حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213313 / تحميل: 8090
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

فالتاع هاشم واجابه

« تعيرني بعينى ، وإنما فقئت في سبيل الله ـ وكانت عينه اصيبت يوم اليرموك ـ ».

واصبح هاشم في داره مفطرا عملا بقول رسول الله٦ : « صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » وفطر الناس لإفطاره ، وبلغ ذلك سعيدا ، فأرسل إليه وضربه ، وحرق داره ، وقد أثار حفائظ النفوس بهذا الاعتداء الصارخ على علم من أعلام الاسلام.

وأثر عنه انه قال : إنما السواد ـ اي سواد الكوفة ـ بستان لقريش فقام إليه الاشتر فقال له : أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ والله لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ، وانضم الى الاشتر قراء المصر وفقهاؤهم فأيدوا مقالته ، وغضب صاحب شرطة سعيد فرد عليهم ردا غليظا فقاموا إليه فضربوه ضربا منكرا حتى اغمي عليه ، وقاموا من مجلسه وهم يطلقون ألسنتهم بنقده ، ويذكرون مثالب عثمان ، وسيئات قريش ، وجرائم بنى أميّة وكتب سعيد الى عثمان بخبره بأمر هؤلاء ، فأجابه عثمان ان يسيرهم الى الشام ، وكتب في نفس الوقت الى معاوية يأمره باستصلاحهم.

والمهم ان هؤلاء لم يرتكبوا اثما او فسادا ، ولم يقترفوا جرما حتى يستحقوا هذا التنكيل والنفى وانما نقدوا اميرهم لأنه شذ عن الطريق ، وقال غير الحق ، والاسلام قد منح الحرية التامة للمواطنين ، ومنها حرية النقد للحاكمين إن سلكوا غير الجادة ، وعدلوا عن الطريق القويم ، فعلى اي وجه يصحح نفيهم عن اوطانهم وهم لم يخلعوا يدا عن طاعة ولم يفارقوا جماعة وعلى أي حال فقد اخرجهم سعيد بالعنف ، وأرسلهم الى الشام

٢٤١

الى بلد لا يألفون الى اهلها ولا يسكنون الى من فيها ، وتلقاهم معاوية فانزلهم في كنيسة ، واجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويعظهم ولكنه لم ينجح في اقناعهم ، فقد كان منطقهم منطق الاحرار ، فأي ، مزية تمتاز بها قريش حتى يكون السواد ملكا لها ، وأي مأثرة صدرت لها حتى تمتاز على بقية العرب والمسلمين ، ولما يئس منهم معاوية كتب الى عثمان يستعفيه من بقائهم فى الشام خوفا من ان يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره ان يردهم الى الكوفة ، فعادوا إليها وهم مصرون على نقد الحكم القائم وأطلقوا السنتهم في ذكر مثالب سعيد ومعاوية وعثمان وأعاد سعيد الكتابة الى عثمان يطلب منه ابعاد القوم عن مصرهم ، فأجابه عثمان الى ذلك ، وأمره ان ينفيهم الى حمص والجزيرة فاخرجهم من وطنهم الى حمص ، فقابلهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد عامل معاوية على حمص اعنف لقاء وأشده ، وأخذ يسومهم سوء العذاب ، ويقابلهم بأغلظ القول وأفحشه ، وكان اذا ركب أمر بهم فساروا حول ركابه ، ليظهر هوانهم واذلالهم ، ويغري الناس بانتقاصهم ولما رأوا تلك القسوة اظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة ، وطلبوا منه ان يقيلهم من ذنوبهم فأقالهم ، وكتب الى عثمان يسترضيه عنهم ويسأله العفو عنهم فأجابه الى ذلك وردهم الى الكوفة ونزح سعيد بن العاص الى يثرب في مهمة له فوجد القوم هناك يشكونه الى عثمان ويسألونه عزله ، ولكن عثمان ابى وامتنع من اجابتهم ، وأمره ان يرجع الى عمله فقفل القوم راجعين الى مصرهم قبله فاحتلوا الكوفة وأقسموا ان لا يدخلها سعيد ما حملوا سيوفهم ، ثم خرجوا في جمع بقيادة الاشتر حتى بلغوا الجرعة ، فانتظروا سعيدا فلما أقبل ردوه ومنعوه من دخول المصر ، وأجبروا عثمان على عزله وتولية غيره فاستجاب عثمان على

٢٤٢

كره منه لذلك.(١)

والمهم ان عثمان قد نكل بالناقدين لسعيد بن العاص وهم قراء المصر وفقهاؤه ونفاهم عن اوطانهم وبالغ في ارهاقهم من أجل شاب طائش لأنه من ذويه واسرته الامر الذي أوجب شيوع التذمر وانتشار السخط عليه ، وكراهية الامة لحكمه.

٣ ـ عبد الله بن عامر

وعزل عثمان أبا موسى الاشعري عن ولاية البصرة ، واختار لها ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز(٢) فولاها اياه وهو ابن أربع أو خمس وعشرين سنة(٣) وبلغ ذلك ابا موسى فقال للناس : « يأتيكم غلام خراج ولاج ، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.(٤)

والمهم أنه ولاه هذا المصر العظيم وهو شاب حدث السن ، وكان الاولى ان يختار له من خيار الصحابة وثقاتهم ليستفيد الناس من هديه وصلاحه ، ولكنه عمد الى اختيار هذا الفتى لأنه ابن خاله ، وقد سار في اثناء ولايته سيرة ترف وبذخ ، فكان ـ كما قال الاشعري ـ ولاجا خراجا فهو أول من لبس الخز في البصرة ، وقد لبس جبة دكناء فقال الناس : لبس الامير جلد دب ، فغير لباسه ولبس جبة حمراء(٥) وقد انكر عليه

__________________

(١) الانساب ٥ / ٣٩ ـ ٤٣ ، تأريخ الطبري ٥ / ٨٨ ، تأريخ ابي الفداء ١ / ١٦٨

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٨٢ ، وجاء فيه ان أم عثمان اروى بنت كريز

(٣) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٢ / ٢٥٣

(٤) الكامل ٣ / ٣٨

(٥) اسد الغابة ٣ / ١٩٢

٢٤٣

عامر بن عبد الله التميمي الزاهد العابد وعاب عليه سياسته كما عاب على عثمان فقد روى الطبري : انه اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان ، وما صنع فاجتمع رأيهم أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه فارسلوا إليه عامر بن عبد الله ، ولما التقى به قال له :

« إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتق الله عز وجل وتب إليه ، وانزع عنها. »

فاحتقره عثمان وقد لسعه قوله فقال لمن حوله :

« انظروا الى هذا فان الناس يزعمون انه قارة ثم هو يجيء فيكلمنى في المحقرات ، فو الله ما يدري أين الله؟. »

فقال له عامر : أنا لا أدري اين الله؟

ـ نعم

ـ اني لأدرى أن الله بالمرصاد

وارسل عثمان الى مستشاريه وعماله فعرض عليهم الامر فأشار عليه عبد الله بن عامر فقال له :

« رأيي لك ، يا أمير المؤمنين ان تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وان تجمهرهم فى المغازي حتى يذلوا لك ، فلا يكون همة احدهم إلا نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته »

واشار عليه آخرون بغير ذلك إلا انه استجاب الى رأى عبد الله فرد عماله ، وأمرهم بالتضييق على من قبلهم ، وأمرهم بتجمير الناس في البعوث ، كما عزم على تحريم اعطياتهم ليطيعوه ، ويحتاجوا إليه.(١)

ولما وصل عبد الله بن عامر الى البصرة عمد الى التنكيل بعامر بن

__________________

(١) تأريخ الطبري ٥ / ٩٤ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٩

٢٤٤

عبد الله ، فقد اوعز الى عملائه واذنابه أن يشهدوا عنده بأن عامرا قد خالف المسلمين في امور أحلها الله فهو لا يأكل اللحم ، ولا يرى الزواج ولا يشهد الجمعة(١) ورفع تقريرا الى عثمان فامره بنفيه الى الشام على قتب فحمل إليها ، وانزله معاوية ( الخضراء ) وبعث إليه بجارية ، وأمرها ان تتعرف على حاله وتكون عينا عليه ، فرأت أنه يقوم في الليل متعبدا ويخرج من السحر فلا يعود إلا بعد العتمة ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يجىء بكسر من الخبز وبجعلها فى ماء ، ويشرب من ذلك الماء ، فأخبرته الجارية بشأنه ، فكتب معاوية الى عثمان بأمره ، فأوعز إليه بصلته(٢)

وقد نقم المسلمون من عثمان لأنه نفى رجلا من صلحاء المسلمين(٣) وأبعده عن اهله ووطنه لأنه نقد عماله وعاب ولاته ، وليس لولي الامر الصلاحية في هذا النفي فانه إنما شرع لمن حارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا.

وعلى اي حال فان عبد الله بن عامر ظل واليا على البصرة الى أن قتل عثمان فلما سمع بمقتله نهب ما في بيت المال ، وسار الى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضم إليهم ، وأمد المتمردين بالاموال ، وكان من عزمهم ان يتوجهوا الى الشام إلا انه صرفهم عنه ، وأشار عليهم بالمسير الى البصرة(٤)

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ / ١١٦

(٢) الاصابة ٣ / ٨٥

(٣) العقد الفريد ٢ / ٢٦١

(٤) اسد الغابة ٣ / ١٩٢

٢٤٥

٤ ـ معاوية بن أبي سفيان

ومعاوية بن أبي سفيان اكثر ولاة عثمان حظا ، وأعظمهم نفوذا ، واسبقهم امرة كما ان شعبه من اكثر الشعوب طاعة واخلاصا له قد أحبه وأحبهم ، وقد منحه عمر بالامارة ، وحباه بالولاية ، وأيده بجميع ألوان التأييد فرفع شأنه ، وأعلا قدره فكان في كل سنة يحاسب عماله ، ويشاطرهم أموالهم وان اكتسبوها بالتجارة او ربحوها بسائر الوجوه المشروعة ، سوى معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يشاطره ، ولم يتفقد اموره وانما كان يضفى عليه المديح والثناء ، ويبالغ في تسديده والاعتذار عنه ، فكانوا يقولون له : إنه يلبس الديباج والحرير وهو لباس محرم في الاسلام ، وانه يسرف ويبذخ وهو مجاف للنظم الادارية التي جاء بها الاسلام فانها تلزم الولاة بالاقتصاد وعدم البسط في العيش من أموال المسلمين.

كانوا يقولون لعمر ذلك : فيعتذر عنه ، ويقول : ذاك كسرى العرب ، ولو فرضنا انه كان كذلك فهل يباح له أن يلبس المحرم ، ويسرف في أموال المسلمين؟ ولم يكتف بهذا المد والتأييد ، فقد نفخ فيه روح الطموح ، وفتح له باب الامل بالخلافة ، فقد قال لأعضاء الشورى : « ان تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم ، غلبكم على هذا معاوية بن ابي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام(١) وقد دفعه ذلك الى الاتجاه للخلافة ، واتخاذ جميع الوسائل للظفر بالحكم ، واعلانه للتمرد على حكومة الامام أمير المؤمنين ، ومناجزته له ، كما سنذكر ذلك بالتفصيل في غضون هذا الكتاب.

وعلى اي حال فقد ظل معاوية واليا على الشام والاردن طيلة خلافة

__________________

(١) نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١ / ١٨٧

٢٤٦

عمر يتصرف حيثما شاء ، قد استأثر بالاموال فشرى بها الضمائر ، واحاط نفسه بالاتباع لا رقيب عليه ، ولم توجه له اي مسئولية ، وانما يرى التسديد ، والمديح والرضا بما يعمل ، وبعد وفاة عمر أقره عثمان على عمله ، وزاد في سلطانه فضم إليه فلسطين بعد موت عاملها عبد الرحمن ابن علقمة الكناني ، كما ضم إليه حمص بعد ان استعفاه عاملها عمير بن سعد الانصاري ، وبذلك خلصت له ارض الشام كلها ، واصبح من اعظم الولاة قوة ، ومن اكثرهم نفوذا ، واصبح قطره من اهم الاقطار الاسلامية وامنعها واكثرها هدوءا واستقرارا.

ومما لا شبهة فيه ان عثمان قد زاد في نفوذه ، ووسع رقعة سلطانه ، ومهد له نقل الخلافة الاسلامية الى آل ابي سفيان ، وقد صرح بذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« وليس من شك في ان عثمان هو الذي مهد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم الى آل أبي سفيان وتثبيتها في بنى أميّة. فعثمان هو الذي وسع على معاوية في الولاية فضم إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الارجاء ، وجمع له قيادة الاجناد الاربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين. ثم مد له في الولاية أثناء خلافته كلها كما فعل عمر ، واطلق يده فى امور الشام اكثر مما اطلقها عمر. فلما كانت الفتنة نظر معاوية فاذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيته. »(١)

إن عثمان قد عبّد له الطريق ، وأتاح له الفرصة لمنازعة أمير المؤمنين ومحاربته ، وارتكابه لفظائع المنكرات والموبقات ، وقتله صلحاء المسلمين

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ / ١٢٠

٢٤٧

وثقاتهم كحجر بن عدي واخوانه المؤمنين ، وغير ذلك من المآثم والجرائم

٥ ـ عبد الله بن سعد

وحبا عثمان اخاه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بولاية مصر ، ومنحه إمارة هذا القطر العظيم فجعل بيده امر صلاته وخراجه(١) وقبل ذلك منحه الاموال الطائلة ، ووهبه خمس غنائم إفريقية ، ولم يكن خليقا بذلك كله لأن له تأريخا أسودا حافلا بالآثام والموبقات فقد ارتد مشركا بعد اسلامه ، وصار الى قريش بمكة يسخر بالنبي ويقول لهم : اني اصرفه حيث اريد ، واهدر النبي دمه يوم الفتح ، وان وجد متعلقا باستار الكعبة ، ففر الى عثمان ، واستجار به فغيبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكة أتى به الى النبي٦ فصمت طويلا ثم آمنه وعفا عنه فلما انصرف عثمان قال النبي٦ : ما صمت الا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ، فقال له رجل من الانصار : هلا أومأت الي يا رسول الله؟ فقال : إن النبي لا ينبغى ان تكون له خائنة الاعين(٢)

ونزل القرآن الكريم بكفره وذمه قال تعالى :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ ) (٣) واجمع المفسرون أنه هو المعنى بهذه الآية ، وسبب ذلك انه لما نزلت الآية( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) دعاه النبي فأملاها عليه فلما انتهى الى قوله :( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) عجب عبد الله فى تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال

__________________

(١) الولاة والقضاة : ص ١١

(٢) تفسير القرطبى ٧ / ٤٠ ، تفسير الشوكاني ٢ / ١٣٤ ، سنن ابى داود ٢ / ٢٢٠

(٣) سورة الانعام : آية ٩٣

٢٤٨

النبي : هكذا انزلت علي فشك عبد الله ، وقال : لئن كان محمد صادقا لقد اوحي الي كما اوحى إليه ، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال : فارتد عن الاسلام ولحق بالمشركين(١)

أمثل هذا المرتد الذي سخر بالنبي ورجع عن حظيرة الاسلام يكون واليا على المسلمين وتسلم له قيادتهم ، ويكون مؤتمنا على أموالهم ، ودمائهم إن ذلك والله هو الرزء القاصم الذي يذيب لفائف القلوب ، وتذوب النفوس من هوله اسى وحسرات ، أتعطي امارة المسلمين ، وتمنح اقطارهم وامصارهم الى اعداء الاسلام وخصومه الذين لم يألوا جهدا في البغى على الاسلام والكيد له فانا لله وإنا إليه راجعون.

وعلى اي حال فقد مكث الرجل واليا على مصر سنين ، وكلف المصريين فوق ما يطيقون ، وساسهم سياسة عنف وجور ، واظهر الكبرياء والغطرسة ، فضجر الناس منه ، وسئموا حكمه فخف أخيارهم يشكونه الى عثمان فبعث إليه رسالة يتهدده فيها ، ويتوعده بالعزل ان لم يئوب الى الرشاد ولكنه ابى أن ينزع عما نهاه ، ونكل بمن شكاه الى عثمان حتى قتله فخرج سبع مائة رجل من مصر الى يثرب فنزلوا الجامع ، وشكوا الى اصحاب النبيّ ما صنع بهم ابن ابي سرح ، فانبرى طلحة الى عثمان فكلمه بكلام شديد ، وأرسلت إليه عائشة ان ينصف القوم من عاملهم ، ودخل عليه أمير المؤمنين فقال له :

« إنما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما فأعزله عنهم ، واقض بينهم ، فان وجب عليه حق فانصفهم منه ».

فاستجاب لذلك ، وقال لهم : اختاروا رجلا اوليه عليكم مكانه ،

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ / ٩٦ تفسير الخازن ٢ / ٣٧ الكشاف ١ / ٤٦١

٢٤٩

فاشار الناس عليه بمحمد بن ابي بكر فكتب عهده الى مصر ، ووجه معه عدة من المهاجرين والانصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن ابي سرح(١) ونزحوا عن يثرب فلما بلغوا الى المحل المعروف ( بحمس ) وإذا بقادم من المدينة تأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان فتفحصوا عن حاله واذا يحمل رسالة الى ابن ابي سرح يأمره التنكيل بالقوم ، تأملوا الكتاب فاذا هو بخط مروان ، فرجعوا الى يثرب ، وصمموا على خلع عثمان او قتله.

إن عثمان قد سمى لحتفه بظلفه ، وجر البلاء لنفسه ، وعرض الامة للخطوب والويلات في سبيل اسرته ، وتدعيم كيانها ، ولو أنه استجاب لرأي الامام ، والناصحين له فاقصى بنى أميّة عن مراكز الحكم لكان بمنجاة عن تلك الثورة التي اودت بحياته ، وفتحت باب الفتن بين المسلمين ، وفرقت كلمتهم ، وجعلتهم احزابا( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض عماله وولاته الذين ما استعملهم الا اثرة ومحاباة.

تنكيله بالصحابة :

ونكل عثمان بخيار المسلمين وثقاتهم من الذين أبلوا في الاسلام بلاء حسنا. وساهموا فى بنائه ، لأنهم عابوا عليه سياسته ، وطلبوا منه أن يسير على المحجة البيضاء ، ويهتدي بسنة الرسول ، ويقتفى اثره ، فلم يستجب لارشادهم ولم يثب لنصحهم ، فشددوا عليه فى المعارضة والنكير فصب عليهم جام غضبه ، وبالغ في اضطهادهم وارهاقهم ، وهم كما يلي :

١ ـ عبد الله بن مسعود

وعبد الله بن مسعود اشبه الناس هديا وسمتا برسول الله صلى الله

__________________

(١) الانساب ٥ / ٢٦

٢٥٠

عليه وآله(١) ويقول فيه رسول الله٦ : « من سره ان يقرأ القرآن غضا او رطبا كما انزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد »(٢) واثنى عليه قوم عند أمير المؤمنين فقال٧ : أقول فيه مثل ما قالوا : وهو أفضل من قرأ القرآن ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه فى الدين ، عالم بالسنة(٣) وهو ممن نزلت فيهم الآية الكريمة(٤) ( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (٥) وهو أيضا ممن نزلت فيهم الآية(٦) قال تعالى :( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٧)

ان عبد الله بن مسعود من أقطاب المسلمين فى هديه ، وصلاحه ، وورعه ، وتحرجه فى الدين ، سيره عمر فى عهده الى الكوفة مع عمار بن ياسر ، وكتب لأهل الكوفة كتابا جاء فيه :

« إني قد بعثت عمار بن ياسر اميرا وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا وهما من النجباء من اصحاب رسول الله من اهل بدر فاقتدوا بهما ، واطيعوا

__________________

(١) مسند احمد ٥ / ٣٨٩ ، حلية الاولياء ١ / ١٢٦ كنز العمال ٧ / ٥٥

(٢) صفة الصفوة ١ / ١٥٦ سنن ابن ماجة ١ / ٦٣

(٣) مستدرك الحاكم ٣ / ٣١٥

(٤) طبقات ابن سعد ٣ / ١٠٨

(٥) سورة آل عمران آية ١٧٢

(٦) تفسير الطبرى ٧ / ١٢٨ الدر المنثور ٣ / ١٣

(٧) سورة الانعام آية ٥٢

٢٥١

واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد الله على نفسى(١)

وبقى ابن مسعود فى الكوفة طيلة خلافة عمر وهو يفقه المسلمين فى دينهم ، ويعلمهم كتاب الله ، ويغذيهم بمعارف الاسلام وهديه ويرشدهم الى سواء السبيل ، وكان في نفس الوقت خازنا لبيت المال ، ولما آل الامر الى عثمان وبعث الوليد واليا على الكوفة جرت بينه وبين الوليد مشادة ـ ذكرناها عند البحث عن امارة الوليد على الكوفة ـ أوجبت أن يستقيل من منصبه وبقى فى الكوفة وقتا ثم غادرها فشيعه الكوفيون وحزنوا على فراقه ، وقالوا له عند وداعه :

« جزيت خيرا فلقد علمت جاهلنا ، وثبت عالمنا ، وأقرأتنا القرآن وفقهتنا في الدين ، فنعم أخو الاسلام أنت ، ونعم الخليل »

ثم ودعوه وانصرفوا وواصل ابن مسعود المسير حتى انتهى الى يثرب وكان عثمان على منبر رسول الله٦ يخطب فلما رآه قال للمسلمين وأشار الى ابن مسعود « ألا انه قدمت عليكم دويبة سوء ، من يمشي على طعامه يقىء ويسلح »

أيشتم صاحب رسول الله٦ بهذا الكلام المر ، ويقابل بمثل هذه الجفوة من أجل الوليد الذي خان الله ورسوله ونهب أموال المسلمين؟! ورد عليه ابن مسعود قائلا :

« لست كذلك ، ولكني صاحب رسول الله٦ يوم بدر ، ويوم بيعة الرضوان. »

وقد اثار كلام عثمان حفائظ النفوس فاندفعت عائشة تعلن انكارها وسخطها عليه قائلة :

__________________

(١) اسد الغابة ٣ / ٢٥٨

٢٥٢

« أي عثمان. اتقول هذا لصاحب رسول الله؟! »

وأمر عثمان جلاوزته فاخرجوا الصحابي العظيم من المسجد اخراجا عنيفا ، وقام إليه عبد الله بن زمعة فضرب به الارض ، وقيل بل احتمله « يحموم » غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارض فدق ضلعه.

وثار أمير المؤمنين فانبرى الى عثمان فقال له :

ـ يا عثمان ، أتفعل هذا بصاحب رسول٦ بقول الوليد بن عقبة؟؟

ـ ما بقول الوليد فعلت هذا ، ولكن وجهت زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة ، فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال

ـ احلت عن زبيد على غير ثقة!!(١)

وحمل امير المؤمنين ابن مسعود الى منزله فقام برعايته حتى أبل من مرضه ، فقاطعه عثمان ، وهجره ، ولم يأذن له في الخروج من يثرب ، كما قطع عطاءه ، ومرض ابن مسعود مرضه الذي توفى فيه فدخل عليه عثمان عائدا فقال له :

ـ ما تشتكي؟

ـ ذنوبي

ـ فما تشتهي؟؟

ـ رحمة ربي

ـ ألا ادعو لك طبيبا؟

ـ الطبيب امرضني

__________________

(١) الانساب ٥ / ٣٦

٢٥٣

ـ آمر لك بعطائك

ـ منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطينه وأنا مستغن عنه

ـ يكون لولدك

ـ رزقهم على الله

ـ استغفر لي يا ابا عبد الرحمن؟

ـ أسأل الله ان يأخذ لي منك بحقى

وانصرف عثمان ولم يظفر برضائه ولما ثقل حاله اوصى ان لا يصلي عليه عثمان ، وان يصلي عليه صاحبه عمار بن ياسر ، ولما انتقل الى دار الحق قامت الصفوة من اصحابه بأمره فدفنوه بالبقيع ، ولم يخبروا عثمان فلما علم غضب وقال : سبقتموني ، فرد عليه الطيب ابن الطيب عمار بن ياسر قائلا :

« انه اوصى ان لا تصلي عليه »

وقال ابن الزبير :

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفى حياتي ما زودتني زادي(١)

لقد صب عثمان جام غضبه على ابن مسعود فاهانه وحقره وجفاه ، وقطع عطاءه ، واوعز الى شرطته بضربه ، وفرض عليه الاقامة الجبرية في يثرب ، ولم يرع شبهه بالنبي فى هديه وسمته ، وماله من عظيم الجهاد وحسن البلاء في الاسلام ، لقد نقم منه عثمان لأنه انكر عليه منحه للوليد أموال المسلمين وهو خازن لها ، ولم يجد اي مبرر لهذا التلاعب في ميزانية الدولة ، فراح بوحى من دينه وعقيدته ينكر عليه ويشجب تصرفاته

__________________

(١) الانساب تأريخ ابن كثير ٧ / ١٦٣ ، مستدرك الحاكم ٣ / ١٣ وغيرها

٢٥٤

٢ ـ أبو ذر

وأبو ذر أعظم شخصية عرفها التأريخ الاسلامى فقد تجسدت فيه جميع طاقات الاسلام ، وعناصره ومقوماته ، ووعى حقيقة الاسلام ، وتغذى بجوهره وواقعه ، وهو اقدم من سبق الى اعتناقه والايمان به(١) وجهر بالشهادتين أمام قريش فانبرت إليه عتاتهم فأوجعوه ضربا ، والهبوا جسمه بالسياط حتى كاد أن يتلف(٢) ولم يثنه ذلك فقد انطلق كالمارد الجبار يدعو قومه الى الاسلام ، وهجر الاوثان ، وكان من ابرز الصحابة في علمه وورعه وتقواه وزهده وتحرجه في الدين ، وقد أثر عن رسول الله٦ أنه قال فيه :

« ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة اصدق من أبي ذر ، من سره أن ينظر الى زهد عيسى بن مريم فلينظر الى ابي ذر »(٣)

لقد كان ازهد الناس فى الدنيا ، وأقلهم احتفالا بمنافعها ، وأشدهم خوفا من الله وانصرافا عن اباطيل الحياة ، وكان رسول الله٦ يأتمنه حين لا يأتمن أحدا ، ويسر إليه حين لا يسر الى احد(٤) وهو أحد الثلاثة الذي أحبهم الله ، وامر نبيه بحبهم(٥) كما انه احد

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٤ / ١٦١ ، وجاء فيه عن ابي ذر قال : كنت في الاسلام خامسا.

(٢) مسند الامام احمد ٥ / ١٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ٣٢٩

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٦٨

(٤) كنز العمال ٨ / ١٥

(٥) مجمع الزوائد ٩ / ٣٣٠

٢٥٥

الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة(١) .

ولما حدثت الفتن ، واستأثر عثمان مع بني أميّة بأموال المسلمين فكنزوا لأنفسهم ، واكثروا من شراء الضياع وبناء القصور وقف أبو ذر عملاق الامة الاسلامية فأخذ يندد ، ويهدد عثمان ، ويدعو المسلمين الى الثورة ، وقلب الحكم ، واعادة النظام الاسلامي الحافل بكل مقومات النهوض والارتقاء وتطبيق سياسته البناءة على واقع الحياة.

إن صيحة ابي ذر كانت صيحة رجل يقظ وعى الاسلام ، ووقف على اهدافه ، واحاط بواقعه فانه ليس من الاسلام فى شيء أن تستغل أموال المسلمين ، وتمنح للوجوه والاعيان ، فيمعنون في التلذذ والاسراف وقد اخذ الفقر بخناق المسلمين ، وعمت في بلادهم المجاعة والفاقة والبطالة فانكر أبو ذر ذلك ، واندفع بوحي من عقيدته الى تلك الصيحة التي دوخت عثمان وانكرها المستغلون من اتباعه. يقول الاستاذ السيد قطب : « إن صيحة ابي ذر كانت دفعة من دفعات الروح الاسلامى أنكرها الذين فسدت قلوبهم ولا يزال ينكرها امثالهم من مطايا الاستغلال فى هذه الايام ، لقد كانت هذه الصيحة يقظة ضمير لم تخدره الاطماع امام تضخم فاحش فى الثروات يفرق الجماعة الاسلامية طبقات ، ويحطم الاسس التي جاء هذا الدين ليقيمها »(٢)

وانطلق أبو ذر يوالي انكاره ، ومعارضته للحكم القائم لا يعبأ به ، ولا يبالي بشدة ارهابه وقسوته فكان يقف على اولئك الذين منحهم عثمان بهباته فيتلو قوله تعالى :( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ٣٣٠

(٢) العدالة الاجتماعية : ص ٢١١

٢٥٦

فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ورفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان فارسل إليه ينهاه عن ذلك فقال أبو ذر :

« اينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله فو الله لأن ارضي الله بسخط عثمان أحب الي وخير لي من أن اسخط الله برضاه »

فالتاع عثمان من ذلك ، ولكنه كظم غيظه ، وقد أعياه امر ابي ذر وضاق به ذرعا.

نفيه الى الشام

واستمر صاحب رسول الله في اداء رسالته الاصلاحية لم يصانع ولم يحاب ، وانما يبغي الحق ويلتمس وجه الله ورضاه ، وقد وجد عليه عثمان وامر بنفيه الى الشام ، ويقول الرواة : إن السبب في ذلك هو ان عثمان سأل حضار مجلسه فقال لهم :

« أيجوز ان يأخذ من المال فاذا ايسر قضى؟ »

فانبرى كعب الاحبار فأجاب عن سؤاله فقال :

« لا ارى بذلك بأسا »

ولما رأى أبو ذر كعب الاحبار يتدخل في امور الدين وهو يهودي النزعة ، ويشك في اسلامه غضب من ذلك ورد عليه قائلا :

« يا ابن اليهوديين. أتعلمنا ديننا؟ »

فثار عثمان وقال له :

« ما اكثر أذاك ، وأولعك بأصحابي؟ الحق بمكتبك في الشام. »

وذهب أبو ذر الى الشام ، فلما انتهى إليها ورأى منكرات معاوية وبدعه جعل ينكر على معاوية ويندد بالسياسة الاموية ، ويذيع مساوئ

٢٥٧

عثمان وبعد سيرته عن سيرة الرسول وسنته ، وقد نقم من معاوية حينما قال : المال مال الله ، فقال له : المال مال المسلمين ، وانكر عليه بناء الخضراء التي انفق عليها الاموال الطائلة من بيت المال فكان يقول له :

« يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وان كانت من مالك فهذا الاسراف؟ »

واخذ يوقظ النفوس ، ويبعث روح الثورة على معاوية فكان يقول لأهل الشام :

« والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها. والله ما هي فى كتاب الله ولا في سنة نبيه ، والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه »(١)

وكان الناس يسمعون قوله ، ويؤمنون بحديثه ، وخاف معاوية من دعوة أبي ذر فكتب الى عثمان يخبره بخطره على الشام ، فكتب عثمان إليه ان يرسله على اغلظ مركب وأوعره ، فارسله معاوية مع جماعة لا يعرفون مكانته ، ولا يحترمون مقامه فساروا به ليلا ونهارا حتى تسلخت بواطن أفخاذه وكاد ان يتلف ، ولما بلغ المدينة مضى في دعوته فكان ينكر على عثمان أشد الانكار ويقول له :

« تستعمل الصبيان ، وتحمى الحمى(٢) وتقرب أولاد الطلقاء؟! »

__________________

(١) الانساب ٥ / ٥٢

(٢) اشار بذلك الى ما فعله عثمان فى منحه جميع المراعى التي حول المدينة لبنى أميّة ترعى فيها اغنامهم ، وحمى مواشي المسلمين منها وهو مناف للسنة فانها جعلت المراعي التي لا مالك لها لجميع المسلمين لأنها من المباحات الاصلية ، وقد قال رسول الله (ص) : الناس شركاء فى ثلاث فى الكلأ والماء والنار.

٢٥٨

وانطلق يبين للمسلمين ما سمعه من رسول الله٦ في ذم الامويين ، ومدى خطرهم على الاسلام يقول : قال رسول الله :

« اذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ودين الله دغلا »

واصدر عثمان اوامره بمنع مجالسة أبي ذر ، كما حرم الكلام معه ، والاختلاط به.

نفيه الى الربذة

وثقل أبو ذر على عثمان ، وضاق به ذرعا ، فقد ايقظ النفوس ، واوجد فيها وعيا أصيلا يبعثها على الثورة العارمة ، والاجهاز على النظام القائم الذي آثر الاغنياء بأموال الدولة ، وحجبها عن المصالح العامة ، الامر الذي أدى الى فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، وشيوع الفقر والمجاعة في البلاد.

ورأى عثمان ان خير وسيلة له من الخطر الذي يتهدده ابعاد ابي ذر عن يثرب ونفيه عن سائر الامصار الاسلامية الى بعض المجاهل والقرى التي لا تزدحم بالسكان ، فأرسل خلفه فلما حضر بادره أبو ذر بالكلام فقال له :

« ويحك يا عثمان!! أما رأيت رسول الله ، ورأيت ابا بكر وعمر هل رأيت هذا هديهم؟ إنك لتبطش بي بطش الجبارين. »

فقطع عثمان كلامه ، وصاح به

ـ اخرج عنا من بلادنا

ـ اتخرجني من حرم رسول الله؟

ـ نعم وانفك راغم

٢٥٩

ـ اخرج الى مكة؟

ـ لا

ـ الى البصرة؟

ـ لا

ـ الى الكوفة

ـ لا

ـ الى اين اخرج؟

ـ الى الربذة حتى تموت فيها

وأوعز الى مروان باخراجه فورا من المدينة ، وهو مهان الجانب محقر الكيان ، وحرم على المسلمين ان يشايعوه ويخرجوا لتوديعه ، ولكن أهل الحق ، ومن طبعوا على نصرته ابوا إلا مخالفة عثمان فقد خف الامام أمير المؤمنين لتوديعه ، ومعه عقيل وعبد الله بن جعفر ، والحسن والحسين وبادر مروان الى الحسن فقال له :

« إيه يا حسن!! ألا تعلم ان عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟

فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك »

فحمل امير المؤمنين عليه ، وضرب أذنى راحلته بالسوط ، وصاح به : تنح نحاك الله الى النار ، وولى مروان منهزما الى عثمان يخبره بالحال.

ووقف الامام أمير المؤمنين على أبي ذر فودعه والقى إليه كلمات كانت له سلوى طيلة حياته في تلك البقعة الجرداء قال له :

« يا أبا ذر ، انك غضبت لله فارج من غضبت له ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب بما خفتهم عليه ، فما احوجهم الى ما منعتهم وما اغناك عما

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الأوّل أو الثاني من أسباب التكرار.

الموضع الخامس عشر:

الآيات التي جاءت في سورة المؤمن والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (1)

والتي تختم بقوله تعالى:

( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) (2) .

ويُلاحظ في هذا المقطع من القصّة ما يلي:

الأوّل:

إنّ السورة التي جاء فيها هذا المقطع تتحدّث في مطلعها عن مصير من يجادل في آيات الله:

( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) (3) .

الثاني:

إنّ القصّة تأتي في سياق أنّ هذا المصير للمجادلين نتيجة طبيعية لعنادهم، بعد أن تأتيهم البيّنات، فيكفرون بها:

( أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (4) .

الثالث:

إنّ القصّة تؤكّد بشكلٍ واضحٍ موقف مؤمن آل فرعون، والأساليب التي استعملها في دعوته لهم ومحاولته ذات الجانب العاطفي في هدايتهم مع تذكيرهم بمصير من سبقهم من الأُمم وما ينتظرهم نتيجة لعنادهم وكفرهم.

وقبالة هذا الموقف يظهر لنا موقف فرعون وقد تمادى في غيّه حتّى حاول أن يطّلع على إله موسى.

________________________

(1) المؤمن: 23 - 24.

(2) المؤمن: 44 - 45.

(3) المؤمن: 4.

(4) المؤمن: 21.

٤٠١

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج:

أنّ القصّة سيقت لتوضيح مصير من يجادل في آيات الله، مع إيضاح الفرق بين الأُسلوب الذي يستعمله الداعية والأُسلوب الذي يستعمله المجادل والكافر، وأنّ العذاب لا ينزل بهؤلاء إلاّ بعد أن تتمّ الحجّة عليهم.

وإنّ الهداية والحجّة من الوضوح بحيث يمكن أن يقتنع بها حتّى أُولئك الأشخاص الذين يعيشون في الوسط المتنفّذ والمترف - كما هو الحال بالنسبة إلى مؤمن آل فرعون - كما أنّها تؤكّد الدور الذي يجب أن يقوم به الإنسان تجاه هداية الآخرين، وأنّها مسؤوليّة شرعيّة وإنسانية يتحمّلها كلُّ الناس، حتّى لو كان من الوسط الضال، كما فعل مؤمن آل فرعون.

وفي هذا العَرْض القرآني للقصّة يظهر لنا - أيضاً - هذا الامتزاج بين الرحمة والغفران، وبين النقمة وشدّة العذاب:

( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (1) .

فإنّ الله سبحانه يجعل تحت متناول عقول عباده وأنظارهم آياته وأدلّته وبراهينه، ويتوسّل إلى هدايتهم بالوسائل المختلفة التي لا تشل عنصر الاختيار فيهم، كلّ ذلك رحمة منه وفسحة لقبول التوبة والاستغفار، ولكنّه - مع ذلك - لا يعجزه شيءٌ عن عقابهم أو القدرة على إنزال العذاب فيهم.

الموضع السادس عشر:

الآيات التي جاءت في سورة الزخرف والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (2)

والتي تختم بقوله تعالى:

( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً

________________________

(1) المؤمن: 3.

(2) الزخرف: 46.

٤٠٢

لِلآخِرِينَ ) (1) .

ويُلاحظ في هذا الموضع من القصّة ما يلي:

إنّ هذا المقطع القرآني من القصّة جاء في سياق الحديث عن شبهةٍ أثارها الكفّار في وجه الدعوة:

( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (2) .

وقد ناقش القرآن الكريم هذه الشبهة من ناحيتين:

الأُولى:

إنّ الرزق والمال ليس عطاءً بشريّاً أو نتيجةً للجهد الشخصي والذكاء والعبقريّة والفضل فحسب، بل هو عطاء إلهي له غاية اجتماعية تنظيمية:

( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) (3) .

الثانية:

إنّ هذا العطاء الإلهي المادّي ليس مرتبطاً بالفضل والامتياز عند الله، والقربى لديه كما هو شأن العطاء البشري ومقاييسه، بل قد يكون العكس هو الصحيح:

( وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) (4) .

فإنّ ظاهر هذه الآية الكريمة هو أنّه لولا مخافة أن يكون الناس أُمة واحدة على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن... وقد يكون ذلك تعويضاً لهم عمّا يلحق بهم من الخسران والعذاب في الدار الآخرة فإنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) (5) .

ومن هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج:

________________________

(1) الزخرف: 55 - 56.

(2) الزخرف: 31.

(3) الزخرف: 32.

(4) الزخرف: 33.

(5) من لا يحضره الفقيه 4: 363.

٤٠٣

إنّ هذا المقطع جاء ليضرب مثلاً واقعيّاً تجاه هذه الحقيقة والفكرة التي عاشتها الإنسانية، وهذا المثل هو موقف فرعون من دعوة موسى؛ حيث نزلت الرسالة على شخصٍ فقيرٍ مطاردٍ ويتعرّض قومه إلى الاضطهاد، مع أنّ فرعون هو صاحب الثروة والغنى.

والذي يؤكّد هذا الاستنتاج: أنّ المقطع يتبنّى إظهار جانب ما يتمتّع به فرعون من ثروةٍ وملكٍ وغنى، في مقابل موسى الذي هو مهين، على حد تعبير فرعون، وليس في المواضع الأُخرى من القرآن ما يشبه هذا الموقف من فرعون.

فالتكرار فرضه السياق القرآني إلى جانب تحقيق الغرض الديني.

الموضع السابع عشر:

الآيات التي جاءت في سورة الذاريات وهي قوله تعالى:

( وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (1) .

وهذه اللمحة العابرة التي تأتي في عَرْضٍ قصصيّ مشتركٍ عن الأنبياء من أجل تعداد آيات الله سبحانه، وإثبات صدق الدعوة والنبوّة، نجد أُسلوب السورة المكّيّة الذي كان يفرض طبيعة الموقف فيه ذكر القصص القرآنية بشكلٍ مختصرٍ وعابر.

الموضع الثامن عشر:

الآية التي جاءت في سورة الصف:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2) .

وفي هذه إشارة إلى موقفٍ معيّنٍ لبني إسرائيل تجاه موسى، حيث آذوه مع

________________________

(1) الذاريات: 38 - 40.

(2) الصف: 5.

٤٠٤

علمهم بنبوّته، وقد كان الغرض من الإشارة إليه هو مقارنة موقف أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) تجاهه وموقف هؤلاء تجاه موسى، وكذلك موقف بني إسرائيل تجاه عيسى (عليه السلام) من تكذيبه ومخالفته بعد أن جاءهم بالبيّنات، وفي هذا تذكير لأصحاب النبي وتحذير لهم من الوقوع في مثل هذه المواقف والمخالفات، وإلاّ لساروا في طريق النفاق، وكانوا ممّن يقولون ما لا يفعلون، كما يدلّ السياق على ذلك.

الموضع التاسع عشر:

الآيات التي جاءت في سورة النازعات، وهي قوله تعالى:

( هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى* فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى* فَكَذَّبَ وَعَصَى* ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ) (1) .

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث عن الحشر، وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيوية، وتكبره وتجبّره وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأُولى، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعيّة عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلّةٍ وجدانيّة:

( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (2) .

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث

________________________

(1) النازعات: 15 - 25.

(2) النازعات: 27 - 32.

٤٠٥

عن الحشر وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيويّة وتكبّره وتجبّره وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأُولى، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعية عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلّةٍ وجدانيّة:

( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (1) .

2 - قصّة موسى (عليه السلام) في القرآن بحسب تسلسلها التأريخي (2) :

الإسرائيليّون في المجتمع المصري:

لقد عاش الإسرائيليّون في المجتمع المصري، وتكاثروا فيه: منذ هجرة يوسف وأبيه يعقوب وبقيّة أولاده إلى مصر.

وقد اضطهد الفراعنة الإسرائيليين في الحقبة السابقة على ولادة موسى، وبلغ الاضطهاد درجةً مريعةً حين اتّخذ الفراعنة قراراً بذبح أبناء الإسرائيليّين واستحياء نسائهم من أجل الخدمة والعمل، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يتفضّل على هؤلاء المستضعفين وينقذهم من حالتهم هذه، فهيّأ لهم نبيّه موسى، فعمل على إنقاذهم من الفراعنة (3) ، وهدايتهم من المجتمع الوثني إلى المجتمع التوحيدي.

ولادة موسى وإرضاعه:

وحين وُلد موسى (عليه السلام) أوحى الله سبحانه إلى أُمّه أن ترضعه وحين تخاف عليه

________________________

(1) النازعات: 27 - 32.

(2) نذكر من أحداث القصّة بمقدار ما تعرّض له القرآن الكريم.

(3) الأعراف: 141، إبراهيم: 6، القصص: 3 - 6.

٤٠٦

من الذبح العام فعليها أن تضعه في ما يشبه الصندوق وتلقيه في اليمّ، وهكذا شاءت إرادة الله أن يلقيه اليمّ إلى الساحل، وإذا بآل فرعون يلتقطونه فيعرفون أنّه من أولاد بني إسرائيل، فتدخل امرأة فرعون في شأنه وتطلب أن يتركوه لها على أن تتّخذه خادماً أو ولداً تأنس به مع فرعون.

وقد عاشت والدة موسى لحظاتٍ حرجةً من حين إلقائه في اليمّ، فأمرت أُخته أن تقصَّ أثره وتتبع سير الصندوق فتتعرّف على مصيره، ففعلت، وحين عرض الطفل على المرضعات أبى أن يقبل واحدةً منهنّ، فانتهزت أُخته هذه الفرصة، فعرضت على آل فرعون أن تدلّهم على امرأةٍ مرضعة تتكفّل رعايته وحضانته وإرضاعه، وكانت هذه المرأة بطبيعة الحال هي أُمّ موسى، وهكذا رجع الطفل إلى أُمّه ليطمئنّ قلبها وتعلم أنّ ما وعدها الله سبحانه من حفظه وإرجاعه إليها حقٌّ لا شكّ فيه.

ولقد شبّ موسى في البلاط الفرعوني حتّى إذا بلغ أُشدّه وهبه الله سبحانه العلم والحكمة (1) .

خروج موسى من مصر:

ودخل موسى المدينة في يومٍ ما ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ) (متنكّراً) فوجد فيها رجلاً من شيعته (من الإسرائيليّين) يقاتل رجلاً آخر من أعدائه (الفرعونيّين) فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فوكزه موسى فقضى عليه ولم يكن ينتظر موسى أن تؤدّي هذه الضربة إلى الموت، ولذلك ندم على هذا العمل المتسرّع الذي انساق إليه، فاستغفر ربّه عليه.

وأصبح موسى في المدينة خائفاً يترقّب أن ينكشف أمره فيؤخذ بدم الفرعوني، فينزل إلى المدينة مرّةً أُخرى فإذا به يواجه قضيّةً أُخرى متشابهة، وإذا الذي استنصره بالأمس فنصره يستصرخه اليوم أيضاً، فعاتبه موسى على

________________________

(1) القصص: 7 - 14، طه: 37 - 40.

٤٠٧

عمله ووصفه بأنّه غويٌّ مبين يريد توريطه وإحراجه، ثمّ لمّا ( أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا ) (موسى والإسرائيلي) ظنّ الإسرائيلي أنّ موسى يقصد البطش به لا بالفرعوني، فقال لموسى:

( أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ )

وبذلك كشف الإسرائيلي عن هويّة قاتل الفرعوني الأوّل، وفضح قتل موسى له، فعمل الملأ - وهمّ عليَّة القوم - على قتله بدم الفرعوني.

( وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) وأعاليها يُخبر موسى بالأمر، يقول له: ( إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) وطلب منه المبادرة إلى الخروج والهروب من الفرعونيين.

فخرج موسى من المدينة خائفاً يترقّب أن يوافيه الطلب أو تصل إليه أيدي الفرعونيّين فدعا ربّه أن ينجيه من القوم الظالمين (1) .

موسى في أرض مَدْين:

وانتهى السير بموسى إلى أرض مدين فلمّا وصلها أحسَّ بالأمن وانتعش الأمل في نفسه فقال:

( عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ* وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ ) وهم: الرعاة يسقون

( وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ ) في حيرة من أمرهما تذودان الأغنام وتجمعانها ولا تسقيان، فأخذه العطف عليهما فقال لهما:

( مَا خَطْبُكُمَا ) ولماذا لا تسقيان؟

قالتا له: ( لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء ) وينتهوا من السقي؛ لأنّنا امرأتان ( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) لا يتمكّن من القيام بهذه المهمّة الشاقّة.

فتولّى موسى عنهما هذه المهمّة، فسقى لهما، ثمّ انصرف إلى ناحية الظل، وهو يشكو ألم الجوع والغربة والوحدة فقال:

( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

________________________

(1) القصص: 15 - 21، وطه: 40.

٤٠٨

ولمّا رجعت الامرأتان إلى أبيهما الشيخ وعرف منهما قصّة هذا الإنسان الغريب الذي سقى لهما، بعث إلى موسى إحداهما لتدعوه إليه فجاءته ( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) .

فأجاب موسى الدعوة وحين انتهى إلى الشيخ طلب منه أن يخبره عن حاله، فقصّ موسى عليه قصّة هربه وسببها، وحينئذٍ آمنه الشيخ وقال له: ( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وقد طلبت إحدى ابنتي الشيخ من أبيها: أن يستأجر موسى للعمل عنده وليقوم عنهما ببعض المهام الملقاة على عاتقهما نتيجة عجز الشيخ وضعفه؛ وذلك نظراً لقوّة موسى وقدرته على القيام بالعمل مع إمانته وشرف نفسه.

فقال له الشيخ: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ) شريطة أن تأجرني نفسك ثماني حجج (سنين) فإذا اتممتها عشراً فذلك من عندك، فوافق موسى على هذا الزواج وتمّ العقد بينهما (1) .

بعثة موسى (عليه السلام) ورجوعه إلى مصر:

وبعد أن قضى موسى الأجل (السنوات العشر) بينه وبين صهره سار بأهله فإذا به يشاهد ناراً من جانب الطور الأيمن: وهو جبل صغير، وقد كان بحاجةٍ إليها.

( فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى* فَلَمَّا أَتَاهَا )

وجد شجرةً وجاء نداء الله سبحانه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من جانب الشجرة: ( إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ* فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) إليك.

ثم قال الله له: ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى )

قال الله له: ( أَلْقِهَا يَا مُوسَى ) فإذا هي تتحوّل إلى ( حَيَّة تَسْعَى ) ( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ )

________________________

(1) القصص: 22 - 28، طه: 40.

٤٠٩

فناداه الله: ( يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) ( إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (1) سنعيدها سيرتها الأُولى.

ثمّ قال له: ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) (2)

ومرض، فأدخل يده وإذا بها تخرج بيضاء، ثمّ ردّها فعادت كما كانت.

وبعد ذلك أمره الله سبحانه أن يذهب بهاتين الآيتين المعجزتين إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى الله سبحانه، فخاف موسى من تحمّل هذه المهمّة، فقال: ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ ) وذلك من أجل أن ( يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) .

قال الله له: ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ) ( فَأْتِيَاهُ (فرعون) فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ) (3) .

وحينما عاد موسى إلى مصر توجّه مع أخيه هارون إلى فرعون، فقالا له: إنّا رسولا ربّك ربّ العالمين، ولا يمكن أن نقول على الله غير الحق الذي أرسلنا به وقد جئناك ببيّنةٍ من ربّك فارسل ( مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وارفع عنهم العذاب الذي تنزله فيهم، وقد قالا له ذلك بشكلٍ ليّنٍ وبأُسلوبٍ استعطافيٍّ هادئ (4) .

وكأن فرعون قد استغرب هذه الرسالة من موسى وأخيه؛ لأنّه كان يعرف

________________________

(1) القصص: 21 والنمل: 10.

(2) النمل: 12.

(3) الإسراء: 2 - 3، طه: 9 - 47، الفرقان: 35 - 36، القصص: 29 - 35، الشعراء: 10 - 16، النازعات: 15 - 19.

(4) الأعراف: 104 - 105، الشعراء: 17 و 22.

٤١٠

موسى وأحواله، فقال لموسى:

( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) ، ثمّ بعد ذلك ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) بأن قتلت رجلاً من الفرعونيّين؟ فأجابه موسى: نعم لقد فعلت ذلك، ولكنّي لمّا خفتكم على نفسي فررت منكم ( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (1) .

فرعون يجادل موسى في ربوبيّة الله:

وبعد أن رأى فرعون إصرار موسى وهارون على الرسالة ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا )

قال له موسى ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وهو ربّ السماوات والأرضين ( وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) ، قال فرعون ( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ) وما هو مصيرها؟

فأجابه موسى ( عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ، وهو ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ) مختلف ألوانه وأشكاله.

وقد استنكر فرعون هذه الدعوة الجديدة وهو يعتقد بنفسه الإلوهيّة فتوجّه لمن حوله مستنكراً، وقال: ألا تسمعون؟

ولمّا رأى الإصرار من موسى وأخيه اتّهم موسى بالجنون وهدّده بالسجن إذا اتخذ إلهاً غيره (2) .

ولم يستسلم موسى وأخوه أمام هذه التهمة والتهديد وإنّما حاولا أن يسلكا إلى فرعون طريقاً آخر لاقناعة أو إحراجه، وهذا الطريق هو استثمار السلاح الذي وضعه الله بيد موسى (معجزة العصا واليد)، فقال موسى لفرعون: إني قد جئتك من ربّي بآية تبيّن لك الحق الذي انا عليه؛ قال فرعون: إذا كنت صادقاً فأت بهذه الآية والحجّة

( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ) .

ولم يتمالك فرعون وملؤه أنفسهم أمام هذا الموقف إلاّ أن اتّهموه بالسحر والشعوذة

________________________

(1) الشعراء: 18 - 21.

(2) طه: 49 - 55، الشعراء: 24 - 29.

٤١١

وأنّه إنّما جاء بهذا السحر من أجل أن يخرجهم من أرضهم ويجلوهم عنها (1) .

مباراة موسى مع السَّحَرة:

وقد أشار قوم فرعون وخاصّته عليه بأن يواجه موسى بالسحرة من بلاده، فيجمعهم في يومٍ يشهده الناس جميعاً ليتباروا، وسوف يغلبونه وهم كثيرون فيفتضح أمره ويترك دعوته، وعمل فرعون بهذه النصيحة فطلب من موسى وأخيه أن يعطياه مهلةً إلى وقتٍ معيّن لمواجهته بالسحرة.

وجمع فرعون كيده وحشد جميع السحرة من بلادهم، وعرض عليهم الموقف وطلب منهم أن يحرجوا موسى ويغلبوه، وجمع الناس لهذه المباراة ظنّاً منه أنّه سوف ينتصر، وقد شجّعه على ذلك تأكيد السحرة أنّهم سوف يغلبون موسى وما طلب منه السحرة من أجر وأُعطيات إذا كانوا هم الغالبين.

وحين اجتمع موسى بالسحرة خيّروه بين أن يلقي قبلهم أو يكونوا هم الملقين قبله، فاختار أن يكونوا هم الملقين، فألقى السحرة ( حِبَالهُمْ وَعِصِيّهُمْ ) وإذا بها تبدو لأعين الناس - من سحرهم - كأنّها تسعى كالحيّات، وعندئذٍ أوجس موسى ( فِي نَفْسِهِ خِيفَةً ) إذ لم يكن ينتظر أن يواجه بالأُسلوب الذي اتبعه في معجزته مع فرعون فأوحى الله سبحانه له أن لا تخف فأنك أنت الذي سوف تنتصر علهيم، وإنّما عليك أن تلقي عصاك وحينئذٍ تتحوّل إلى حيّةٍ تلقف جميع ما صنعوا؛ لأنّ ما صنعوه ليس إلاّ ( كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ ) .

وعندما رأى السحرة هذا الصنع من موسى انكشفت لهم الحقيقة التي أُرسل بها، وأنّ هذا العمل ليس عمل ساحر وإنّما هو معجزة إلهيّة، فآمنوا وقالوا: ( آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) .

وأمام هذا الموقف الرائع من السحرة في هذا المشهد العظيم من الناس وجد

________________________

(1) الأعراف: 106 - 109، الشعراء: 30 - 35، يونس: 75 - 78.

٤١٢

فرعون نفسه في وضعٍ مخزٍ ومحرج، الأمر الذي اضطرّه لأن يلجأ إلى الإنذار والوعيد والتهديد باستخدام أساليب القمع والإرهاب؛ فقال للسحرة:

( آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ) ، ولم يكن موقف السحر - بعد أن انكشفت لهم الحقيقة وهداهم الله إليها - إلاّ ليزداد صلابة وثباتاً واستسلاماً لله رجاء مغفرته ورحمته (1) .

إصرار فرعون وقومه على الكفر ومجيء موسى بالآيات:

وقد أصرّ فرعون وقومه على الكفر وصمّموا على مواصلة خط اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم، حيث قال الملأ من قومه ( أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) .

وواجه موسى وبنو إسرائيل ذلك بالصبر والثبات انتظاراً للوقت الذي يحقّق الله سبحانه فيه وعده لهم بوراثة الأرض.

ولكن الله سبحانه أمر موسى أن يعلن لفرعون وقومه بأنّ العذاب سوف ينزل بهم عقاباً على تكذيبهم له وتعذيبهم لبني إسرائيل وامتناعهم عن إطلاقهم وإرسالهم، فجاءت الآيات السماويّة يتلو بعضها بعضاً فأصابهم الله بالجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وكانوا كلّما وقع عليهم العذاب والرجز.

( قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (2) .

________________________

(1) الأعراف: 110 - 126، يونس: 80 - 89، طه: 57 - 76، الشعراء: 34 - 52.

(2) الأعراف: 127 - 135، غافر: 23 - 27، الإسراء: 101 - 102، طه: 59، النمل: 13 - 14، القصص:

36 - 37، الزخرف: 46 - 50، القمر: 41 - 42، النازعات: 20 - 21.

٤١٣

الائتمار بموسى (عليه السلام) لقتله وطغيان فرعون:

وأمام هذه الآيات المتتاليات التي جاء بها موسى، لم يجد فرعون وقومه أُسلوباً يعالج به الموقف، غير الائتمار بموسى لقتله وادّعاء القدرة على مواجهة آلهته، فنجد فرعون يأمر هامان بأن يتّخذ له صرحاً ليطّلع منه على أسباب السماوات ويتعرّف على حقيقة إله موسى.

ولكنّ فرعون يفشل في كلا الجانبين، فلم يتمكّن من أن يحقّق غايته من وراء بناء الصرح، كما لم تصل يده إلى موسى؛ لأنّ أحد المؤمنين من آل فرعون يقف فيعظهم ويؤنّبهم على موقفهم من موسى، ويبادر إلى إخباره بنبأ المؤامرة فينجو (1) .

خروج موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل من مصر:

وحين واجه موسى محاولة اغتياله ورأى إصرار فرعون وقومه على اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم، ووجد أنّه لم تنفع بهم الآيات والمواعظ، صمّم على الخروج ببني إسرائيل من مصر والعبور بهم إلى جهة الأرض المقدّسة، وقد نفّذ موسى هذه العملية وسار ببني إسرائيل متّجهاً إلى سيناء.

ولم يقف فرعون - وقومه معه - أمام هذه الهجرة مكتوف اليدين، بل جمع جنده من جميع المدائن وقرّر ملاحقة موسى وبني إسرائيل وإرجاعهم إلى عبوديّته بالقوّة.

ووجد موسى وبنو إسرائيل - نتيجة هذه المطاردة - أنفسهم : أنّ البحر من إمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، وارتاع بنو إسرائيل من الموقف وكادوا يكذبون ما وعدهم به موسى من الخلاص، ولكنّ موسى بإيمانه الوطيد أخبرهم أنّ الله سبحانه سوف يهديه طريق النجاة، وتحقّق ذلك إذ أوحى الله :

( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (2) ، ويظهر بينهما طريق

________________________

(1) القصص: 38، غافر: 28 - 46.

(2) الشعراء: 63.

٤١٤

يبس يعبر من خلاله بنو إسرائيل ويحاول فرعون وجنوده أنّ يتبعوهم من هذا الطريق أيضاً، وإذا بجانبي البحر يلتقيان فيغرق مع جنده (1) .

موسى مع بني إسرائيل:

وتتوالى بعد ذلك الأحداث على موسى وإذا به يواجه المشاكل الداخلية منفرداً مع قومه بني إسرائيل، فيسمع طلبهم وهم يمرّون على قومٍ يعبدون الأصنام بأن يتّخذ لهم أصناماً يعبدونها كما أنّ لهؤلاء أصناماً، ثمّ بعد ذلك يتفضّل الله سحبانه على بني إسرائيل عندما استسقوا موسى، فيأمره بضرب الحجر فتتفجّر منه العيون كما ينزل علهيم المنّ والسلوى، ويبدلهم عنه ببعض المآكل الأُخرى، ويواجه موسى ردّة من بني إسرائيل عند ذهابه لميقات ربّه لتلقّي الشريعة في ألواح التوراة، فيخبره الله تعالى بعادتهم للعجل الذي صنعه السامري، فيرجع ( إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ) ويعتب بقسوة على أخيه هارون، حيث كان قد استخلفه عليهم مدّة ذهابه، ويطرد السامري ويفرض عليه عقوبة المقاطعة، ويحرق العجل وينسفه، ثمّ يتوب الله على بني إسرائيل بعد أن فرض عليهم عقاباً صارماً.

وعلى هذا المنوال يذكر لنا القرآن الكريم أحداثاً مختلفة عن حياة موسى مع بني إسرائيل، كقضيّة البقرة ونتق الجبل والدعوة للدخول إلى الأرض المقدسة وذهابهم للمواعدة عندما طلبوا رؤية الله جهرة، وقصّة قارون وتآمره مع المنافقين على موسى، وفي بعض هذه الأحداث لا نجد القرآن الكريم يحدّد المتقدّم منها على الأحداث الأُخرى بشكلٍ واضح.

________________________

(1) الأعراف: 136 - 137، يونس: 90 - 92، الإسراء: 103 - 104، طه: 77 - 79، الشعراء: 52 - 66، القصص: 39 - 40، الزخرف: 55 - 56، الدخان: 17 - 31، الذاريات: 38 - 40.

٤١٥

وبهذا القدْر نكتفي من سرد القصّة حسب تسلسلها الزمني (1) .

3 - دراسة عامّة مختصرة لقصّة موسى (عليه السلام):

بعد أن انتهينا من بحث قصّة موسى بحسب ذكرها في القرآن الكريم وعرضها بتسلسلها التأريخي، يجدر بنا أن ندرسها من جانبين يختلفان عن جانب دراستنا السابقة للقصّة:

الجانب الأوّل:

هو ملاحظة ميزات وخصائص المراحل العامّة التي مرّ بها موسى في حياته.

الجانب الثاني:

هو ملاحظة الموضوعات التي تحدّثت عنها القصّة بشكلٍ عام.

الأوّل: مراحل حياة موسى (عليه السلام):

وبصدد الجانب الأوّل نجد موسى (عليه السلام) قد مرّ بمراحل ثلاث رئيسة خلال حياته؛ حيث تبدأ المرحلة الأُولى بولادته وتنتهي ببعثته إلى فرعون وقومه، وتبدأ الثانية من البعثة وتنتهي بالعبور، وتبدأ الثالثة بالخروج وتنتهي بنهاية حياته.

ويعتمد هذا التحديد في المراحل الثلاث على المقدار الذي تحدّث القرآن الكريم فيه عن حياة موسى (عليه السلام).

وتتمثّل المرحلة الأُولى من حياة موسى في دورين:

الأوّل:

ينتهي بخروجه من مصر خائفاً.

الثاني:

هو الذي ينتهي برؤيته النار عند بعثته.

وحين نلاحظ الظواهر العامّة في هذين الدورين يبرز لنا موسى في شخصيّته

________________________

(1) تراجع (قصص الأنبياء) لعبد الوهاب النجّار بصدد الأحداث التي وقعت لموسى مع قومه بني إسرائيل، وإن كنّا قد لا نتّفق معه في بعض الخصوصيّات التي يسردها.

٤١٦

ذلك الإنسان الذي يريد الله سبحاه أن يعدّه لأعباء مهمّة تخليص بني إسرائيل من الظلم الاجتماعي الذي حاق بهم، وتخليص شعب مصر من عبوديّة الأوثان وهدايتهم لوحدانيّة الله سبحانه.

وتتلخّص هذه الظواهر بميزات ثلاث لها دور كبير في شخصيّة الإنسان القائد، وهي كالتالي:

الأُولى:

المركز الاجتماعي الذي كان يتمتّع به موسى - دون بني إسرائيل - نتيجةً لتبنّي العائلة المالكة في مصر تربيته ورعايته.

وهذا المركزالاجتماعي الفريد وإن كان قد فقد تأثيره - إلى حدٍ كبير - بعد هروب موسى من مصر بسبب قتله الفرعوني، ولكنّنا يمكن أن نتصوّره عاملاً مهمّاً في إظهار موسى - في المجتمع بشكلٍ عام، والإسرائيلي بشكلٍ خاص - شخصيةً تتبنّى قضيّة الدفاع عن بني إسرائيل وتعمل من أجلها.

ولعلّ ضياع هذا المركز الاجتماعي المهم بسبب قتل الفرعوني، هو الذي يفسِّر لنا نظرة موسى إلى قتل الفرعوني - نظرته - إلى ذنبٍ يستحقّ الاستغفار والتوبة منه إلى الله تعالى، حيث ضيّع موسى بهذا العمل الارتجالي - الذي صدر منه بدوافع نبيلة وصحيحة - فرصةً ثمينةً كان من الممكن استثمارها في سبيل استنقاذ الشعب الإسرائيلي، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ موسى كان يتّصف بالعلم والحكمة في هذه المرحلة كما وصفه القرآن الكريم.

الثانية:

الشعور الإنساني والحس النبيل الذي كان يحسّ به موسى بوصفه إنساناً يتحلّى بالأخلاق الكاملة.

ويتمثّل لنا هذا الخلق الإنساني في ثلاثة مواقف لموسى جاءت ضمن هذه المرحلة من حياته، وهي:

قتله الفرعوني، ومحاولته لضرب الفرعوني الآخر، وتبرّعه بمعاونة ابنتي الشيخ الذي أصبح صهراً له بعد ذلك، وما يُشعر به وصف ابنة الشيخ له بأنّه قويٌّ أمين.

٤١٧

فإنّ هذه المواقف تعبّر عن المحتوى الداخلي والشعور الإنساني الذي كان يعيشه موسى (عليه السلام)، فهو يبادر لنجدة المظلوم بالرغم من تربيته في البيت الفرعوني المالك، هذه التربية التي كان من الممكن أن تعطيه الشعور بالتميّز الطبقي الذي يختلف عن عمله الإنساني هذا، ثمّ لا يكتفي بأن يرتكب ذلك مصادفةً بل يندفع ليقوم بنفس العمل حين يجد من يستصرخه إليه مع شعوره بحراجة موقفه الاجتماعي نتيجةً لهذا العمل.

وفي موقفه من ابنتي الشيخ، نجد موسى تدفعه ذاته الخيّرة النبيلة للسؤال عن تلكئهما في السقاية، ويعرض المعاونة عليهما في حالة الحاجة إليها، ونجده يخفّ إلى تنفيذ ذلك دون أن ينتظر منهما أجراً أو مثوبةً ماديّة، على الرغم من ظروفه الموضوعيّة الخاصّة الصعبة.

الثالثة:

القوّة البدنيّة والشجاعة التي كان يتمتّع بها موسى، ويكشف لنا عن ذلك موقفه من الفرعوني وقضاؤه عليه بوكزةٍ واحدة، والالتزام الذي أخذه على نفسه بأن لا يكون ظهيراً للمجرمين، حتّى بعد قتله الفرعوني الأوّل وشعوره بحراجة موقفه، ووصف ابنة الشيخ له بأنّه (قوي)، خصوصاً إذا أخذنا بالتفسير الذي يقول: إنّ موسى حين سقى لابنتي الشيخ طرد السقاة عن البئر من أجل أن يعجّل بالسقاية لهما.

وهذه الميزات الثلاث تحقّق شروطاً ضروريةً لحمل أعباء الرسالة التي أراد الله سبحانه لنبيّه موسى القيام بها، ولعلّ في الإمداد الإلهي في قصّة مولده ونجاته من الذبح عاملاً جديداً في خلق الأجواء النفسيّة والاجتماعية والروحية، والظروف المناسبة لتأهيل هذا الإنسان لقيادة شعبه المضطهد.

وتمثّل المرحلة الثانية مسؤوليتين:

إحداهما: هداية قوم فرعون إلى وحدانيّة الله والإيمان بربوبيّته.

٤١٨

والأُخرى: دعوة بني إسرائيل للخلاص من الاضطهاد والظلم الذي كانوا يعانونه في مصر.

وقد توسّل موسى من أجل تحقيق هذين الهدفين البارزين في حياة دعوته بأساليب مختلفة ومتعددة، كانت تبتدئ بالمناقشة الهادئة والكلام الليّن والحجّة التي تعتمد على المنطق والعقل، وتنتهي بالعذاب والرجز الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عليهم في آيات عديدة.

كما أنّه من جانبٍ آخر، كان يدعو بني إسرائيل إلى الاستعانة بالله، والصبر على المكاره ومواصلة الطريق من أجل الخلاص.

والقرآن الكريم وإن كان لا يتحدّث عن المدّة التي عاشها موسى من أجل تحقيق ذلك، ولكن من الممكن أن نتبيّن أنّ هذه المدّة كانت طويلةً نسبيّاً، خصوصاً إذا لاحظنا الآيات القرآنية التي تُشير إلى المعجزات التي جاءت على يد موسى، وأنّها كانت في سنين متعددة.

كما يؤيّد ذلك - أيضاً - أمر الله سبحانه لموسى بأن يتّخذ بيوتاً مع قومه ويجعلها قبلة تنطلق منها الدعوة.

ويبدو أنّ موسى لم يصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ بصدد تحقيق الهدف الأوّل مع فرعون وقومه، لذا قرّر الهجرة ببني إسرائيل، والعبور بهم إلى الجانب الآخر من البحر.

ولا يُشير القرآن بشكلٍ قاطعٍ إلى أنّ هذه الحركة في بدايتها كانت برضا فرعون، بعد أن شاهد هذه المعجزات وآيات العذاب، أو أنّها كانت بدون رضاه، ولكن قد يكون في قصّة مطاردة فرعون بجنوده لموسى وبني إسرائيل، دلالة على أنّ الحركة كانت رغماً على فرعون وبدون رضاه.

ونحن يمكن أن نلاحظ في هذه المرحلة أُموراً ثلاثة:

٤١٩

الأوّل:

إنّ بني إسرائيل كانوا يلتفّون حول موسى دون أن يكون هناك خلاف في صفوفهم، أو دون أن يبرز هذا الخلاف إلى السطح الاجتماعي، والقرآن وإن كان لا يصرّح بشيءٍ من ذلك، ولكن تدعونا إلى هذا الحكم طبيعة الأشياء، حيث كان الإسرائيليّون بالأصل أهل كتاب ونبوّات، كما أنّهم كانوا يتعرّضون لأشدّ ألوان العذاب، وبذلك هم ينشدون الخلاص.

إضافةً إلى سكوت القرآن عن إبراز أي خلاف بين بني إسرائيل وبين موسى في هذه المرحلة، واستجابة بني إسرائيل إلى متابعة موسى في هذه الهجرة من مصر.

نعم يُشير القرآن إلى نقطتين قد يُفهم الخلاف منهما؛ هما: قلّة الأشخاص الذين آمنوا بموسى من قومه، واعتراضهم عليه بنزول الأذى، فيهم قبل موسى وبعده.

الثاني:

إنّ موسى كان يعمل بوسائل شتّى من أجل إنجاح دعوته، فكان يتوصّل إلى ذلك بالمناقشات الهادئة مرّةً، وبالمعاجز والآيات ذات الطابع الانتقامي الشديد ثانية، وبالصبر والصمود والانتظار ثالثة.

وقد توصّل نتيجةً لذلك إلى تحقيق بعض أهدافه، حيث نجد الدعوة تحقّق نجاحاً في صفوف بعض الفرعونيّين - أيضاً - كإيمان السحرة له ووجود ظاهرة مؤمن آل فرعون وإيمان زوجة فرعون.

الثالث:

إنّ موسى كان يعتمد للحماية من الغضب والانتقام الفرعوني على جهاتٍ متعدّدةٍ يمكن أن نلحظ منها التفاف بني إسرائيل حوله وهم يمثّلون أُمّةً كبيرةً من الناس وإن كانت مضطَهدة، ومركزه الاجتماعي السابق في البيت الفرعوني المتميّز، واستجابة بعض الفرعونيّين لدعوته وخصوصاً زوجة فرعون؛ ولعلّ موقف مؤمن آل فرعون من الائتمار بموسى لقتله يُشير إلى العنصر الأخير من الحماية؛ وكذلك قبول فرعون بالدخول معه في مناقشة ومباراة تمثّل العنصر الثاني، إضافةً إلى قضيّة الآيات والمعاجز وإيمان السحرة به.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530