم عمره، وأقام بينهم دهره، وشاركهم في الإخلاص بعبادة معبودهم، وشابههم بخشوعهم في ركوعهم وسجودهم، وساواهم في الاذعان بالطاعة لربّهم، وساماهم في شرف منازلهم وقربهم.

فاصبح يخبرنا عن شدّة اجتهادهم في تعظيم مبدعهم واخلاص جهادهم في توجهّهم إلى معبودهم وتضرّعهم، ووصف لنا من عظم اجسادهم ما أذهل عقولنا واعلمنا من تفاوت أشباحهم ما حيرنا وارجف قلوبنا بقوله صلوات الله عليه: ثم فتق ما بين السماوات العلى فملأهنّ أطواراً من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون(١) ، ومسبّحون لا يسأمونَ - الى قوله صلوات الله: - ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفّعون(٢)

__________________

١ - أي قائمون صفوفاً لا يتفارقون.

٢ - التلفّع: الالتحاف بالثوب وهو أن يشتمل به حتى يجللّ. « لسان العرب: ٨/٣٢٠ -


٣١٧


تحته بأجنحتهم، مضروبه بينهم وبين من دونهم حجب العزةّ وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدّونه بالأماكن، ولا يشيرون اليه بالنظائر.(١)

فكان صلوات الله عليه في ذلك كما وصف نفسه بقوله: لأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الارض(٢) .

فبهذا أوضح لنا عرفان صفات أفلاكها، وبيّن هيئات نفوسها وأملاكها، وكشف عن خواص نيرّاتها، واختلاف حركاتها، وهبوطها وصعودها، ونحوسها وسعودها، واجتماعها وافتراقها، وما اجري سبحانه من العادة من حوادث العالم عند غروبها واشراقها، وتاثيرات أشعّة اجرامها في الأجسام الحيوانيّه والنباتيّة، وما أودع سبحانه في كرة العناصر من كمونها وظهورها بتقدير الارادة الواحديّة وأرانا أنّ القادر المختار قد جعل له التصرّف في العالم العلويّ كما جعله له التصرف في العالم السفليّ، وأوجب له فرض الولاية على كلّ روحاني وجسماني، فلهذا ردت له الشمس وعليه سلّمت، وانقادت له أملاكها وله أسلمت، وزوّجه الجليل سبحانه بسيدة نساء الدنيا والآخرة في صفوف ملأهم، وزادهم بحضور عقدة نكاحة شرفاً الي شرفهم، وجعل نثار طوبى لشهود عرسه نثراً، واثبت الإمامة والزعامة فيه وفي غرسه إلى حين حلول القيامة الكبرى.

فيا أصحاب الارصاد والزيجات، ومعتقدي التأثيرات بالاقترانات

__________________

لفع ».

١ - نهج البلاغه ( د. صبحي العالم ): ٤١ / ٤٢ خطبة رقم ١.

٢ - نهج البلاغه ( د. صبحي العالم ): ٢٨٠ خطبه رقم ١٨٩.


٣١٨


والامتزاجات، دسوا في التراب هامات رؤوسكم، وامحوا اسطرلابكم وبطليموسكم، فهذا هو العالم المطلق الّذي كشف الله له من حجب غيوبه كل مغلق وسقاه بالكأس الرويّة من عين اليقين، وجمع فيه ما تفرّق في غيره من علوم الأوّلين والآخرين، فقال سبحانه وهو أصدق القائلين:( وَكُلَّ شَىءٍ أحصَينَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ ) .(١)

اللّهمّ فبحقّ ما أوجبت له من فرض الطاعة على العامة والخاصة، وجعلت له بعد نبيّك الرئاسه العامة والخاصة، فصلّ على محمد وآل محمد وأرقمنا في دفاتر المخلصين من أرقّائه وخدمه، واثبتنا في جرائد المطوقين بطوق العبوديّة لخدمة شريف حرمه، إنّك علي كل شيء قدير.

و منهم الحسّاب، وكان صلوات الله عليه اعرف الصحابه بعلم الفرائض والحساب.

روي ابن ابي ليلي أنّ رجلين جلسا يتغدّيان في سفرٍ ومع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة، فمّر بهما ثالث فواكلاه، فلمّا نهض أعطاهما ثمانية دراهم عوضاً عمّا أكل.

فقال صاحب الخمسة: أنا آخذ بعدد أرغفتي وخذ انت بعدد أرغفتك، فأبي صاحب الثلاثة، واختصما وارتفعا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام .

فقال: هذا أمر فيه دناءة(٢) ، والخصومة فيه غير جميلة، والصلح أحسن. فقال صاحب الثلاثة: لا اُريد إلا مرّ الحقّ والقضاء.

فقالعليه‌السلام : إن كنت لا ترضي إلا بمرّ القضاء، فإنّ لك درهم واحد

____________

١ - سورة يس: ١٢.

٢ - كذا في المناقب، وفي الاصل: زيادة.


٣١٩


من الثمانية، ولصاحبك سبعه، أليس كانت لك ثلاثة أرغفة ولصاحبك خمسة؟ قال: بلى.

[ قال: ](١) فهذه اربعه وعشرون ثلثاً ؛ أكلت منها ثمانية والضيف ثمانيه، فلمّا أعطا كما الثمانية الدراهم كان لصاحبك سبعة ولك واحد.(٢)

و منهم أصحاب الكيمياء وهو أكثرهم حظّاً.

سئلعليه‌السلام عن الصنعه، فقال: هي اُخت النبوّه، وعصمة المروّة، والناس يتكلمّون فيها بالظاهر، واني لأعلم ظاهرها وباطنها، ما هي والله إلا ماء جامد، وهواء راكد، ونار جائلة، وأرض سائلة.

وسئلعليه‌السلام في أثناء خطبته عن الكيمياء: هل لها حقيقة؟

فقال: نعم، كانت وهي كائنه وستكون.

فقيل: من أيّ [ شيء ](٣) هي؟

قال: من الزئبق الرجراج، والاسرب والزاج، والحديد المزعفر، وزنجار النحاس الأخضر [ الحبور الا توقف على عابرهنّ ].(٤)

فقيل: فهمنا لا يبلغ إلى ذلك.

فقال: اجعلوا البعض أرضاً، واجعلوا البعض ماء، وأفلجوا الأرض بالماء فقد تمّ.

فقيل: زدنا، يا امير المؤمنين.

____________

١ و ٣ و ٤ - من المناقب.

٢ - رواه إبراهيم بن هاشم القمّي في كتابه « قضايا أمير المؤمنينعليه‌السلام » ح ١١٨ بإسناده إلى ابن ابي ليلي - وهو عندنا قيد التحقيق -.


٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530