حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام14%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 217981 / تحميل: 6643
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

درهم ، فقبض الكندي المال وانحاز الى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته ، فبلغ الحسن (ع) ذلك فتأثر وقام خطيبا وهو متذمر ومتألم أشد الألم من ذلك المجتمع الذي جرفته الخيانة ، وصار فريسة للباطل والضلال فقالعليه‌السلام :

« هذا الكندي توجه الى معاوية ، وغدر بي وبكم وقد أخبرتكم مرة بعد مرة انه لا وفاء لكم ، أنتم عبيد الدنيا ، وأنا موجّه رجلا آخر مكانه وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبكم ، ولا يراقب الله فيّ ولا فيكم ».

وبعثعليه‌السلام رجلا آخر من مراد في أربعة آلاف ، وتقدم إليه بمشهد من الناس وتأكد عليه ، ولكنه أخبره انه سيغدر كما غدر الكندي فحلف له بالأيمان الموثقة أنه لا يفعل ذلك ، فلم يطمئن منه الحسن وقال متنبئا : « إنه سيغدر ».

وسار حتى انتهى الى الأنبار ، فلما علم معاوية به أرسل إليه رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب الى صاحبه ، وبعث إليه بخمسة آلاف ولعلها خمسمائة ألف درهم ، ومنّاه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة ، فقلب على الحسن وأخذ طريقه الى معاوية ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود(١) .

وارتكب هذه الخيانة جمع غفير من الأشراف والوجوه. وقد أدّى ذلك الى زعزعة كيان الجيش واضطرابه ، وتفلل جميع وحداته.

٤ ـ نهب أمتعة الامام :

وانحطت نفوس ذلك الجيش انحطاطا فظيعا ، واستولت على ضمائره

__________________

(١) البحار ١٠ / ١١٠.

١٠١

سحب قاتمة لا بصيص فيها من نور الكرامة والشرف ، فارتكبوا كل جريمة وموبقة. ومن انحطاط نفوسهم ان بعضهم جعل ينهب بعضا ، ولم يكتفوا بذلك حتى عدوا الى أمتعة الإمام وأجهزته فنهبوها ، وأكبر الظن أن للخوارج ضلعا كبيرا في هذا الإجرام ، فانهم لا يرون حرمة للإمام ، ولا حرمة لأموال غيرهم ، فقد أباحت خططهم الملتوية أموال من لا يدين بفكرتهم ولا يخضع لدينهم ، وقد وقعت جريمة نهب الإمام فى موردين هما :

١ ـ حينما دس معاوية عيونه في جيش الإمام ليذيعون أن الزعيم قيس بن سعد قد قتل فانهم حينما سمعوا ذلك نهب بعضهم بعضا حتى انتهبوا سرادق الحسن(١) وتنص بعض المصادر انهم نزعوا بساطا كان الإمام جالسا عليه واستلبوا منه رداءه(٢) .

٢ ـ لما أرسل معاوية المغيرة بن شعبة ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الرحمن بن الحكم الى الإمام ليفاوضونه في أمر الصلح ، فلما خرجوا من عنده أخذوا يبثون بين صفوف الجيش لإيقاع الفتنة فيه قائلين : « إن الله حقن الدماء بابن بنت رسول الله (ص) وقد أجابنا الى الصلح » ولما سمعوا بمقالتهم اضطربوا اضطرابا شديدا ووثبوا على الإمام فانتهبوا مضاربه وأمتعته(٣) .

٥ ـ تكفيره :

وخيم الجهل على قلوب ذلك الجيش المصاب بأخلاقه وعقيدته ، فراح يسرح في ميادين الشقاء والغواية متماديا في الإثم والضلال ، وبلغ

__________________

(١) الطبري ٤ / ١٢٢ ، البداية والنهاية ٨ / ١٤.

(٢) البحار ، أعيان الشيعة ، تأريخ اليعقوبي.

(٣) البحار ، شرح ابن أبي الحديد.

١٠٢

من طيشه وجهله أن بعضهم حكم بتكفير حفيد نبيهم ، فلقد انبرى له الجراح بن سنان الذي أراد قتله قائلا :

« أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل!! ».

إن مجتمعا يرى هذا الاعتداء الصارخ على حفيد نبيهم ولا يقومون بنجدته لجدير بأن ينبذ ويترك لأنه لا ينفعه النصح ، ولا يثوب الى الحق والرشاد ، وأغلب الظن أن الذين حكموا بكفر الإمام كانوا من الخوارج إذ لا يصدر هذا الاعتداء إلا من هؤلاء الأشرار.

٦ ـ اغتياله :

ولم تقف محنة الحسن وبلاؤه في جيشه الى هذا الحد فلقد عظم بلاؤه الى أكثر من ذلك فقد قدم المرتشون والخوارج على قتله ، وقد اغتيل (ع) ثلاث مرات وسلم منها وهي :

١ ـ انه كان يصلي فرماه شخص بسهم فلم يؤثر شيئا فيه.

٢ ـ طعنه الجراح بن سنان في فخذه ، وتفصيل ذلك ما رواه الشيخ المفيدرحمه‌الله قال : « إن الحسن أراد أن يمتحن أصحابه ليرى طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره ، فأمر (ع) أن ينادى ( بالصلاة جامعة ) فلما اجتمع الناس قامعليه‌السلام خطيبا فقال :

« الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق وائتمنه على وحيه.

أما بعد : فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريد له بسوء ، ولا غائلة وإن ما تكرهون فى الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم فلا تخالفون أمري ،

١٠٣

ولا تردوا عليّ رأيي ، غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا ».

ونظر الناس بعضهم الى بعض وهم يقولون ما ترونه يريد؟

واندفع بعضهم يقول :

« والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه!!! »

وما سمعوا بذلك إلا وهتفوا :

« كفر الرجل!!! »

وشدوا على فسطاطه فانتهبوه ، حتى أخذوا مصلاه من تحته ، وشدّ عليه الأثيم عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي ، فنزع مطرفه من عاتقه ، فبقى الإمام جالسا متقلدا سيفه بغير رداء ، ودعا (ع) بفرسه فركبه ، وأحدقت به طوائف من خاصته وشيعته محافظين عليه ، وطلبعليه‌السلام أن تدعى له ربيعة وهمدان فدعيتا له ، فطافوا به ودفعوا الناس عنه ، وسار موكبه ولكن فيه خليطا من غير شيعته ، فلما انتهى (ع) الى مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح بن سنان فأخذ بلجام بغلته ، وبيده مغول(١) فقال له :

« الله أكبر ، اشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل! ».

ثم طعن الإمام في فخذه فاعتنقه الإمام وخرّا جميعا الى الأرض ، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن يقال له عبد الله بن حنظل الطائي ، فانتزع المغول من يده فخضض به جوفه ، وأكب عليه شخص آخر يدعى بظبيان بن عمارة فقطع أنفه ، ثم حمل الإمام (ع) جريحا على سرير الى المدائن في المقصورة البيضاء لمعالجة جرحه(٢) .

__________________

(١) المغول : آلة تشبه السيف.

(٢) الارشاد ص ١٧٠.

١٠٤

٣ ـ طعنه بخنجر فى أثناء الصلاة(١) .

واتضحت للإمام (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة نوايا هؤلاء الأجلاف وانه سيبلغ بهم الاجرام والشر الى ما هو أعظم من ذلك وهو تسليمه الى معاوية أسيرا فتهدر بذلك كرامته أو يغتال ويضاع دمه الشريف من دون أن تستفيد الأمّة بتضحيته شيئا.

الموقف الرهيب :

وكان موقف الإمام الحسنعليه‌السلام من هذه الزعازع ، والفتن السود التي تدع الحليم حيرانا ، موقف الحازم اليقظ ، فقد كان من حنكته وحسن تدبيره ، وبراعة حزمه فى مثل الانقلاب الذي مني به جيشه أن جمع الزعماء والوجوه ، فأخذ يبين لهم النتائج المرة والأضرار الجسيمة التي تترتب على مسالمة معاوية قائلا :

« ويلكم ، والله إن معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي ، وإني أظن أني إن وضعت يدي فى يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدي ، وإني أقدر أن أعبد الله عز وجل وحدي ، ولكن كأني أنظر الى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون ، فبعدا وسحقا لما كسبته أيديهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ».

ولم تنفع جميع المحاولات التي بذلها الإمام من أجل استقامتهم وصلاحهم فقد أخذ الموقف تزداد حراجته ، ويعظم بلاؤه ، وتشتد فيه الفتن والخطوب وقد وجد زعماء الجيش انشغال الإمام بمعالجة جرحه فرصة إلى الاتصال

__________________

(١) ينابيع المودة ص ٢٩٢.

١٠٥

المفضوح بمعاوية ، والتزلف إليه بكل وسيلة ، وقد علم الإمام (ع) جميع ما صدر منهم من الخذلان والاتصال بالعدو.

حقا لقد كان موقف الإمام موقفا تمثلت فيه الحيرة والذهول ، ينظر الى معاوية فيرى حربه ضروريا يقضي به الدين ويلزم به الشرع وينظر الى الانقلاب والتفكك الذي أصيب به جيشه ، والى المؤمرات المفضوحة على اغتياله فينفض يده منهم وييأس من صلاحهم ، ومع ذلك أرادعليه‌السلام أن يمتحنهم ليرى موقفهم من الحرب لو اندلعت نارها ، فأمر (ع) بعض أصحابه أن ينادى في الناس ( الصلاة جامعة ) فاجتمع الجمهور فقام فيهم خطيبا فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

« والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم ، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم فى مسيركم الى صفين ودينكم أمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وقد أصبحتم بين قتيلين ، قتيل بصفين تبكون عليه ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره ، وأما الباقي فخاذل وثائر ».

وأعرب (ع) بهذا الخطاب البليغ عن بعض العوامل التي أدت الى تفككهم وانحلالهم ، وعرض عليهم بعد هذا دعوة معاوية في الصلح قائلا :

« ألا وان معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ، ولا نصفة فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه بظبات السيوف ، وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذناه بالرضا ».

وما انتهى (ع) من هذه الكلمات إلا وارتفعت الأصوات من جميع جنبات الجمع وهي ذات مضمون واحد :

١٠٦

البقية ، البقية(١) .

ورأى (ع) بعد هذا الموقف أنه إن حارب معاوية حاربه بيد جذاء إذ لا ناصر له ولا معين ، ولم يكن هناك ركن شديد حتى يأوي إليه ، واستبانت له الخطط المفضوحة التي سلكها زعماء الجيش من تسليمه الى معاوية أسيرا أو اغتياله ، رأى بعد هذا كله ان الموقف يقضي بالسلم واستعجال الصلح.

وحدث يزيد بن وهب الجهني عن مدى استياء الامام وتذمره من أجلاف الكوفة وأوباشهم ، قال : دخلت عليه لما طعن فقلت له :

« يا ابن رسول الله ، ان الناس متحيرون ».

فاندفع الامام يقول بأسى بالغ وحزن عميق :

« والله أرى معاوية خيرا لي ، هؤلاء يزعمون أنهم لي شيعة ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي ، وأخذوا مالي ، والله لئن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمى وآمن به أهلي وشيعتي خير لي من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتى ، لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلما ، والله لئن اسالمه وأنا عزيز أحب من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمن عليّ فتكون سبة على بني هاشم الى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منّا والميت ».

وأعرب الإمام فى حديثه عن مدى ما لاقاه من الاعتداء الغادر على حياته وكرامته من هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم شيعة له ، وانه سيبلغ بهم التفسخ الى أقصى حد فسيقتلونه أو يسلمونه أسيرا الى معاوية فيقتله أو يمن عليه فيسجل له بذلك يدا على الإمام وتكون سبة وعارا على بني هاشم الى آخر الدهر.

__________________

(١) حماة الاسلام ١ / ١٢٣ ، المجتنى لابن دريد ص ٣٦ ،

١٠٧

وأخذ (ع) بعد هذه الأحداث الخطيرة يجيل النظر ويقلب الرأي على وجوهه ، فى حرب معاوية وتصور المستقبل الملبد بالزعازع والاضطرابات التي تقرر المصير المخوف والنهاية المحتومة لدولته وحياته معا بل وعلى حياة الإسلام أيضا لأن القلة المؤمنة التي يحويها جيشه كانت بين ذرية النبي الأعظم (ص) وبين حملة الدين الإسلامى المقدس ، من بقايا الصحابة وتلامذة أمير المؤمنين (ع) وهؤلاء إن طحنتهم الحرب تفنى معنويات الإسلام ، ويقضى على كيانه وتحطم عروشه ، لأنهم هم القائمون بنشر طاقاته ، ومضافا الى ذلك ان الإسلام لا يستفيد بتضحيتهم شيثا لأن معاوية بمكره سوف يلبسهم لباس الاعتداء ، ويوصمهم بالخروج عن الطاعة والإخلال بالأمن العام والقضاء عليهم أمر ضروري حفظا لحياة المسلمين من القلق والاضطراب.

حقا لقد تمثلت الحيرة والذهول في ذلك الموقف الرهيب والخروج من مأزقه يحتاج الى فكر ثاقب والى مزيد من التضحية والإقدام ، رأى الامامعليه‌السلام أن المصلحة التامة تقضي أن يصالح معاوية ويعمل بعد ذلك على تحطيم عروش دولته ، ويعرب للناس عاره وعياره ، ويظهر لهم الصور الإجرامية التي تتمثل فيه! لقد سالم (ع) وكانت المسالمة أمرا ضروريا يلزم بها العقل ويوجبها الشرع المقدس ، وتقتضيها حراجة الموقف ، واضافة لهذه الأحداث سوف نقدم أسبابا أخرى توضح المقام وترفع أثر الشك وترد شبهات الناقدين

١٠٨

اسباب الصّلح

١٠٩
١١٠

تحوم حول صلح الامام الحسن (ع) مع خصمه معاوية كثير من الظنون والأقوال ، ويستفاد منها حكمان متباينان بكل ما للتباين من معنى والحق أن أحدهما خطأ وبعيد عن الصواب كما هو الشأن في كل حكمين متباينين :

« الأول » من هذين الحاكمين تبرير موقف الامام في صلحه وموفقيته فيه الى أبعد الحدود ، ويختلف مبنى التعليل فيه ، فطائفة من العلماء والبحاث عللته بأنه إمام والإمام معصوم من الخطأ ، فلا يفعل إلا ما هو الصالح العام لجميع الأمّة ، وسنذكر في أواخر هذا البحث الذاهبين الى هذا القول وتعليل آخر يكشف عن مناط القول الأول ، ويوضح مدركه وهو يستند الى العلل المادية التي اضطرت الامام الى الصلح كخذلان جيشه ، وفساد مجتمعه ، وخيانة الزعماء والمبرزين والوجهاء من شعبه وغير ذلك من العوامل ،

« الثاني » من هذين الحاكمين تعود خلاصته الى ضعف ارادة الامام وعدم احاطته بشئون السياسة العامة وعجزه عن ادارة دفة الدولة ، وعدم تداركه للموقف بالاعتماد على الأساليب السياسية وإن منع عنها الدين ، فان نال الظفر فذاك وإلا فالشهادة في سبيل المجد التي هي شعار الهاشميين ، وهدف المصلحين ، وهذا الرأي مبني على ظواهر لا تمت الى الواقع بصلة ولا تلتقي معه بطريق وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الظروف المحيطة بالامام ، وعدم الوقوف على اتجاه شعبه الذي اصيب بأخلاقه وعقيدته ، فلذا كان هذا الرأي سطحيا وخاليا عن التحقيق وبعيدا عن الواقع ، أما الذاهبون لهذا الرأي فهم :

١ ـ الصفدي :

قال الصفدي فى شرحه لهذا البيت من لامية العجم :

١١١

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

وقد رضى بالخمول جماعة من الرؤساء والأكابر المتقدمين في العلم والمنصب وفارقوا مناصبهم ، وأخلوا الدسوت من تصديرهم ، ثم ذكر جماعة من الذين رضوا بالخمول ونزعوا عن أنفسهم الخلافة ثم قال :

« وهذا الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) قال لمعاوية : إن عليّ دينا فأوفوه عني وأنتم فى حل من الخلافة ، فأوفوا دينه وترك لهم الخلافة »(١) .

٢ ـ الدكتور فيليب حتى :

قال الاستاذ فيليب حتى : « وفي بدء حكم معاوية قامت حركة أخرى كان لها شأن كبير في الأجيال التي تلت أعني اعلان أهل العراق الحسن بن علي الخليفة الشرعي ، ولعلمهم هذا أساس منطقي لأن الحسن كان أكبر أبناء علي وفاطمة ابنة النبيّ الوحيدة الباقية بعد وفاته ، ولكن الحسن الذي كان يميل الى الترف والبذخ لا الى الحكم والادارة لم يكن رجل الموقف ، فانزوى عن الخلافة مكتفيا بهبة سنوية منحه إياها »(٢) .

٣ ـ العلائلي :

قال الاستاذ العلائلي : « ولكنه ( يعني الحسن ) كان قديرا على أن يعد الجماعات المنحلة عن طريق الاستشارة والحماس ، وبث روح العزم والإرادة كما رأينا في القادة الحديديين أمثال « نابليون » الذي تولى شعبا أنهكته الثورة الطويلة كما أنهكت العرب ، وزاد هو فى انهاكه بالحروب

__________________

(١) شرح لامية العجم ٢ / ٢٧ وقد خبط الصفدي خبط عشواء ، فان الامام متى باع الخلافة على خصمه بوفاء دينه؟ نعوذ بالله من هذا الافتراء.

(٢) العرب ص ٧٨.

١١٢

المتتالية المستمرة التي اخذ بها أوربا ، ولكن القائد غمرته موجة السأم التي غمرت الناس »(١) .

٤ ـ المستشرق « روايت م رونلدس » :

قال هذا المستشرق : « فان الأخبار تدل على أن الحسن كانت تنقصه القوة المعنوية والقابلية العقلية لقيادة شعبه بنجاح »(٢) .

٥ ـ لامنس :

قال هذا الإنگليزي المتهوس الأثيم الذي لم يفهم من التاريخ الإسلامى شيئا : « وبويع للحسن بعد مقتل علي فحاول أنصاره أن يقنعوه بالعودة الى قتال أهل الشام ، وقلب هذا الإلحاح من جانبهم حفيظة الحسن القعيد الهمة ، فلم يعد يفكر إلا في التفاهم مع معاوية ، كما أدى إلى وقوع الفرقة بينه وبين أهل العراق ، وانتهى بهم الأمر إلى اثخان امامهم اسما لا فعلا بالجراح فتملكت الحسن منذ ذلك الوقت فكرة واحدة هي الوصول الى اتفاق مع الأمويين ، وترك له معاوية أن يحدد ما يطلبه جزاء تنازله عن الخلافة ، ولم يكتف الحسن بالمليوني درهم التي طلبها معاشا لأخيه الحسين بل طلب لنفسه خمسة ملايين درهما أخرى ، ودخل كورة فى فارس طيلة حياته وعارض أهل العراق بعد ذلك في تنفيذ الفقرة الأخيرة من هذا الاتفاق ، بيد انه اجيب إلى كل ما سأله حتى ان حفيد النبي اجترأ فجاهر بالندم على أنه لم

__________________

(١) الحلقة الثانية من حياة الحسين ص ٢٨٣.

(٢) عقيدة الشيعة تعريب ع م ص. وهذا المستشرق من الحاقدين على الإسلام ، وقد شحن كتابه بالكذب والطعن على الإسلام والحط من قيمة أعلامه النابهين وقد تعرض الاستاذ السيد عبد الهادي المختار في مجلة البيان الزاهرة في عددها الخاص بسيد الشهداء من السنة الثانية عدد ٣٥ ـ ٣٩ إلى تزيفه وعرض أكاذيبه.

١١٣

يضاعف طلبه وترك العراق مشيعا بسخط الناس عليه ليقبع في المدينة »(١)

وهؤلاء الناقدون لصلح الامام كان بعضهم مدفوعا بدافع الحقد والعداء للإسلام ، وبعضهم لم يكن رأيه خاضعا لحرية الفكر ولم يحتضن

__________________

(١) دائرة المعارف الاسلامية ج ٧ ص ٤٠٠ وهذه الدائرة لم تكن إلا دائرة كذب وافتراءات فقد حفلت بالطعن على الاسلام والسب لأعلامه خصوصا في بحوث ( لامنس ) عن الشيعة وعن أئمتهم فانها مليئة بالبهتان والتهريج عليهم ، والسبب في ذلك ان لجان التبشير المسيحي هي التي تدفع أمثال هذه الأقلام المأجورة لتشويه الاسلام والكيد له ، مضافا الى أن بحوث المستشرقين تعتمد على دراسة سطحية خالية عن التحقيق والتدقيق ، ومن الجدير بالذكر أن بعض المستشرقين زار ( طهران ) عاصمة إيران بعد أن تعلم اللغة الفارسية في مدارس الألسنة الشرقية وقد حاول أن يضع تأريخا عن حالة إيران الاجتماعية والأخلاقية كما يشاهدها فرأى حمالين وعلى رءوسهم أوانيا وأسبابا فاخرة ، وأمامهم الدفوف والمزامير فسأل عن ذلك فقال له بعض الحاضرين إنهم يحملون جهاز عروس ، ثم سأل عن اسم الزوج فقال له بعض الحاضرين ( ما ذا يهمك؟ ) ، وفي المساء رأى هذا المستشرق رجلا يضرب امرأة في الشارع فسأل بعض الحاضرين عن القصة فأخبره أن الضارب زوجها وقد تركته بغير حق ، ثم سأل عن أسم الزوج فقال له ( ما ذا يهمك؟ ) فظن المستشرق ان اسم الرجل ما ذا يهمك ، وإنه العريس الذي رأى جهازه صباحا ، فكتب هذا المستشرق في كتابه تاريخ ايران انه رأى في عاصمتها عريسا يقترن صباحا ويضرب عروسه في الشارع مساء وان اسمه ما ذا يهمك ، هذا حال المستشرقين في الأمور الظاهرة البديهية فكيف حالهم في النظريات الدقيقة الغامضة هذا إذا لم يعتمدوا على التحريف فكيف إذا اعتمدوا عليه ومن المؤسف ان شبابنا قد عكف على دراسة مؤلفاتهم والاعتماد عليها في اطروحاتهم مع انها لا نصيب لها من الصحة والواقع.

١١٤

قولهم الدليل فى جميع أحواله ، وذلك لعدم وقوفهم على العوامل التي أحاطت بالامام حتى دعته إلى مسالمة خصمه ، ويجب على الكاتب الذي يريد أن يمثل للمجتمع صورة عن شخصية مهمة لها من الخطورة شأن كبير أن يحيط بأطرافها من جميع النواحي ليكون رأيه قريبا الى الصواب وبعيدا عن الخطأ وبما أنا وقفنا بعض الوقوف أو أقله على بعض العلل والعوامل التي دعت الامام لمسالمة عدوه ، وهي تتلخص في أمور استنبطنا بعضها من الابحاث السالفة والبعض الآخر استنتجناه من دراسة نفسية معاوية وملاحظة أعماله ، ومن الوقوف على أضواء سيرة الامام الرفيعة ، ومعرفة سياسة أهل البيت (ع) التي لا تتذرع بالوسائل التي شجبها الاسلام في سبيل الوصول الى الحكم وقبل أن نعرض أسباب الصلح نود أن نبين انا قد نعيد نماذج بعض المواضيع السالفة لأجل الاستدلال على ما نذهب إليه فان في الاعادة ضرورة ملزمة يقتضيها البحث ، فان تفصيل هذا الموضوع والاحاطة به أهم من غيره ، ولعل نظر القراء إليه وهي كما يلي :

١ ـ تفلل الجيش :

إن أعظم ما تواجهه الدولة فى جميع مجالاتها مسبب ـ على الأكثر ـ من خبث الجند ، وشدة خلافه ، وعصيانه لقيادته العامة ، وقد مني الجيش العراقي آنذاك بالتمرد والانحلال بما لم يبتل به جيش معاوية فانه ظل محتفضا بالولاء لحكومته ولم يصب بمثل هذه الرجات والانتكاسات ، أما العلل التي أدت الى اضطراب الجيش العراقي وانشقاقه فهي :

أ ـ تضارب الحزبية فيه :

إن الأحزاب إذا تضاربت في الجيش وكانت مدفوعة بالحقد للحكم

١١٥

القائم ، أو كان لها اتصال بدولة أجنبية تعمل بوحي منها ، وتستمد منها التوجيهات للإطاحة به ، فان الدولة لا تلبث أن تلاقي النهاية المحتومة إن عاجلا أو آجلا ، وقد ابتلي الجيش العراقي في ذلك الوقت بحزبين ليس فيهما صديق للدولة الهاشمية ولا محافظ عليها ، وإنما كانا يبذلان المساعي والجهود للقضاء عليها ، وهما :

الحزب الاموي :

وهؤلاء هم أبناء الأسر البارزة وذوو البيوتات الشريفة الذين لا يهمهم غير الزعامة الدنيوية ، والظفر بالمال والسلطان وهم كعمر بن سعد ، وقيس ابن الأشعث ، وعمرو بن حريث ، وحجار بن أبجر ، وعمرو بن الحجاج ، وأمثالهم من الذين لا صلة لهم بالفضيلة والكرامة ، وكانوا أهم عنصر مخيف فى الجيش ، فقد وعدوا معاوية باغتيال الامام أو بتسليمه له أسيرا كما قاموا بدورهم باعمال بالغة الخطورة وهي :

١ ـ إنهم سجلوا كل ظاهرة أو بادرة فى الجيش فارسلوها الى معاوية للاطلاع عليها.

٢ ـ كانوا همزة وصل بين معاوية وبقية الوجوه.

٣ ـ قاموا بنشر الأراجيف والارهاب فى نفوس الجيش بقوة معاوية وضعف الحسن.

وأدت هذه الأعمال الى انهيار الجيش ، وزعزعة كيانه ، وضعف معنوياته في جميع المجالات.

١١٦

الحزب الحروري :

وهذا الحزب قد أخذ على نفسه الخروج على النظام القائم ، ومحاربته بجميع الوسائل ، وقد انتشرت مبادئه في الجيش العراقي انتشارا هائلا لأن المبشرين بأفكارهم كانوا يحسنون غزو القلوب والأفكار ويجيدون الدعاية وقد وصف زياد بن أبيه مدى قابلياتهم بقوله : « لكلام هؤلاء أسرع الى القلوب من النار الى اليراع »(١) ووصف المغيرة بن شعبة شدة تأثر يهم في النفوس بقوله : « إنهم لم يقيموا ببلد إلا أفسدوا كل من خالطهم »(٢) وقد استولوا على عقول السذج والبسطاء من الجيش بشعارهم الذي هتفوا به « لا حكم إلا لله » ولم يقصد بذلك إلا حكم السيف كما يقول فان فلوتن(٣)

لقد قضت خطط الخوارج الملتوية بوجوب الخروج على ولي أمر المسلمين إذا لم ينتم إليهم وهو عندهم جهاد ديني تجب التضحية في سبيله وقد قاموا بأعنف الثورات ضد الولاة حتى عسر عليهم مقاومتهم. وكان الخوارج يحملون حقدا بالغا في نفوسهم على الحكومة الهاشمية لأنها قد وترتهم بأعلامهم ، وقضت على الكثيرين منهم فى واقعة النهروان ، وقد فتكوا بالإمام أمير المؤمنين وتركوه صريعا في محرابه انتقاما منه بما فعله فيهم ، كما اغتالوا الإمام الحسن (ع) وطعنوه في فخذه ، وحكموا بتكفيره ، وكانت كمية هذه العصابة كثيرة للغاية فقد نصت بعض المصادر أن أكثرية الجيش

__________________

(١) اليراع : القصب.

(٢) الطبري ٦ / ١٠٩.

(٣) السيادة العربية ص ٦٩.

١١٧

كانت من الخوارج(١) .

وهذان الحزبان السائدان في العراق قد بذلا جميع الطاقات لإفساد الجيش ، وبذر الخلاف والانشقاق في جميع وحداته حتى ارتطم في الفتن والأهواء ، ويضاف لذلك أن هناك مجموعة كبيرة منه كان موقفها موقفا سلبيا في قضية الإمام الحسن (ع) لأنها لا تفقه الأهداف الأصيلة التي ينشدها الامام ، ولضيق تفكيرها ترى أن الامام كل من ارتقى دست الحكم من أي طريق كان فالحسن ومعاويه سيان ، وإن حارب الحسن معاوية على الدين ، وحارب معاوية الحسن على الدنيا.

ولم يعد بعد ذلك من يناصر الحكومة الهاشمية ، ويقف الى جانبها سوى الفئة الشيعية التي ترى رأي العلويين في أحقيتهم بالخلافة وهم أمثال الزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وعدي بن حاتم الطائي ، وحجر ابن عدي ، ورشيد الهجري ، وحبيب بن مظاهر ، وأضرابهم من تلامذة أمير المؤمنين (ع) وهم الأقلية عددا كما قال الله تعالى « وقليل ما هم » وليس باستطاعتهم أن ينتشلوا الحكومة من الأخطار الحافة بها فانهم لو كانوا كثرة في الجيش لما اضطر الامام أمير المؤمنين على قبول التحكيم ولما التجأ الامام الحسن الى الصلح.

ب ـ السأم من الحرب :

ان من طبيعة الكوفة التي جبلت عليها نفوس أهلها السأم والملل « ولا رأي لملول » ومضافا لهذه الظاهرة النفسية التي عرفوا بها أن هناك سببين أوجبا زيادته ومضاعفته وهما :

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ٤٢.

١١٨

١ ـ الحروب المتتالية :

ومما سبب شيوع الملل والسأم فى نفوس الجيش العراقي الحروب المتتالية فان الدولة كانت تستعمله فى الفتوحات والدفاع عنها ، وزاد في ضعف أعصابه وانهياره حرب صفين والنهروان ، فقد طحنت الحرب فيها جمعا غفيرا منهم حتى أصبحوا يكرهون الحرب ويؤثرون السلم ويحبون العافية.

٢ ـ اليأس من الغنائم :

ولم يربح الجيش العراقي في حرب الجمل وصفين والنهروان شيئا من العتاد والأموال ، لأن الامام أمير المؤمنين لم يعاملهم معاملة الكفار فيقسم غنائمهم على المسلمين ، وإنما أمر بارجاع جميع الأموال التي اغتنمها جيشه إلى أهلها بعد انتهاء حرب البصرة(١) وقد علم الجيش أن الامام الحسن (ع) لا يتحول عن سيرة أبيه ونهجه ، فلم يثقوا بالأموال والغنائم إن حاربوا معاوية فاعلنوا العصيان وأظهروا التمرد والسأم من الحرب.

إن كراهية الجيش العراقي للحرب وإيثاره للعافية لم يكن ناشئا في « مسكن » وإنما كان عقيب رفع المصاحف وواقعة النهروان فقد خلد بجميع كتائبه إلى السلم ، وقد ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا الكتاب صورا من الاعتداءات الغادرة التي قامت بها قوات معاوية على الحدود العراقية وغزوهم لمدن العراق ، وترويعهم للآمنين ، وقتلهم الأبرياء ، وهم متخاذلون متقاعسون عن ردها لا تحركهم العواطف الدينية ولا يهزهم الشعور الانساني لدفع الضيم والذل عنهم ، يأمرهم الامام أمير المؤمنين بالجهاد فلا يطيعونه ، ويدعوهم إلى مناصرته فلم يستجيبوا له ، وقد ترك ذلك أسى مريرا وشجى مقيما في نفسه ، وقد اندفع فى كثير من خطبه إلى انتقاصهم وذمهم يقول (ع) :

__________________

(١) علي وبنوه ص ٥٥.

١١٩

« لقد سئمت عتابكم أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا ، وبالذل من العز خلفا ، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة ، ومن الذهول في سكرة ».

ويستمر في تقريعه ولومه لهم ، وإبداء تأثره على تخاذلهم ونكوصهم عن الحرب فيقول :

« وما أنتم بركن يمال بكم ، وأيم الله إني لأظن أن لو حمس الوغى ، واستحر الموت قد انفرجتم من ابن أبي طالب انفراج الرأس ».

ويصف (ع) فى خطاب آخر عدم اندفاعهم للجهاد في سبيل الله ، ومدى محنته وبلائه فيهم فيقول :

« ودعوتهم سرا وجهرا ، وعودا وبدء فمنهم الآتي كرها ، ومنهم المعتل كاذبا. ومنهم القاعد خاذلا ، واسأل الله أن يجعل منهم فرجا عاجلا والله لو لا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة لا حببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا »(١) .

ويقول (ع) في خطاب آخر له :

« المغرور والله من غررتموه ، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب ، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل(٢) أصبحت والله لا أصدق قولكم ، ولا أطمع في نصركم ، ولا أوعد العدو بكم ، ما بالكم! ما دواؤكم

__________________

(١) النهج محمد عبده ٣ / ٦٧.

(٢) الأفوق من السهام : مكسور الفوق وهو موضع الوتر من السهم ، الناصل : العاري عن النصل أي : من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت في الوتر حتى يرمى ، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا نصل له.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529