حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218103 / تحميل: 6651
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

على نفسه ثوب القداسة والإيمان لتمنحه الأمة ثقتها ، وتنقاد إليه بدافع العقيدة ، ولكنها محاولة فاشلة لأن المسلمين ينظرون إليه نظرة ريبة وشك في إسلامه لأنه من الشجرة الملعونة في القرآن التي ناجزت النبي (ص) وقادت الجيوش لمحاربته ، بالاضافة إلى الأحداث الجسام التي ارتكبها كمناجزته لوصي رسول الله (ص) وباب مدينة علمه ، وقتله الأخيار ، ومطاردته الصلحاء ، وبدعه التي أحدثها في الإسلام ، وغير ذلك من الكبائر والموبقات التي سود بها وجه التأريخ ، ومن الطبيعي أن هذه الدعايات والأكاذيب لا تمحو عنه العار والخزي.

وعلى أي حال فقد كثرت الأحاديث التي وضعها الدجالون في فضل معاوية ، وفي فضل عثمان بن عفان ، وقد خاف أن يفوت غرضه ، ويفتضح أمره ، ولا يصل إلى هدفه من البغي على العترة الطاهرة ، فكتب مذكرة إلى عماله يأمرهم فيها بأن يكف الوضاعون عن ذلك ، ويضعوا الأحاديث في فضل الشيخين ، لأن ذلك من أقرب الطرق ومن أهم الوسائل فى محاربة ذرية النبيّ (ص) والحط من قيمتهم ، وهذا نص ما كتبه :

« إن الحديث قد كثر في عثمان ، وفشا في كل مصر ، وفي كل ناحية ، فإذا جاءكم كتابي فادعوهم إلى الرواية في أبي بكر وعمر ، فان فضلهما وسوابقهما أحب إلي وأقر لعيني ، وأدحض لحجة أهل هذا البيت ـ يعني أهل بيت النبيّ ـ وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ».

وقرأ القضاة والأمراء كتابه على الناس ، فبادر الوضاعون إلى افتعال الأحاديث فى مناقب أبي بكر وعمر ، وأمر معاوية بتدوينها وإنفاذ نسخ منها إلى جميع العمال والولاة ليقرؤها على المنابر ، ويتلوها في الجوامع ، وأوعز إليهم أن ينفذوها إلى المعلمين ليجعلوها من مناهج دروسهم ، ويرغموا

١٦١

الأطفال على حفظها ، وقد اهتمت الحكومات المحلية فى ذلك اهتماما بالغا فالزمت الناشئة وسائر الطبقات بحفظ تلك الأخبار المفتعلة حتى حفظها الأولاد وحفظتها النساء والخدم والحشم(١) وقد عرض الإمام الباقرعليه‌السلام بعض تلك الأخبار الموضوعة في حديثه مع أبان ، وندد بها فقد قال له أبان :

« أصلحك الله ، سم لي من ذلك شيئا؟ ».

قال (ع) رووا :

« إن سيدي كهول أهل الجنة أبو بكر وعمر »(٢) .

« إن عمر محدث ـ بصيغة المفعول أي تحدثه الملائكة ـ ».

« إن عمر يلقنه الملك ».

« إن السكينة تنطق على لسان عمر ».

« إن الملائكة لتستحي من عثمان »(٣) .

ثم استرسل (ع) في عرض الأخبار المفتعلة حتى عدّ أكثر من مائة

__________________

(١) سليم بن قيس ( ص ٢٩ ) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.

(٢) وضع المستأجرون هذا الحديث لمعارضة الخبر المتواتر الوارد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حق السبطين « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » وقد سئل الإمام الجواد عنه ففنده وقال : والله ليس في الجنة كهول بل كلهم شباب مرد.

(٣) وإمارة الوضع على هذا الحديث ظاهرة فان الملائكة لما ذا تستحي من عثمان بن عفان فهل انه اجتاز عليها فرآها تعمل القبيح وترتكب المنكر فاستحيت منه أو أنه فعل ذلك فاستحيت منه إنا لا نتصور وجها لهذا الاستحياء المزعوم.

١٦٢

رواية(١) يحسبها الناس أنها حق ، ثم قال (ع) : والله كلها كذب وزور(٢)

ويقول المحدث ابن عرفة المعروف بنفطويه(٣) « إن أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أمية ، تقربا إليهم بما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم »(٤) .

ولم يكتف معاوية بتلك الأخبار الكثيرة التي وضعت في مناقب الشيخين فقد عمد إلى تشجيع الوضاعين لاختلاق الحديث ضد أهل البيت (ع) وقد أنفق عليهم الأموال الطائلة في سبيل ذلك ، فقد أعطى الجلاد سمرة بن جندب أربع مائة الف على أن يخطب في أهل الشام ، ويذكر لهم أن الآية الكريمة وهي « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث

__________________

(١) وفي رواية حتى عد أكثر من مائتى حديث.

(٢) سليم بن قيس ( ص ٤٥ ).

(٣) ابراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي ، ولد سنة ( ٢٤٤ هج ) ، بواسط ، وهو صاحب المؤلفات الحسنة ، لقب بنفطويه لدمامته ، وأدمته تشبيها له بالنفط ومن شعره :

قلبى أرق عليك من خديكا

وقواي أوهى من قوى جفنيكا

لم لا ترق لمن يعذب نفسه

ظلما ويعطفه هواه عليكا

هجاه أبو عبد الله الواسطي بقوله :

من سره أن لا يرى فاسقا

فليجتهد أن لا يرى نفطويه

أحرقه الله بنصف أسمه

وصير الباقي صراخا عليه

توفى في صفر (٣٢٣) وفيات الأعيان ١ / ٣٠.

(٤) النصائح الكافية ( ص ٧٤ ) وغيره.

١٦٣

والنسل والله لا يحب الفساد »(١) .

نزلت في علي ، فروى لهم سمرة ذلك(٢) وأخذ العوض من بيت مال المسلمين ، وقد الزم الإسلام بانفاقه على صالح المسلمين ، وإعالة ضعيفهم ومحرومهم ، ولكن ابن هند أنفقه على حرب الإسلام وعلى الكيد والطعن في أعلامه الذين نافحوا عن رسول الله (ص) في جميع المواقف والمشاهد وأرغموا معاوية وأباه على الدخول في حظيرته.

وعلى أي حال فقد انطلق ذوو الأطماع والمنحرفون عن الإسلام إلى افتعال الأحاديث في الحط من قيمة أهل البيت للظفر بالأموال والثراء العريض ، وروى ابن العاص لأهل الشام أن النبي (ص) قال في آل أبي طالب : « إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء ، انما ولي الله وصالح المؤمنين »(٣) .

وهكذا أخذت لجان الوضع تفتعل أمثال هذه الأحاديث ضد عترة النبيّ (ص) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، محاولة بذلك إطفاء نور الله ، وحجب المسلمين عن قادتهم الواقعيين الذين نصّ عليهم النبيّ (ص) وجعلهم خلفاء من بعده على أمته.

وتحدث الإمام الباقر (ع) عن زيف تلك الأخبار وكذبها فقال : « ويرون عن علي أشياء قبيحة ، وعن الحسن والحسين ما يعلم الله أنهم قد رووا في ذلك الباطل والكذب والزور »(٤) .

__________________

(١) سورة البقرة آية ٢٠٣ و ٢٠٤.

(٢) النصائح الكافية ص ٢٥٣ وغيره.

(٣) شرح ابن أبي الحديد ٣ / ١٥.

(٤) سليم بن قيس ص ٤٥.

١٦٤

وقال ابن أبي الحديد : « وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي أن معاوية وضع قوما من الصحابة ، وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليعليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة بن الزبير »(١) .

إن هذه الإجرءات التي اتخذها معاوية ضد أهل البيت قد أشاعت الفرقة بين المسلمين ، وفتحت باب الكذب على الله وعلى رسوله ، وقد أعرض خيار الصحابة عن تلك الأخبار ، ولم يصغوا لرواتها ، فقد نقل الرواة ان بشير العدوى(٢) جاء إلى ابن عباس ، وجعل يحدثه ، ويقول له : قال رسول الله (ص) : وابن عباس لا يأذن لحديثه ، ولا ينظر إليه ، وقابله بالاستخفاف والاستهانة ، فاندفع بشير قائلا :

« ما لي لا أراك تسمع الحديث؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع ».

فزجره ابن عباس قائلا :

« إنا كنا إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله ابتدرته أبصارنا ، وأصغينا إليه باذاننا ، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرفه »(٣) .

__________________

(١) شرح ابن ابي الحديد ٤ / ٦٣ ، ط دار احياء الكتاب العربية.

(٢) بشير بن كعب بن أبي الحميري العدوي ، ويقال العامري ، ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال انه ثقة ان شاء الله ، وقال النسائي : إنه ثقة ، تهذيب التهذيب ١ / ٤٧١.

ولا نعلم أنه كيف كان ثقة مع اعراض ابن عباس عن حديثه.

(٣) فجر الإسلام ص ٢٥٨ وغيره.

١٦٥

إن الناس قد ركبوا الصعبة والذلول ـ على حد تعبير ابن عباس ـ وسلكوا جميع المسالك التي تتنافى مع الدين فلم يتحرجوا من الكذب على الله ولم يتأثموا من الوضع على رسول الله (ص) فلذا كان التوقف والتثبت في الأخبار أمرا ضروريا.

والمحنة الكبرى التي امتحن المسلمون بها امتحانا عسيرا هو ان تلك الأخبار التي افتعلتها لجان الوضع قد وصلت إلى الثقات والحفاظ فدونوها في كتبهم وهم ـ من دون شك ـ لو علموا واقعها لأسقطوها وتبرءوا منها وما رووها ، وقد ألمع إلى ذلك المدائني في حديثه عن الوضاعين في عصر معاوية ، ونسوق نص كلامه في ذلك قال :

« وظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون ، والمستضعفون ، الذين يظاهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجلسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع ، والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديانين الذين لا يستحلون الكذب ، والبهتان ، فقبلوها ، ورووها وهم يظنون أنها حق ، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ، ولا تدينوا بها »(١) .

وقد فاضت الكتاب بتلك الأخبار الموضوعة ، وامتلأت بالإسرائيليات(٢) وبخرافات أبي هريرة ، ومما لا شبهة فيه أنها أضرت بالإسلام فشوهت شريعته

__________________

(١) ابن أبي الحديد ٣ / ١٦.

(٢) الاسرائيليات : هي الخرافات التي وضعها المنافقون من اليهود الذين أسلموا وتظاهروا بالإسلام فدسوا في الإسلام ما هو بريء منه ، وعلى رأس قائمة الوضاعين من اليهود كعب الأحبار.

١٦٦

السمحاء ، وأفسدت عقائد المسلمين ، وفرقتهم شيعا وأحزابا.

وليس من شك في أن الخلفاء لو بادروا إلى تدوين ما أثر عن النبي (ص) من الأحاديث لصانوا الأمة من الاختلاف ووقوها من الفتن والخطوب ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك فقد عمد أبو بكر إلى جمع بعض الأحاديث فأحرقها(١) وجاء بعده عمر فاستشار الصحابة في تدوينها فأشار عليه عامتهم بذلك ، ولبث مدة يفكر في الأمر ثم عدل عنه ، وقال لهم : « إني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم. ثم تذكرت ، فاذا أناس من أهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فأكبوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا. » ثم ترك ذلك وعدل عنه(٢) .

وهو تعليل لا يساعده الدليل لأن حديث النبي (ص) لا يشذ عن كتاب الله ، ولا يخالفه بحال من الأحوال ، وليس تدوينه موجبا لهجر القرآن الكريم ، ولا مستلزما للاعراض عنه ، وأكبر الظن أنهم إنما أبوا من تدوينه لأن شطرا كبيرا منه يتعلق فى فضل العترة الطاهرة. وفي لزوم مودتها ، ووجوب الرجوع إليها في جميع المجالات ، وليس من الممكن التبعيض في كتابة الحديث بأن تدون السنن ، وتترك الأخبار الواردة في حق أهل البيت ، ومن الطبيعي أن تدوينها يتنافى مع ابتزازهم حقهم واجماعهم على هضمهم ، واقصائهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها ، وقد بلغ من عظيم وجدهم وحقدهم عليهم ، أنهم لما شعروا أن النبي يريد أن يعهد بالأمر إليهم ويكتب فى ذلك كتابا ردوا عليه وهو في ساعاته الأخيرة فقالوا له : « حسبنا كتاب الله ».

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥.

(٢) تقييد العلم ص ٥٠ ، وقريب منه فى طبقات ابن سعد ٣ / ١ ص ٢٠٦.

١٦٧

وأثر عنهم أنهم قالوا : « لا تجتمع النبوة والخلافة فى بيت واحد » وبعد هذا فكيف يثبتون اخبار النبي (ص) في أهل بيته.

وعلى أي حال فان أعظم ما مني به المسلمون من الكوارث هي الروايات المفتعلة التي عهد معاوية بوضعها فانها قد أوجبت تشتت المسلمين واختلافهم في كل شيء ، وهي مما لا شبهة فيه من أعظم موبقات ابن هند.

١٤ ـ استلحاقه زيادا :

قال رسول الله (ص) : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ». لقد ضرب معاوية كلام رسول الله (ص) بعرض الجدار بلا خيفة ولا حذر.

فعاكس قوله ، ورد حكمه علانية لأجل تدعيم ملكه ، وإقامة سلطانه ، فاستلحق به زياد بن أبيه طبقا لما كان عليه العمل قبل الإسلام!

يقول الله تعالى : « أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون »(١) لقد بغى معاوية حكم الجاهلية ، وأحيى سننها فألحق به زياد بن أبيه وهو ابن بغية ، فان سمية كانت من ذوات الرايات بالطائف تؤدي الضريبة الى الحارث بن كلدة(٢) من بغيها ، وكانت تنزل

__________________

(١) سورة المائدة آية ٥٠.

(٢) الحارث بن كلدة بن عمر الثقفي كان طبيبا مشهورا عند العرب وكان من الشعراء ومن شعره :

ان اختياريك لا عن خبرة سلفت

ولا الرجاء ومما يخطئ النظر

كالمستغيث ببطن السيل يحسبه

جزرا يبادره إذ بله المطر

فقد رأيت بعبد الله واعظة

تنهى الحليم فما أناني الغرر

إن السعيد له في غيره عظة

وفي التجارب تحكيم ومعتبر

لأعرفنك إن أرسلت قافية

تلقى المعاذير إذ لا تنفع العذر

جاء ذلك في معجم الشعراء ص ١٧٢.

١٦٨

بالموضع الذي تنزل فيه البغايا خارجا عن الحضر في محلة يقال لها حارة البغايا(١) هذه أم زياد في قذارتها وفجورها ولم يأنف معاوية من إلحاق هذا الدعى به.

أما بواعث هذا الاستلحاق فيقول عنه المؤرخون ان أمير المؤمنين «ع» كان قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس ، واصطنعه لنفسه ، فلما قتل «ع» بقى زياد في مله وخاف معاوية جانبه ، وعلم صعوبة ناحيته ، وأشفق من ممالاته الحسن بن علي «ع» فكتب إليه هذه الرسالة :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، إلى زياد بن عبيد ، أما بعد : فانك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر وإن الشجرة لتضرب بعرقها ، وتتفرع من أصلها إنك لا أم لك ، بل لا أب لك قد هلكت وأهلكت ، وظننت أنك تخرج من قبضتي ، ولا ينالك سلطاني ، هيهات ما كل ذي لب يصيب رأيه ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته ، أمس عبد واليوم أمير خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية ، إذا أتاك كتابى هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة واسرع الإجابة فانك إن تفعل فدمك حقنت ونفسك تداركت ، وإلا اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي ، وأقسم قسما مبرورا أن لا أوتى بك إلا في زمارة(٢) تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام حتى أقيمك في السوق وأبيعك عبدا وأردك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه والسلام ».

وفي هذه الرسالة قد نسب زيادا إلى عبيد ، واعترف برقيته ، وإنه إذا تمكن منه يبيعه في أسواق دمشق ويرده إلى أصله ، ولما وصلت هذه

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣١٠.

(٢) الزمارة : آلة من القصب يغنى بها.

١٦٩

الرسالة إلى زياد ورم أنفه من الغضب وأمر بجمع الناس وخطب فيهم فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

« ابن آكلة الأكباد ، وقاتلة أسد الله ، ومظهر الخلاف ، ومسر النفاق ، ورئيس الأحزاب ، ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلى يرعد ويبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها ، وعما قليل تصيرها الرياح قزعا(١) والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة ، أفمن اشفاق على تنذر وتعذر كلا؟ ولكن ذهب إلى غير مذهب وقعقع لمن ربي بين صواعق تهامة ، كيف أرهبه وبينى وبينه ابن بنت رسول الله (ص) وابن ابن عمه في مائة الف من المهاجرين والأنصار ، والله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأرينه الكواكب نهارا ولأسعطنه ماء الخردل(٢) دونه الكلام اليوم ، والجمع غدا والمشورة بعد ذلك إن شاء الله ».

وقد أبرق زياد وأرعد وتهدد وأوعد وذلك لعدم علمه بما مني به جيش الإمام من التخاذل والانحلال معتقدا بأن الجيش على وضعه الأول محتفضا بنشاطه وقواه ، وانه مائة الف من المهاجرين والأنصار ولم يعلم بما نكب به من الانحلال والفتن التي مزقته وقضت على نشاطه ، وان أعلام المهاجرين والأنصار قد طحنتهم حرب صفين وأبادتهم واقعة النهروان وأصبح الجيش لا يضم من أولئك الرءوس والضروس إلا ما هو أقل من الصبابة ، وأقسم بالله إن الإمام لو استدعى زيادا حينذاك لغدر به وما استجاب له ، وآية ذلك أنه لما علم بوهن جيش الإمام انحاز إلى معاوية وغدر بالإمام ، وكيف لا ينخدع وهو من ذوي الضمائر القلقة وقد أبان الزمان خبثه ، وكشف عن

__________________

(١) القزع : قطع السحاب المتفرقة.

(٢) الخردل : حب شجر معروف.

١٧٠

عدم طيب إنائه ، فقد عاد بعد الاستلحاق من ألد الأعداء إلى أمير المؤمنين وذريته وشيعته.

ومهما يكن من شيء فان زيادا عقيب خطابه أجاب معاوية عن رسالته وهذا نص جوابه :

« أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك يا معاوية ، وفهمت ما فيه فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع طمعا فى الحياة إنما يكفر النعم ويستدعي النقم من حاد الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فاما سبك لي فلولا حلم ينهاني عنك ، وخوفي أن أدعى سفيها لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء ، وأما تعييرك لي بسمية فان كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة(١) وأما زعمك انك تخطفنى بأضعف ريش وتتناولني بأهون سعي فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر؟ أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟

فامض الآن لطيتك ، واجتهد جاهدك فلست أنزل إلا بحيث تكره ، ولا اجتهد إلا فيما يسوؤك ، وستعلم أينا الخاضع لصاحبه ، الطالع إليه والسلام »

ولما قرأ معاوية رسالة زياد طار قلبه رعبا وداخله فزع شديد فاستدعى داهية العرب « المغيرة بن شعبة » فقال له :

« يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمنى فانصحنى فيه وأشر علي برأي المجتهد ، وكن لي أكن لك ، فقد خصصتك بسري وآثرتك على ولدي ».

فقال له المغيرة :

« فما ذاك؟ والله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء في الحدور ومن ذى الرونق في كف البطل الشجاع ».

__________________

(١) يشير بذلك إلى ما يرويه التاريخ من أن هند قد حملت به قبل أن تتزوج أبا سفيان ، وكان زواجها به سترا عليها. وإن المتهمين بها جماعة من الأعراب.

١٧١

ولما أظهر له المغيرة الانقياد والخضوع لطاعته عرض عليه مهمته قائلا :

« يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس يكش لنا كشيش الأفاعي(١) وهو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة جوال الفكر مصيب إذا رمى ، وقد خفت منه الآن ما كنت آمنه إذ كان صاحبه حيا ، وأخشى ممالأته حسنا : فكيف السبيل إليه؟ وما الحيلة في إصلاح رأيه؟ ».

ولما عرف الداهية الماكر مهمة معاوية أشار عليه بأن يخدعه ويمنيه ، ويكتب له بناعم القول وكان رأيه في ذلك مبنيا على دراسته لنفسية زياد ومعرفته باتجاهه وميوله قائلا له :

« ان زيادا رجل يحب الشرف والذكر وصعود المنابر ، فلو لاطفته المسألة وألنت له الكتاب لكان لك أميل وبك أوثق ، فاكتب إليه وأنا الرسول »

واستجاب معاوية لنصيحة المغيرة ، فكتب إلى زياد رسالة تمثلت فيها المواربة والخداع وهذا نصها :

« من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان ، أما بعد : فان المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب ، وانك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم ، وواصل العدو ، وحملك سوء ظنك بي وبغضك لي على أن عققت قرابتي ، وقطعت رحمي وبتت نسبى وحرمتي حتى كأنك لست أخي ، وليس صخر بن حرب أباك وأبي ، وشتان ما بيني وبينك ، أطلب بدم ابن أبي العاص وأنت تقاتلني ، ولكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء فكنت « كتاركة بيضها بالعراء ، وملحفة بيض أخرى جناحها » وقد رأيت أن أعطف عليك ولا أؤاخذك بسوء سعيك ، وان أصل رحمك ، وأبتغي الثواب في أمرك ، فاعلم أبا المغيرة أنك

__________________

(١) كشيش الأفاعي : صوت جلدها.

١٧٢

لو خضت البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلا بعدا ، فان بني شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع وقد أوثق للذبح ، فارجع رحمك الله إلى أصلك ، واتصل بقومك ولا تكن كالموصول يطير بريش غيره ، فقد أصبحت ضال النسب ، ولعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك ، فقد أصبحت على بينة من أمرك ووضوح من حجتك ، فان أحببت جانبي ووثقت بي فامرة بامرة وان كرهت جانبي ولم تثق بقولي ففعل جميل لا عليّ ولا لي والسلام ».

وأخذ المغيرة الرسالة التي كتبت على وفق رأيه وهي لا تحمل جانبا من الواقعية ، ولا بصيص فيها من نور الحق والصدق فغادر دمشق إلى فارس وأقبل إلى زياد فلما رآه رحب به وأدناه من مجلسه وأخذ الداهية الماكر يكلم زيادا بمختلف الطرق وشتى الأساليب حتى غزى قلبه وهيمن على مشاعره فأجابه إلى ما أراد.

وبعد ما وقع زياد في اشباك المغيرة غادر فارس إلى دمشق فلما انتهى إليها ومثل عند معاوية رحب به وادناه ، وأمر أخته جويرية بنت أبي سفيان أن تستدعيه ، فلما حضر عندها كشفت عن شعرها بين يديه ، وقالت له : « أنت أخي أخبرني بذلك أبو مريم » ثم أخرجه إلى المسجد وجمع الناس ليعلن أمامهم أن زيادا أخوه ، وقام أبو مريم السلولي الخمار أمام ذلك المجتمع الحاشد فادى شهادته بزنا أبى سفيان بسمية شهادة أخزت أبا سفيان ومعاوية والحقت العار بزياد وهذا نصها :

« أشهد أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف وأنا خمار فى الجاهلية ، فقال أبغى بغيا. فاتيته وقلت : لم أجد إلا جارية الحرث بن كلدة ،

١٧٣

سمية. فقال ائتني بها على ذفرها(١) وقذرها » وثار زياد فقطع على أبى مريم شهادته قائلا له بصوت يقطر غضبا :

« مهلا يا أبا مريم ، إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما ».

فقال أبو مريم :

« لو كنتم أعفيتموني لكان أحب إليّ ، وإنما شهدت بما عاينت ورأيت ».

ثم استرسل فى بيان شهادته فقال :

« والله لقد أخذ بكم درعها ، وأغلقت الباب عليهما ، وقعدت دهشانا فلم ألبث أن خرج عليّ يمسح جبينه ، فقلت ، مه يا أبا سفيان. فقال : ما أصبت مثلها يا أبا مريم لو لا استرخاء من ثديها ، وذفر من فيها ».

هذه شهادة أبى مريم في فجور سمية وتندى لفضاعتها وخزيها وجه الإنسانية ولكن معاوية ما خجل منها وما أنف ولا استحى ، وكيف يخجل ابن هند من هذه المساوئ والمخازي وهو الذي جر ذيله على الرذائل والخداع كما يقول(٢) حتى صارت الرذيلة عنصرا من عناصره ومقوما من مقوماته.

لقد ألحق معاوية زياد بن أبيه به ليستريح من خصومته ، ويستعين به على تحقيق أهدافه وتدعيم سلطانه.

الاستياء الشامل :

وأثر استلحاق معاوية لزياد استياء شاملا في نفوس المسلمين ، فقد

__________________

(١) الذفر : الرائحة النتنة.

(٢) التاج للجاحظ ص ١٠٣.

١٧٤

رووا أن معاوية قد عمد إلى مخالفة النبي (ص) والى هجر سنته ، وقد خافوه على دينهم ، فاندفع جمع من الأحرار والمصلحين إلى إعلان سخطهم وإنكارهم عليه وعلى زياد ونشير إلى بعض المنكرين والناقدين له وهم :

١ ـ الإمام الحسن :

ورفع الإمام الحسن رسالة إلى زياد بين فيها فساد استلحاقه بمعاوية ، وأعرب له ان الإسلام لا يقر ذلك بحال من الأحوال ، وهذا نصها :

« من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية أما بعد : فان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال الولد للفراش ، وللعاهر الحجر والسلام »(١)

وقال «ع» له في حضور معاوية وعمرو بن العاص ، ومروان بن الحكم : « وما أنت يا زياد وقريشا؟ لا أعرف لك فيها أديما صحيحا ، ولا فرعا نابتا ، ولا قديما ثابتا ، ولا منبتا كريما ، بل كانت أمك بغيا تداولها رجال قريش وفجار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا ـ يعنى معاوية ـ بعد ممات أبيه ، مالك افتخار ، تكفيك سمية ويكفينا رسول الله (ص) »(٢) .

٢ ـ الإمام الحسين :

ولما رأى سيد الشهداء الإمام الحسين معاوية قد حمل معول الهدم على جميع الأسس الإسلامية اندفع (ع) ثائرا في وجهه ورفع له رسالة سجل فيها موبقاته ، وقد عرض فيها استلحاقه لزياد ، وهذا نص ما كتبه في ذلك :

« أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (ص) الولد للفراش وللعاهر الحجر ،

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧٣.

(٢) المحاسن والمساوي للبيهقي ١ / ٥٨.

١٧٥

فتركت سنة رسول الله تعمدا واتبعت هواك بغير هدى من الله »(١) .

٣ ـ يونس بن عبيد :

وكان يونس بن عبيد ممن حضر هذه المأساة ، وشاهد فصولها ، فانطلق إلى معارضة معاوية وإلى الإنكار عليه قائلا :

« يا معاوية قضى رسول الله (ص) ان الولد للفراش ، وللعاهر الحجر وقضيت أنت أن الولد للعاهر مخالفة لكتاب الله تعالى ، وانصرافا عن سنة رسول الله بشهادة أبي مريم على زنا أبي سفيان ».

فانبرى إليه معاوية يتهدده ويتوعده بالقتل قائلا :

« والله يا يونس لتنتهي أو لأطيرن بك طيرة بطيئا وقوعها ».

فقال له يونس : « هل إلا إلى الله ، ثم أقع؟ ».

قال له معاوية : ـ نعم ـ(٢) .

٤ ـ عبد الرحمن بن الحكم :

وما رضى بهذا الاستلحاق حتى بنو أمية ، فقد نقموا عليه ذلك فقد أقبل عبد الرحمن بن الحكم ومعه جماعة من بني أمية فقال عبد الرحمن لمعاوية :

« يا معاوية ، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا ـ يعني على بني العاص قلة ـ وذلة ».

فالتفت معاوية إلى مروان قائلا :

« اخرج عنا هذا الخليع ».

« أى والله إنه لخليع ما يطاق ».

__________________

(١) رجال الكشي ص ٣٣.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣١١.

١٧٦

فقال معاوية : « والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق ، ألم يبلغنى شعره في وفي زياد ».

قال مروان وما ذا قال؟ :

ـ إنه يقول :

ألا أبلغ معاوية بن حرب

لقد ضاقت بما يأتي اليدان

أتغضب أن يقال أبوك عف

وترضى أن يقال أبوك زاني

فاشهد أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وأشهد انها حملت زيادا

وصخرا من سمية غير دان

وتألم معاوية حينما قرأها فقال : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زيادا فيترضاه ويعتذر إليه.

وخرج عبد الرحمن وقد غضب عليه معاوية ، فجاء إلى الكوفة وقصد زيادا يعتذر منه فاستأذن عليه بالدخول فلم يأذن له ، وتوسط في شأنه وجهاء قريش فسمح له بالدخول ، فلما دخل عليه أعرض عنه ، ثم التفت له قائلا :

« أنت القائل؟ ما قلت!! ».

ـ ما الذي قلت؟.

ـ قلت ما لا يقال!!

ـ أصلح الله الأمير أنه لا ذنب لمن أعتب ، وإنما الصفح عمن أذنب فاسمع مني ما أقول :

ـ هات ما عندك.

إليك أبا المغيرة تبت مما

جرى بالشام من خطل اللسان

وأغضبت الخليفة فيك حتى

دعاه فرط غيظ أن هجاني

وقلت لمن لحاني فى اعتذاري

إليك أذهب فشأنك غير شاني

١٧٧

عرفت الحق بعد ضلال رأيى

وبعد الغي من زيغ الجنان

زياد من أبي سفيان غصن

تهادى ناضرا بين الجنان

أراك أخا وعما وابن عم

فما أدري بعيب ما تراني

وإن زيادة في آل حرب

أحب إلي من وسطى بناني

ألا بلغ معاوية بن حرب

فقد ظفرت بما تأتي اليدان

فقال زياد :

« أراك أحمق صرفا شاعرا صنع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطا ومسخوطا ولكنا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك ».

ـ تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني.

ـ نعم.

ثم دعا كاتبه فرسم له العفو والرضا ، فأخذ الكتاب ومضى إلى معاوية فلما قرأ الأبيات قال :

« لحا الله زيادا ألم ينتبه لقوله : وإن زيادة في آل حرب؟ ».

ثم رضى عن عبد الرحمن ورده إلى حالته الأولى(١) .

٥ ـ أبو العريان :

وكان أبو العريان شيخا مكفوفا ذا لسان وعارضة شديدة فاجتاز عليه زياد فى موكبه فقال أبو العريان :

« ما هذه الجلبة؟ ».

« إنه موكب زياد بن أبي سفيان ».

« والله ما ترك أبو سفيان إلا يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمدا فمن أين جاء زياد؟ ».

__________________

(١) شرح ابن أبى الحديد ٤ / ٧١ ، الإستيعاب ١ / ٥٥٢ ـ ٥٥٤.

١٧٨

ونقل المتزلفون حديث أبي العريان إلى زياد فأشار عليه بعض خواصه أن يوصله بالمال حتى يكف لسانه عنه ، فاستصوب الرأي وأمر له بمائتي دينار فجاء بها الرسول إليه ، فقال له :

« يا أبا العريان ابن عمك زياد الأمير قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها » فلما سمع أبو العريان بذلك طار فرحا فقال :

« وصلته رحم أى والله ابن عمي حقا ».

واجتاز موكب زياد عليه في اليوم الثاني ، فسلم عليه زياد ، فبكى أبو العريان ، فقيل له :

« ما يبكيك؟ ».

« عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد ».

هكذا تفعل المادة بالضمائر القذرة التي لم تنطبع فيها العقيدة ، وكان أبو العريان عاريا من الإيمان فتغير بهذه الصلة الضئيلة ، ولما سمع حديثه معاوية كتب إليه :

ما ألبثتك الدنانير التي بعثت

أن لونتك أبا العريان الوانا

أمسى إليك زياد فى أرومته

نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا

لله در زياد لو تعجلها

كانت له دون ما يخشاه قربانا

فلما قرأت على أبي العريان هذه الأبيات أجابه :

احدث لنا صلة تحيا النفوس بها

قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا

أما زياد فقد صحت مناسبه

عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا

من يسد خيرا يصبه حين يفعله

أو يسد شرا يصبه حيثما كانا(١)

٦ ـ أبو بكرة :

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧١.

١٧٩

ومن جملة الناقمين على معاوية والناقدين لزياد على هذا الاستلحاق الفظيع أبو بكرة(١) أخو زياد ، فقد أنكر على أخيه أشد الإنكار ، فقاطعه ولم يتصل به ، ولما عزم زياد على السفر إلى بيت الله الحرام أقبل إليه أبو بكرة فلما بصر به بعض الحرس أقبل مسرعا إلى زياد ، فقال له :

« أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر ».

ـ ويحك أنت رأيته؟.

ـ ها هو ذا قد طلع!!.

أقبل أبو بكرة فوقف على رأس زياد وكان قد احتضن غلاما له فوجه أبو بكرة خطابا إلى الغلام ولم يوجهه إلى زياد ترفعا واستحقارا له :

« يا غلام ، إن أباك ركب في الإسلام عظيما ، زنى أمه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قط ، ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك يوافى الموسم غدا ، ويوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي من أمهات المؤمنين ، فان جاء ان يستأذن عليها فأذنت له فاعظم بها

__________________

(١) أبو بكرة : اسمه نفيع بن الحارث بن كلدة ، قيل اسم أبيه مسروح ، وكان عبدا للحارث ، فاستلحقه الحارث وهو أخو زياد ، وإنما لقب بأبى بكرة لأنه تدلى من حصن الطائف ببكرة إلى النبيّ (ص) فلذا سمى بهذا الاسم ، وارتكب جريمة هو وجماعة من أصحابه فجلدهم عمر بن الخطاب ثم تابوا ، فكان يقبل شهادتهم بعد التوبة إلا أبا بكرة فانه لم يجز شهادته ، قال ابن سعد مات بالبصرة في ولاية زياد ، وقال المدائني : مات سنة ٥٠ هج ، وقيل مات هو والحسن (ع) في سنة واحدة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب ١٠ / ٤٦٩ وجاء في الإستيعاب المطبوع على هامش الإصابة ٣ / ٥٣٧ أن أبا بكرة أوصى بنيه حين الوفاة فقال لهم : « إن أبي مسروح الحبشي ».

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529