حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213743 / تحميل: 8113
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فلنمنع الحزن على الحسينعليه‌السلام ؟ وإن لم يجز لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله التأثر الشديد بمقتل حمزة، لم يجز لنا التأثر بمقتل الحسينعليه‌السلام ؟

كيف والحسينعليه‌السلام أعز عند الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله من حمزةعليه‌السلام ؟

كل ذلك حكم العقل والبداهة، فضلا عن وجود الأدلة الخاصة التي تدل على فضل البكاء والنوح على سيد الشهداءعليه‌السلام سنذكرها فيما يلي.

١٣) مشروعية البكاء على سيد الشهداءعليه‌السلام

قال الكاتب: وما يذكر عن فضل البكاء في عاشوراء غير صحيح، إنما النياحة واللطم أمر من أمور الجاهلية التي نهى النبي (ص) عنها وأمر باجتنابها وليس هذا منطق أموي حتى يقف الشيعة منه موقف العداء بل هو منطق أهل البيت رضوان الله عليهم وهو مروي عنهم عند الشيعة كما هو مروي عنهم أيضا عند أهـل السنة، فقد روى ابن بابويه القمي في ( من لا يحضره الفقيه ) أن رسول الله (ص) قال: " النياحة من عمل الجاهلية …".

إن إشكال القوم على الشيعة فيما يخص مراسيم إحياء ذكرى سيد الشهداءعليه‌السلام محصورة في النقاط التالية:

٤١

أ- منع البكاء على الميت مطلقاً.

واستدلوا على ذلك " بأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه "، وقد رواه ابن عمر. ويرد عليه:

أولا: لا شك ببطلان مثل هذا الادعاء خاصة مع وضوح بكاء النبي يعقوب على ابنه يوسفعليهما‌السلام ، في قوله تعالى:

( وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ).

ثانيا: إن عائشة لم تقبل بذلك وقد صرحت بأن ابن عمر لم يحفظ الرواية بصورة صحيحة وأن قوله هذا مخالف لقوله تعالى: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى)، كما يروي ذلك البخاري في كتاب المغازي ومسلم في كتاب الجنائز.

ب - الإشكال على خصوص تكرار البكاء على الإمام الحسين عليه‌السلام وإعادة ذكر مصيبته في كل سنة.

أولا: يرد هذا الأمر بأن يعقوبعليه‌السلام قد أشكل عليه أبناؤه كما ينقل عنهم القرآن الكريم ( تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين )، فقوله تفتأ دليل على تكراره ذلك الأمر، فحسب الشيعة فخرا أن تقتدي بأنبياء اللهعليه‌السلام حينما يبكون على أوليائه.

ومكانة الحسين لا ينكرها إلا معاند، فشأنه عند الله تعالى يتجلى بما سبق ذكره من العلامات التي ظهرت في الكون وعبرت عن الغضب

٤٢

الإلهي على قتلتهعليه‌السلام ، وكذلك في الحديث الذي مر ذكره من أن الله تعالى قد أوحى إلى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه عز وجل إذا كان قد انتقم لدم يحيىعليه‌السلام بقتل سبعين ألف فسوف ينتقم لدم الحسينعليه‌السلام بسبعين ألف وسبعين ألف.

ثانيا: وقد أجاب الإمام زين العابدينعليه‌السلام بما دل من القرآن على استمرار حزن يعقوب عند رده على من أشكل عليه باستمرار حزنه على أبيه كما أورده أبو نعيم الأصفهاني عن الحسينعليه‌السلام في ( حلية الأولياء ) ج٣ ص ١٦٢عن كثرة بكائه - أي بكاء زين العابدينعليه‌السلام - فقال: "لا تلوموني فإن يعقوب فقد سبطا من ولده فبكى حتى ابيضت عيناه ولم يعلم أنه مات وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهـل بيتي في غزاة واحدة أفترون حزنهم يـذهب مـن قلبي؟ ".

وهذا الإشكال من السلفيين هو نفس الإشكال على إحياء ذكرى المولد النبوي من التكرار السنوي للذكرى، فالأمر محبب، وهو مثل تكرار دراسة الفقه أو الحديث أو القرآن الكريم.

ج - النياحة:

وقد أورد نصا من كتب الشيعة يصف النياحة بأنها من عمل الجاهلية، ويرد عليه:

٤٣

أولا: أن هذه الرواية موجودة في مصادر السنة قبل الشيعة ومع ذلك فإن من علماء السنة من أجاز النياحة ولم يعتبر هذا النص مانعا من جوازها، وقد أقر ابن حجر بهذا الخلاف في كتابه ( فتح الباري ) ج٣ ص ١٦١ عند شرحه لعنوان الباب

الذي وضعه البخاري في صحيحه ( باب ما يكره من النياحة على الميت ):

" قال الزين بن المنير: ما موصولة ومن لبيان الجنس فالتقدير الذي يكره من جنس البكاء وهو النياحة، والمراد بالكراهة

كراهة التحريم لما تقدم من الوعيد عليه انتهى، ويحتمل أن تكون ما مصدرية ومن تبعيضة والتقدير كراهية بعض النياحة أشار إلى ذلك ابن المرابط وغيره ونقل ابن قدامة عن أحمد رواية أن النياحة لا تحرم وفيه نظر، وكأنه أخذه من كونه

صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن ينه عمة جابر لما ناحت عليه فدل على أن النياحة إنما تحرم إذا انضاف إليها فعل من ضرب خد أو شق جيب وفيه نظر … "

وكذلك بحث الأمر ابن القيم وذكر الخلاف في كتابه ( عدة الصابرين ) ج١ ص٨٣ في الباب الثامن عشر في ذكر أمور تتعلق بالمصيبة من البكاء والندب … قائلا:

"وأما الندب و النياحة فنص أحمد على تحريمها قال في رواية حنبل النياحة معصية وقال أصحاب الشافعي وغيرهم النوح حرام وقال

٤٤

ابن عبدالبر أجمع العلماء على أن النياحة لا تجوز للرجال ولا للنساء.

وقال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد: يكره تنزيها وهذا لفظ أبي الخطاب في ( الهداية ) قال: ويكره الندب والنياحة وخمش الوجوه وشق الجيوب والتحفي، والصواب القول بالتحريم …

وقال المبيحون لمجرد الندب والنياحة مع كراهتهم له: روى حرب عن واثلة بن الأسقع وأبي وائل ( وهما من الصحابة ) أنهما كانا يسمعها النوح ويسكتان.

قالوا وفي الصحيحين عن أم عطية لما نزلت هذه الآية " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " … ونهانا عن النياحة فقبضت منا امرأة يدها فقالت: فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها قالت: فما قال لها شيئا فذهبت فانطلقت ثم رجعت فبايعها.

قالوا وهذا الإذن لبعضهن في فعله يدل على أن النهي عنه تنزيه لا تحريم ويتعين حمله على المجرد من تلك المفاسد جمعا بين الأدلة ". انتهي المنقول من كلام ابن القيم.

والقصد من إيراده أن بعض علماء السنة قال بجواز النياحة مع وجود الروايات الناهية عندهم كرواية " النياحة من عمل الجاهلية " فما هو جوابكم عن هذا، أفلا تسمح للفقه الشيعي أن يقول بالجواز مع ورود الرواية المذكورة في مصادرة".

٤٥

والعجب من ابن تيمية حينما يدافع عن يزيد يقول في منهاج السنة ج٤ ص ٥٥٩:

"وفي الجملة فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية ولا سبي عيال الحسينعليه‌السلام بل لما دخلوا إلى بيت يزيد قامت النياحة في بيته وأكرمهم وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة ".

فلاحظ أن ابن تيمية يمدح يزيدا على إقامته النياحة على الحسينعليه‌السلام .. وهو قاتله!!

ثانيا: أن علماء الطائفة لم يخف عليهم أمر الرواية، وكما كان لعلماء السنة آراء واجتهادات لفهم النص، كذلك كانت لعلمائنا رضوان الله تعالى عليهم. فينبغي للعاقل أن يطلع على آراء علماء الطائفة وموقفهم تجاه هذا النص الشريف.

ويكفي للقاريء ملاحظة ما ورد في كتاب ( العروة الوثقى ) وهو كتاب يحشد آراء مجموعة من علماء الشيعة الفقهية في حقبة من الزمان، حيث تجد في الجزء الأول ص ٤٤٧ من كتاب الطهارة تحت عنوان مكروهات الدفن حديثا مفصلا حول تلك الأمور فيقول السيد اليزدي ( ره ):

( ١ مسألة ) يجوز البكاء على الميت ولو كان مع الصوت بل قد يكون راجحا كما إذا كان مسكنا للحزن وحرقة القلب بشرط أن لا

٤٦

يكون منافيا للرضا بقضاء الله، ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على المؤمن، بل يستفاد من بعض الأخبار جواز البكاء على الأليف الضال والخبر الذي ينقل من أن الميت يعذب ببكاء أهله ضعيف مناف لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وأما البكاء المشتمل على الجزع وعدم الصبر فجائز ما لم يكن مقرونا بعدم الرضا بقضاء الله نعم يوجب حبط الأجر ولا يبعد كراهته.

( ٢ مسألة ) يجوز النوح على الميت بالنظم والنثر ما لم يتضمن الكذب ولم يكن مشتملا على الويل والثبور، لكن يكره في الليل ويجوز أخذ الأجرة عليه إذا لم يكن بالباطل، لكن الأولى أن لا يشترط أولا.

( ٣ مسألة ) لا يجوز اللطم والخدش وجز الشعر بل والصراخ الخارج عن حد الاعتدال على الأحوط وكذا لا يجوز شق الثوب على غير الأب والأخ والأحوط تركه فيهما أيضا.

هذا علما بأن هذه الفتاوى بكراهة الجزع أو النياحة ناظرة إلى غير مصاب سيد الشهداءعليه‌السلام وأما مصابه أرواحنا له الفداء فقد وردت روايات خاصة عن أهل بيت العصمةعليه‌السلام تجعله مصابا مميزا عن غيره لا تشمله هاتك الأحكام.

ثالثا: وفيما يخص روايات أهل البيتعليهم‌السلام ، فقد روى الطوسي في أماليه كما عن البحار ج٤٤ ص ٢٨٠ عن المفيد عن ابن

٤٧

قولويه عن أبيه عن سعد عن ابن عيسى عن ابن محبوب عن أبي محمد الأنصاري عن معاوية بن وهب عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: "كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسينعليه‌السلام ".

والسند تام فكل الرواة ثقات عدا أبو محمد الأنصاري وقد قال عنه السيد الخوئي ( ره ) في ( المعجم ) ج٢٢ ص ٣٦: " أبو محمد الأنصاري هذا يعتد بقوله لقول محمد بن عبدالجبار في رواية الكافي المتقدمة أنه خير … وأما قول نصر بن الصباح من أنه مجهول لا يعرف فلا يعتنى به لأن نصر بن الصباح ضعيف".

ورواه ابن قولويه في ( كامل الزيارات ) مثل الرواية السابقة عن أبي عن سعد عن الجاموراني عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي عبد اللهعليه‌السلام سمعته يقول: " إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء على الحسين بن عليعليهما‌السلام فإنه فيه مأجور ".

فهذه الرواية صريحة في أن المكروه السابق لا يشمل الحزن على سيد الشهداء الحسينعليه‌السلام .

هذا وقد أشبع الحديث عن ذلك العلامة في المنتهى فقد نقل عنه العلامة المجلسي في البحار ج٨٢ ص ١٠٤: " قال العلامة قدس الله روحه في المنتهى: البكاء على الميت جائز غير مكروه إجماعا قبل خروج الروح وبعده إلا الشافعي فإنه كره بعد الخروج … والنياحة

٤٨

بالباطل محرمة إجماعا أما بالحق فجائزة إجماعا ويحرم ضرب الخدود ونتف الشعر وشق الثوب إلا في موت الأب والأخ فقد سوغ فيهما شق الثوب للرجل وكذا يكره الدعاء بالويل والثبور".

وقال الشهيد نور الله ضريحه في ( الذكرى ): " يحرم اللطم والخدش وجز الشعر إجماعا قاله في المبسوط لما فيه من السخط لقضاء الله … واستثنى الأصحاب إلا ابن إدريس شق الثوب على موت الأب والأخ لفعل العسكري على الهاديعليه‌السلام وفعل الفاطميات على الحسينعليه‌السلام

وسئل الصادقعليه‌السلام عن أجر النائحة فقال: لا بأس قد نيح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفي آخر لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا … وروى أبو حمزة عن الباقرعليه‌السلام مات ابن المغيرة فسألت أم سلمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأذن لها في المضي إلى مناحته فأذن لها وكان ابن عمها - ثم رثته بأبيات - وفي تمام الحديث فما عاب عليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ولا قال شيئا".

ثم قال قدس سره: " يجوز الوقف على النوائح لأنه فعل مباح فجاز صرف المال إليه ولخبر يونس بن يعقوب عن الصادقعليه‌السلام قال: قال لي أبو جعفرعليه‌السلام قف من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى والمراد بذلك تنبيه الناس على فضائله وإظهارها ليقتدى بها … "

٤٩

وقد حرم الشيخ في المبسوط - وكذلك ابن حمزة - النوح وادعى الشيخ الإجماع، والظاهر أنهما أرادا النوح بالباطل أو المشتمل على المحرم كما قيده في ( النهاية ) وفي ( التهذيب ) جعل كسبهما مكروها بعد روايته أحاديث النوح.

ثم أول الشهيد ( ره ) أحاديث المانع المروية من طرق المخالفين بالحمل على ما كان مشتملا على الباطل أو المحرم لأن نياحة الجاهلية كانت كذلك غالبا، ثم قال: "المراثي المنظومة جائزة عندنا وقد سمع الأئمةعليه‌السلام المراثي ولم ينكروها ". انتهى ما نقله العلامة المجلسي.

- البكاء على الميت مستحب عند أهل السنة!

هذا وقد ورد في مصادر العامة ما يدل على أن البكاء على الميت سنة سنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد روى إسحاق بن راهويه في مسنده ج٢ ص ٥٩٩ رقم ١١٧٤ قال:

"أخبرنا النضر بن شميل نا محمد بن عمرو حدثني محمد بن إبراهيم عن عائشة قالت: مر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين انصرف على بني الأشهل فإذا نسائهم يبكين على قتلاهم وكان استمر القتل فيهم

٥٠

يومئذ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لكن حمزة لا بواكي له قال فأمر سعد بن معاذ نساء بني ساعدة أن يبكين عند باب المسجد على حمزة فجعلت عائشة تبكي معهن فنام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستيقظ عند المغرب فصلى المغرب ثم نام ونحن نبكي فاستيقظ رسول الله لعشاء الآخرة فصلى العشاء ثم نام ونحن نبكي فاستيقظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن نبكي فقال: ألا أراهن يبكين حتى الآن مروهن فليرجعن ثم دعا لهن ولأزواجهن ولأولادهن".

والرواية حسنة على الأقل لوثاقة الكل إلا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي قال ابن حجر في التقريب ج٢ ص ١١٩: " صدوق له الأوهام ".

ورواه أحمد في مسنده ج٩ ص ٣٨ مسند ابن عمر رقم ٤٩٨٤ قال:

حدثنا زيد بن الحباب حدثني أسامة بن زيد حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من أحد فجعلت نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " ولكن حمزة لا بواكي له " قال: ثم نام فاستنبه وهن يبكين قال: فهن اليوم إذا يبكين يندبن بحمزة وقد بين الحاكم في مستدركه ج١ ص ٣٨١ الأمر الأخير بقوله: " وهو أشهر حديث بالمدينة فإن نساء المدينة لا يندبن موتاهن حتى يندبن حمزة وإلى يومنا هذا ".

٥١

ولعلك تلاحظ في هذه الرواية أنها لا تدل على جواز البكاء على الميت وندبه فحسب، بل إنها تدل على مشروعية تحويل البكاء إلى عادة مستمرة لقرون طويلة.

وقد ورد في المروي عن طريق أسامة بن زيد الليثي زيادة تدل بظاهرها على نسخ الجواز وهي زيادة: " مروهن فليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم " مسند أحمد ج٩ ص ٣٩٨.

قال الكناني في ( مصباح الزجاجة ) ج٢ ص٤٧: "هذا إسناد ضعيف لضعف أسامة بن زيد "، وقال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) ج٤ ص ٢٥٣: " ورجال إسناد حديث ابن عمر ثقات إلا أسامة بن زيد الليثي ففيه مقال ".

ولكن حتى من لم يرفض هذه الزيادة من حيث السند، فإنه رفض كونها ناسخة كما صرح بذلك ابن القيم في كتابه ( عدة الصابرين ) ج١ ص ٨٢ قال: " وأما دعوى النسخ في حديث حمزة فلا يصح إذ معناه لا يبكين على هالك بعد اليوم من قتلى

أحد، ويدل على ذلك أن نصوص الإباحة أكثرها متأخرة عن غزوة أحد منها حديث أبي هريرة إذ إسلامه وصحبته كانا في السنة السابعة ومنها البكاء على جعفر وأصحابه وكان استشهادهم في السنة الثامنة ومنها البكاء على زينب وكان موتها في السنة الثامنة أيضا ومنها البكاء

٥٢

على سعد بن معاذ وكان موته في الخامسة ومنها البكاء عند قبر أمه وكان عام الفتح في السنة الثامنة ".

- البكاء على الحسين سنة سنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله أول من أخبر بواقعة شهادة الحسينعليه‌السلام وأول الباكين عليه عند ولادتهعليه‌السلام : روى ابن حبان في صحيحه ج٦ ص ٢٠٣ عن أنس بن مالك قال: " استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأذن له فكان في يوم

أم سلمة فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد فبينا هي على الباب إذ جاء الحسين بن علي فظفر فاقتحم ففتح الباب فدخل فجعل يتوثب على ظهر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل النبي يتلثمه ويقبله فقال له الملك: أتحبه؟ قال: نعم

قال: أما إن أمتك ستقتله إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه؟ قال: نعم فقبض قبضة من المكان الذي يقتل فيه فأراه إياه فجاءه بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها".

وأما بكاءصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه فقد روى أحمد في مسنده ج٢ ص٧٨ عن نجي أنه سار مع علي وكان صاحب مطهرته فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي: اصبر أبا عبدالله اصبر أبا عبدالله بشط الفرات قلت: وماذا؟ قال: دخلت على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وعيناه تفيضان؟

٥٣

قال: " بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات " قال: فقال: " هل لك إلى أن أشمك من تربته؟ " قال: قلت: نعم فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا.

قال الهيثمي في ( مجمع الزائد ) ج٩ ص ١٨٧ معلقا على الرواية: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجاله ثقات ولم ينفرد نجي بهذا".

وروى الطبراني في ( المعجم الكبير ) ج٣ ص ١٠٨ عن أم سلمة قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا ذات يوم في بيتي فقال: لا يدخل علي أحد فانتظرت فدخل الحسين ( رض ) فسمعت نشيج رسول الله يبكي فاطلعت فإذا حسين في حجره والنبي

صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح جبينه وهو يبكي فقلت: والله ما علمت حين دخل فقال: إن جبريلعليه‌السلام كان معنا في البيت قال: تحبه؟ قلت: أما من الدنيا فنعم، قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها كربلاء فتناول جبريلعليه‌السلام من تربتها

فأرها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما بحسين حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: كربلاء قال: صدق الله ورسوله أرض كرب وبلاء.

قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ج٩ ص ١٨٩ معلقا على سند الرواية: "رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات".

٥٤

وروى الحاكم في المستدرك على الصحيحين ج٣ ص١٧٦ ( ١٩٤ ) عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلما منكرا الليلة قال: ما هو قالت إنه شديد قال: ما هو قالت: رأيت كأن قطعة

من جسدك قطعت ووضعت في حجري فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت خيرا تلد فاطمة إن شاء الله غلاما فيكون في حجرك، فولدت فاطمةعليه‌السلام الحسنعليه‌السلام فكان في حجري كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخلت يوما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع

قالت: فقلت يا نبي الله بأبي وأمي مالك؟

قال: أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا فقلت: هذا فقال: نعم وأتاني بتربة من تربته حمراء.

هذه روايات صريحة في أن البكاء على الحسين هي سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والشيعة يتبعون سنتهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البكاء على سيد الشهداء الحسينعليه‌السلام .

١٤) أعداء أهل البيت يصومون يوم عاشوراء فرحاً!

قال: "مما ورد من روايات في فضل صيام هذا اليوم من روايات الشيعة ما رواه الطوسي في الاستبصار … وما لا أكاد أفهمهم تجاهل علماء الشيعة للروايات الواضحة في بيان فضل صيام عاشوراء ".

٥٥

لم يكن لصوم يوم العاشر من المحرم صدى كما نسمعه اليوم، ولا تركيز من قبل النواصب كما يفعلون اليوم، فهل يريدون بذلك أن يغطوا على شناعة فعل يزيد في ذلك اليوم، دفاعا عن بني أمية.

أما عند الشيعة فقد اختلفت آراء فقهاء الشيعة تبعا لاختلاف الروايات وتعارضها في مسألة صوم عاشوراء.

إذ يبدو أن القدماء منهم ( قده ) قد حكموا باستحباب صوم يوم العاشر إن كان على وجه الحزن، وحمل الشهيد الثاني معنى الصوم على الامتناع عن المفطرات إلى العصر لا على المعنى الشرعي للصـوم، فهو يرد القول باستحباب الصوم الشرعي، إذ يقول: " لأن صومه متروك كما وردت به الرواية "،

وحكم المحقق البحراني من المتأخرين بالحرمة، ويفهم من السيد الطباطبائي في ( الرياض ) الاستحباب العام لا بالعنوان الخاص المؤكد عليه بالشريعة، ويؤيد صاحب ( الجواهر ) رأي القدماء، نعم ظاهر السيد الخوئي رحمه الله في كتابه ( المستند ) ترجيح الاستحباب الخاص.

فالقول بأن علماء الشيعة تجاهلوا الروايات الدالة على فضل صيام عاشوراء يكشف عن جهل الكاتب الشديد، بل هو توغل في الجهالة.

٥٦

إذا، فصوم عاشوراء إما أن يكون بالعنوان العام أو بالعنوان الخاص وكلاهما له مؤيد ومعارض، نعم هم يتفقون على حرمة صوم العاشر بعنوان التبرك واعتباره يوم فرح كما ظاهر بعض النصوص الواردة في مصادر السنة وظاهر صيام بعضهم، فذاك موطن التشنيع من قبل الشيعة ورفضهم.

ولعل القارئ المنصف يفهم ذلك عندما يقرأ ما صرح به ابن تيمية في ج٢٥ ص ١٦٦ من ( مجموعة الفتاوى ): "فعارض هؤلاء قوم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته وإما من الجهال … فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال و الاختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسما كمواسم الأعياد والأفراح".

وقال في ( منهاج السنة ) ج٨ ص ١٥١: "وكذلك حديث عاشوراء والذي صح في فضله هو صومه وأنه يكفر سنة وأن الله نجى فيه موسى من الغرق وقد بسطنا الكلام عليه في موضع آخر وبينا أن كل ما يفعل فيه سوى الصوم بدعة مكروهة لم يستحبها أحد من الأئمة مثل الاكتحال والخضاب وطبخ الحبوب وأكل لحم الأضحية والتوسيع في النفقة وغير ذلك وأصل هذا من ابتداع قتلة الحسين ونحوهم".

٥٧

وقد أقر ابن كثير في تاريخه بأن يوم عاشوراء يتخذ يوم سرور عند النواصب من أهل الشام فقال في ج٨ ص ٢٢٠: "وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة ويظهرون السرور والفرح".

وقال العيني في ( عمدة القارئ ) ج ٥ ص ٣٤٧: "اتفق العلماء على أن صوم يوم عاشوراء سنة وليس بواجب، نعم اختلق أعداء أهل البيتعليه‌السلام أحاديث في استحباب التوسعة على العيال يوم عاشوراء والاغتسال والخضاب والاكتحال".

قال ابن الجوزي في ( الموضوعات ) ج٢ ص ١١٢: " قد تمذهب قوم من الجهال بمذهب أهل السنة فقصدوا غيظ الرافضة فوضعوا أحاديث في فضل عاشوراء ونحن براء من الفريقين، وقد صح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بصوم عاشوراء إذ قال: إنه كفارة سنة، فلم يقنعوا بذلك حتى أطالوا وأعرضوا وترقوا في الكذب ".

إذا فمورد الخلاف في الحقيقة يتوجه إلى ما صدر بعنوان السرور والفرح والزينة يوم عاشوراء.. وما زالت تجد بقاياه الى يومنا هذا!!

فاعتراضنا على من وضعوا الأحاديث التي تتخذ يوم عاشوراء يوم فرح! منها ما عده ابن الجوزي في الموضوعات ج٢ ص ١١٥ عن

٥٨

عبدالله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته ".

وكذلك روى ابن الجوزي في كتابه الموضوعات عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : " من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبدا".

فنكرر ونقول إن اعتراض الشيعة على هذه الأمور لا على مجرد الصيام، ويبدو من النصوص أن من ناقش مستحبات ذلك اليوم قد ربط ذكرها بالصيام، فغدا الصوم علامة على فرح ذلك اليوم، مما جعل الصيام شعارا للفرحين مع الأيام إضافة للاكتحال والزينة ولبس الحلي والتوسعة على العيال وغيرها، لذا ينبغي للصائم في هذا اليوم أن يكون صومه حزناً، ولا يفرح كما فرح أعداء الحسين وقاتلوه.

١٥) محاولة الكاتب تبرئة يزيد من قتل الحسينعليه‌السلام !

قال لم يكن ليزيد يد في قتل الحسين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق.

نقــول إليك النصوص التالية:

أ‌ - نقل الطبري في تاريخه أحداث سنة ٦٠ هـ ج ٤ ص ٢٥٠ رسالة يزيد بن معاوية إلى الوليد بن عتبة أمير المدينة " أما بعد

٥٩

فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا والسلام"، وروى ذلك ابن كثير في تاريخه ج٨ص١٥٧.

ب‌ - وذكر في عهد يزيد إلى عبيد الله الأمر بقتل مسلم بن عقيل: "ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكان عنده فبعثه إلى عبيد الله بعهده إلى البصرة وكتب إليه معه أما بعد فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام "، روى ذلك ابن الجوزي في تاريخه ( المنتظم ) ج٤ص١٤٢، وابن كثير في تاريخه ج٨ ص١٦٤.

ت‌ - ثم روى الطبري ج٤ ص ٢٩٦: " عن جعفر بن سليمان الضبعي قال: قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة".

ث‌- ثم قوله لزينب بنت عليعليه‌السلام كما في الطبري ج٤ ص ٣٥٣ مؤكدا لنظرته في استحقاق الإمامعليه‌السلام للقتل لأنه خارجي خرج من الدين: "إنما خرج من الدين أبوك وأخوك فقالت زينب بدين الله ودين أبى ودين أخى وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك ".

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

منعوك ، وستعلم من الرابح غدا ، والاكثر حسدا؟ ولو ان السموات والارض كانتا على عبد رتقا ، ثم اتقى الله لجعل الله منهما مخرجا ، لا يؤنسنك إلا الحق ، ولا يوحشنك إلا الباطل فلو قبلت دنياهم لأحبوك ، ولو قرضت منها لآمنوك »

وحدد الامام ـ بهذه الكلمات الرائعة ـ الموقف الرهيب الذي وقفه أبو ذر من عثمان فانه لم يكن من اجل المادة ، ولا من اجل سائر الاعتبارات الاخرى التي يئول امرها الى التراب ، وانما كان من أجل المبادئ الاصيلة والقيم العليا التي جاء بها الاسلام وهي تهيب بالحاكمين والمسئولين أن لا يستأثروا بأموال المسلمين ، وقد جافى عثمان ذلك ، وانتهج سياسة خاصة بنيت على الاستغلال والإثرة ، فلهذا ثار أبو ذر في وجهه وناجزه ، وقد خافه عثمان على ملكه وسلطانه ، وخافه أبو ذر على دينه وعقيدته ، وقد امره الامام ان يترك ما بأيديهم ، ويهرب بدينه ليكون بمنجاة من شرور القوم وآثامهم.

وبيّن٧ ـ فى كلماته ـ اتجاه ابي ذر وميوله ، فانه لا يؤنسه إلا الحق ، ولا يوحشه إلا المنكر والباطل ولو انه غيّر اتجاهه فسالم القوم ووادعهم لأحبوه واخلصوا له ، وأجزلوا له العطاء ، ومنحوه الثراء.

وبادر إليه الامام الحسن فصافحه وودعه ، وألقى عليه كلمات تنم عن قلب موجع لهذا الفراق قائلا :

« يا عماه. لو لا انه ينبغي للمودع أن يسكت ، وللمشيع ان ينصرف لقصر الكلام وإن طال الاسف ، وقد اتى القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها ، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيك ، وهو عنك راض »

٢٦١

لقد امره الامام الحسن٧ بالصبر على ما انتابه من الكوارث والخطوب التي صبها عليه القوم ليلقى رسول الله٦ وهو عنه راض.

والقى ابو ذر على أهل البيت نظرة مقرونة بالتفجع والاسى والحسرات وتكلم بكلمات يلمس فيها ذوب قلبه على هذا الفراق المرير قال :

« رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، اذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله٦ ما لي بالمدينة سكن ولا شجن(١) غيركم إني ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين(٢) فأفسد الناس عليهما فسيرنى الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ، والله ما أريد إلا الله صاحبا ، وما اخشى مع الله وحشة »

وانصرف أبو ذر طريدا في فلوات الارض شريدا عن حرم الله وحرم رسوله قد باعدته السياسة العمياء ، وفرقت بينه وبين اهل البيت الذين يكن لهم أعمق الود وخالص الحب من أجل حبيبه وصاحبه رسول الله٦ .

لقد مضى أبو ذر الى الربذة ليموت فيها جوعا ، وفي يد عثمان ذهب الارض يصرفه على بني أمية ، وعلى آل ابي معيط ، ويحرمه على شبيه المسيح عيسى بن مريم في هديه وسمته.

ورجع الامام امير المؤمنين مع اولاده من توديع ابي ذر ، وقد علاه الاسى والحزن فاستقبلته جماعة من الناس فاخبروه بغضب عثمان واستيائه منه

__________________

(١) السكن : الاهل والشجن : من يهواه ويحبه

(٢) المصرين : البصرة ، ومصر وكان والي البصرة عبد الله بن عامر ابن خال عثمان ، ووالي مصر عبد الله بن سعد بن ابي سرح وهو اخو عثمان.

٢٦٢

لأنه خالف أمره وخرج لتوديع خصمه فقال٧ :

« غضب الخيل على اللجم. »(١)

وبادر عثمان الى الامام فقال له :

ـ ما حملك على رد رسولي؟

ـ اما مروان فانه استقبلني يردني فرددته عن ردي ، وأما امرك فلم ارده

ـ او لم يبلغك أني قد نهيت الناس عن تشييع ابي ذر؟

ـ أو كل ما أمرتنا به من شيء يرى طاعة الله والحق في خلافه أتبعنا فيه أمرك؟!!

ـ أقد مروان

ـ وما أقيده؟

ـ ضربت بين اذني راحلته

ـ أما راحلتي فهي تلك ، فإن اراد ان يضربها كما ضربت راحلته فليفعل ، وأما أنا فو الله لئن شتمني لأشتمنك أنت بمثلها بما لا اكذب فيه ولا أقول إلا حقا.

ـ ولم لا يشتمك إذ شتمته ، فو الله ما أنت عندي بأفضل منه.

وغضب الامام من عثمان لأنه ساوى بينه وهو من النبي بمنزلة هارون من موسى ، وبين الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم الذي لعنه رسول الله وهو في صلب أبيه ، فقال٧ له :

ـ إلي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟!! فانا والله افضل منك وأبي افضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك ، وهذه نبلي قد نثلتها »

__________________

(١) يضرب مثلا لمن يغضب غضبا لا ينتفع به

٢٦٣

فسكت عثمان ، وانصرف الامام وهو ملتاع حزين منه لأنه لم يرع مقامه ، ولم يلحظ جانبه وقرن بينه وبين مروان.

٣ ـ عمار بن ياسر

وعمار بن ياسر فذ من أفذاذ الاسلام ، وعلم من أعلامه ، وقطب من أقطابه ، وصاحب رسول الله٦ وخليله لقي في سبيل الاسلام أعظم الجهد ، وأمر البلاء ، وعذب مع أبويه اعنف التعذيب وأقساه ، فقد استضعفتهم جبابرة قريش فصبت عليهم وابلا من العذاب الأليم فألهبت ابدانهم بمكاوى النار ، وضربتهم ضربا موجعا ، ووضعت على صدورهم الاحجار الثقيلة ، وصبت عليهم قربا من الماء ، وكان النبيّ٦ يجتاز عليهم فيرى ما هم فيه من المحنة والعذاب فتذوب نفسه اسى وحزنا ، ويقول :

« اصبروا آل ياسر : موعدكم الجنة. »(١)

ويقول وقد اضناه الحزن « اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعلت »(٢)

وبقيت هذه الاسرة التي وهبت حياتها لله تحت التعذيب والارهاق لم تحتفل بما تعانيه من ألم التعذيب وشدته وأصرت على ايمانها بدعوة محمد٦ وهي تسخر بأوثان قريش واصنامها فورم من ذلك أنف أبي جهل ، وانتفخ سحره ، وجعلت عيناه تقدحان شررا وغيظا فعمد الى سمية فطعنها في قلبها فماتت وهي اول شهيدة في الاسلام ، وعمد الاثيم بعد ذلك الى ياسر فقتله.

وظل عمار تحت التعذيب حتى اعياه ، وأرهقه فعرضت عليه قريش

__________________

(١) كنز العمال ٦ / ٨٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢٩٣

(٢) مسند احمد ١ / ٦٢

٢٦٤

سب النبي والعدول عن دينه فاجابهم على كره فعفوا عنه ، فانطلق الى رسول الله٦ يبكي فجعل رسول الله يمسح عينيه ، وقال : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ، وانزل الله تعالى فيه :

( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. ) (١)

وملئت نفس عمار بالايمان بالله فكان الدين قطعة من طبعه ، وعنصرا مقوما لمزاجه ، وانزل الله فيه غير آية من القرآن كلها ثناء عليه وتمجيد له ، واشادة به ، وقد عناه تعالى بقوله :( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (٢) ونزلت فيه الآية الكريمة :( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (٣) كما نزلت فى الثناء عليه وفى ذم الوليد الآية المباركة وهي قوله تعالى :( أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. ) (٤)

واهتم النبي٦ في شأن عمار اهتماما بالغا فكان يرفع من شأنه ، ويشيد بذكره ، ويقدمه على غيره فقد رأى خالدا يغلظ له

__________________

(١) سورة النحل : آية ١٠٦ ذكر نزولها في عمار ابن سعد في طبقاته ٣ / ١٧٨ الواحدي في اسباب النزول صفحة ٢١٢ الطبري في تفسيره ١٤ / ١٢٢ وغيرهم

(٢) سورة الزمر : آية ٩ ذكر نزولها في عمار القرطبي في تفسيره ١ / ٢٣٩ وابن سعد في طبقاته ٣ / ١٧٨

(٣) سورة الانعام : آية ١٢٢ نص على نزولها في عمار السيوطى في تفسيره ٣ / ٤٣ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ١٧٢.

(٤) سورة القصص : آية ٦١ نص على نزولها في عمار والوليد الزمخشري في تفسيره ٢ / ٣٨٦ ، الواحدي في اسباب النزول صفحة ٢٥٥

٢٦٥

في القول فالتاع من ذلك وانبرى يقول : « من عادى عمارا عاداه الله ، ومن أبغض عمارا ابغضه الله. »(١) وجرت بينه وبين شخص مشادة فقال لعمار : سأعرض هذه العصا لأنفك ، فلما سمع ذلك رسول الله (ص) غضب واندفع يقول : « ما لهم ولعمار يدعوهم الى الجنة ، ويدعونه الى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفى فاذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه »(٢) ويقول فيه : « ما خير عمار بين امرين الا اختار ارشدهما »(٣)

وظل عمار موضع عناية النبي وتبجيله وتقديره لما يرى فيه من الاخلاص والزهد فى الدنيا ، والحب للحق وقد شهد مع النبي بدرا وأحدا والمشاهد كلها ، وشارك فى بناء المسجد النبوي فكان المسلمون يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة ، وهو يحمل لبنتين لبنتين ، وهو يقول : « نحن المسلمين نبتنى المساجد » وكان النبي يرجع عليه بعض قوله فيقول « المساجد » وشارك كذلك في حفر الخندق وكان يمسح التراب عنه ، وهكذا كان عمار فى طليعة أصحاب النبي٦ في ايمانه واخلاصه وعظيم بلائه وعنائه في سبيل الاسلام ، ولما انتقل النبي الى حضيرة القدس لازم أمير المؤمنين وكان متفانيا في حبه ، ولا يرى أحدا خليقا بالخلافة غيره ومن أجل ذلك تخلف عن بيعة أبي بكر واحتج عليه ، وقد تقدم بيان ذلك ولما آل الامر الى عثمان ، وسلك غير الجادة نقم منه عمار واشتد فى معارضته والانكار عليه ، وقد نكل به عثمان ، واعتدى عليه ، وقابله بافحش القول وأمره ، وكان ذلك في مواضع عدة وهي :

__________________

(١) مسند احمد ٤ / ٨٩

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ١١٤

(٣) سنن ابن ماجة ١ / ٦٦ مصابيح السنة ٢ / ٢٨٨

٢٦٦

١ ـ انه لما استأثر بالسفط ، وحلى به بعض نسائه انكر عليه أمير المؤمنين ، وايد عمار معارضته ، كما تقدم بيانه قال له عثمان : أعليّ يا بن المتكاء(١) تجترئ؟ واوعز الى شرطته بأخذه فأخذوه وأدخلوه عليه فضربه حتى غشي عليه ، وهو شيخ قد علاه الضعف وحمل الى منزل السيدة أم سلمة زوج النبي ، ولم يفق من شدة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين والمغرب ، فلما افاق توضأ وصلى العشاء ، وقال : الحمد لله ليس هذا اول يوم أوذينا فيه فى الله ، وغضبت من اجل ذلك السيدة عائشة فاخرجت شعرا من شعر رسول الله وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، ثم قالت ما اسرع ما تركتم سنة نبيكم ، وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد وغضب عثمان حتى لا يدري ما يقول ، ولا يعرف كيف يعتذر عن عمله؟(٢)

٢ ـ ان أعلام الصحابة رفعوا مذكرة لعثمان ذكروا فيها احداثه ، ومخالفة سياسته للسنة ، وانهم يناجزونه إن لم يثب الى الرشاد ، ولم يغير خطته ، وقد دفع إليه المذكرة عمار ، فأخذها عثمان وقرأ صدرا منها فثار واندفع وهو مغيظ محنق فقال له :

ـ أعلي تقدم من بينهم؟؟!

ـ إني انصحهم لك

ـ كذبت يا ابن سمية

ـ أنا والله ابن سمية وابن ياسر

وأمر عثمان غلمانه فمدوا بيديه ورجليه ، ثم ضربه عثمان برجليه ، وهي

__________________

(١) المتكاء : العظيمة البطن ، والتي لا تمسك البول

(٢) الانساب ٥ / ٤٨

٢٦٧

في الخفين على مذاكيره فاصابه الفتق ، وكان ضعيفا فأغمي عليه(١)

٣ ـ ولما نفى عثمان أبا ذر صاحب رسول الله٦ الى الربذة ، وتوفى فيها غريبا ، وجاء نعيه الى يثرب قال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

«; »

فاندفع عمار قائلا :

« نعم; من كل أنفسنا »

فانتفخت اوداج عثمان ، وقال لعمار بافحش القول ، وأقساه :

« يا عاض أير أبيه ، أتراني ندمت على تسييره؟ »

وأمر غلمانه فدفعوا عمارا ، وأرهقوه ، كما أمر بنفيه الى الربذة ، فلما تهيأ للخروج أقبلت بنو مخزوم الى امير المؤمنين فسألوه ان يذاكر عثمان في شأنه ، فانطلق الامام إليه ، وقال له :

ـ اتق الله ، فانك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك ثم أنت الآن تريد ان تنفي نظيره؟ فثار عثمان وقال للامام :

ـ أنت احق بالنفي منه

ـ رم إن شئت ذلك

واجتمع المهاجرون فعذلوه ، ولاموه على ذلك فاستجاب لقولهم ، وعفا عن عمار(٢) .

لقد بالغ عثمان في اضطهاد عمار وارهاقه ، فضربه اعنف الضرب وأقساه ، واغلظ له فى القول ، ولم يرع بلاءه فى الاسلام ، ونصرته للنبي

__________________

(١) الانساب ٥ / ٤٩ ، العقد الفريد ٢ / ٢٧٢

(٢) الانساب ٥ / ٥٤ ، اليعقوبي ٢ / ١٥٠

٢٦٨

في جميع المواقف والمشاهد ، واهتمام النبي بشأنه ، وتقديمه على غيره ، وانه جلدة ما بين عينيه ـ على حد تعبيره ـ كل ذلك لم يلحظه فاعتدى عليه ، ونقم منه لأنه أمره بالعدل ، ودعاه الى الحق الواضح ، والى الاعتدال في سياسته.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن تنكيله باعلام الصحابة من الذين سبقوا الى الاسلام ، وجاهدوا اعظم الجهاد في سبيله ، وهم ـ من دون شك ـ لم يكونوا مدفوعين بدافع الرغبة في الحكم أو الامرة على بعض الامصار والاقاليم الاسلامية ، او الظفر بالمال ، كل ذلك لم يدفعهم الى الصيحة عليه ، وإنما رأوا أنه احدث من الاعمال ما ليست في كتاب الله ، ولا في سنة نبيه ، رأوا حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ـ كما يقول أبو ذر ـ من اجل ذلك اعلنوا نقمتهم وانكارهم عليه ، وطالبوه بأن يسلك الجادة الواضحة ، ويسير على الطريق القويم ، ويتبع هدي النبي ويقتفى اثره.

الافتراء على الامام الحسن

وافترى بعض المؤرخين على الامام الحسن فزعم أنه كان عثماني الهوى وانه يكن له في دخائل نفسه أعمق الحب ومزيد الولاء والاخلاص ، وقد حزن عليه بعد مقتله حزنا بالغا ، وقد ذهب الى ذلك الدكتور طه حسين قال ما نصه :

« ولم يفارق الحسن حزنه على عثمان ، فكان عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ، إلا انه لم يسل سيفا للثأر بعثمان لأنه لم ير ذلك حقا له ، وربما غلا في عثمانيته حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب

٢٦٩

فقد روى الرواة أن عليا مر بابنه الحسن وهو يتوضأ فقال له : اسبغ الوضوء فاجابه الحسن بهذه الكلمة المرة : « لقد قتلتم بالأمس رجلا كان يسبغ الوضوء » فلم يزد علي على ان قال : لقد اطال الله حزنك على عثمان. »(١)

إن السياسة التي انتهجها عثمان ، والاحداث الجسام التي صدرت منه لم تترك له أي حميم أو صديق في البلاد فقد سخط عليه عموم المسلمين ، وخافوه على دينهم ، فكانت عائشة تخرج ثوب رسول الله٦ ، وتقول للداخلين إليها : هذا ثوب رسول الله لم يبل ، وعثمان قد أبلى سنته ، ونقم عليه حتى طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف ، وغيرهم ممن اغدق عليهم بالنعم والاموال ، ولم يعد له أي صديق أو مدافع عنه سوى بني أمية وآل ابي معيط ، وبعد هذه الكراهية الشاملة فى نفوس المسلمين لعثمان كيف يكون الامام الحسن ـ الذي يحمل هدي جده الرسول ـ عثمانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ـ كما يقول طه حسين ـ لقد كان الحسن من جملة الناقمين على عثمان والناكرين عليه لأنه رأى ما لاقاه أصحاب أبيه كأبي ذر وعمار ، وابن مسعود من الاضطهاد والارهاق ، وشاهد ما لاقاه أبوه بالذات من الاستهانة بحقه ، والاعتداء عليه حينما خرج لتوديع ابي ذر وبعد هذا كيف يكون الحسن عثمانيا ، او مغاليا في حبه له؟!!

وأي مظهر من مظاهر الكآبة والحزن بدت من الامام الحسن على عثمان بعد مقتله ، أفي قيامه بالدور البطولي في بعث الجماهير ، واخراجها الى ساحة الحرب في موقعة الجمل التي اثيرت للطلب بدم عثمان ، وقد كان معه في كثير من تلك المواقف عمار بن ياسر ، وكان ينال من عثمان

__________________

(١) الفتنة الكبرى ٢ / ١٩٣ ـ ١٩٤

٢٧٠

ويتهمه في دينه ، ويقول فيه : قتلنا عثمان يوم قتلناه وهو كافر(١) وكان الحسن يسنده ، ويدعم أقواله ، أو أنه ظهر منه الاسى على عثمان في حرب صفين الذي ثأر فيه معاوية للطلب بدم عثمان ، ففى أي موقف أظهر الامام حزنه وأساه على عثمان؟؟

وأما الرواية التي استند إليها الدكتور طه حسين لتدعيم قوله ، فقد رواها البلاذري عن المدائني(٢) الذي عرف بالنصب والعداء لأهل البيت وافتعال الروايات الحسنة في بني أميّة(٣) والغرض من وضع هذه الرواية أن يضفي على عثمان ثوب القداسة ، ويجعل له رصيدا من الحب في نفوس صلحاء المسلمين ، ومضافا لضعف سندها فيرد عليها بعض المؤاخذات وهي

١ ـ إن الامام امير المؤمنين قد تلطف في خطابه مع ولده الحسن ، وبين له الحكم الشرعي ، ولم يواجهه بلاذع القول فما الذي دعا الحسن ان يقابله بتلك الكلمات المرة ، وهو وارث النبي٦ وشبيهه في سمو أخلاقه وكريم طباعه.

٢ ـ إن الامام الحسن كان من جملة المدافعين عن عثمان ـ كما يقولون ـ وكان ذلك بأمر من أبيه فكيف يتهمه بقتل عثمان؟

٣ ـ إن الامام لم يكن له أي دخل في قتل عثمان ، ولا في التآمر عليه ، وإنما قتلته أعماله ، وأجهزت عليه الاحداث التي ارتكبها ، فكيف يتهم الحسن أباه بقتله؟

وبعد الاحاطة بما ذكرنا لا تبقى للرواية اي قيمة في سندها ولا في

__________________

(١) التمهيد للباقلانى صفحة ٢٢٠

(٢) الانساب ٥ / ٨١

(٣) الطبري ٤ / ٢٤٠

٢٧١

دلالتها ، والغريب من الدكتور أن يعتمد عليها ، ولا يمعن النظر فيها وفى امثالها من الروايات التي تعمد وضعها ذوو النزعات الاموية وأجراء السلطة

الثورة

وأخذ المسلمون يتحدثون في أنديتهم عن مظالم عثمان ، وعن احداثه واستبداده بشئونهم ، وتبديده لثرواتهم ، وتنكيله بأخيار الصحابة وأعلام الدين ، وتلاعب مروان وبني أميّة بشئون الدولة ، وغير ذلك من الاحداث الجسام ، وقد انتشر التذمر ، وعم السخط والاستياء جميع انحاء البلاد ، فاجتمع أهل الحل والعقد ، وذوو السابقة في الاسلام فكاتبوا الامصار يستنجدون بهم ، ويطلبون منهم العون ، وارسال القوات المسلحة للقيام بقلب الحكم القائم وهذا نص مذكرتهم لأهل مصر :

« من المهاجرين الاولين وبقية الشورى ، الى من بمصر من الصحابة والتابعين ، أما بعد : ان تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل أن يسلبها أهلها ، فان كتاب الله قد بدل ، وسنة رسوله قد غيرت ، واحكام الخليفتين قد بدلت ، فننشد الله من قرأ كتابنا من بقية اصحاب رسول الله والتابعين باحسان إلا أقبل إلينا ، وأخذ الحق لنا ، وأعطاناه ، فأقبلوا إلينا ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وأقيموا الحق على المنهاج الواضح الذي فارقتم عليه نبيكم ، وفارقكم عليه الخلفاء ، غلبنا على حقنا ، واستولى على فيئنا ، وحيل بيننا وبين أمرنا ، وكانت الخلافة بعد نبينا خلافة نبوة ورحمة ، وهي اليوم ملك عضوض ، من غلب على شيء أكله »(١)

وحفلت هذه الرسالة بذكر الاحداث الخطيرة التي ابتلي بها العالم

__________________

(١) الامامة والسياسة ١ / ٣٥

٢٧٢

الاسلامي من جراء الحكم القائم وهي :

١ ـ تبديل كتاب الله ، والغاء أحكامه العادلة

٢ ـ تغيير سنة النبي٦ واهمال ما اثر عنه في عالم الحكم والسياسة

٣ ـ الاعراض عن سيرة الشيخين

٤ ـ استئثار السلطة بالفيء وصرفه على مصالحها الخاصة

٥ ـ صرف الخلافة الاسلامية عن مفاهيمها البناءة ، وطاقاتها الثرة الى ملك عضوض لا يعتني باهداف الامة ، ولا يرع مصالحها

وقد اوجبت هذه الاحداث زعزعة الكيان الاسلامي ، وتهديد الحياة الاسلامية بالدمار ، وقد واصل الناقمون على عثمان جهادهم فبعثوا برسالة أخرى الى المرابطين في الثغور من اصحاب النبي يطلبون منهم القدوم الى يثرب لإقامة الخلافة ، وهذا نص رسالتهم :

« انكم انما خرجتم ان تجاهدوا في سبيل الله عز وجل ، تطلبون دين محمد٦ فان دين محمد قد أفسده خليفتكم فاقيموه »

واستجابت الامصار الاسلامية لهذا النداء فارسلت وفودها الى يثرب للاطلاع على الاوضاع الراهنة ودراسة الموقف ، وما يحتاجه من علاج ، والوفود التي أقبلت هي :

أ ـ الوفد المصري

وأرسلت مصر وفدا عدده اربع مائة شخص ، وقيل اكثر من ذلك بقيادة محمد بن أبي بكر ، وعبد الرحمن بن عديس البلوي

ب ـ الوفد الكوفي

وأرسلت الكوفة وفدها بقيادة الزعيم مالك الاشتر ، وزيد بن صوحان

٢٧٣

العبدي ، وزياد بن النضر الحارثي ، وعبد الله بن الاصم العامري ، وعلى الجميع عمرو بن الاهثم

ج ـ الوفد البصري

ونزح من البصرة حكيم بن جبلة في مائة رجل ، ولحقه بعد ذلك خمسون ، وفيهم ذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح القيسي ، وابن المحرش وغيرهم من الاعيان والوجوه

ورحبت الصحابة بالوفود ، واستقبلتها بمزيد من الابتهاج والشكر وأخذت تذكر لها احداث عثمان التي لا تتفق بظاهرها وواقعها مع الدين وحرضوها على الايقاع به والاجهاز عليه لتستريح الامة من حكمه.

ورأى الوفد المصري ـ قبل كل شيء ـ أن يرفع مذكرة الى عثمان يدعوه فيها الى التوبة والاستقامة في سياسته فكتبوا ذلك ، وهذا نصه :

« أما بعد فاعلم ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فالله الله ثم الله الله ، فانك على دنيا فاستتم معها آخرة ، ولا تنسى نصيبك من الآخرة ، فلا تسوغ لك الدنيا ، واعلم انا لله ولله نغضب ، وفي الله نرضى وإنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تأتينا منك توبة مصرحة أو ضلالة مجلحة مبلجة(١) فهذه مقالتنا لك وقضيتنا إليك والله عذيرنا منك والسلام »(٢)

واضطرب عثمان من الامر ، وقرأ الرسالة بامعان ، وأحاط الثوار به فبادر إليه المغيرة وطلب منه الاذن بالكلام معهم ، فاذن له وانطلق

__________________

(١) مجلحة. من جلح على الشيء اقدم عليه اقداما شديدا ، مبلجة : واضحة بينة

(٢) الانساب ٥ / ٦٤ ـ ٦٥ ، تاريخ الطبري ٥ / ١١١ ـ ١١٢

٢٧٤

إليهم فلما رأوه صاحوا به

« يا أعور وراءك! يا فاجر وراءك! يا فاسق وراءك! »

فرجع خائبا ودعا عثمان عمرو بن العاص ، وطلب منه ان يكلم القوم فمضى إليهم وسلم فما ردوا٧ ، وقالوا له :

« ارجع يا عدو الله! ارجع يا ابن النابغة! فلست عندنا بأمين ولا مأمون » وعلم عثمان ان لا ملجأ له إلا الامام أمير المؤمنين فاستغاث به ، وطلب منه ان يدعو القوم الى كتاب الله وسنة نبيه ، فأجابه الامام الى ذلك ولكن شرط عليه ان يعطيه عهد الله وميثاقه على الوفاء بما قال فأعطاه ذلك ومضى الامام الى القوم فلما رأوه قالوا له :

ـ وراءك!

ـ لا. بل امامي ، تعطون كتاب الله ، وتعتبون من كل ما سخطتم وعرض عليهم ما بذله عثمان لهم

ـ أتضمن ذلك عنه؟

ـ نعم

ـ رضينا

وأقبل وجوههم وأشرافهم مع أمير المؤمنين حتى دخلوا على عثمان ، فعاتبوه على اعماله فاعتبهم من كل شيء ، وطلبوا منه أن يكتب لهم كتابا يلتزم فيه على نفسه بالعمل على كتاب الله وسنة نبيه وتوفير الفيء للمسلمين فأجابهم الى ذلك ، وكتب لهم ما نصه :

« هذا كتاب من عبد الله عثمان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين أن لكم أن اعمل فيكم بكتاب الله وسنة نبيه ، يعطى المحروم ويؤمن الخائف ، ويرد المنفي ، ولا تجمر فى البعوث. ويوفر الفيء ، وعلي

٢٧٥

ابن أبي طالب ضمين للمؤمنين والمسلمين ، على عثمان الوفاء بما في هذا الكتاب »

وشهد فيه كل من الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد ابن مالك أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وأبو ايوب خالد بن زيد ، وكتب ذلك في ذي القعدة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ، وأخذ القوم الكتاب وانصرفوا(١) ، وطلب منه الامام أمير المؤمنين ان يخرج الى الناس ، ويعلن لهم أنه قد استجاب لهم ونفذ طلباتهم ، ففعل عثمان ذلك ، واعطى الناس عهدا ان يسير فيهم على كتاب الله وسنة نبيه ، وأن يوفر لهم الفيء ، ولا يؤثر به أحدا من أرحامه ، وذوي قرباه ، ورجع المصريون الى بلادهم ، ودخل مروان على عثمان فقال له :

« تكلم واعلم الناس ان اهل مصر قد رجعوا ، وان ما بلغهم عن امامهم كان باطلا ، فان خطبتك تسير في البلاد قبل ان يتحلب الناس عليك من امصارهم فيأتيك من لا تستطيع دفعه »

لقد دعاه ان يعلن الكذب ، ويقول غير الحق فامتنع من اجابته ـ اولا ـ ولكنه انصاع أخيرا لقوله فخرج ، واعتلى أعواد المنبر وقال :

« أما بعد : إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن امامهم أمر فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم رجعوا الى بلادهم »

واندفع المسلمون الى الانكار عليه فناداه عمرو بن العاص

« اتّق الله يا عثمان فانك قد ركبت نهابير(٢) وركبناها معك فتب الى الله نتب معك »

__________________

(١) الانساب

(٢) النهابير : المهالك.

٢٧٦

فزجره عثمان وصاح به :

« وإنك هناك يا ابن النابغة؟ قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل؟ »

وارتفعت من جميع جنبات المسجد أصوات الانكار وهي ذات لهجة واحدة

« اتق الله يا عثمان اتق الله. »

فانهارت قواه ، ولم يجد بدا من أن يعلن التوبة على هذا الإفك ، ونزل عن المنبر ومضى الى منزله(١)

وهذه البادرة تدل على ضعفه ، وهزال ارادته ، وتلاعب مروان فى شئونه ، وسيطرته على جميع اموره ، وأنه لا قدرة له على مخالفته ، والتغلب عليه.

استنجاده بالامصار

ولما ازداد نشاط الثوار ، وحاصروه فى داره استنجد بمعاوية ، واستغاث به ، وكتب إليه هذه الرسالة :

« أما بعد : فان اهل المدينة قد كفروا ، وخلعوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ، فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول »(٢) وتربص معاوية حينما اطلع على الكتاب فلم يندفع الى نصرته واجابته وتنكر للأيادي التي اسداها عليه ، وعلى اسرته.

ولما ابطأ معاوية على عثمان ، ولم يقم بنجدته بعث عثمان رسالة الى يزيد بن اسد بن كرز وإلى أهل الشام يستفزهم ويحثهم على الخروج

__________________

(١) تأريخ الطبري ٥ / ١١٠ ، الانساب ٥ / ٧٤

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٢ الكامل لابن الاثير ٥ / ٦٧

٢٧٧

لنصرته ، ولما انتهى إليهم الكتاب نفروا للخروج تحت قيادة يزيد القسري ولكن معاوية أمره أن يقيم بذي خشب ، ولا يتجاوزه ، فأقام الجيش هناك حتى قتل عثمان ، والسبب في ذلك هو أن يتخذ من قتله وسيلة للمطالبة بدمه لتؤل الخلافة الى بني أميّة ، إن معاوية ممن دبر الحيلة في قتله ، والى ذلك يشير أبو أيوب الانصاري بقوله لمعاوية : « إن الذي تربص بعثمان ، وثبط يزيد بن اسد عن نصرته لأنت. »

وعلى اي حال فان عثمان قد كتب رسائل متعددة الى الامصار ، والى من حضر الموسم في مكة يستنجد بهم ويطلب منهم القيام بنجدته.

يوم الدار

ورجع الوفد المصري من اثناء الطريق لما تبينت له المكيدة الخطيرة التي دبرت ضده ، فاحاطوا بقصر عثمان وهم يهتفون بسقوطه ، ويطالبونه بالاستقالة من منصبه ، وخرج إليهم مروان فشتمهم ونال منهم قائلا :

« ما شأنكم؟ كأنكم قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه. تريدون ان تنزعوا ملكنا من ايدينا اخرجوا عنا. »

فألهبت هذه الكلمات نار الثورة في نفوسهم فاحاطوا بعثمان ، وعزموا على قتله فاستنجد بالامام فاقبل إليه وقد نقلت له كلمات مروان فقال (ع) :

« أما رضيت من مروان ، ولا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك ، مثل جمل الضعينة يقاد حيث يسار به ، والله ما مروان بذي رأي فى دينه ، ولا فى نفسه ، وأيم الله لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامى هذا لمعاتبتك ، اذهبت شرفك ، وغلبت على امرك »

إن الذي اجهز على عثمان وقتله هو مروان وبنو أميّة ، وقد صرحت

٢٧٨

بذلك نائلة زوج عثمان فقالت للامويين :

« أنتم والله قاتلوه وميتمو أطفاله »

ونصحت زوجها بأن لا يطيع مروان تقول له : « انك متى اطعت مروان قتلك »

إن عثمان يحمل قسطا ليس بالقليل فى الجناية على نفسه لأنه لما علم أنه ضعيف الارادة ، ولا قابلية له للتغلب على الاحداث وان بني أمية قد استولوا على اموره ، وهو يعلم من دون شك كراهية المسلمين لهم ، فكان اللازم عليه أن يترك الامر لغيره ويستقيل من منصبه ، ولا ينكب الامة بقتله. وأيقن الثوار أنه لا مجال لإصلاحه لأنه إن ابرم أمرا نقضه مروان فاصروا عليه أن يخلع نفسه عن الخلافة فأبى وقال : « انما هي ثوب البسنيها الله. » وفي الحقيقة انها ثوب كساه بها عمر ، وألبسها اياه عبد الرحمن بن عوف.

وعلى أي حال فقد اندلعت نيران الثورة ، واشتد أوارها حتى بلغ السيل الزبى فقد صمم الثوار على قتله بعد إبائه عن الاستقالة من منصبه فمنع عنه طلحة الماء ، واستولى على بيوت الاموال ، واحاط الثوار بقصره وتسلق بعضهم عليه الدار فجعلوا يرمونه بالحجارة ، ويبالغون في سبه وشتمه وقذفه

موقف الامام الحسن

وزعم غير واحد من المؤرخين ان الامام الحسن وقف يوم الدار مدافعا عن عثمان بايعاز من أبيه ، وقد أبلى في ذلك بلاء حسنا حتى خضب بدمائه ، وهذا القول ـ من دون شك ـ من موضوعات الامويين

٢٧٩

ومن مفترياتهم فان الامام الحسن (ع) وسائر البقية الصالحة من المهاجرين والانصار كانوا في معزل عن عثمان بل ومن الناقمين عليه ، ولم يحضر من يدافع عنه فى حصاره سوى بني أمية وبعض المنتفعين منهم ولو كان له أي رصيد في المجتمع لما تمكن الثائرون من قتله.

لقد اتفقت كلمة الصحابة على خذلانه ، ولم تظهر منهم بادرة من بوادر المساعدة والمؤازرة له بل كانوا يمجدون الثورة ، ويبعثون روح الحماس في نفوس الثوار ، وبعد هذا فكيف يمكن ان يخرق الامام الحسن الاجماع ويمضي للدفاع عنه وعلى أى حال فقد تعرض المحقق الاميني الى تزييف تلك الاخبار ، وعدها في سلسلة الموضوعات(١)

الاجهاز على عثمان

واجهز الثوار على عثمان ، وقد تولى قتله جماعة في طليعتهم محمد ابن ابي بكر فكان من أحقدهم عليه فقد شهر السيف في وجهه وقال له :

ـ على أي دين أنت يا نعثل؟

ـ على دين الاسلام ولست بنعثل ، ولكني أمير المؤمنين

ـ غيرت كتاب الله

ـ كتاب الله بيني وبينكم

وأخذ بلحيته فسحبه الى الارض وهو يقول : إنا لا يقبل منا يوم القيامة أن نقول : ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل.

وهجم القوم عليه فاردوه قتيلا يتخبط بدمائه ، وتركوه جثة

__________________

(١) الغدير ٩ / ٢١٨ ـ ٢٤٧

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530