حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام29%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 530

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 530 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213697 / تحميل: 8110
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

والزبير يقيمان حيث ادركهما الصلح على ما في ايديهما ، حتى يرجع امين الفريقين ورسولهم كعبُ بن سُور من المدينةِ ، ولا يضّار واحد من الفريقين الاخر في مسجد ، ولا سوق ، ولا طريق ، ولا قرضة(١) ، بينهم عيبة مفتوحة ، حتى يرجع كعب بالخبر ، فإنّ رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير ، فالامر امرهما ، وإن شاء عثمان حتى يلحق بطيته(٢) ، وإن شاء دخل معهما ، وان رجع بأنهما لم يُكرْها فالامر أمر عثمان ، فإنّ شاء طلحة والزبير ، أقاما على طاعة عليّ ، وإن شاءا خرجا حتى يلحقا بطيتهما ، والمنجون اعوانَ الفالج(٣) »(٤) .

عائشةُ أمّ المؤمنين تنبحها كِلابُ الحوأبِ

لقد حذر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ نساءه من بعده ، في اظهار الخلاف والولوج في الفتنةِ التي اخبر بهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وسمى القائمين بها بالناكثين وقد ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ هذه الحادثة ضمن ذكره لكثير من انباء الغيب الذي اوصى الله تعالى به لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

وجاء هذا التحذير في جمعٍ من نسائه ، ففي رواية عصام بن قدامة البجلي ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لنسائه :

__________________

(١) القرضة : الموضع من النهر يستقي منه ، ومن البحر محط السفن.

(٢) طيته : اي لوجهه الذي يريده.

(٣) الفالج : الظافر الفائز.

(٤) جمهرة رسائل العرب ١ : ٣٢١.

٤١

« ليتَ شِعْري أيَّتُكنَّ صاحبة الجَملِ الأَدبَب(١) ، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتلُ عن يَمينها وشِمالها خَلقٌ كثيرٌ ، كُلُّهم في النار ، وتنجُو بعد ما كادَتْ »(٢) .

وفي حديث آخر فيما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لنسائه ، ثمّ اردفه بتحذير شديد الى عائشة :

« كأني بأحداكن وقد نبحتها كلاب الحوأب » ثمّ قال لعائشة : « اياك ان تكونيها »(٣) ومرة اخرى يصرّحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ باسمها علناً كما جاء في رواية عليّ بن مُسهر ، عن هشام بن عُرْوة ، عن ابيه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ : « يا عائشة إنّي رأيتك في المنام مرتين ، أرى جملاً يحملك في سدافة(٤) من حرير ، فأكشفها فإذا هي انت »(٥) .

وفي رواية سالم بن ابي الجعد ، انه ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ خروج بعض نسائه فضحكت عائشة ، فقال : « انظري يا حميراء لا تكونين هي » ثمّ التفت الى عليّ فقال : « يا ابا الحسن إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها »(٦) .

__________________

(١) الادبب : الجمل الكثير الشعر ، القاموس : ١٠٩.

(٢) اعلام النبوة : ١٥٥ ، مناقب آل ابي طالب ٣ : ١٤٩.

(٣) ورد الحديث بهامش الكامل في التاريخ ٣ : ٣٦٦.

(٤) السدافة : الحجاب والستر.

(٥) مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٤٣٢ ، بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٥.

(٦) بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٤.

٤٢

اذن ، جميع القرائن الواردة في احاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، سواء كانت تلويحاً أو تلميحاً تدلُّ على انّ المعنية بصاحبة الجمل هي عائشة. وكانت هي أيضاً تعلم علم اليقين بأنها هي التي تنبحها كلاب الحوأب ! كيف لا تعلم هي صاحبة الجمل وكثير من المسلمين يعرفون بأن لها يوماً تنفرُ فيه مع الغادرين والناكثين ؟

فعن حُذيفة قال : لو احدثكم بما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لوجمتموني(١) ! قالوا : سبحان الله نحن نفعل ؟ قال : لو احدثكم أنّ بعض أمهاتكم تأتيكم في كتيبة كثير عددها شديد بأسها تقاتلكم ، صدّقتم ؟ قالوا : سبحان الله ومن يصدّق بهذا ؟

قال : تأتيكم أمّكم الحميراء في كتيبة يسوق بها أعلاجها من حيث يسؤكم وجوهكم(٢) .

بعد هذه المقدمة الموجزة ، هل يمكننا ان نصدق على ان عائشة عند مسيرها الى البصرة ، وعلمت بالموضع أنّه هو الحوأب الذي اخبرها رسول الله به ، استرجعت وأرادت الرجوع. كما ورد الخبر عند كثير من الرواة ، فيذكر المسعودي : ( وسار القوم نحو البصرة في ستمائة راكب ، فأنتهوا في الليل الى ماء لبني كلاب يعرف بالحَوْأب ، عليه ناس من بني كلاب ، فعوتْ كلابهم على الركب ، فقالت عائشة : ما

__________________

(١) يقال وجم الشيء اي كرهه.

(٢) مناقب آل ابي طالب ١ : ١٤٠.

٤٣

اسم هذا الموضع ؟ فقال لها السائق لجملها : الحوأب ، فاسترجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك ، فقالت : رُدُّوني الى حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، لا حاجة لي في المسير ، فقال الزبير : بالله ما هذا الحوأب ، ولقد غلط فيما أخبرك به ، وكان طلحة في سَاقَةِ الناس ، فلحقها فأقسم ان ذلك ليس بالحوأب ، وشهد معهما خمسون رجلاً ممن كان معهم ، فكان ذلك أوّل شهادة زور أقيمت في الاسلام )(١) .

فمن يقرأ الحديث في الوهلة الاولى يعتقد أو يتصور ان عائشة المسكينة قد غرر بها ، وأرادت الاصلاح بين فئتين مؤمنتين عند مسيرها الى البصرة ، وعندما بلغت الموضع الذي نبحتها كلابه ، واستفسرت من سائق جملها واعلمها انه الحوأب تذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ لها ، فأسترجعت وصاحت ردوني ، كأنها ندمت على خروجها ، وأرادت العودة لولا قسم الزبير وطلحة بأن هذا ليس هو الحوأب ! وايضاً لولا شهادة الخمسين علجاً لصفعت الزبير وطلحة على فعلهما القبيح ، ولعقرت الجمل الذي يحمل على ظهره السوء والمنكر.

لكن عائشة كانت تعلم علم اليقين أنّ هذه الشهادة هي شهادة زور ، وهي على قناعة بأن هذا المكان هو الحوأب بعينه ، وان الجمل الذي يحملها هو الذي أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ . وهذا ما يؤيده كثير من القرائن والحجج الدامغة التي خلفتها لنا ام المؤمنين عائشة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

٤٤

فهي ألم تترك قول الله تعالى خلف ظهرها ؟ وتخرج متبرجة بين الملأ من الناس والعسكر ، مخالفة لامر الله تعالى ، والله تعالى يقول في خطابه لنساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ :( وقرن في بيوتكنّ ولا تتبرجنّ تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة ) (١) .

وإذا كانت ارادت الرجوع لمجرد سماعها اسم الموضع ، فما بالها لم ترجع عندما تواقف الجيشان واطبقت حلقات الفتنة ، ثمّ انها لم تكتف ان تجلس في بيتها وتراقب الموقف وما ستؤول إليه الامور ، بل خرجت الى الحرب ووقفت امام جيش الغدر تحرض وتؤلب الناس على القتال ، وتلقي عليهم الخطب الرنانة لإثارة الحماس فيهم والاستبسال في القتال لكسب هذه الجولة التاريخية ، وتنهي حكومة العدل بقيادة ابن عمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ .

هل استرجعت وقررت الخروج ولو في اللحظات الحالكة التي مرت بها عندما نشب القتال ، وهي ترى الناس حولها أكواماً من الجثث مقطوعة الايدي والرؤوس ؟

هل كانت ستعظم ما فعلته من إباحة دماء المسلمين ويُتْم اطفالهم ، وزعزعة الحياة الاجتماعية في البصرة.

لكن قول الامام عليّعليه‌السلام لها كان شافياً ، وقاطعاً عنها كل سبيل ،

__________________

(١) الاحزاب ٣٣ : ٣٣.

٤٥

ففي رواية الاصبغ بن نباتة ، قال : لما عقر الجمل وقف عليّعليه‌السلام على عائشة ، فقال لها : « ما حملك على ما صنعت ؟ » قالت : ذيت وذيت(١) . فقال : « اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد ملأت أذنيك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ وهو يلعن أصحاب الجمل وأصحاب النهروان ، أمّا أحياؤهم فيقتلون في الفتنة ، وأمّا أمواتهم ففي النار على ملة اليهود »(٢) .

هذه عائشة ام المؤمنين صاحبة الجمل الادبب ، وقد جاءت مصداقاً لقوله تعالى :( التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ) (٣) وقد سئل الامام الصادقعليه‌السلام عن معنى هذه الاية فقال : « عائشة هي نكثت ايمانها »(٤) .

وقوله تعالى :( مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ) (٥) كما روى سالم بن مكرم عن ابيه في معنى هذه الاية الكريمة ، قال : سمعت ابا جعفرعليه‌السلام يقول : هي الحميراء.

واخيراً نقف عند قول الصادق الامينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ ، حيث يجلو الحيرة ويزيح اللثام عن نفسيات ونوازع هذه المرأة العجيبة ، حيث جاء في صحيح البخاري بأسناده عن نافع ، عن عبدالله ، قال : قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌

__________________

(١) ذيت وذيت ، مثلُ كيت وكيت.

(٢) الكافية : ٣٤ ح ٣٥.

(٣) سورة النمل ٩٢ : ١٦.

(٤) رواه العياشي في تفسيره ٢ : ٢٦٩ ح ٦٥.

(٥) العنكبوت : ٤١ ، رواه الكراجكي في كنز الفوائد ١ : ٤٣٠ ح ٧.

٤٦

خطيباً واشار نحو مسكن عائشة فقال : « هنا الفتنة ـ ثلاثاً ـ من حيث يطلع قرن الشيطان »(١) .

حديث عائشة عن هزيمة اصحاب الجمل

لقد اصطف الطرفان في الموضع المعروف بالخُريبة القريب من البصرة ، ومن ثمّ تهيؤا للقتال ، وكان اميرُ المؤمنين يناشدهم بالرجوع الى العقل وحقن دماء المسلمين ، لكنهم أصروا على الحرب ، وكانت عائشة على ظهر جملها ( عسكر )(٢) تُؤلب وتحرض الناس على القتال.

وإذا كان ( عسكر ) في بداية الامر عند خروج عائشة من مكّة تريد البصرة متباهياً على اقرانه ، حيث كُلّف بحمل ام المؤمنين على ظهره دون غيره ، وما هذا الا تكريم له ، لكن المسكين لا يدري ما تؤول إليه عاقبة امره ، حتى وقف في ذلك اليوم العصيب وهو يوم الخميس ١٠ جمادى الثانية سنة ٣٦ ه‍ ، وكانت على ظهره ام المؤمنين عائشة والسهام تتساقط عليه كالمطر ، ورمي الهودج بالنشاب والنبل حتى صار

__________________

(١) بحار الانوار ٣٢ : ٢٨٧.

(٢) عسكر : اسم جمل عائشة اشتراه يعلى بن منيه عامل عثمان على اليمن وقد هرب منها عند بيعة الامامعليه‌السلام بالخلافة ، فأتى مكّة وصادف فيها عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم واخرين من بني اميّة ، فأعطى عائشة وطلحة والزبير اربعمائة الف درهم ، وبعث الى عائشة بالجمل المسمى عسكراً ، وكان قد اشتراه بمائتي دينار.

انظر : مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

٤٧

كالقنفذ(١) ، لابد انه لعن ذلك اليوم الذي استوت فيه على ظهره عائشة ، وكم كان بوده ان يقذا هذه الهودج الذي يحمل الشرّ بداخله الى الجحيم ويهرب بجلده ، لكنه لا يستطيع حيث بني ضبة يتسابقون على مسك زمامه ، وكلما قطعت يد ماسك الزمام ، أخذه رفيقه الاخر حتى تقطع يده ، وهكذا أربت الايدي التي قطعت على السبعين يداً(٢) ، فأين يجد المسكين عسكر فرصة للهروب ، حتى ضربه رجل على عجزه فسقط لجنبه ، وفي خبر حبة القرني قال : كأني اسمع عجيج الجمل ما سمعت قط عجيجاً أشدّ منه(٣) . اما عن حديث عائشة عن هزيمة القوم ، فقد روى الواقدي ، عن رجاله العثمانية عن عائشة ، في ذكر الحال وهزيمة القوم في الحرب وشرح الصورة ورأيها فيما كان ذلك ، فقال : حدثنا محمد بن حميد ، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة ، عن امها كبشة بنت كعب ، قالت : كان أبي لقي على عثمان حُزناً عظيماً وبكاهُ ولم يمنعهُ من الخروج إلا انّ بصرهُ ذهبَ ، ولم يُبايع علياً ولم يقرَبه بُغضاً له ومقتاً ، وخرج عليّعليه‌السلام من المدينةِ فلما قدمت عائشةُ منصرفةً من البصرة

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٧٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٧٥.

(٣) مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٨٢.

وروى الواقدي ، عن موسى بْنِ عبدِاللهِ ، عن الحسين بْنِ عطيَّة ، عن ابيه ، قال شهدتُ الجملَ مع عليّعليه‌السلام ، فلقد رأيتُ جمل عائشة وعليه هَوْدَجُها وعليه دروع الحديد ؛ ثمّ لقد رأيتُ فيه من النبلِ والنُشابِ أمراً عظيماً ، ثمّ عُقر فما سمعتُ كصوته شيئاً قط.

انظر : مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٧٧ ، نهاية الارب ٢٠ : ٧٧.

٤٨

جاءَها أبي فسلّمَ على الباب ، ثمّ دخل وبينها وبينهُ حجَابٌ فذكرت له بعض الامر ولم تشرحهُ له ، فلما أمسينا بعثنا الى عائشة واستأذنا عليها فأذِنتْ لنا ، قالت كبشة : فدخلتُ في نسوة من الانصار فحدثتنا بمخرجها وأنها لا تظنُّ الامر يبلغُ الى ما بلغَ.

ثم قالت : لقد عُمِلَ لي على هودجِ جملي(١) ، ثمّ ألبسَ الحديد ودخلتُ فيه ، وقمتُ في وسطٍ من الناس أدْعو إلى الصُلْحِ والى كتاب اللهِ والسنة ، فليس أحدٌ يسمع مِنْ كلامي حرفاً ، وعجَّلَ من لقينا بالقتال ، فرموا النبل وصرعتُهُم القومُ فلا أُدْرك حتى قُتِلَ من أصحاب عليِّ رجلٌ أو رجلانِ ، ثمّ تقاربَ الناسُ ولحُمَ الشرّ فصار القوم ليس لهم همّةٌ إلا جملي ، ولقد دخلتْ عليَّ سهامٌ فجرحتني ـ فأخرجت ذِراعها وأرتنا جرْحاً على عَضُدِها فبكتْ وأبكتنا ـ قالت : وجعل كلّما أخذ رجلٌ بخطام جملي قُتلَ ، حتى أخذهُ ابنُ أُختي عبدالله ، فصحتُ به وناشدتهُ بالرحمِ أنْ يتجافاني.

فقال : يا أُماه ! هو الموتُ ، يُقتلُ الرجلُ ـ وهو عظيم الغِنى عن الأصحاب ـ على نيته خيرٌ مِنْ أنْ يُدْرك وقد فارقتهُ نيتهُ.

__________________

(١) روى بن ابي سبرة ، عن علقمه بن ابي علقمة ، عن ابيه ، قال : جعلنا الهودج من خشب فيه مسامير الحديد ، وفوقه دروع من حديد ، وفوقها طيالسة من خز أخضر ، وفوق ذلك أدمٌ احمرُ ، وجعلنا لعائشة منه منظر العين ، فما أغنى ذلك من القوم.

انظر : الاخبار الطوال : ١٤٩ ، الفتوح م ١ : ٤٨٨ ، مناقب الخوارزمي : ١٨٨.

٤٩

فصحت : واثُكلَ اسماء ! فقال : يا أُماهُ ! اِلْزمي الصمتَ وقد لَحُمَ ما ترينَ ! فأمسكْتُ. وكان ممن معنا فتيانٌ احداثٌ مِنْ قريشٍ وكان لا علمَ لهم بالحرب ولم يشهدوا قتالاً ، فكانوا جُزراً للقوم ، فإنا لعلى ما نحن فيه وقد كان الناسُ كُلُّهم حولَ جَملي فأُسْكُتِوا ساعةً ، فقلتُ : خيرٌ ام شرّ ؟ إنّ سكوتكم ضِرْسُ القتال ، فإذا ابنُ ابي طالب أنظرُ إليه يباشر القتالَ بنفسه واسمعهُ يصيح : « الجمل ! الجمل ! ». فقلت : أراد والله قتلي ، فإذا هو قد دنا منه ومعه محمد بنُ أبي بكر أخي ومُعاذ بنُ عبيدالله التميمي وعمارُ بنُ ياسر فقطعوا البطانَ ، وأحتملوا الهودجَ فهو على أيدي الرجال يَرّفلُونَ به ، إذْ تفرقَ من كان معنا فلم أُحِسَّ لهم خبراً ، ونادى منادي عليّ بن ابي طالب : « لا يُتبعْ مُدبرٌ ، ولا يُجهز على جريحٍ ، ومَنْ طرحَ السِلاحَ فهو آمِنٌ ».

فرجعْت الى الناس أرواحُهُم فمشوا على الناس واستحيوا من السعْي ، فأُدْخِلْتُ منزلَ عبدالله بن خلف الخُزاعي وهو والله رجلٍ قد قُتِلَ وأهلُهُ مستعبرونَ عليه ، ودخل معي كلُّ من خاف علياً مِمَّن نصب له ، وأحْتُمل ابنُ أختي عبدالله جريحاً ، فوالله إنّي لعلى ما انا عليه وأنا أسألُ ما فعل أبو محمد طلحةُ ؟ إذ قال قائل : قُتِلَ ! فقلتُ : ما فعلَ أبو سليمانَ ؟ فقيل : قد قُتلَ ! فلقد رأيتُني تلك الساعةَ جَمدتْ عيناي وانقطعتُ مِنَ الحُزْنِ واكثرتُ الاسترجاعَ والندامةَ ، وذكرتُ من قُتِلَ فبكيتُ لِقتلِهم فنحن على ما نحن عليه ، وأنا أسأل عن عبيدالله ، فقيل لي : قُتِلَ فأزددتُ هَمّاً وغَمّاً حتى كاد ينصدعُ قلبي ، فوالله لقد بقيتُ

٥٠

ثلاثةَ ايام بلياليهنّ ما دخلَ فمي طعامٌ ولا شرابٌ ، وإني عند قومٍ ما يُقصِّرونَ في ضيافتي ، وإنّ الخُبُر في منازلهم لكثيرُ ، ولكنّي أُعالجُ الشِبعَ من الطعام فما أقدِرُ ، فنعوذ باللهِ من الفتنةِ ! ولقد كُنتُ ألَّبتُ على عثمان حتى نِيلَ منهُ ما نيلَ ، فلما قُتلَ ندمتُ وعلمتُ أنّ المسلمين لا يستخلفون مِثلَهُ أبداً ، كان والله أجلّهُم حِلْماً ، وأعبَدهم عبادةً ، وابذلهم عند النائبةِ ، وأوْصَلهُم للرحمِ.

قالتْ كبشة بنتُ كَعْبٍ ، فرجعتُ الى أبي فقال : ما حَدّثتُكم به عائشة ؟ فأخبرتُهُ بما قالت. فقال : يرحمُ اللهُ عائشة ويرحمُ الله أمير المؤمنين عثمان ، هي كانت أشدَّ الناسِ عليه ، ولقد فزعتْ وثابتْ وأرادتْ ان تأخذ بثأرهِ فجاء خِلافُ ما أرادتْ فرحمهما اللهُ جميعاً ، ثمّ قال : رحمَ اللهُ عُمَر بن الخطاب كان والله يرى هذا كُلّهُ ، قال يوماً : إن كان يصيرُ اختلافٌ فأنما يكون بينكم ، وإن كان بينكم دخلَ عليكم ما تكرهُونَ(١) .

* * *

__________________

(١) انظر مصنفات الشيخ المفيد م ١ : ٣٨٧ ، ٣٧٩ ، ٣٨٠.

٥١

٥٢

ترجمة المؤلف

اسمه ونسبه :

هو السيد ضامن ابن السيد شدقم بن زين الدين علي بن بدر الدين حسن النقيب ابن حسين الشهيد ابن علي بن شدقم بن ضامن بن محمد الحمزي الحسيني المدني ، من ذرية ابي القاسم الطاهر المحدث بن يحيى النابه بن الحسن بن جعفر الحجة ابن عبيدالله الاعرج ابن الحسين الاصغر بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالبعليه‌السلام (١) .

وجده بدر الدين الحسن النقيب مؤلف ( زهر الرياض ) سنة ٩٢٢ الذي ينقل عنه السيد ضامن في كتابه ( التحفه )(٢) .

ولم نعثر على سنة مولده ، وأما سنة وفاته فيستفاد مما جاء في مجلة المجمع العراقي(٣) ، وفي مجلة سومر العراقية(٤) ، من الحديث

__________________

(١) اعيان الشيعة ٧ : ٣٩٢.

(٢) الذريعة ٣ : ٤١٩.

(٣) مجلة المجمع العراقي ٦ : ٢٢٧.

(٤) مجلة سومر ١٣ : ٥٠.

٥٣

عن الجزء الثالث من كتابه ( تحفة الازهار ) انه كان حياً سنة ١٠٨٨ ه‍(١) .

مكانته العلمية :

كان المصنف; عالماً فاضلاً اديباً كاتباً مشهوراً ، قال المرحوم محسن الامين : « والذي وجدته في مسودة الكتاب ( تحفة الازهار ) هو كما ذكر : ضامن بن شدقم بن علي المعروف بين المؤلفين ».

وابوه أيضاً كان عالماً كما ذكر المرحوم محسن الامين : « في كتاب يظن انه اسمه كتاب ( الانوار ) مؤلفه من اصحابنا من اهل أواسط القرن الثالث عشر ، رأيته في بغداد عام ١٣٥٢ ما صورته :

السيد ضامن ابن السيد العالم السيد شدقم المدني »(٢) .

وقال عنه صاحب الاعلام : ضامن بن شدقم بن علي بن حسن النقيب المدني : أديب إمامي ، له علم بالانساب. صنف ( تحفة الازهار وزلال الانهار في نسب الائمة الاطهار ) نسخة منه في المكتبة القادرية ببغداد تحت رقم (٦٥٧) ، ونسخة ثانية مجلدان ، في مكتبة محمد رضا كاشف الغطاء ، بالنجف(٣) .

وذكر هذا الكتاب صاحب الذريعة ، فقال : وهو كبير في مجلدين المجلد الاول في الحسنين أوله : ( الحمدلله المحسن المتفضل الكريم

__________________

(١) الاعلام ٣ : ٢١٣.

(٢) اعيان الشيعة ٧ : ٣٢.

(٣) الاعلام ٣ : ٢١٣.

٥٤

الوهاب ، ذو الجود والنعم الجسام بغير حساب إني قد جمعت هذه الحديقة الفائقة الانيقة الزاهرة المثيرة ، فرتبتها على أحسن ترتيب في نسل ابي محمد الحسن ).

وأول المجلد الثاني : ( الحمدُ لله الذي لا ند له فيبارى ، ولا ضد له فيجازى ، ولا شريك له فيوازي لما مَنَّ الله تعالى عليّ باتمام الجلد الاول من تحفة الازهار وزلال الانهار ، فحداني الشوق الى إلحاق الجلد الثاني ، وهو مختص بنسب أبناء ابي عبدالله الحسين السبط ، ورتبته على ترتيب المجلد الاول المختص بنسب اولاد ابي محمد الحسن ، والعقب في الحسين منحصر في إبنه عليّ الاوسط زين العابدين ...

وعند ذكر جعفر الحجة كما جاء في نسبه قال : الى عامنا هذا سنه ثمان وثمانون والف(١) .

وعن الكتاب قال السيد محسن الامين : وفي النسخة التي رأيناها في طهران قال في بعض المواضع فيها : يقول جامعه الفقير الى الله الغني ، ضامن بن شدقم بن علي الحسيني المدني : وصلت الى البصرة في شهر ربيع الثاني سنة ١٠٦٨ ه‍ فأجتمعت بالسيد الشريف الحسيب النسيب عمدة السادة النجباء ، وزبدة الاماثل الاطباء ، أو الطبيب الحاذق ، وبقية الحكماء الفائق ، عبد الرضا بن شمس الدين بن علي. وفي موضع آخر يقول : جامعه الفقير الى الله الغني ضامن بن شدقم بن

__________________

(١) الاعلام ٣ : ٢١٣.

٥٥

علي الحسيني المدني ، وصلت الى الدورق(١) في العشر الاول من جمادى الثانية سنة ١٠٦٨ ه‍ ، وفي شهر ذي الحجة سنة ١٠٩٢ ه‍ اجتمعت في البصرة بالسيد ناجي الخ وفي شهر شوال سنة ١٠٨٠ ه‍ اجتمعت بالسيد يحيى في اصفهان الخ وفي جمادى الثانية سنة ١٠٨٢ ه‍ اجتمعت في اصفهان بالسيد يعقوب الخ فذكروا لي انسابهم.

ويظهر من كتابه انه ساحَ وكتب في سياحته جملة من الانساب.

ومن شعرهِ :

سبحان من اصبحت مشيئتهُ

جارية في الورى بمقدارِ

في عامنا اغرق العراق وقد

احرق ارض الحجاز بالنارِ

كان من المعاصرين للسيد زين العابدين بن نور الدين بن عليّ بن الحسين الموسوي ـ يروي السيد عبد الرضا بن شمس الدين بن علي الحسيني نزيل البصرة ، من العلماء الاجلة في عصره ، ويظهر انه من تلاميذ البهائي ، والسيد الداماد(٢) .

* * *

__________________

(١) الدورق : بفتح اوله ، وسكون ثانيه ، بلد بخوزستان ، وهو قصبة كورة سرق يقال لها : دورق الفرس ، فيها آثار قديمة لقباذ بن دارا ، وقد نسب إليها قوم من الرواة ، منهم : أبو عقيل الدورقي الازدي التاجي ، واسمه بشير بن عقبة ، سمع الحسن وقتادة وغيرها. وقد نسب قوم الى لبس القلانس الدورقية منهم : احمد بن ابراهيم بن زيد الدورقي ، وقيل ان الانسان إذا نسك في ذلك الوقت قيل له : دورقي.

أنظر : معجم البلدان ٢ : ٤٨٣.

(٢) اعيان الشيعة ٧ : ٣٩٢.

٥٦

التعريف بالكتاب

لقد صنف السيد ضامن كتابه هذا عن أحداث فتنة البصرة التي اشعل فتيلها الزمرة الناكثة عند تولي امير المؤمنينعليه‌السلام زمام الخلافة بعد مقتل عثمان ، وسماهُ ب‍ ( وقعة الجمل ) ، ودوّن المصنف; الاحداث والوقائع التي شهدتها مدينة البصرة بعد انحياز رموز الشر إليها ، تدعو الناس الى نكث بيعة الامام عليّعليه‌السلام ، وَتعدُّ العدَّة من الرجال والسِّلاح لقتاله والقضاء على حكومته الفتية.

لقد جاء هذا الكتاب وان كان مختصراً ، إلا انه كان غزيراً في مادتهِ التي لا يستغني عنها الباحث عن الحقيقة في بطون الكتب القديمة ، والتي حفظت لنا التاريخ.

نسخة الكتاب ومنهج التحقيق :

لقد تمت مقابلة النسخة الخطّية التي حصلت عليها من ( مركز احياء الميراث الاسلامي ) والتي جعلتها كأصل مع المصادر التي دونت احداث معركة الجمل من كلا الفريقين ، كما اشرتُ الى الاختلاف الذي وقع بين النسخة والمصادر ، وقد علقت عليها في هامش الكتاب.

٥٧

كما اشرتُ الى بعض الوقائع والاحداث التي لم يذكرها المصنف ، واشرت إليها في الهامش ايضاً ، مع ترجمة بعض من ورد ذكرهم في النسخة الخطية.

كما قمتُ بكتابة مقدمة تمهيدية لهذا السفر القيم ، وذكرت بإيجاز الاسباب التي دعت الذين سماهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ بالناكثين ، الى نكث البيعة ، والاستدلال بما ورد من أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌ بحق العترة: وبحق من ناصبهم العداء.

كما ذكرت رسائل الناكثين وعائشة الى من كتبوا لهم يطالبونهم بنكث بيعة امير المؤمنينعليه‌السلام وتأليب الناس على حكومته ، كما تطرقت الى موقف طلحة والزبير من قضية حصار عثمان وتحريض الناس على قتله ثمّ بعد ذلك المطالبة بدمه.

نسأل الله تعالى ان يثيبنا على عملنا هذا ، ونأمل ان يخرج هذا الكتاب بحلةٍ جديدة ليضع بين يدي القارئ الكريم ، ومن الله تعالى نستمد العون والتوفيق.

سيد تحسين آل شبيب الموسوي

* * *

٥٨

٥٩

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

مَفازاً ) وقال :( وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) فاتقوا عباد الله واعلموا أن من يتق الله يجعل له مخرجا من الفتن ويسدده في أمره ويهيأ له رشده ، ويفلحه بحجته ويبيض وجهه ويعطيه رغبته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا »(١) .

الوعظ والارشاد

قال٧ : يا ابن آدم عف عن محارم الله تكن عابدا وارض بما قسم الله تكن غنيا ، واحسن جوار من جاورك تكن مسلما وصاحب الناس بمثل ما تحب أن يصاحبوك به تكن عادلا ، إنه كان بين أيديكم قوم يجمعون كثيرا ويبنون مشيدا ويأملون بعيدا اصبح جمعهم بورا وعملهم غرورا ومساكنهم قبورا ، يا ابن آدم إنك لم تزل في هدم عمرك مذ سقطت من بطن أمك ، فجد بما في يديك فان المؤمن يتزود والكافر يتمتع وكان يتلو عقيب كلامه هذا ، قوله تعالى :( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ) (٢) .

وقال٧ : اتقوا عباد الله وجدّوا في الطلب وتجاه الهرب وبادروا العمل قبل مقطعات النقمات وهادم اللذات ، فان الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجيعتها ولا تتوقى في مساويها ، غرور حائل ، وسناد مائل فاتعظوا عباد الله بالعبر واعتبروا بالأثر وازدجروا بالنعم وانتفعوا بالمواعظ ، فكفى بالله معتصما ونصيرا وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما وكفى

__________________

(١) تحف العقول ص ٥٥.

(٢) نور الابصار ص ١١٠

٣٢١

بالجنة ثوابا وكفى بالنار عقابا ووبالا(١) .

وعزى٧ رجلا قد مات بعض ذويه فقال له. إن كانت هذه المصيبة احدثت لك موعظة وكسبتك اجرا فهو ، وإلا فمصيبتك في نفسك أعظم من مصيبتك في ميتك(٢) .

وجاءه رجل من الاثرياء فقال له : يا ابن رسول الله اني أخاف من الموت!!!

فقال له٧ : ذاك لأنك أخرت مالك ولو قدمته لسرك أن تلحق به(٣) .

ومر٧ على قوم يلعبون ويضحكون في يوم عيد الفطر فوقف٧ والتفت إليهم قائلا : إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته الى مرضاته فسبق قوم ففازوا ، وقصر آخرون فخابوا ، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون ، وأيم الله لو كشف الغطاء لعلموا ان المحسن مشغول باحسانه والمسيء مشغول بإساءته. ثم تركهم٧ وانصرف(٤)

وقال٧ : اوصيكم بتقوى الله وادامة التفكر فان التفكر أبو كل خير وأمه.

وقال٧ : من عرف الله احبه ومن عرف الدنيا زهد فيها

__________________

(١) كذا وجد في تحف العقول ص ٥٦.

(٢) مجموعة ورام ص ٤١١

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٠٢

(٤) جامع السعادات ج ٣ ص ٣٧٦ ، تحف العقول ص ٥٦ مجموعة ورام ص ٥٤

٣٢٢

والمؤمن لا يلهو حتى يغفل واذا تفكر حزن(١) .

ومر٧ على ميت يراد دفنه فقال : إن امرا هذا آخره لحقيق بأن يزهد في اوله ، وان امرا هذا اوله لحقيق أن يخاف من آخره(٢) .

وقال٧ : الناس في دار سهو وغفلة يعملون ولا يعلمون فاذا صاروا الى دار الآخرة صاروا الى دار يقين يعلمون ولا يعملون(٣) .

طلب الرزق

قال٧ : لا تجاهد الطلب جهاد الغالب ولا تتكل على القدر اتّكال المستسلم فان ابتغاء الفضل من السنة والاجمال فى الطلب من العفة وليست العفة بدافعة رزقا ولا الحرص بجالب فضلا فان الرزق مقسوم واستعمال الحرص استعمال المآثم(٤) .

المساجد

قال٧ : من ادام الاختلاف الى المسجد أصاب ثمان خصال آية محكمة ، وأخا مستفادا ، وعلما مستطرفا ، ورحمة منتظرة ، وكلمة تدله على هدى أو تردعه عن ردى ، وترك الذنوب حياء او خشية(٥) .

آداب المائدة

قال٧ : غسل اليدين قبل الطعام ينفى الفقر وبعده ينفي

__________________

(١) مجموعة ورام صفحة ٣٧

(٢) المحاسن والمساوئ للجاحظ صفحة ٢٥٦

(٣) الاثنى عشرية صفحة ٣٧

(٤) تحف العقول صفحة ٥٥

(٥) عيون الاخبار لابن قتيبة ج ٣ ص ٣

٣٢٣

الهم(١) .

وقال٧ : في المائدة اثنتا عشرة خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها ، أربع فيها فرض ، واربع سنة ، واربع تأديب.

الفرض : المعرفة ، الرضا ، التسمية ، الشكر.

السنة : الوضوء قبل الطعام ، الجلوس على الجانب الايسر ، الاكل بثلاثة اصابع ولعق الاصابع.

التأديب : الاكل مما يليك ، تصغير اللقمة ، تجويد المضغ. قلة النظر فى وجوه الناس ،(٢)

ولاء اهل البيت

قال له رجل : يا ابن رسول الله إني من شيعتكم!!!

فقال٧ : يا عبد الله إن كنت لنا فى أوامرنا وزواجرنا مطيعا فقد صدقت ، وان كنت بخلاف ذلك فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها ، لا تقل أنا من شيعتك ، ولكن قل أنا من مواليكم ومحبيكم ومعادى اعدائكم وأنت في خير والى خير(٣) .

التحذير من المحرفين لكتاب الله

قال٧ : أيها الناس إنه من نصح لله وأخذ قوله دليل هدى للتي هي أقوم ، وفقه الله للرشاد وسدده للحسنى ، فان جار الله آمن محفوظ وعدوه خائف مخذول ، فاحترسوا من الله بكثرة الذكر واخشوا

__________________

(١) الاثنى عشرية ص ٣٧

(٢) مصابيح الانوار فى حل مشكلات الاخبار للحجة السيد عبد الله شبر اعلى الله مقامه ج ٢ ص ٢٧١ وقد اوضح السيد فقرات الحديث.

(٣) مجموعة ورام صفحة ٣٠١

٣٢٤

الله بالتقوى وتقربوا الى الله بالطاعة فانه قريب مجيب ، قال الله تعالى :( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) فاستجيبوا لله وآمنوا به فانه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعاظم ، فان رفعة الذين يعلمون عظمة الله أن يتواضعوا ، والذين يعرفون ما جلال الله ان يتذللوا وسلامة الذين يعلمون ما قدرة الله ان يستسلموا له ولا ينكرون انفسهم بعد المعرفة ولا يضلون بعد الهدى ، واعلموا علما يقينا انكم لن تعرفوا التقى حتى تعرفوا صفة الهدى ولن تمسكوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نبذه ولن تتلوا الكتاب حق تلاوته حتى تعرفوا الذي حرفه ، فاذا عرفتم ذلك عرفتم البدع والتكلف ورأيتم الفرية على الله ورأيتم كيف يهوي من يهوي ولا يجهلنكم الذين لا يعلمون ، والتمسوا ذلك عند أهله فانهم خاصة نور يستضاء بهم وأئمة يقتدى بهم ، بهم عيش العلم وموت الجهل وهم الذين اخبركم حلمهم عن جهلهم ، وحكم منطقهم عن صمتهم ، وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه ، وقد خلت لهم من الله سابقة ومضى فيهم من الله حكم ، إن في ذلك لذكرى للذاكرين ، واعقلوه اذا سمعتموه عقل رعاية ، ولا تعقلوه عقل رواية فان رواة الكتاب كثير ورعاته قليل والله المستعان(١) .

الشاهد والمشهود

وجاء رجل الى مسجد رسول الله٦ ليسأل عن المراد من قوله تعالى :( وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) فرأى في المسجد ثلاثة اشخاص قد احتف بكل واحد منهم جمع من الناس وهم يحدثونهم عما سمعوه من

__________________

(١) كذا وجد في تحف العقول صفحة ٥٣

٣٢٥

رسول الله٦ من الاحكام والآداب فقصد واحدا منهم فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. ثم انعطف الى الثاني ، فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر. ثم انعطف نحو الشخص الثالث فسأله عن مسألته؟!!!

فقال له : الشاهد رسول الله٦ والمشهود يوم القيامة ودعم كلامه بالبرهان قائلا : أما سمعت الله يقول في كتابه العزيز :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) وقال تعالى :( وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) فسأل من هو الاول؟ قيل له هو عبد الله بن عباس(١)

__________________

(١) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم عم النبيّ٦ أمه أمّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وقيل بخمس وقد دعا له رسول الله٦ فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال٦ : اللهم زده علما وفقها ، فكان ببركة دعاء رسول الله (ص) من اساطين العلماء ، وقال مسروق إذا رايت عبد الله بن عباس قلت اجمل الناس فاذا تكلم قلت افصح الناس وإذا تحدث قلت اعلم الناس ، وقيل لو سمعت فارس والروم والترك كلامه لأسلمت ، وقد عمى فى آخر عمره فقال :

إن يأخذ الله من عيني نورهما

ففي لساني وقلبى منهما نور

قلبي ذكى وعقلى غير ذى دخل

وفي فمي صارم كالسيف مأثور

مات في الطائف سنة ثمان وستين في ايام ابن الزبير وكان عمره سبعين سنة وقيل إحدى وسبعون وقيل اربع وسبعون ، وصلى عليه محمد بن الحنفية وكبر عليه اربعا وقال : اليوم مات رباني هذه الامة جاء ذلك فى الاستيعاب المطبوع على ـ

٣٢٦

فسأل من هو الثاني؟ قيل له عبد الله بن عمر(١) .

فسأل من هو الثالث؟ قيل له الحسن بن علي(٢) .

بعض خطبه :

وكان٧ خطيبا مفوها من أبرع الخطباء واقدرهم على الارتجال والابداع في القول وإليك أيها القارئ الكريم بعضا من خطبه :

قال٧ : نحن حزب الله المفلحون ، وعترة رسول الله٦ الاقربون ، وأهل بيته الطاهرون الطيبون ، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله٦ ، والثاني كتاب الله فيه تفصيل كل شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمعول عليه في كل شيء لا يخطئنا تأويله ، بل نتيقن حقائقه ، فاطيعونا فاطاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الامر مقرونة( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) وأحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان إنه

__________________

ـ هامش الاصابة ج ٢ ص ٣٥٠

(١) عبد الله بن عمر بن الخطاب ولد بعد المبعث النبوي بثلاث سنين ومات سنة اربع وثمانين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، جاء ذلك فى الاصابة ج ٢ ص ٣٤٧ وجاء في الاستيعاب ج ٢ ص ٣٤٣ انه لم يتبع عليا وقعد وندم على ذلك ولما حضرته الوفاة قال : ما اجد فى نفسي شيئا إلا انى لم اقاتل الفئة الباغية مع علي بن ابي طالب٧ وذكر المسعودي فى مروج الذهب ج ٢ ص ٢٣٨ جماعة تخلفوا عن بيعة علي ذكر منهم عبد الله بن عمر وكان سبب تخلفهم خروجا عن الامر ، ومخالفة لعلي٧ .

(٢) الفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٦٠.

٣٢٧

لكم عدو مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم :( لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ ) فتلقون للرماح أزرا ، وللسيوف جزرا ، وللعمد خطأ ، وللسهام غرضا ، ثم لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا ، والله اعلم.

ومرض الامام علي٧ يوما فأمر الحسن ان يصلي بالناس صلاة الجمعة ، فصعد٧ المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله لم يبعث نبيا إلا اختار له نفسا ورهطا وبيتا ، فو الذي بعث محمدا بالحق لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه الله من عمله ، مثله ولا يكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ، ولتعلمن نبأه بعد حين(١)

كلماته الحكمية القصار :

فضح الموت الدنيا(٢) .

كن في الدنيا ببدنك وفى الآخرة بقلبك.

اجعل ما طلبت من الدنيا فلم تظفر به بمنزلة ما لم يخطر ببالك.

ما تشاور قوم إلا هدوا الى رشدهم.

إن من طلب العبادة تزكى لها.

المزاح يأكل الهيبة وقد اكثر من الهيبة الصامت.

تجهل النعم ما أقامت فاذا ولت عرفت.

الوعد مرض في الجود والانجاز دواؤه.

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ صفحة ٣٠٦

(٢) مجموعة ورام صفحة ٢٠١ ، وقال خالد بن صفوان افصح الناس الحسن ابن علي٧ لقوله هذه الكلمة الذهبية التي مثلت الاعجاز والابداع والايجاز

٣٢٨

المسئول حر حتى يعد ومسترق بالوعد حتى ينجز.

لا تعاجل الذنب بالعقوبة ، واجعل بينهما للاعتذار طريقا.

قطع العلم عذر المتعلمين.

اليقين معاذ السلامة.

لا يغش العاقل من استنصحه :

إذا أضرت النوافل بالفريضة فاتركوها.

الفرصة سريعة الفوت بطيئة العود.

وسأله شخص عن الصمت؟ فقال «ع» : هو ستر العى وزين العرض وفاعله في راحة وجليسه في أمن.

فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها.

أشد من المصيبة سوء الخلق.

من تذكر بعد السفر اعتدّ.

القريب من قربته المودة وإن بعد نسبه ، والبعيد من باعدته المودة وإن قرب نسبه.

وقال «ع» : لرجل قد برىء من مرضه ، إن الله قد ذكرك فاذكره وأقالك فاشكره.

إن لم تطعك نفسك فيما تحملها عليه مما تكره فلا تطعها فيما تحملك عليه مما تهوى.

من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه.

العار أهون من النار.

قال «ع» لأصحابه : هل رأيتم ظالما أشبه بمظلوم؟ قالوا وكيف ذاك يا بن رسول الله؟!!

٣٢٩

قال : الحاسد ، فانه فى تعب ومن حسده فى راحة.

مروءة القناعة والرضا أكثر من مروءة الاعطاء.

تمام الصنيعة خير من ابتدائها.

نظمه للشعر :

إما نظم الامام «ع» للشعر فقليل وقد تقدمت فى بحوث هذا الكتاب أبيات نسبت له ولكن ابن رشيق قد عد الامام « ع ، من الشعراء واستشهد له ببيت واحد كان الامام قد أنشده وهو مختضب بالسواد فقال «ع» :

نسود أعلاها وتأبى أصولها

فليت الذي يسود منها هو الأصل(١)

وجاء فى أعيان الشيعة أنه «ع» قال في الوعظ :

ذرى كدر الأيام ان صفاءها

تولى بأيام السرور الذواهب

وكيف يغر الدهر من كان بينه

وبين الليالي محكمات التجارب

وجاء في المناقب أنه «ع» قال :

لئن ساءني دهر عزمت تصبرا

وكل بلاء لا يدوم يسير

وإن سرني لم أبتهج بسروره

وكل سرور لا يدوم حقير

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن تراثه ومثله :

__________________

(١) العمدة ج ١ ص ٢١ ومعنى البيت : إنا نسود الظاهر من الشعر ولكن جذوره تأبى إلا البقاء على الشيب.

٣٣٠

فى عهد الإمام على «ع»

٣٣١
٣٣٢

واستقبل جمهور المسلمين خلافة الامام أمير المؤمنين بمزيد من السرور والابتهاج واتساع الأمل والرجاء فقد أيقنوا أن الامام سيرجع لهم الحريات المنهوبة. ويحطم عنهم أركان العبودية التي أقامها الحكم الأموي المهدوم ، ويعيد لهم عهد النبوة الزاهر الذي انبسطت فيه الرحمة ، وعم فيه العدل والرجاء ، وانهم سينعمون ـ من دون شك ـ في ظل حكمه العادل الذي لا يعرف الإثرة والاستغلال ، ولا يميز قوما على آخرين لقد وثق الجمهور أن الامام سيحقق لهم الأهداف النبيلة التي يصبون إليها من تحقيق العدل الاجتماعي والعدل السياسي في البلاد ، وتطبيق المبادئ والنظم التي جاء بها الاسلام ، والقضاء على جميع الفوارق والامتيازات التي خلفها عثمان ، وقد هبوا بجميع طبقاتهم إلى الامام وهم يهتفون باسمه ، ويعلنون رغبتهم الملحة فى أن يلي أمورهم ليحملهم على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ونضع بين يدي القراء صورة مجملة عن البيعة وعن الأحداث التي رافقتها وهي :

البيعة :

واجتمع المهاجرون والأنصار ومعهم الثوار وبقية الجماهير ومن بينهم طلحة والزبير فهرعوا إلى الامام أمير المؤمنين وهو معتزل بداره فأحاطوا به من كل جانب وقالوا له :

« يا أبا الحسن. إن هذا الرجل قد قتل. ولا بد للناس من إمام. ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ، ولا أقرب قرابة من رسول الله ».

فامتنع الامام من أجابتهم وقال لهم :

« لا حاجة لي فى أمركم فمن اخترتم رضيت به »

فهتفوا بلسان واحد

٣٣٣

« ما نختار غيرك »

وكثر اصرار الجماهير على الامام ولكنه لم يستجب لهم فخرجوا منه ولم يظفروا بشيء ، وعقدت القوات المسلحة اجتماعا خاصا عرضت فيه الأحداث الخطيرة التي تواجه الأمة إن بقت بلا إمام يدير شئونها ، وقد قررت على احضار المدنيين وارغامهم على انتخاب إمام للمسلمين فقالوا لهم :

« أنتم أهل الشورى ، وأنتم تعقدون الإمامة. وحكمكم جائز على الأمة فانظروا رجلا تنصبونه ، ونحن لكم تبع ، وقد أجلناكم يومكم ، فو الله لئن لم تفرغوا لنقتلن عليا وطلحة والزبير وتذهب من أضحية ذلك أمة من الناس »(١)

وفزع المدنيون بعد هذا الانذار والتهديد إلى الامام أمير المؤمنين ، وهم يهتفون بلسان واحد

البيعة. البيعة

أما ترى ما نزل بالاسلام ، وما ابتلينا به من أبناء القرى

وأجابهم الامام بهدوء قائلا :

« دعوني والتمسوا غيري. »

ثم أعرب لهم عن السر في توقفه من قبول الخلافة قائلا :

« أيها الناس ، إنا مستقبلون أمرا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول »(٢)

لقد علم٧ بما دب في نفوس الأمة من الشر ، وبما ساد في نفوس زعمائها من الأهواء لا سيما ولاة عثمان وأسرته ومن يمت إليه فانهم

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٨٠

(٢) شرح النهج محمد عبده ١ / ١٨٢

٣٣٤

جميعا سيقفون أمامه ويحولون بينه وبين تحقيق أهدافه العريضة ، ولا بد أن يخلقوا المشاكل والمصاعب في وجه حكومته لذلك أصر على الامتناع من قبول الأمر.

وفكر الامام فى الأمر فقال لهم :

« إني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني فانما أنا كأحدكم ألا واني من أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه »

وصاحوا به هاتفين :

« ما نحن بمفارقيك حتى نبايعك ».

وقد وصف٧ مدى انثيالهم عليه وشدة اصرارهم واقبالهم عليه بقوله :

« فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى(١) ينثالون عليّ من كل جانب حتى لقد وطئ الحسنان وشق عطفاي(٢) مجتمعين حولي كربيضة الغنم(٣) » وأجلهم الامام إلى صباح اليوم الآخر لينظر فى الأمر فافترقوا على ذلك ، وقد خيم الليل على سماء المدينة وبرك بحمله على بيوتها فبات المدنيون ولكن في غير هدوء واطمئنان ، ولما أصبح الصبح اجتمع الناس فى الجامع الأعظم فاقبل الامام ، واعتلى أعواد المنبر فخطب فيهم قائلا :

__________________

(١) عرف الضبع : الشعر الكثير الذي يكون على عنق الضبع يضرب به المثل فى الكثرة والازدحام.

(٢) شق عطفاي : المراد انه خدش جانباه من كثرة زحام الناس عليه من اجل البيعة.

(٣) ربيضة الغنم : الطائفة الرابضة من الغنم يصف٧ جثومهم بين يديه.

٣٣٥

« يا أيها الناس ، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم وقد افترقنا بالأمس وكنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا وانه ليس لي أن آخذ درهما دونكم فان شئتم قعدت لكم والا فلا آخذ على أحد »

وتعالى هتاف الجماهير بلهجة واحدة

« نحن على ما رقناك عليه بالأمس »

« اللهم اشهد عليهم. »

وتدافع الناس كالموج المتلاطم إلى البيعة ، وتقدم طلحة فبايع بتلك اليد التي سرعان ما نكث بها عهد الله(١) وجاء بعده الزبير فبايع كما بايع رفيقه وبايعه الوفد المصري والوفد العراقي ، وبايعه الجمهور العام ولم يظفر أحد من الخلفاء بمثل هذه البيعة في شمولها ، وعمت المسرة جميع المسلمين وقد وصف الامام مدى سرور الناس ببيعته بقوله :

« وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير ، وهدج إليها الكبير ، وتحامل نحوها العليل ، وحسرت إليها الكعاب. »

لقد ابتهج المسلمون ببيعتهم إلى وصي رسول الله وباب مدينة علمه ، وعمت الأفراح جميع أنحاء البلاد فقد أطلت على عالم الوجود حكومة العدل والمساواة ، وتقلد الخلافة امام الحق ، وناصر المظلومين ، وأبو الأيتام الذي واسى الفقراء والمحرومين في سغبهم ومحنهم ، القائل فى دور حكمه.

« أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم فى مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش »

__________________

(١) كانت يد طلحة شلاء فتطير منها الامام ، وقال ما اخلقه ان ينكث فكان كما قال جاء ذلك في العقد الفريد ٣ / ٩٣

٣٣٦

لقد نشرت في ذلك اليوم الخالد ألوية العدالة الكبرى ، وتحققت الأهداف الأصيلة التي ينشدها الإسلام فى عالم السياسة والحكم فلا استغلال ولا مواربة ولا استبداد ولا انقياد للنزعات والعواطف كل ذلك حققه ابن أبي طالب في دور خلافته وحكمه.

تأييد الصحابة :

وانبرى كبار الصحابة وأعلام الاسلام من الذين آمنوا بحق أمير المؤمنين منذ وفاة النبي فأبدوا سرورهم البالغ بهذه البيعة ، وأعلنوا تأييدهم الشامل لحكومة الامام وحثوا المسلمين إلى تدعيمها وهم :

١ ـ ثابت بن قيس

ووقف ثابت بن قيس خطيب الأنصار فخاطب الامام قائلا :

« والله يا أمير المؤمنين لئن كان قد تقدموك فى الولاية فما تقدموك في الدين ولئن كانوا سبقوك أمس لقد لحقتهم اليوم ، ولقد كانوا وكنت لا يخفى موضعك ، ولا يجهل مكانك ، يحتاجون إليك فيما لا يعلمون وما احتجت إلى أحد مع علمك »

٢ ـ خزيمة بن ثابت

وانطلق الصحابي العظيم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال :

« يا أمير المؤمنين ، ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك ولا كان المنقلب إلا إليك ولئن صدقنا أنفسنا فيك لأنت أقدم الناس إيمانا ، واعلم الناس بالله وأولى المؤمنين برسول الله (ص) لك ما لهم وليس لهم مالك »

وجرت على لسانه أبيات من الشعر فخاطب الجماهير بها :

إذا نحن بايعنا عليا فحسبنا

أبو حسن مما نخاف من الفتن

٣٣٧

وجدناه أولى الناس بالناس انه

أطب قريش بالكتاب وبالسنن

وإن قريشا ما تشق غباره

إذا ما جرى يوما على الضمر البدن

وفيه الذي فيهم من الخير كله

وما فيهم كل الذي فيه من حسن(١)

٣ ـ صعصعة بن صوحان

وقام صعصعة بن صوحان فقال للامام :

« والله يا أمير المؤمنين لقد زينت الخلافة وما زانتك ، ورفعتها وما رفعتك ولهي إليك أحوج منك إليها ،. »(٢)

٤ ـ مالك الأشتر

واندفع الزعيم الكبير مالك الأشتر فخاطب المسلمين قائلا :

« أيها الناس هذا وصي الأوصياء ، ووارث علم الأنبياء ، العظيم البلاء الحسن العناء ، الذي شهد له كتاب الله بالايمان ورسوله بجنة الرضوان ، من كملت فيه الفضائل ، ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل »

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١١٥ وذكر السيد المرتضى في الفصول المختارة ٢ / ٦٧ زيادة على هذه الأبيات وهي :

وصي رسول الله من دون اهله

وفارسه قد كان في سالف الزمن

واول من صلى من الناس كلهم

سوى خيرة النسوان والله ذو المنن

وصاحب كبش القوم في كل وقعة

يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن

فذاك الذي تثنى الخناصر باسمه

امامهم حتى اغيب في الكفن

(٢) وبهذا المضمون قال الامام احمد بن حنبل : « إن الخلافة لم تزين عليا بل علي زانها » ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقب احمد ص ١٦٣.

٣٣٨

٥ ـ عقبة بن عمرو

وقام عقبة بن عمرو فأشاد بفضل الامام قائلا :

« من له يوم كيوم العقبة ، وبيعة كبيعة الرضوان ، والامام الأهدى الذي لا يخاف جوره ، والعالم الذي لا يخاف جهله »(١)

وتتابعت الصحابة وهي تشيد بفضائل أبي الحسين وتذكر مناقبه ومآثره وتدعوا المسلمين إلى تأييد حكومته.

وجوم القرشيين :

واستقبلت قريش وسائر القوى المنحرفة عن الحق خلافة الامام أمير المؤمنين فى كثير من الوجوم والقلق والاضطراب لأن الامام قد وترهم في سبيل الدعوة الاسلامية وقضى على الكثير من عيونهم ووجوههم فقد قتل من أعلام بني أمية عتبة بن ربيعة جد معاوية ، والوليد بن عتبة خاله ، وحنظلة أخاه وقتل غير هؤلاء من أقطاب الشرك ودعائم الالحاد ما أوغر به الصدور وأثار الحفائظ عليه ومضافا لذلك فان سياسة الامام تتصادم مع مصالحهم ومنافعهم فانها تحارب الإثرة والاستغلال ، ولا تقر بأي حال من الأحوال سياسة النهب والإيثار التي سار عليها عثمان لذلك أظهرت قريش تمردها على حكومته ، وقد أعرب عن هذه المناحي بأسرها الوليد حينما حمل على البيعة ومعه الأمويون فقال للإمام :

« إنك وقد وترتنا جميعا أما أنا فقتلت أبي صبرا يوم بدر ، وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر وكان أبوه من نور قريش ، وأما مروان فشتمت أباه وعبت على عثمان حين ضمه إليه ، فنبايع على أن تضع عنا ما أصبنا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٥

٣٣٩

وتعفي لنا عما في أيدينا ، وتقتل قتلة صاحبنا »

فرد عليه الامام مقالته وأجابه بمنطق الاسلام الذي لا تعيه قريش قائلا :

« أما ما ذكرت من وتري إياكم فالحق وتركم ، وأما وضعي عنكم عما فى أيديكم فليس لي أن أضع حق الله ، وأما إعفائي عما في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم ، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتالهم اليوم لزمني قتالهم غدا ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنة نبيه فمن ضاق الحق فالباطل عليه أضيق ، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم »(١)

ان قريشا تريد المساومة من الامام على أموال الأمة ، وتريد منه أن ينحرف عن خطته القويمة التي تنشد المصلحة العامة ، وحمل الناس على الحق الواضح والمحجة البيضاء ، ولكن الامام قد عاهد الله وعاهد المسلمين أن يطبق أحكام القرآن ويحيي معالم الإسلام ، ويسير على ضوء سنة النبي (ص) وأن لا ينصاع للأحداث والظروف مهما كانت قاسية وشديدة ، وأن يقف بالمرصاد لكل ظالم ومعتد على المسلمين ، لذا أظهرت قريش حقدها البالغ على حكومته ، وهبت بأحلافها وأبنائها على اعلان التمرد والعصيان ، ويصف ابن أبي الحديد مدى اضطرابهم وقلقهم بقوله :

« كأنها حاله لو أفضت الخلافة إليه يوم وفاة ابن عمه من اظهار ما في النفوس وهيجان ما في القلوب حتى الأحلاف من قريش ، والأحداث والفتيان الذين لم يشهدوا وقائعه ، وفتكاته في أسلافهم وآبائهم فعلوا ما لو كانت الأسلاف أحياء لقصرت عن فعله »

لقد امتحن الامام امتحانا عسيرا بهؤلاء العتاة الذين لم ينفث الاسلام إلى قلوبهم ومشاعرهم ، وقد أترعت نفوسهم بالحقد عليه لأنه وقف إلى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٥

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530