حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218082 / تحميل: 6651
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أبو سفيان وهند :

وأبو سفيان من ألدّ أعداء النبي (ص) فهو الذي قاد الأحزاب ، وظاهر اليهود ، وناصر جميع القوى المعادية للإسلام ، وتضاعف حقده على النبي (ص) حينما وتره بأسرته وبسبعين رجلا من صناديد قريش ممن كانوا تحت لواء الشرك في غزوة بدر الكبرى ، فأترعت نفسه الأثيمة بالحزن عليهم ، وظل يناجز الرسول (ص) ويؤلب عليه الأحقاد ، ولكن الله رد كيده ، فنصر رسوله ، وأعز دينه ، وأذل أبا سفيان وحزبه ، فقد فتح النبي (ص) مكة ودخل ظافرا منتصرا فحطم الأصنام ، وكسر الأوثان ودخل أبو سفيان ـ على كره منه ـ في الاسلام ذليلا مقهورا يلاحقه العار والخزي ، وظل بعد إسلامه محتفضا بجاهليته لم يغير الاسلام شيئا من طباعه وأخلاقه ، وكان بيته وكرا للخيانة وكان هو كهفا للمنافقين(١) .

ولما فجع المسلمون بالنبي (ص) وتقمص أبو بكر الخلافة أقبل أبو سفيان يشتد إلى أمير المؤمنين (ع) يطلب منه الثورة ومناجزة أبي بكر لارجاع الخلافة إليه ، ولم يكن ذلك منه إيمانا بحق أمير المؤمنين ، ولكن ليجد بذلك منفذا يسلك فيه للتخريب والهدم ، ولم يخف على الامام نواياه الشريرة فأعرض عنه وزجره ، وظل أبو سفيان بعد ذلك قابعا في زوايا الخمول ينظر إليه المسلمون نظرة ريبة وشك في اسلامه ، ولما آل الأمر الى عثمان وقرّب بني أمية ، وفوض إليهم أمور المسلمين ، ظهر أبو سفيان وعلا نجمه ، وراح يظهر الأحقاد ، والعداء الى النبي ، فوقف يوما قبال مرقد سيد الشهداء حمزة (ع) فألقى ببصره المتغور على القبر ثم حرّك شفتيه قائلا :

__________________

(١) الاستيعاب

١٤١

« يا أبا عمارة! إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف أمس في يد غلماننا يلعبون به. »

ثم ركل القبر الشريف برجله ، ومضى مثلوج الصدر ، ناعم البال ، قرير العين ، كل ذلك بمرأى ومسمع من عثمان فلم يوجّه له عتابا ولم ينزل به عقابا ( فإنا لله وإنا إليه راجعون ).

هذا واقع أبي سفيان في كفره وحقده على الإسلام ، وأما زوجته هند فانها لا تقل ضراوة عن زوجها وكانت أحقد منه على رسول الله (ص) فكانت تحرض المشركين على قتاله ومناجزته ، ولما انتهت واقعة بدر بقتل أهلها ومن يمت إليها من المشركين ، لم تظهر الحداد والحزن(١) عليهم ، تحرض بذلك قريشا على الطلب بثارهم وجاءتها نسوة قريش قائلات لها :

« ألا تبكين على أبيك ، وأخيك ، وعمك ، وأهل بيتك »؟

فانبرت إليهن قائلة بحرارة :

« حلأني أن أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ونساء بني الخزرج لا والله حتى أثأر محمدا وأصحابه ، والدهن عليّ حرام إن دخل رأسي حتى نغزوا محمدا ، والله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت ، ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعينى من قتلة الأحبة. »

ومكثت على حالها لم تظهر الأسى ، ولم تقرب من فراش أبي سفيان

__________________

(١) كانت العادة في الجاهلية تأخير البكاء على القتيل منهم حتى يؤخذ بثأره فاذا أخذ بكت عليه نسوتهم وفي ذلك يقول شاعرهم :

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسرا يندبنه

يلطمن حر الوجه بالاسحار

صبح الأعشى ١ / ٤٠٥.

١٤٢

ولم تدهن حتى صارت واقعة أحد(١) فأخذت ثارها من سيد الشهداء حمزة فمثلت به ، وفعلت معه ذلك الفعل الشنيع ، فعند ذلك أظهرت السرور والفرح وأخذت ترتجز قائلة :

شفيت نفسي بأحد

حين بقرت بطنه عن الكبد

أذهب عني ذاك ما كنت أجد

من لوعة الحزن الشديد المعتمد

والحرب تعلوكم بشؤبوب برد

نقدم إقداما عليكم كالأسد

ولما رأى رسول الله (ص) ما فعلته هند بعمه من التنكيل غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، وقال :

« ما وقفت موقفا أغيظ إلي من هذا الموقف ».

وقال (ص) ثانيا :

« لن أصاب بمثل حمزة أبدا »(٢)

ولما كان يوم الفتح ودخل المسلمون مكة قام أبو سفيان في أزقة مكة وشوارعها مناديا على كره منه من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فلما سمعت هند منه ذلك لطمته على وجهه وجعلت تصيح بلا اختيار :

« اقتلوا الخبيث الدنس ، قبّح من طليعة قوم »

ثم التفت الى جماهير قريش محرضة لهم على الحرب قائلة بنبرات تقطر حماسا : « هلاّ قاتلتم عن بلادكم ، ودفعتم عن أنفسكم »

تثير بذلك حفاظ النفوس ، وتلهب نار الثورة في قومها ، ولكن الله ردّ كيدها ، وخيّب سعيها ، فنصر الاسلام وأهله. هذان أبوا معاوية

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٣٤٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٣٨٧.

١٤٣

وبقاعدة الوراثة نجزم بأن ما استقر في نفسيهما من الغل والحقد والبغض والعداء للإسلام ولرسول الله (ص) قد انتقل إلى معاوية ، ومضافا إلى ذلك فان رسول الله قد لاقى الأمويين عموما بالاستهانة والتحقير وذلك لما لاقى منهم من العناء والآلام ، فأمر بابعادهم عن يثرب كالحكم وابنه مروان وسعيد بن العاص والوليد ، وأمر المسلمين بالتجنب عنهم وسماهم بالشجرة الملعونة ، وهذه الامور التي شاهدها معاوية قد أولدت في نفسه حقدا على النبيّ (ص) وعلى أهل بيته.

ما أثر عن النبي في معاوية :

وتضافرت الأخبار الواردة عن النبي (ص) في ذم معاوية وفي الاستهانة به وهي :

١ ـ قال (ص) يطلع من هذا الفج رجل يحشر على غير ملتي.

فطلع معاوية(١) .

٢ ـ ورأى رسول الله (ص) أبا سفيان مقبلا على حمار ، ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به ، قال : لعن الله القائد والراكب والسائق(٢) .

٣ ـ وروى البراء بن عازب قال : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية فقال

__________________

(١) تاريخ الطبري ١١ / ٣٥٧ ، وروى نصر بن مزاحم في كتاب صفين ص ٢٤٧ ان النبيّ (ص) قال : يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت حين يموت على غير سنتي.

(٢) تاريخ الطبري ١١ / ٣٥٧ ، ورواه الإمام السبط الحسن (ع) عن جده ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين ٢٤٧.

١٤٤

رسول الله (ص) : اللهم عليك بالأقيعس ، وسأل ابن البراء أباه عن الأقيعس ، فقال له : إنه معاوية(١) .

٤ ـ وجاءت الى النبي (ص) امرأة تستشيره في الزواج من معاوية فنهاها ، وقال لها : إنه صعلوك.

٥ ـ وروى أبو برزة الأسلمي(٢) قال : كنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعنا غناء فتشرفنا له ، فقام رجل فاستمع له وذاك قبل أن تحرم الخمر فأتانا وأخبرنا أنه معاوية وابن العاص يجيب أحدهما الآخر بهذا البيت :

يزال حواري تلوح عظامه

زوى الحرب عنه أن يحس فيقبرا(٣)

فلما سمع بذلك رسول الله رفع يديه بالدعاء وهو يقول :

« اللهم اركسهم في الفتنة ركسا ، اللهم دعهم إلى النار دعا(٤) »(٥)

__________________

(١) كتاب صفين ص ٢٤٤ ورواه الإمام الحسن أيضا.

(٢) أبو برزة : هو نضلة بن عبيد كان صاحبا لرسول الله ، وروى عنه وعن أبي بكر وروى عنه جماعة آخرون قال ابن سعد : كان من ساكني المدينة ثم البصرة ، وغزا خراسان ، وقال الخطيب شهد مع علي (ع) فقاتل الخوارج بالنهروان ، وغزا بعد ذلك خراسان ، فمات بها ، وقيل إنه مات بنيسابور ، وقيل بالبصرة وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٤٦.

(٣) الحس القتل الشديد وفي الكتاب ( إذ تحسونهم بأذنه ).

(٤) الأركاس والركس : الرد والإرجاع. وفي التنزيل ( والله أركسهم بما كسبوا ) والدع : الدفع الشديد. وفى الكتاب ( يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ) وقد ورد الحديث في اللسان ركس. بلفظ ( اللهم اركسهما في الفتنة ركسا ).

(٥) وقعة صفين ص ٢٤٦ مسند أحمد ٤ / ٤٢١.

١٤٥

واستشف رسول الله (ص) من وراء الغيب ان معاوية سوف يتولى شئون الحكم فحذر المسلمين منه وأمرهم بقتله فقال (ص) :

إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاضربوا عنقه(١) .

وكان الحسن (ع) إذا حدث بهذا الحديث يقول والتأثر ظاهر عليه.

« فما فعلوا ولا أفلحوا »(٢) .

وهكذا كان معاوية في زمان النبي (ص) مهان الجانب ، محطم الكيان ، صعلوكا ذليلا ، يلاحقه العار ، ويتابعه الخزي ، يتلقى من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله اللعن ، ومن المسلمين الاستهانة والتحقير ، ولما آل الأمر الى عمر جافى ما أثر عن النبي (ص) فيه فقربه وأدناه ، ورفعه بعد الضعة والهوان ، فجعله واليا على الشام ، ومنحه الصلاحيات الواسعة ، وفوض إليه أمر القضاء والصلاة ، وجباية الأموال ، وغير ذلك من الشؤون العامة التي تتوقف على الوثاقة والعدالة ، وبلغ من عظيم حبه وتسديده له أنه كان في كل سنة يحاسب عماله ، وينظر في أعمالهم إلا معاوية فانه لم يحاسبه ، ولم يراقبه ، وقد قيل له إنه قد انحرف عن الطريق القويم فبدد في الثروات

__________________

(١) تناول المحرفون هذا الحديث الشريف فرووه بصورة أخرى رواه الخطيب في تاريخه عن جابر مرفوعا قال رسول الله ( إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فانه أمين ) وروى الحاكم في تاريخه عن ابن مسعود قال رسول الله :( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقبلوه فانه أمين مأمون ) ومتى كان ابن هند أمينا ومأمونا أبمحاربته لوصي رسول الله ، أو لولوغه فى دماء المسلمين ، وقتله الأخيار والصلحاء ، وغير ذلك من الأحداث الجسام التي تكشف عن جاهليته وعدم تحرجه فى الدين.

(٢) وقعة صفين.

١٤٦

ولبس الحرير والديباج ، فلم يلتفت لذلك ، وأضفى عليه ثوب الأبهة والمجد ، فقال : « ذاك كسرى العرب » ولما فتل حبل الشورى لأجل إقصاء عترة النبيّ (ص) عن الحكم ، وجعله في بني أمية ، أشاد بمعاوية وهو في أواخر حياته ، ونفخ فيه روح الطموح ، فقال لأعضاء الشورى : « إن تحاسدتم وتقاعدتم ، وتدابرتم ، وتباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان ، وكان إذ ذاك أميرا على الشام »(١) .

وما أكثر عماله وولاته فلما ذا أشاد به دونهم؟! وكيف ساغ له أن يهدد أعضاء الشورى بسطوته وهم ذوو المكانة العليا وقد مات رسول الله (ص) وهو عنهم راض ـ كما يقول ـ وإذا كان يخاف عليهم منه فكيف أبقاه فى جهاز الحكم إن هذه الأمور تدعو إلى التساؤل والاستغراب.

وعلى أي حال فان معاوية كان أثيرا عند عمر وعزيزا عليه ، ولما آل الأمر إلى عثمان زاد في رقعة سلطانه وفي تقوية نفوذه كما أوضحنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب(٢) فصار يعمل في الشام عمل من يريد الملك والسلطان ، ولما قتل المسلمون عثمان نظرا للأحداث الجسام التي ارتكبها ، اتخذ معاوية قتله وسيلة لتحقيق مأربه وأهدافه ، فبغى على أمير المؤمنين بدعوة أنه رضى بقتله وآوى قتلته ، وأعقبت ذلك من الخطوب والمحن ما بلي بها الإسلام ، وتصدع بها شمل المسلمين فأدت الأحداث المؤسفة إلى انتصاره ، وخذلان الإمام أمير المؤمنين ، وولده الإمام الحسن ، ولما صار الأمر إليه بعد الصلح أخذ يعمل مجدا في إحياء جاهليته الأولى والقضاء على كلمة الإسلام وتحطيم أسسه ، وإلغاء نصوصه ، وقد ظهرت منه تلك الأعمال

__________________

(١) نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ / ١٨٧.

(٢) ص ٢٤٧.

١٤٧

بوضوح لما خلا له الجو وصفا له الملك ، فلم يخش أو يراقب أحدا في اظهار نواياه ، وفي ابراز اتّجاهه وعدائه للإسلام وللمسلمين ، وقد أوضح الإمام الحسن في صلحه حقيقته وبين واقعه وسلبه ذلك الغشاء الرقيق الذي تستر به باسم الدين ودونك أيها القارئ الكريم النزر اليسير من نواياه وأعماله :

١ ـ عداؤه للنبى :

كان معاوية يكن في نفسه بغضا عارما للنبى ولذريته ويحاول بكل جهوده القضاء على كلمة الإسلام ومحو أثره وقد أدلى بذلك في حديثه مع المغيرة بن شعبة فقد حدث عنه ولده مطرف قال وفدت مع أبي المغيرة على معاوية فكان أبي يأتيه يتحدث عنده ثم ينصرف إلىّ فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه ، وأقبل ذات ليلة فأمسك عن العشاء وهو مغتم أشد الغم ، فانتظرته ساعة وظننت أنه لشىء حدث فينا أو في عملنا فقلت له :

ـ مالي أراك مغتما منذ الليلة؟.

ـ يا بني إني جئت من أخبث الناس!!.

ـ وما ذاك؟.

ـ خلوت بمعاوية فقلت له : إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلا وبسطت خيرا فانك قد كبرت ، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه.

فقال لي :

« هيهات هيهات!! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فو الله ما عدا أن هلك ، فهلك ذكره ، إلا أن يقول قائل أبو بكر. ثم ملك أخو عدى فاجتهد ، وشمر عشر سنين ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره إلا أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك ، رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ،

١٤٨

فعمل ما عمل وعمل به ، فو الله ما عدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعّل به ، وإن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات « أشهد أن محمدا رسول الله » فأي عمل يبقى بعد هذا لا أم لك ، إلا دفنا دفنا »(١) .

وهذه البادرة تدل بوضوح على كفره والحاده ، وعلى حقده البالغ على النبي فقد أزعجه وساءه أن يذكر اسمه كل يوم خمس مرات في الأذان ولو وجد سبيلا لمحا ذلك ولشدة بغضه وعدائه لذريته أنه مكث في أيام خلافته أربعين جمعة لا يصلي فيها على النبيّ (ص) وقد سئل عن ذلك فقال :

« لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بانافها »(٢) .

٢ ـ تعطيله الحدود :

ولم يعتن معاوية بالحدود الإسلامية ولم يهتم باقامتها فقد عفا عمن ثبت عليه الحد ، فقد جيء إليه بجماعة سارقين فقطع أيديهم ، وبقى واحد منهم فقال السارق :

يميني أمير المؤمنين أعيذها

بعفوك أن تلقى مكانا يشينها

يدى كانت الحسناء لو تمّ سترها

ولا تعدم الحسناء عيبا يشيبها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة

إذا ما شمالي فارقتها يمينها

وغزت هذه الأبيات قلب معاوية فقال له :

« كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك ».

فاجابته أم السارق :

« يا أمير المؤمنين اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها ».

__________________

(١) ابن أبي الحديد ( ج ٢ ص ٣٥٧ ).

(٢) النصائح الكافية ص ٩٧.

١٤٩

فخلى سبيله وأطلق سراحه ، فكان أول حد ترك في الإسلام(١) .

٣ ـ اباحته الربا :

ومنع الإسلام من الربا أشد المنع وجعله من الموبقات والكبائر ، فلعن المعطي والآخذ والوسيط والشاهد ، ولم يعتن معاوية بتحريم الإسلام له فعن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب ، أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء(٢) : « سمعت رسول الله (ص) ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل ».

فانبرى معاوية مظهرا له عدم اعتنائه بنهي رسول الله ، وتحريمه له قائلا :

« ما أرى بمثل هذا بأسا ».

فاستاء أبو الدرداء من هذه الجرأة واندفع وهو غضبان متألم قائلا :

« من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول الله (ص) ويخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أنت بها ».

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٣٦.

(٢) أبو الدرداء : اختلف في اسمه فقيل عامر وعويمر ، واختلف في اسم أبيه فقيل عامر ومالك وعبد الله ، ينتهي نسبه إلى كعب بن الخزرج الأنصاري ، أسلم أبو الدرداء يوم بدر وشهد أحدا قال (ص) في حقه :( أبو الدرداء حكيم أمتي ) كان تاجرا قبل الإسلام فلما أسلم ترك التجارة ، ولاه معاوية قضاء دمشق في خلافة عمر توفى لسنتين بقيتا من خلافة عثمان ، وقيل مات سنة ٣٢ ، وقيل مات بعد صفين ، جاء ذلك فى الإصابة ٤ / ٤٦ وجاء في الكنى والأسماء ص ٧٢ أن أبا الدرداء روى عن رسول الله أنه قال : ( إن أثقل شيء في ميزان المؤمن خلق حسن وإن الله يبغض الفاحش البذى ).

١٥٠

ثم ترك الشام وانصرف إلى عاصمة الرسول وهو ثائر غضبان واستقال من وظيفته(١) .

٤ ـ الأذان فى صلاة العيد :

وقضى الشرع الإسلامي باتيان الأذان والإقامة في خصوص الصلاة اليومية الواجبة ، وأما ما عداها من الصلاة المندوبة كصلاة النوافل أو الواجبة كصلاة العيدين والآيات فان الشرع قد حكم بتركهما ، فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ليس في العيدين أذان ، ولا إقامة »(٢) وسار على هذه السنة الخلفاء من بعد رسول الله (ص)(٣) ولكن معاوية لم يبال بذلك فقد أحدث الأذان والإقامة في صلاة العيد(٤) وبذلك خالف رسول الله وجافى ما أثر عنه وكان مبدعا في تشريعه.

٥ ـ الخطبة قبل صلاة العيد :

والزمت السنة الإسلامية فى صلاة العيد بالخطبة بعد فراغ الإمام من الصلاة فقد صلى النبي (ص) صلاة عيد الفطر وبعد الفراغ منها قام خطيبا بين أصحابه وفعل النبيّ كقوله سنة يجب اتباعه ، وصلى من بعده الخلفاء على وفق صلاته(٥) ولكن معاوية لم يعتن بذلك فقد قدّم الخطبة على الصلاة »

__________________

(١) النصائح ص ٩٤.

(٢) كشف الغمة للشعراني ١ / ١٢٣.

(٣) سنن أبى داود ١ / ٧٩.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٤٧٠.

(٥) سنن أبي داود ١ / ١٧٨.

١٥١

واقتفي بفعله الأمويون(١) وبذلك فقد هجر سنة النبيّ.

٦ ـ أخذه الزكاة من الأعطية :

وفرض الإسلام الزكاة في موارد مخصوصة ذكرها الفقهاء وما عداها فلا تجب فيه الزكاة ، ولكن معاوية قد أعرض عن ذلك فأخذ الزكاة من الأعطية ولم تشرع فيها الزكاة باجماع المسلمين وقد ارتكب معاوية ذلك(٢) .

أما جهلا منه بالحكم الشرعي أو تعمدا منه على مخالفة السنة والثاني أولى بسيرته.

٧ ـ تطيبه فى الإحرام :

ويجب على المحرم في الحج أن يترك الطيب ما دام محرما ، فاذا حلّ من إحرامه جاز له استعماله ، ولكن معاوية خالف ذلك فتطيب في حال إحرامه(٣) عنادا منه للإسلام أو لجهله بتعاليمه وفروضه.

٨ ـ استعماله أواني الذهب والفضة :

ويحرم استعمال أواني الذهب والفضة إلا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة ذلك وأخذ يستعملها في مأكله ومشربه ، ولما تلي عليه قول رسول الله (ص) في التحريم قال :

« لا أرى بأسا في ذلك »(٤) .

٩ ـ لبسه الحرير :

وحرم الإسلام لبس الحرير على الرجال إلا في حال الحرب ولكن

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ٤٧٠.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٧.

(٣) النصائح ص ١٠٠ وغيره.

(٤) النصائح ص ١٠١.

١٥٢

معاوية قد جافى ذلك فقد عمد إلى لبسه(١) غبر معتن بتحريم الإسلام ونهيه عنه.

١٠ ـ استحلاله أموال الناس :

وحرم الإسلام أموال الناس وأخذها بالباطل ، ولكن معاوية لم يلتزم بذلك فقد استصفى أموال الناس من دون عوض(٢) .

١١ ـ شراؤه الأديان :

وليس في سوق التجارة رذيلة أسوأ من شراء ضمائر الناس وأديانهم فانه ينم عن سوء سريرة البائع والمشتري ، وقد مهر معاوية في هذه الصنعة وكان يتجاهر بها من دون خيفة وحذر فقد ذكر الرواة أنه وفد عليه الأحنف بن قيس وجارية بن قدامة والجون بن قتادة والحتات بن يزيد فأعطى معاوية كل واحد منهم مائة الف ، وأعطى الحتات سبعين الفا ، فلما كانوا فى الطريق ذكر كل منهم جائزته فرجع الحتات مغضبا فالتفت إليه معاوية قائلا له :

« ما ردّك؟ ».

ـ فضحتني في بني تميم أما حسبى فصحيح ، أو لست ذا سن؟

ألست مطاعا في عشيرتي؟ ».

فأجابه معاوية :

« بلى ».

واندفع الحتات قائلا :

« فما بالك خست بي دون القوم وأعطيت من كان عليك أكثر ممن

__________________

(١) النصائح ص ١٠١.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠٧.

١٥٣

كان لك ـ يريد الأحنف وجارية فهما كانا مع علي في حرب الجمل ـ وهو قد اعتزل القتال ».

فقال له معاوية بلا حياء ولا خجل.

ـ إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك.

ـ وأنا اشتري مني ديني.

فأمر له باتمام الجائزة(١) .

١٢ ـ خلاعة ومجون :

واتسعت الدعارة وانتشر المجون في الحاظرة الإسلامية في عصر بني أمية ، فكان الشعراء يتشببون ويتغزلون بالنساء ، وأول من فتح باب الدعارة معاوية فقد حدثوا أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت(٢) قد تشبب بابنة

__________________

(١) الكامل ٣ / ١٨٥.

(٢) عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي : ولد في زمن النبي (ص) كان شاعرا قليل الحديث ، ذكره ابن معين في تابعي أهل المدينة ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، توفى سنة ١٠٤ ، وأبطل هذا القول ابن عساكر فقال : إنه قيل إنه عاش ثماني وأربعين ، ومقتضاه أنه ما أدرك أباه لأنه مات بعد الخمسين بأربع أو نحوها وقد ثبت أنه كان رجلا في زمان أبيه وأبوه القائل :

فمن للقوافي بعد حسان وابنه

ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت

( قلت ) وإن يثبت أنه ولد في العهد النبوي وعاش إلى سنة ١٠٤ يكون عاش ٩٨ فلعل الأربعين محرفة ، جاء ذلك في الإصابة ٣ / ٦٧ وذكر الزمخشري في الكشاف أن عبد الرحمن قال في معاوية قصيدة منها :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

أمير الظالمين نثا كلامى

معاوية بن هندو ابن صخر

لحاك الله من مرء حرامى ـ

١٥٤

معاوية فبلغ ذلك يزيد فغضب ودخل على أبيه قائلا بنبرات تقطر ألما :

ـ يا أبة أقتل عبد الرحمن بن حسان.

ـ لم؟.

ـ تشبب بأختي.

ـ وما قال؟

ـ قال :

طال ليلي وبت كالمحزون

ومللت الثواء في جيرون

فأجابه معاوية باستهزاء وسخرية :

« يا بني وما علينا من طول ليله وحزنه ، أبعده الله ».

فالتفت يزيد إلى أبيه انه يقول :

فلذا اغتربت بالشام حتى

ظن أهلي مرجات الظنون

« يا بني وما علينا من ظن أهله ».

ـ إنه يقول :

هي زهراء مثل لؤلؤة الغوا

ص ميزت من جوهر مكنون

ـ صدق يا بني هي كذلك.

ـ إنه يقول :

وإذا ما نسبتها لم تجدها

في سناء من المكارم دون

ـ صدق يا بني :

ـ إنه يقول :

__________________

جشمنا بامرتك المنايا

وقد درج الكرام بنو الكرام

أمير المؤمنين أبو حسين

مفلق رأس جدك بالحسام

وإنا صابرون ومنظروكم

إلى يوم التغابن والخصام

١٥٥

ثم خاصرتها إلى القبة الخض

راء تمشي في مرمر مسنون

ـ : ولا كل هذا يا بني.

وما زال يزيد يذكر له ما قاله عبد الرحمن من التشبيب بأخته ، ومعاوية يدافعه عن ذلك ، ويظهر براءته وعدم استحقاقه العقاب ، وانتشر تشبب عبد الرحمن ، وافتضحت ابنة معاوية ، فأقبلت إليه طائفة فأكبروا هذه الجسارة على ابنته وقالوا له : « لو جعلته نكالا » فامتنع معاوية من اجابتهم ، وقال لهم : ـ لا ـ ولكن أداويه بغير ذلك ، واتفق أن عبد الرحمن وفد على معاوية فاستقبله أحسن استقبال وأجلسه على سريره وأقبل عليه بوجهه ، ثم قال :

إن ابنتي الأخرى عاتبة عليك.

ـ في أي شيء؟

ـ في مدحك أختها وتركك إياها.

ـ لها العتبى وكرامة أنا أذكرها.

وأخذ يتغزل بابنة معاوية فلما علم الناس ذلك قالوا : « قد كنا نرى أن تشبب حسان بابنة معاوية لشيء فاذا هو على رأي معاوية وأمره »(١)

وهذه البادرة تدل على ميوعته وتفسخ أخلاقه وقد فتح بذلك باب الفساد ومكن الماجنين من التعرض ببنات المسلمين حتى بلغ التهالك على اللذة منتهاه في عصره وعصر بني أمية.

وتشبب أبو دهبل الجحمي(٢) بابنته فعامله باللين وأوصله

__________________

(١) الأغاني ١٣ / ١٤٩.

(٢) أبو دهبل الجحمي : اسمه وهب بن زمعة بن أسيد ، كان شاعرا محسنا مداحا وهو القائل : ـ

١٥٦

وأعطاه(١) وسار بنو أمية على هذه الخطة ، وقد حاولوا أن يقلبوا الدنيا إلى مسارح للعبث والمجون ، فحببوا إلى الناس الفسق والدعارة وساقوهم إلى الضلال والباطل والفساد.

ومن تهتك معاوية ومجونه أنه اشترى جارية بيضاء جميلة ، فادخلها عليه مولاه ( خديج ) وهي مجردة عارية ليس عليها شيء ، وكان بيده قضيب فجعل يهوى به إلى ( متاعها ) وهو يقول :

« هذا المتاع ، لو كان لي متاع »(٢) .

وأمر بها إلى يزيد ، ثم عدل عن ذلك ووهبها إلى عبد الله بن مسعدة الفزاري(٣) فقال له :

__________________

ـ

يا ليت من يمنع المعروف يمنعه

حتى يذوق رجال غب ما صنعوا

وليت رزق أناس مثل نائلهم

قوت كقوت ووسع كالذي وسعوا

وليت للناس حظا في وجوههم

تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا

وليت ذا الفحش لاقى فاحشا أبدا

ووافق الحلم أهل الجهل فارتدعوا

جاء ذلك في معجم الشعراء ١ / ١١٧ وقد نشر الشيء الكثير من شعره في مجلة الآسيوية البريطانية.

(١) الأغاني ٦ / ٣٩ ، ١٥٩.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٤٠.

(٣) عبد الله بن مسعدة بن حكمة الفزارى جيء به وهو صغير في سبى فزارة فوهبه رسول الله لابنته فاطمة فأعتقته وكان صغيرا ثم كان عند علي ، والتحق بمعاوية فكان من أشد الناس وأعداهم إلى علي ، وكان على جند دمشق بعد وقعة ( الحرة ) وبقى الى خلافة مروان ، وقيل أنه غزا سنة ٤٩ ، وكان أميرا على الجيش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فمات في أرض الروم فاستخلف من بعده عبد الله ـ

١٥٧

« دونك هذه الجارية الرومية فبيض ولدك »(١) .

وذكر المؤرخون بوادر كثيرة من استهتاره ومجونه دلت على تحلله من جميع القيم الإنسانية.

١٣ ـ افتعال الحديث :

قال الله تعالى في كتابه الكريم : « إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون »(٢) وقرب معاوية من يفترى الكذب على الله ورسوله ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فقربهم إليه وأدناهم منه ومنحهم الأموال الضخمة ، وأوعز إليهم أن يضعوا الأحاديث الكاذبة على رسول الله (ص) فى فضله وفي فضل الأمويين والصحابة ، وفي الحط من كرامة العترة الطاهرة وانتقاصها خصوصا سيدها الإمام أمير المؤمنين (ع) ، وكتب مذكرة بذلك إلى جميع عماله وولاته جاء فيها :

« أنظروا من قبلكم من شيعة عثمان الذين يرون فضله ، ويتحدثون بمناقبه فاكرموهم ، وشرفوهم ، واكتبوا إليّ بما يروي كل واحد منهم فيه باسمه واسم أبيه وممن هو ».

فامتثل عماله وولاته ذلك فأدنوا الرواة المستأجرين وأشادوا بهم ، ومنحوهم الأموال الكثيرة ودونوا ما افتعلوه في فضل عثمان ، وأرسلوه إليه ،

__________________

ـ الفزاري وهي أول ولاية وليها وفيه يقول الشاعر :

أقم يا ابن مسعود قناة قويمة

كما كان سفيان بن عوف يقيمها

ولما دخل على معاوية سأله عن الشعر ، فقال إن الشاعر ضمني إلى من لست له بكفء وهو سفيان بن عوف جاء ذلك في الإصابة ٢ / ٣٥٩.

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٤٠.

(٢) سورة النحل ـ آية ١٠٥.

١٥٨

ولما رأى الناس أن الحكومة تشجع الوضاعين وتقابلهم بالحفاوة والتكريم ، وتمنحهم الأموال والثراء العريض بادر من غرته الدنيا إلى وضع الأحاديث وأخذ عوضها من الجهة المختصة ، وقد رووا فى فضل معاوية طائفة كبيرة ، فمن جملة ما وضعوه : أن النبي قال : « اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب ، وادخله الجنة ». وأخرج الترمذي أن النبيّ قال لمعاوية : اللهم اجعله هاديا مهديا.

وروى الحارث بن أسامة أنه (ص) قال : أبو بكر أرق أمتي ، وأرحمها ، ثم ذكر مناقب الخلفاء الأربعة ، ومناقب جماعة آخرين من أصحابه ثم ذكر (ص) معاوية فقال (ص) : ومعاوية بن أبي سفيان أحلم أمتي وأجودها(١) .

ورووا أن النبي (ص) أشاد بفضل أصحابه ، ثم قال في معاوية : وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان(٢) .

وحكى القدسي أنه كان بجامع واسط وإذا برجل قد اجتمع عليه الناس فدنا منه فإذا هو يروي حديثا بسنده عن النبيّ (ص) ان الله يدني معاوية يوم القيامة فيجلسه إلى جنبه ويغلفه؟ بيده ثم يجلوه على الناس كالعروس

__________________

(١) تطهير الجنان واللسان المطبوع على هامش الصواعق المحرقة ص ٢٤.

(٢) تطهير الجنان واللسان ص ٢٦ ، وقد استند ابن حجر إلى هذه الروايات الموضوعة في فضل معاوية ونزهه عن كل ما ارتكبه من الماثم والموبقات ، والحقه بالصحابة المتحرجين في دينهم ، وقد أعمى الله بصيرة ابن حجر وأضله عن الطريق القويم ، فراح يمجد أعداء الله ، وخصوم الإسلام الذين هم صفحة عار وخزي على المجموعة الإنسانية ، لقد بلي المسلمون بأمثال هؤلاء المؤرخين الذين لا ينظرون إلى الواقع إلا بمنظار أسود فجنوا على الإسلام والمسلمين بمفترياتهم وأكاذيبهم.

١٥٩

فقال له المقدسي : بما ذا؟ قال بمحاربته عليا ، فأجابه المقدسي : كذبت يا ضال!! فقال خذوا هذا الرافضي فتدافع الناس عليه للبطش به وأنقذه شخص كان يعرفه(١) وحكى المقدسي أيضا أنه تعرض للقتل حينما أنكر على رجل قوله : ان معاوية نبى مرسل(٢) .

وحدث بعضهم قال رأيت رسول الله (ص) وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ، إذ جاء رجل فقال عمر يا رسول الله هذا ينتقصنا فكأنه انتهره رسول الله (ص) فقال يا رسول الله : إني لا أنتقص هؤلاء ولكن هذا ـ يعنى معاوية ـ فقال : ويلك أوليس هو من أصحابي؟ قالها ثلاثا ثم أخذ رسول الله (ص) حربة فناولها معاوية ، فقال جابهه في لبته فضربه بها ، وانتبهت إلى منزلي فاذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات وهو راشد الكندي(٣) .

وتعصب البسطاء والسذج لمعاوية ، وبالغوا في تقديره نظرا لهذه الأخبار الموضوعة والدعايات الكاذبة ، فقد ذكر المؤرخون ان عبد الرحمن النسائي دخل دمشق فسئل عن معاوية وما روى من فضائله فقال : أما يرضى معاوية أن يخرج رأسا برأس حتى يفضّل؟ وفي رواية أنه قال : ما أعرف له فضيلة إلا « لا أشبع الله له بطنا » فثاروا عليه وداسوه فحمل إلى الرملة فمات بسبب ذلك(٤) .

لقد أراد معاوية بهذه الأحاديث التي أصدرتها لجان الوضع أن يضفي

__________________

(١) المقدسي ص ١٢٦.

(٢) المنتظم ص ٦٠.

(٣) الغدير ١٠ / ١٣٨.

(٤) طبقات السبكي ٢ / ٨٤ وفيات الأعيان ١ / ٣٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529