حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام7%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218042 / تحميل: 6645
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

منددا بطمع ولاته واستصفائهم أموال الرعية :

معاوي إننا بشر فاسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديد(١)

أكلتم أرضنا فجردتموها

فهل من قائم أو من حصيد

فهبنا أمة ذهبت ضياعا

« يزيد » أميرها وأبو يزيد

أتطمع في الخلافة إذ هلكنا

وليس لنا ولا لك من خلود

ذروا خيل الخلافة واستقيموا

وتأمير الأراذل والعبيد

وأعطونا السوية لا تزركم

جنود مردفات بالجنود(٢)

ويقول الشاعر الراعي النميري لعبد الملك بن مروان : مبينا له جور عماله واضطهادهم لقومه حتى افتقروا ، وهربوا في البيداء وليس معهم سوى إبل مهزولة يقول الراعي :

أخليفة الرحمن إنا معشر

حنفاء نسجد بكرة وأصيلا

إن السعاة عصوك يوم أمرتهم

وأتوا دواهي لو علمت وغولا

أخذوا العرين فقطعوا حيزومه

بالأصبحية قائما مغلولا(٣)

حتى إذا لم يتركوا لعضامه

لحما ولا لفؤاده معقولا(٤)

جاءوا بصكهم واحدر أسأرت

منه السياط يراعه اجفيلا(٥)

أخذوا حمولته فأصبح قاعدا

لا يستطيع عن الديار حويلا

__________________

(١) السجح : السهولة واللين.

(٢) خزانة الأدب ٢ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

(٣) الحيزوم : وسط الظهر ، الأصبحية : السياط جمع أصبح.

(٤) المعقول : الادراك.

(٥) أسأرت : أي بقيت فى الإناء بقية ، الاجفيل : الخائف.

٢٠١

يدعو أمير المؤمنين ودونه

خرق تجر به الرياح ذيولا(١)

كهداهد كسر الرماة جناحه

يدعو بقارعة الطريق هديلا

أخليفة الرحمن إن عشيرتي

أمسى سوامهم عزين فلولا(٢)

قوم على الإسلام لما يتركوا

ما عونهم ويضيعوا التهليلا(٣)

قطعوا اليمامة يطردون كأنهم

قوم أصابوا ظالمين قتيلا

شهرى ربيع ما تذوق لبونهم

إلا حموضا وخمة وذبيلا(٤)

وأتاهم يحيى فشد عليهم

عقدا يراه المسلمون ثقيلا(٥)

كتبا تركن غنيهم ذا عيلة

بعد الغنى وفقيرهم مهزولا

فتركت قومي يقسمون أمورهم

إليك أم يتربصون قليلا(٦)

وهذا الشعر طافع بالأسى والألم قد صور فيه الشاعر الجور والمظالم التي صبها الولاة على الناس وقد استمر الجور حتى في دور عمر بن عبد العزيز الذي هو أعدل ملوك بنى أمية ـ كما يقولون ـ فان عماله لم يألوا جاهدا قي نهب أموال الناس وسلب ثرواتهم ، وفى ذلك يقول كعب الأشعري مخاطبا له :

إن كنت تحفظ ما يليك فانما

عمال أرضك بالبلاد ذئاب

لن يستجيبوا للذي تدعو له

حتى تجلد بالسيوف رقاب

__________________

(١) الخرق : الصحراء الواسعة.

(٢) عزين : الجماعات.

(٣) الماعون : أراد به الزكاة.

(٤) الحموض : المر المالح من النبات.

(٥) يحي : هو أحد السعاة الظالمين.

(٦) طبقات فحول الشعراء ص ٤٣٩ ـ ٤٤١ ، جمهرة أشعار العرب ص ٣٤١.

٢٠٢

باكف منصلتين أهل بصائر

في وقعهن مزاجر وعقاب(١)

وانبرى لعمر رجل وهو على المنبر فقال له :

إن الذين بعثت في أقطارها

نبذوا كتابك وأستحلّ المحرم

طلس الثياب على منابر أرضنا

كل يجور وكلهم يتظلم(٢)

وأردت أن يلي الأمانة منهم

عدل وهيهات الأمين المسلم(٣)

لقد امتحن المسلمون امتحانا عسيرا ، وأرهقوا إرهاقا شديدا من الحكم الأموي الذي عمد إلى اماتة الحق ، ومناهضة العدل ، ونشر الفقر والبؤس في جميع انحاء البلاد.

ومهما يكن الأمر فان هذه البوادر التي ذكرناها عن معاوية وعن بني أمية قد شددت نقمة الناس عليهم في جميع مراحل التاريخ فقد أبرزت واقعهم الجاهلي الذي لا التقاء له مع النواميس الدينية ، وكان هذا هو الانتصار الرائع الذي أحرزه الإمام الحسن (ع) في صلحه ، فقد عاد الصلح بالنكاية ببنى أمية ، وبالتشهير والقدح بمعاوية حيا وميتا ، وعاد الحكم الأموي مثالا للسلطة الجائرة التي تحمل شعار الظلم والاستبداد ، والاستهانة بحقوق الناس. ونكتفي بهذا العرض ـ الموجز ـ من موبقات معاوية التي سودت وجه التأريخ وقد ابرزها الإمام الحسن (ع) في صلحه.

سياسة أهل البيت :

ويجدر بنا ونحن في بيان أسباب الصلح ، وفي إيضاح علله أن نعرض

__________________

(١) البيان والتبيان ٣ / ٣٥٨.

(٢) الطلس : الوسخ من الثياب.

(٣) البيان والتبيان ٣ / ٣٥٩.

٢٠٣

بعض الجوانب من سياسة أهل البيت (ع) لنتبين مدى اصالة سياستهم البناءة ، ونقف على الأهداف الرفيعة التي ينشدون تحقيقها في ظلال الحكم فان إيضاح هذه الجوانب ـ فيما نحسب ـ يعطينا أضواء عن صلح الإمام الحسن مع طاغية زمانه ، ويكشف لنا عن الأسباب التي أدت إلى تظافر القوى الباغية على مناجزته ، ومناجزة أبيه من قبل ، وإلى القراء ذلك.

السياسة البناءة :

إن السياسة التي يجب أن تسود جميع انحاء البلاد ـ عند أهل البيت ـ هي السياسة البناءة التي تضمن مصالح المجتمع ، وتعمل على ايجاد الوسائل السليمة لرقيه وبلوغ أهدافه وآماله ، وحمايته من الظلم والاعتداء ، وتحقيق المساوات العادلة في ربوعه ، والفرص المتكافئة بين أبنائه لوقايتهم من البؤس والحرمان.

إن سياسة أهل البيت قد تبنت العدل الخالص ، والحق المحض ، ومثلت وجهة الإسلام وأهدافه في عالم السياسة والحكم ، فهي أرقى سياسة عرفها الناس وأجدرها بتحقيق العدل السياسي ، والعدل الاجتماعي بين الناس لأنها في جميع مجالاتها تنشد الاطمئنان الذي لا يشوبه قلق ، والأمن الذي لا يشوبه خوف ، والعدل الذي لا يشوبه ظلم ، وهي بجميع مفاهيمها تباين السياسة الأموية الجائرة التي رفعت شعار الظلم والجور ، وتذرعت بجميع وسائل المكر والخداع للمساومة على مصالح الشعوب ، وابتزاز إمكانياتها والتغلب عليها.

إن السياسة الأصيلة عند أهل البيت هي التي لا تعتمد على المكر والمواربة والخداع والتهريج والتضليل وغير ذلك من الأساليب التي لا تحمل جانبا من الواقعية ، وانها لا بد أن تكون صريحة واضحة في جميع أهدافها ومعالمها ، لتحقق العدل فى البلاد ، ولصلابة سياستهم فى الحق وصرامتها في العدل

٢٠٤

ثار عليهم النفعيون والمنحرفون ، وطالبوهم أن ينهجوا منهجا خاصا لا يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم ، ولو أنهم استجابوا لهم لما آلت الخلافة الى غيرهم ولكنهم سلام الله عليهم آثروا رضا الله وسلكوا الطريق الواضح ، وابتعدوا عن الخطط الملتوية التي لا يقرها الدين ،

نظرهم الى الخلافة :

ان الخلافة عندهم هي ظل الله في الأرض فيجب أن يتحقق في ظلالها العدل الشامل ، وتسود الرفاهية ، ويعم الأمن بين جميع المواطنين ، وإذا تجردت السلطة من هذه الأهداف فلا طمع ولا ارب لهم بها يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) لابن عباس ، وكان يخصف نعله بذي قار :

ـ يا ابن عباس ما قيمة هذا النعل؟.

ـ لا قيمة له يا أمير المؤمنين.

ـ والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا وأدفع باطلا.

إن حذاءه الذي كان من ليف أثمن عنده من الإمرة التي لا يقام فيها الحق ، ولا يدفع فيها الباطل فضلا عن السلطة الجائرة التي تضيع العدل وتحي الجور وتميت الحق ، وقد كشف (ع) ـ في بعض كلماته ـ السر في إحجامه عن مبايعة أبي بكر في دور السقيفة قائلا :

« اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطلة من حدودك(١) ».

ولهذه الأسباب الوثيقة أعلن سخطه على أبي بكر ، وامتنع من مبايعته

__________________

(١) نهج البلاغة محمد عبده ٢ / ١٨.

٢٠٥

وأقام عليه سيلا من الأدلة على أحقيته بالخلافة دونه ، ولكنه لم يناجزه الحرب لأنه يرى أن الأمة من واجبها أن تنقاد إليه كما أمره رسول الله (ص) بذلك فقد قال له :

« يا علي أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ، ولا تأتي فان أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك ـ يعني الخلافة ـ فاقبل منهم ، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك »(١) .

إن الواجب على المسلمين كان هو الانقياد لعترة نبيهم ، والرجوع إليهم ليحكموا فيهم بما أنزل الله ، ويردوهم إلى الحق الواضح ، وإلى الطريق المستقيم ، ولكن القوم قد غرتهم الدنيا ، وخدعتهم السلطة ، فانطلقوا وراء أطماعهم وأهوائهم فصرفوا الأمر عن أهله ، ووضعوه في غير محله ، فأدى ذلك إلى المحن الشاقة والخطوب السود التي منى بها المسلمون في جميع مراحل تأريخهم.

المثل العليا :

أما الأهداف السليمة والمثل العليا التي رفع شعارها أهل البيت ، وتبنوها في جميع المجالات فهي كما يلي.

أ ـ العدل :

إن السياسة الإسلامية بجميع مفاهيمها قد تبنت العدل ، وآمنت به إيمانا مطلقا ، وركزت جميع أهدافها على أضوائه ، فأهابت بالحكام والأمراء أن يطبقوه على مسرح الحياة ، وأن لا يكون الحكم الصادر منهم مبعثه الهوى وسائر الأغراض التي لا تمت بصلة للعدل قال تعالى : « وإذا حكمتم بين

__________________

(١) أسد الغابة ٤ / ٣١.

٢٠٦

الناس أن تحكموا بالعدل »(١) وقال تعالى : « يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله »(٢)

وقد أجمع المسلمون على أن الحاكم إذا انحرف في حكمه وجب عزله ، وقد عزل أمير المؤمنين أحد ولاته حينما أخبرته سودة بنت عمارة الهمدانية بأنه قد جار في حكمه فجعل الإمام يبكي ويقول :

« اللهم أنت الشاهد علي وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك ».

ثم عزله في الوقت(٣) ويقول الإمام الصادق : « اتقوا الله ، واعدلوا فانكم تعيبون على قوم لا يعدلون »(٤) .

إن سعادة الأمة ورقيها بعدل حكامها ، فاذا جافى الحكام العدل وجاروا في الحكم تعرضت البلاد للأزمات والنكسات وسادت فيها الفوضى والنزعات ، ومن ثمّ فان الإسلام يحرص كل الحرص عل أن يكون الحكم بيد الصلحاء والثقات لأن للحكم إغراء لا يفلت من ربقته إلا ذوو النفوس الزكية الكريمة ـ وما أقل عددهم ـ وقد تحدثنا عن مظاهر العدل وبسطنا القول فيه في كتابنا « النظام السياسي في الإسلام » ولا نرى أن هنا حاجة فى عرض تلك البحوث ، وانما نريد أن نقول إن سياسة أهل البيت (ع) قد تركزت على العدل الشامل وبنت جميع أهدافها عليه.

__________________

(١) سورة النساء : آية ٥٦.

(٢) سورة ص : آية ٢٦.

(٣) العقد الفريد ١ / ٢١١.

(٤) أصول الكافى ٢ / ١٤٧.

٢٠٧

ب ـ المساواة :

إن الإسلام أسبغ نعمة المساواة على الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل فى تأريخ المجتمع العالمي ، فقد أعلن المساواة العادلة ما بين الأفراد والجماعات وما بين الأجناس فلا فضل لأبيض على أسود ، ولا لعربي على أعجمي ، فالناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لبعضهم على بعض إلا بالتقوى والعمل الصالح يقول الأستاذ جيب :

« إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ما زال في قدرته أن ينجح نجاحا باهرا في تأليف العناصر والأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة. وإذا وضعت منازعات الشرق والغرب موضع الدرس فلا بد من الالتجاء إلى الإسلام »(١) .

وقد طبق الامام أمير المؤمنين المساواة العادلة تطبيقا شاملا في دور حكمه ، فامر عماله وولاته أن يساووا بين الناس حتى فى اللحظة والنظرة فقد جاء في بعض رسائله ما نصّه :

« وأخفض للرعية جناحك وأبسط لهم وجهك وألن لهم جانبك ، وآس بينهم في اللحظة والنظرة(٢) والإشارة والتحية ، حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك »(٣) .

وهذه السياسة العادلة هى التي أثارت عليه الأحقاد والضغائن وأدت إلى تكتل القوى الباغية وتظافرها على مناجزته ، وقد نص على ذلك المدائنى بقوله :

__________________

(١) النظام السياسي في الإسلام ص ٣١٩.

(٢) آس : أى شارك بين الرعية حتى في هذه الأمور البسيطة.

(٣) النهج محمد عبده ٣ / ٨٥.

٢٠٨

« إن من أهم الأسباب في تخاذل العرب عن علي بن أبي طالب (ع) كان أتباعه لمبدإ المساواة بين الناس حيث كان لا يفضل شريفا على مشروف ولا عربيا على عجمي ولا يصانع الرؤساء والقبائل »(١) .

إن طغاة قريش ، ومن سار في ركابهم من جبابرة العرب لم يكونوا بأي حال قد وعوا الأهداف الأصيلة التي جاء بها الإسلام لتعميم المساواة وبسط العدل والقضاء على الغبن ، إنهم يريدون الامتيازات والاستئثار بأموال المسلمين ، والاستعلاء على الفقراء والضعفاء وكل ذلك يتنافى مع سيرة ابن أبي طالب رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، وقد سار الإمام الحسن على خطته وسيرته ولم يتحول عن نهجه فأثار ذلك عليه الأحقاد والأضغان.

ج ـ الحرية :

وتبنى الإسلام الحرية العامة لجميع المواطنين ، وألزم الدولة بحمايتها ، وتطبيقها على مسرح الحياة سواء أكانت الحرية في العقيدة أو في التفكير ، والتعبير عن الرأي ، أو في المناحي السياسية ، واعتبر الإسلام كل ذلك من الحقوق الطبيعية للانسان التي لا غنى عنها بحال من الأحوال ، وقد طبق الإمام أمير المؤمنين الحرية بأرحب مفاهيمها في دور خلافته ، فانه لم يرغم القعاد على مبايعته ، ولم يكرههم على طاعته ، وإنما تركهم وشأنهم يتمتعون بحريتهم من دون أن يتعرض لهم بأذى أو مكروه ، وكذلك عامل الخوارج فانه لم يناجزهم الحرب حتى أنذرهم وأعذر فيهم ، وحاججهم فأبطل شبههم ولما صمموا على فكرتهم ولم يتنازلوا عنها خلّى سبيلهم ، وأطلق سراحهم ولكن لما عاثوا فسادا في الأرض ، وأخلّوا بالأمن العام ناجزهم عملا

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ١٨٠.

٢٠٩

بقوله تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ». ولما فرغ من حربهم كان في المجتمع العراقي جمهور غفير ممن يعتنق فكرتهم ، فلم يتعرض لهم بمكروه ، ولم يمنعهم من الفيء ، ولم يرد أحدا منهم عن الخروج إن أراده ، ومنحهم الحرية التامة ، فلم تراقبهم السلطة ، ولم تتبعهم أو تنكّل بأحد منهم ، وكذلك أعطى الحرية الواسعة الى الحزب الأموي ، فلم يتعرض لهم بأذى أو مكروه مع العلم أنهم كانوا من ألدّ خصومه وأعدائه. وهذه الحرية الواسعة التي أعطاها الإمام للأحزاب المناوئة له كانت أوسع حرية عرفها التأريخ ، لقد قضت سياسته البنّاءة على عدم استكراه الناس على الطاعة ، وعدم ارغامهم على ما لا يحبون.

د ـ الصراحة والصدق :

ان السياسة الرشيدة التي رفع شعارها أهل البيت تسير على ضوء الصدق والواقع فلا توارب ، ولا تنافق ، ولا تغري الشعوب بالوعود الكاذبة ، ولا تمنيها بالأماني المعسولة ، رائدها في جميع مخططاتها الصراحة والصدق.

لقد حفلت سياستهم بالصراحة في جميع الميادين ، فليس من منطقها الخداع والنفاق ، وقد صارح الإمام الحسين (ع) سبط النبي وممثل الإسلام الجماهير التي صحبته من مكة والتي التحقت به فى أثناء الطريق حينما بلغه مقتل سفيره وممثله فى العراق الشهيد العظيم مسلم بن عقيل (ع) صارحهم بمقتله ، وخيانة أهل الكوفة به ، وغدرهم بعهودهم ومواثيقهم ، وانه متوجه فى سفره الى ساحة الموت ، فتفرّق ذوو الأطماع والأهواء عنه ، لقد أدلى (ع) في تلك الساعة الرهيبة بالحقيقة الراهنة ، وكشف لهم الستار عن خطته وأهدافه ، ليكونوا على بصيرة من أمرهم عملا بأوامر الإسلام التي

٢١٠

تلزم بالصراحة والصدق ولا تبيح أي وسيلة من وسائل الغدر والخداع.

إن المواربة لو كانت سائغة فى الإسلام بأي شكل من الأشكال لما تغلب معاوية بن أبي سفيان خصم الإسلام على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام فكان بامكانه أن يساومه بعد مقتل عثمان ويبقيه على ولايته في دمشق ، ثم يعزله بعد ذلك عن منصبه ويتخلص من شرّه وتمرده ، ولكن الإسلام يأبى له تلك المساومة الرخيصة فامتنع من بقائه في جهاز الحكم ولو زمنا قصيرا ، وهناك أمر آخر هو أعمق أثرا ، وأبعد مدى في عالم الصراحة من ذلك هو امتناع الإمام من اجابة عبد الرحمن بن عوف أحد أعضاء الشورى الذين رشحهم الخليفة الثاني لانتخاب الخليفة الجديد من بعده ، فقد ألحّ عبد الرحمن على الإمام إلحاحا بالغا أن يبايعه وينتخبه لمركز الخلافة الإسلامية العظمى ، ولكن شرط عليه أن يسير بسيرة الشيخين ، ويقتفي بسياستهما فامتنع (ع) من اجابته على هذا الشرط وأبى إلا أن يسير على كتاب الله ، ويقتدي بسنة نبيه في سياسته وأعماله الإدارية وغيرها ، لقد كان بامكانه أن يوافق على ذلك الشرط ابتداء ثم يعدل عنه ويسير فى سياسته على وفق الأهداف التي رسمها الإسلام ويعتقل كل من يعارضه ويقف فى وجه حكومته ، ولكنه أبى إلا الصراحة والصدق فى القول والفعل.

إن الإسلام يأمر بالتمسك بالصدق ، ولا يسيغ استعمال الطرق الملتوية التي لا تمت بصلة الى الواقع في تثبيت الحكم ، وتدعيم السلطة.

يقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« عليكم بالصدق ، فان الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما زال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب ، فان الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور

٢١١

يهدي الى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا »(١) .

إن أهل البيت قد ركزوا سياستهم على الصدق والصراحة ، وجنبوها من المكر والخداع.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) :

« لو لا ان المكر والخداع في النار لكنت أمكر الناس ».

وكان (ع) كثيرا ما يتنفس الصعداء من الآلام المرهقة التي يلاقيها من خصومه ويقول :

« وا ويلاه ، يمكرون بي ويعلمون أني بمكرهم عالم ، وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكني أعلم أن المكر والخديعة فى النار ، فأصبر على مكرهم ولا أرتكب مثل ما ارتكبوا »(٢)

ويقول فى الغدر :

« لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة »(٣) .

إن الغدر إنما ينبعث عن نفس لا تؤمن بالمثل الإنسانية ، والقيم الدينية ، ويصف الإمام أمير المؤمنين الغادر بأنه قد نسخ من كيان نفسه الإيمان بالله يقول :

« ولا يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا ، ونسبهم أهل الجهل فيه الى حسن الحيلة ، ما لهم قاتلهم الله!! قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله

__________________

(١) رواه مسلم.

(٢) جامع السعادات ١ / ٢٠٢.

(٣) نهج البلاغة

٢١٢

ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين »

وتحدث عمن قال فى دور حكومته من عبيد الشهوات والمناصب :

بأنه لا دراية له في شئون السياسة ، وإن معاوية خبير بها ، وخليق بادارة دفة الحكم. قال (ع) :

« والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس »(١) .

ان سياسة الإمام أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت في جميع شئونها قد عبرت عن جميع القيم السياسية الخيرة التي أعلنها الإسلام ، فهي لا تقرّ الغدر ، ولا المكر ، ولا الخداع ، ولا تؤمن بأي وسيلة من وسائل النفاق الاجتماعي وإن توقف عليها النجاح السياسي المؤقت ، لأن الخلافة الإسلامية من أهم المراكز الحساسة في الإسلام ، فلا بد لها من الاعتماد على الخلق الرصين والإيمان العميق بحق المجتمع والأمة.

وسار الإمام الحسن (ع) على مخططات أبيه ومقرراته فى عالم السياسة والحكم ، فلم يعتمد على أي وسيلة لا يقرّها الدين ، وتجنب جميع الطرق الشاذة التي لا تلتقي مع الواقع ، ولو أنه سلك بعض الأساليب التي سلكها معاوية لما تغلب عليه ، وقد أدلى (ع) بذلك الى سليمان بن صرد فقال له :

« ولو كنت بالحزم في أمر الدنيا ، وللدنيا أعمل ، وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني ، وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم »

ودلّ ذلك على أنه لو كان يعمل للدنيا لكان أقوى عليها من خصومه ولكن التغلب على الأحداث والظفر بالحكم يتوقف على اتخاذ الوسائل التي

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ٢٠٦.

٢١٣

لا تتفق مع الدين وهو (ع) أحرص المسلمين على صيانة الاسلام ورعايته.

ه ـ الولاة والعمال :

ويرى أهل البيت (ع) أن الموظفين في جهاز الحكم لا بد أن يكونوا من خيرة الرجال في الجدارة والنزاهة والكفاءة والقدرة على إدارة شئون البلاد ، ليضعوا المصلحة العامة نصب أعينهم ، ويسيروا بين الناس سيرة قوامها العدل الخالص ، والحق المحض ، ويكونوا أمناء فيما يجبونه من الناس وفيما ينفقونه على المرافق العامة ، وأن يكونوا ـ قبل كل شيء ـ بعيدين عن الرشوة ، وعما في أيدي الناس ، فان الرشوة تؤدي الى انهيار الأخلاق وشيوع الباطل ، والفساد في الأرض ، وقد بعث الامام أمير المؤمنين (ع) الى أمراء الأجناد بهذه الرسالة :

« أما بعد : فانما هلك من كان قبلكم ، إنهم منعوا الناس الحق فاشتروه ، وأخذوهم بالباطل فاقتدوه. »(١)

إن من أهم الأسباب التي تؤدي الى دمار الحكومة وزوالها هي أن تحجب المواطنين عن الحق حتى يضطروا الى استنقاذه بالرشوة ، ومن الطبيعي ان ذلك يؤدي الى فقدان الأمن ، واضطراب المجتمع ، وانتشار الظلم والجور.

وقد نظر أهل البيت (ع) الى ما هو أبعد من ذلك وأعمق بكثير ، فقد فرضوا على ولاتهم أن يبتعدوا عن الناس بكل نحو من أنحاء الصلة ، ولو كانت موجبة للربط الودي أو العاطفي لما عسى أن يكون لذلك أثر على مجرى العدل ، ولذلك ان أمير المؤمنين (ع) لما بلغه ان عامله بالبصرة سهل بن حنيف قد دعي الى مأدبة فأجاب إليها ، فكتب إليه يستنكر منه

__________________

(١) نهج البلاغة ١ / ١٥١.

٢١٤

ذلك ، ويوبخه على ما صدر منه ، وهذا نص ما كتبه إليه :

« أما بعد : يا ابن حنيف فقد بلغنى أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان ، وتنقل إليك الجفان وما ظننت أنك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو(١) ، وغنيهم مدعو ، فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم(٢) فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه(٣) فنل منه. »(٤) .

وأراد الأشعث بن قيس أن يتقرب الى أمير المؤمنين ويتصل به فصنع له حلوى جيدة فقدمها إليه ، ولندعه (ع) يحدثنا عن موقفه تجاه هذا الأمر يقول :

« وأعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها(٥) ، ومعجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أو قيئها ، فقلت : أصلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت ، فقال : لا ذا ولا ذاك ، ولكنها هدية ، فقلت : هبلتك الهبول(٦) أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟ أمختبط ، أم ذو جنة ، أم تهجر(٧) ؟ والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها

__________________

(١) عائلهم : أي محتاجهم ، مجفو : أي مطرود من البؤس والجفاء.

(٢) المقضم : المأكل.

(٣) بطيب وجوهه : أي بالحل في طرق كسبه.

(٤) نهج البلاغة محمد عبده ٣ / ٧٨.

(٥) الملفوفة : نوع من الحلواء.

(٦) هبلتك ـ بكسر الباء ـ : ثكلتك ، الهبول ـ بفتح الهاء ـ : المرأة لا يعيش لها ولد.

(٧) المختبط : من اختل نظام ادراكه ، تهجر : أي تهذي بما لا معنى له.

٢١٥

على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة(١) ما فعلت ، وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي ولنعيم يفنى ، ولذة لا تبقى ، نعوذ بالله من سبات العقل(٢) ، وقبح الزلل وبه نستعين(٣)

وبهذه السياسة البناءة تتحقق العدالة الاجتماعية ، ويسود الأمن والرخاء ويقضى على جميع أفانين الظلم والغبن.

د ـ الخدمة العسكرية :

ولم تقض سياسة أهل البيت بارغام الناس على الخدمة العسكرية ، فلم يؤثر عنهم أنهم أكرهوا الناس على الخروج الى الحرب ، وإنما كانوا يدعون الى الجهاد كفرض من فروض الله فمن شاء أن يخرج خرج مؤديا لما فرض عليه ، ومن قعد فانما يقعد غير تمتثل لما أوجبه الله عليه من دون أن ينال عقوبة أو يتعرض للسخط والارهاب ، وكانت هذه خطة الحسن (ع) لما أراد مناجزة معاوية ، فانه لم يكره أحدا على ذلك ، وإنما ندبهم الى الجهاد ، وقد فعل ذلك أمير المؤمنين من قبل في حرب الجمل وصفين ، والنهروان ، وقد أرادوا بذلك أن يكون الناس مندفعين بدافع الايمان والعقيدة لما أوجبه الله عليهم من الفرض ، وعلى عكس ذلك سار بنو أمية ، فانهم كانوا يفرضون أشد العقاب على من تخلف عن الحرب ، كما يحدثنا التأريخ بذلك في سيرة عبيد الله بن زياد لما امر بالخروج الحرب

__________________

(١) جلب الشعيرة ـ بكسر الجيم ـ : قشرها ، وأصل الجلب : غطاء الرحل فتجوز فى اطلاقه على غطاء الحبة.

(٢) سبات العقل : نومه.

(٣) النهج محمد عبده ٢ / ٢٤٤.

٢١٦

سيد الشهداء (ع) فقتل الشامى على أنه لم يكن ممن أمر بالخروج الى الحرب وقتل الحجاج عمرو بن ضابي البرجمي لأنه لم يستجب للالتحاق بجيش المهلب ابن أبي صفرة ، وفي ذلك يقول الشاعر :

تخير فأما ان تزور ابن ضابي

عميرا وأما أن تزور المهلبا

وأدت هذه الخطة الارهابية الى ارغام الناس على الاستجابة لهم عن كره ، ولو أن الامام الحسن (ع) أجبر جيشه على الطاعة ، وأنزل العقاب الصارم بالمتمردين والمتخاذلين ، وعاقب على الظنة والتهمة لما اصيب جيشه بتلك الزعازع والانتكاسات ، ولكنه سلام الله عليه قد سلك الطريق الواضح الذي لا تعقيد فيه ولا التواء ، وآثر رضاء الله في كل شيء.

هـ ـ السياسة المالية :

أما السياسة المالية التي انتهجها أهل البيت فكانت تلزم بصرف الخزينة المركزية على المصالح العامة كانشاء المؤسسات ، وايجاد المشاريع الحيوية التي تنتظم بها الحياة ، ويقضى بها على شبح الفقر والحرمان ، ولا يسوغ عندهم صرف درهم واحد فيما لا تعود فيه منفعة أو فائدة للأمة ، وقد احتاطوا فى هذه الجهة احتياطا بالغا ، فقد اطفأ الامام أمير المؤمنين سراج بيت المال عن طلحة والزبير لما أرادا أن يفاوضاه في مصالحهما الشخصية ، فان الضياء الذي في بيت المال ملك للمسلمين ، فلا يجوز استعماله إلا في مصالحهم.

وقد أثارت عليه هذه السياسة الصارمة أحقاد العرب ، وأضغان قريش ، وأقبلت إليه طائفة من أصحابه يطلبون منه أن يغير سياسته قائلين :

« يا أمير المؤمنين ، اعط هذه الأموال ، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ، واستمل من تخاف خلافه من الناس ».

٢١٧

فلذعه هذا المنطق الرخيص وانبرى قائلا :

« أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور »(١)

ان تفضيل العرب على الموالي ، ومنح الأموال للوجوه كل ذلك جور واعتداء على حقوق المسلمين في نظر ابن أبي طالب رائد المساواة والعدالة الكبرى في الأرض.

ان أموال المسلمين يجب أن تنفق على مصالحهم ، وضمان عائلهم ومحرومهم ، وليس لزعيم الدولة أن يصطفي منها ، أو يؤثر بها أقاربه ومن يمت إليه ، فان ذلك خيانة لله وللمسلمين ، وقد طبق الامام أمير المؤمنين هذه السياسة العادلة على واقع الحياة حينما آل إليه الأمر ، فانه لم يقتن الدور والضياع ، ولم يرفّه على نفسه فيعير لبالي ثوبه اهتماما ، أو يأكل ما لذّ من الطعام ، أو يتمتع بشيء من متع الحياة ، وإنما كان يعيش عيشة الفقراء والبؤساء ، فقد روى هارون عن أبيه عنترة قال دخلت على علي وهو بالخورنق ، وعليه خلق قطيفة ، وكان الوقت شديد البرد فقلت له :

« يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيبا ، وأنت تفعل هذا بنفسك ».

فانبرى (ع) مجيبا له :

« والله ما أرزأكم شيئا وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة. »(٢)

انه ليس عنده من اللباس ما يقيه من البرد سوى خلق قطيفة جاء بها من يثرب ، وفي استطاعته أن يلبس الحرير الموشى ، ولكنه أبى أن يصطفي من أموال المسلمين شيئا ، كما انه لم يؤثر بها أحدا من أهل بيته وأبنائه ،

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ١ / ١٨٢.

(٢) الكامل ٨ / ١٧٣.

٢١٨

فقد روى أبو رافع(١) وكان خازنا لبيت المال ، قال : دخل عليّ أمير المؤمنين وقد أعطيت ابنته لؤلؤة من بيت المال ، فلما رآها عرفها ، وقد تغير لونه ومشت الرعدة بأوصاله فقال :

« من أين لها هذه؟ والله لأقطعن يدها. »

فلما رأى أبو رافع جده في الأمر ، وعزمه على ذلك قال له :

« أنا والله يا أمير المؤمنين أعطيتها وهي عارية مضمونة »

فهدأ روعه ، وسكن غضبه ، واندفع قائلا :

« لقد تزوجت بفاطمة وما لي فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار ، وما لي خادم غيرها. »(٢)

إن مثله الرفيعة لم تسمح له أن يؤثر ابنته على بنات المسلمين ، وهذا هو منتهى العدل الذي لم يحققه أحد غيره ، ومن مساواته بين المسلمين ، واحتياطه البالغ في أموالهم ما رواه عاصم بن كليب(٣) عن أبيه قال :

__________________

(١) أبو رافع : قيل اسمه ابراهيم ، وقيل أسلم ، كان قبطيا ، قيل كان ملكا للعباس فوهبه الى رسول الله (ص) ، ولما أسلم العباس بشر أبو رافع رسول الله باسلامه فأعتقه توفي فى خلافة عثمان ، وقيل في خلافة أمير المؤمنين ، الإستيعاب ٤ / ٧٠.

(٢) الكامل ٨ / ١٧٣.

(٣) عاصم بن كليب بن شهاب الجرمى الكوفى ، روى عن جماعة من أعيان الصحابة ، وروى عنه جماعة آخرون ، قال ابن معين والنسائي : إنه ثقة ، وقال ابن شهاب : إنه من العباد ، ومن أفضل أهل الكوفة ، اتهم بالمرجئة ثم نزّه من ذلك ، وعدّه ابن حبان في الثقات ، وقال : إنه ثقة مأمون توفى سنة ١٣٧ ه‍ تهذيب التهذيب ٥ / ٥٥.

٢١٩

« قدم على عليّ مال من اصبهان فقسمه على سبعة أسهم ، فوجد فيه رغيفا فقسمه على سبعة أقسام ، ودعا امراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولا »(١)

إن هذا هو العدل الذي لم تحققه الانسانية فى جميع مراحل تأريخها فانها على ما جربت من تجارب. وبلغت من رقي وابداع في فنون الحكم فانها لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تنشئ نظاما سياسيا تتحقق فيه العدالة الكبرى كهذا النظام الذي وضعه ابن أبي طالب ، وسار على منهاجه أبناؤه من بعده.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض المثل العليا التي ينشدونها أهل البيت فى ظلال الحكم ، ولو أن الامام الحسن (ع) انحرف عنها ، ونهج في سياسته منهج من يعمل للدنيا ، وسلك مسلك من يبغي الملك والسلطان ، فراوغ وداهن ، وأنفق المال في غير محله ، لما آل الأمر الى ابن هند الذي سلك جميع الوسائل في سبيل الوصول الى الحكم ، ولكنه سلام الله عليه آثر صيانة الاسلام ، والحفاظ على مقدراته ومعنوياته ، فسار بسيرة جده وأبيه التي لا تقر كل طريق يتصادم مع الدين.

وبقي هنا شيء ذكره الناقدون للصلح ، وهو عدم استشهاد الامام فقد كان الأجدر به أن يناجز معاوية حتى ينال الشهادة ، كما استشهد أخوه سيد الشهداء الحسين (ع) ، وسنذكر جواب ذلك مشفوعا بالتفصيل عند التحدث عن موقف الامام الحسينعليه‌السلام من الصلح.

__________________

(١) الكامل ٨ / ١٧٣.

٢٢٠

بنود الصّلح

٢٢١
٢٢٢

واختلف المؤرخون اختلافا كثيرا فيمن بادر لطلب الصلح فأبن خالدون وجماعة من المؤرخين ذهبوا الى أن المبادر لذلك هو الامام الحسنعليه‌السلام بعد ما آل أمره الى الانحلال(1) ، وذهب فريق آخر الى أن معاوية هو الذي بادر لطلب الصلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد(2) ، وذكر السبط ابن الجوزي أن معاوية قد راسل الامام سرا يدعوه الى الصلح فلم يجبه ، ثم أجابه بعد ذلك(3) ، وأكبر الظن ان معاوية هو الذي استعجل الصلح وبادر إليه وذلك خوفا من العراقيين أن ترجع إليهم أحلامهم ، ويثوب إليهم رشدهم وذلك لما عرفوا به من سرعة الانقلاب وعدم الاستقامة على رأي ، ومما يدل على ان معاوية هو الذي ابتدأ في طلب الصلح ، خطاب الامام الحسن الذي ألقاه في المدائن فقد جاء فيه « ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة ».

__________________

(1) تاريخ ابن خالدون 2 / 186 ، وفي الاصابة انه لما طعن الامام بخنجر دعا عمرو بن سلمة الأرحبى وأرسله الى معاوية يشترط عليه ، وفي الكامل 3 / 205 قال لما رأى الامام الحسن تفرق الأمر عنه كتب الى معاوية ، وذكر ذلك ابن أبي الحديد 4 / 8.

(2) الارشاد ص 170 ، كشف الغمة ص 154 ، مقاتل الطالبيين ص 26

(3) تذكرة الخواص ص 206 ، وذكر الحاج احمد افندي في فضائل الأصحاب ص 157 انه يمكن الجمع بين الأخبار بأن معاوية أرسل له أولا في الصلح فكتب الحسن إليه ثانيا يطلب ما ذكر ، وأجملت بعض المصادر الأمر ، فقال اليعقوبي في تأريخه 2 / 192 : لما رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية ، وكذا ذكر غيره.

٢٢٣

ومهما يكن من شيء فان تحقيق ذلك ليس بذي أهمية ، لأن الامام إن كان هو الذي استعجل الصلح فلا ضير عليه نظرا للمحن الشاقة التي أحاطت به حتى ألجأته الى المسالمة ، وإن كان معاوية هو الذي استعجل الصلح فلا ضير على الامام أيضا لما أوضحناه في أسباب الصلح ، والمهم البحث عن الشروط التي اشترطها الإمام على خصمه.

فقد اختلف التأريخ فيها اختلافا فاحشا ، واضطربت كلمات المؤرخين فى ذلك ، وفيما يلي بعض تلك الاقوال.

1 ـ ذكر بعض المؤرخين ان الامام أرسل سفيرين الى معاوية ، هما عمرو بن سلمة الهمداني ، ومحمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده. فأعطاهما معاوية هذا الكتاب وهذا نصه :

« بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان ، إني صالحتك على ان لك الأمر من بعدي ، ولك عهد الله وميثاقه وذمته ، وذمة رسوله محمد (ص) ، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد ، لا أبغيك غائلة ولا مكروها ، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أن لك خراج پسا ودارابجرد ، تبعث إليهما عمالك ، وتصنع بهما ما بدا لك ». شهد بها عبد الله بن عامر ، وعمرو بن سلمة الكندي ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد ابن الأشعث الكندي ، كتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى واربعين هجرية.

وتنص هذه الوثيقة على اعطاء معاوية للحسن ثلاثة أشياء :

1 ـ جعله ولي عهده.

2 ـ للإمام من بيت المال راتب سنوي ألف ألف درهم.

3 ـ منحه كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ، ويصنع بهما ما شاء.

٢٢٤

واحتفظ الامام برسالة معاوية ، فأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل وأمّه اخت معاوية فقال له : ائت خالك وقل له إن أمنت الناس بايعتك.

ولما انتهى عبد الله الى معاوية وعرض عليه مهمة الامام وهي طلب الأمن العام لعموم الناس ، استجاب له وأعطاه طومارا وختم في أسفله وقال له : فليكتب الحسن فيه ما شاء ، فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق الى الامام ، فكتب (ع) ما رامه من الشروط ، وسنذكر نص ما كتبه عند التعرض لبعض الروايات ، لأنه لا يختلف عنها ، وقد عول على هذه الرواية الدكتور طه حسين(1) .

2 ـ وروى كل من الطبري وابن الأثير صورة غير هذه وخلاصتها ان الامام راسل معاوية فى الصلح واشترط عليه امورا فان التزم بها ونفذها أجرى الصلح وإلا فلا يبرمه ، فلما وصلت رسالة الامام الى معاوية أمسكها واحتفظ بها ، وكان معاوية قبل ورود هذه الرسالة عليه قد بعث للامام صحيفة بيضاء مختوما في أسفلها ، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت وقد وصلت هذه الصحيفة الى الامام بعد ما بعث الى معاوية الوثيقة التي سجل فيها ما أراده ، وسجل الامام في تلك الصحيفة البيضاء اضعاف الشروط التي اشترطها أولا ثم أمسكها ، فلما سلم له الأمر طلب منه الوفاء بالشروط التي اشترطها أخيرا ، فلم يف له بها وقال له : « لك ما كنت كتبت إليّ أولا تسألني أن أعطيكه فاني قد أعطيتك حين جاءني كتابك ، فقال له الحسن (ع) : وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك وأعطيتني العهد على

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 200.

٢٢٥

الوفاء بما فيه ، فاختلفا في ذلك ، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا »(1) .

وهذه الرواية لم تذكر لنا الشروط التي اشترطها الامام « أولا » ولا ما سجله. « ثانيا » في الصحيفة البيضاء التي بعث بها معاوية إليه إلا أن أبا الفداء في تأريخه نص على الشروط الاولى التي اشترطها الامام فقال : « وكتب الحسن الى معاوية واشترط عليه شروطا وقال : إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع ، فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دارابجرد من فارس ، وأن لا يسب عليا ، فلم يجبه الى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه الى ذلك ، ثم لم يف له به »(2) .

وعندي ان ما ذكره ابن الأثير والطبري بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لأن الشروط التي اشترطها الامام أخيرا إن كانت ذات أهمية بالغة فلما ذا أهملها ولم ينص عليها في بداية الأمر؟ ولو اغمضنا النظر عن ذلك فأي فائدة فى تسجيلها مع عدم اطلاع معاوية عليها وإقراره لها ، مضافا لذلك ان معاوية في تلك المرحلة لو سأله الإمام أي شيء لأجابه إليه.

3 ـ وروى ابن عبد البر : « ان الإمام كتب الى معاوية يخبره أنه يصيّر الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال : أما عشرة انفس فلا أؤمنهم ، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا

__________________

(1) الكامل 3 / 205 ، الطبري 6 / 93.

(2) تأريخ ابي الفداء 1 / 192.

٢٢٦

أو غيره بتبعة ، قلت : أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك ، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم ذلك كله معاوية »(1) .

وقد احتوت هذه الرواية على أن أهم ما طلبه الامام الأمن العام لعموم اصحابه واصحاب أبيه ، ولا شك ان هذا الشرط من أوليات الشروط وأهمها عند الامام أما ان الصلح جرى بهذا اللون فأنا أشك في ذلك.

4 ـ وذكر جماعة من المؤرخين ان الإمام ومعاوية اصطلحا وارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية وقد وقّع عليها كل منهما وهذا نصها :

بسم الله الرحمن الرحيم

« هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الصالحين ، وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد الى احد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله فى شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى ان اصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم ، وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وما أخذ الله على احد من خلقه بالوفاء ، وبما اعطى الله من نفسه ، وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من اهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق ، شهد عليه فلان ابن فلان بذلك ، وكفى

__________________

(1) الاستيعاب 1 / 370.

٢٢٧

بالله شهيدا »(1) .

وهذه الصورة افضل صورة وردت مبينة لكيفية الصلح فقد احتوت على امور مهمة يعود صالح الأكثر منها الى عموم المسلمين إلا انا نشك في ان ما احتوت عليه هذه الوثيقة هو مجموع ما طلبه الإمام واراده ، ونذكر فيما يلي مجموع الشروط التي ذكرها رواة الأثر وإن كان كل واحد منهم لم يذكرها بأسرها إلا ان بعضهم نص على طائفة منها ، والبعض الآخر ذكر طائفة اخرى ، وقد اعترف الفريقان ان ما ذكره كل واحد من الشروط ليس جميع ما اشترطه الإمام وإنما هي جزء من كل ، وها هي :

1 ـ تسليم الأمر الى معاوية على ان يعمل بكتاب الله ، وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) وسيرة الخلفاء الصالحين(3) .

2 ـ ليس لمعاوية ان يعهد بالأمر الى احد من بعده والأمر بعده للحسن(4)

__________________

(1) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 145 ، كشف الغمة للإربلي ص 170 البحار 10 / 115 ، فضائل الأصحاب ص 157 ، الصواعق المحرقة ص 81.

(2) ذكرت هذه المادة في صورة المعاهدة التي ذكرناها ، وذكرها ابن ابي الحديد في شرح النهج 4 / 8.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 159 ( الطبعة الثانية ) اخذه عن فتح الباري ، وصحيح البخاري.

(4) الاصابة 1 / 329 ، الطبقات الكبرى للشعراني ص 23 ، حياة الحيوان للدميري 1 / 57 ، تهذيب 2 / 229 ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 199 ، ذخائر العقبى ص 139 ، الامامة والسياسة 1 / 171 ، ينابيع المودة ص 293 ، وجاء فيه ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.

٢٢٨

فان حدث به حدث فالأمر للحسين(1) .

3 ـ الأمن العام لعموم الناس الأسود والأحمر منهم سواء فيه ، وان يحتمل عنهم معاوية ما يكون من هفواتهم ، وان لا يتبع احدا بما مضى ، وان لا يأخذ اهل العراق بإحنة(2) .

4 ـ ان لا يسميه امير المؤمنين(3) .

5 ـ ان لا يقيم عنده الشهادة(4) .

6 ـ ان يترك سب امير المؤمنين(5) وان لا يذكره إلا بخير(6) .

7 ـ ان يوصل الى كل ذي حق حقه(7) .

8 ـ الأمن لشيعة امير المؤمنين وعدم التعرض لهم بمكروه(8) .

9 ـ يفرق في أولاد من قتل مع ابيه في يوم الجمل وصفين الف الف درهم ، ويجعل ذلك من خراج دارابجرد(9) .

__________________

(1) عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب لجمال الحسني ص 52.

(2) الدينوري ص 200 ، مقاتل الطالبيين ص 26.

(3) تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 206.

(4) اعيان الشيعة 4 / 43.

(5) نفس المصدر.

(6) مقاتل الطالبيين ص 26 ، شرح النهج 4 / 15.

(7) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 144 ، ومناقب ابن شهر اشوب 2 / 167.

(8) اعيان الشيعة 4 / 43 ، الطبري 6 / 97 ، علل الشرائع ص 81.

(9) البحار 10 / 101 ، تأريخ دول الإسلام 1 / 52 ، الامامة والسياسة ص 200 ، تاريخ ابن عساكر 4 / 221 ، وجاء فيه ان يعطيه خراج پسا ودارابجرد.

٢٢٩

10 ـ ان يعطيه ما في بيت مال الكوفة(1) ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل عام مائة الف(2) .

11 ـ ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق(3) .

هذه بنود الصلح ومواده التي ذكرها رواة الأثر اما ان الإمام قد اشترطها كلها او بعضها فسوف نذكر ذلك عند دراسة الشروط وتحليلها ، وقبل ان نلقي الستار على هذا الفصل لا بد لنا من التعرض الى انه فى اي مكان جرى الصلح وفى اي زمان نفذ؟

مكان الصلح :

اما المكان الذي جرى فيه الصلح فقد كان في مسكن حسب ما ذكرته اوثق المصادر ، ففي تلك البقعة ابرم الصلح ونفذ امام جمع حاشد من الجيش العراقي والشامى ، وذهب بعض المؤرخين إلى انه وقع في بيت المقدس(4) ، وذهب بعض آخر إلى انه وقع بأذرح من ارض الشام(5) وهذان القولان من الشذوذ بمكان فلا يعول عليهما.

__________________

(1) تأريخ دول الإسلام 1 / 53.

(2) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام ص 112.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 160.

(4) تأريخ الخميس 2 / 323 ، دائرة المعارف للبستاني 7 / 38.

(5) تذكرة الخواص ص 206.

٢٣٠

عام الصلح :

وكما اختلف المؤرخون في المكان الذي وقع فيه الصلح فقد اختلفوا في الزمان أيضا ، فقد قيل : إنه كان سنة 41 هجرية فى ربيع الأول ، وقيل : فى ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى ، وعلى الأول تكون خلافته خمسة أشهر ونصف ، وعلى الثاني فستة أشهر وأيام ، وعلى الثالث فسبعة أشهر وايام(1) ، وقيل : وقع الصلح سنة اربعين من الهجرة فى ربيع الأول(2) ، وقيل غير ذلك ، والأصح ان مدة خلافته كانت ستة اشهر حسب ما ذكره اكثر المؤرخين.

وعلى أي حال فقد اصطلح بعض المؤرخين على تسمية ذلك العام ـ الخالد في دنيا الأحزان ـ بتسميته بعام الجماعة ، نظرا لاجتماع كلمة المسلمين بعد الفرقة ، ووحدتهم بعد الاختلاف ، ولكن الحق ان هذه التسمية من باب تسمية الضد باسم ضده لأن المسلمين منذ ذلك العام قد وقعوا في شر عظيم ، وانصبت عليهم الفتن كقطع الليل المظلم ، حتى تغيرت معالم الدين ، وتبدلت سنن الإسلام ، وآلت الخلافة الإسلامية الى المصير المؤلم تنتقل بالوراثة من ظالم الى ظالم حتى اغرقت البلاد فى الدماء والماسي والشجون ، يقول الجاحظ : « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية

__________________

(1) تأريخ أبي الفداء 1 / 193.

(2) تهذيب التهذيب 2 / 299 ، وجاء فى الاستيعاب ان الإمام سلم الأمر الى معاوية فى النصف من جمادى الاولى سنة 41 ه‍ وكل من قال : إنه كان سنة اربعين فقد توهم ، وفي تأريخ سينا ان الامام تنازل عن الخلافة في 26 ربيع الثاني سنة 41 ه‍.

٢٣١

الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة منصبا قيصريا »(1) .

لقد انفتح باب الجور على مصراعيه منذ ذلك العام الذي تم فيه الملك الى ( كسرى العرب ) فقد لا فى المسلمون وخصوصا شيعة آل محمد (ص) من العناء والظلم والإرهاق ما لم يشاهد له التاريخ نظيرا فى فظاعته وقسوته يقول ابن أبي الحديد عما جرى على المسلمين بعد عام الصلح : « ولم يبق أحد من المؤمنين إلا وهو خائف على دمه أو مشرد في الأرض ، يطلب الأمن فلا يجده » ، وبعد هذا الظلم الشامل والجور المرهق هل يصح أن يسمى ذلك العام عام الجماعة والألفة؟

دراسة وتحليل :

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى تحقيق الشروط التي اشترطها الإمام على معاوية ، كما لا بد من دراستها والإحاطة بها ـ ولو إجمالا ـ لأنها قد احتوت على امور بالغة الأهمية ، فقد الغمت نصر معاوية ببارود ، وعادت عليه بالخزي ، واخرجته من حكام العدل الى حكام الجور والظالمين.

اما الشروط التي ذكرت فانا نؤمن بجميعها سوى شرطين ، وهما : ان يكون للإمام ما في بيت مال الكوفة ، ومنحه راتب سنوي له ، ولأخيه

اما ( الاول ) فهو بعيد لأن ما في خزانة الكوفة من الأمتعة والأموال قد كانت تحت قبضة الإمام وبيده ، يتصرف فيها حيثما اراد ، ولم تكن

__________________

(1) الغدير 10 / 227.

٢٣٢

محجوبة عنه أو ممنوعة عليه حتى يشترط على معاوية أن يمكنه منها ، على أنا نشك ان خزانة الدولة قد احتوت على أموال كثيرة لأن سياسة أهل البيت تقضي بصرف المال فورا على ما خصصه الإسلام لها.

وأما ( الثاني ) فهو بعيد لأن الإمام كان في غنى عن أموال معاوية ، وليس بحاجة لها ، ولو سلمنا ذلك فانه لا ضير على الإمام من أخذها ، لأن انقاذ أموال المسلمين من حكام الجور أمر لازم كما سنوضحه عند التعرض لسفر الإمام الى دمشق ، والذي أراه أن معاوية قد أعطى الامام فى بداية الأمر هذين الشرطين ، فتوهم بعض المؤرخين أنهما من جملة الشروط التي اشترطها الإمام عليه.

وعلى أي حال ، فان تلك الشروط كانت تهدف الى طلب الأمن العام ، والسلم الشامل لجميع المسلمين ، وتدعوهم في نفس الوقت الى اليقظة والتحرر من الاستعباد الأموي ، كما دلت على براعة الإمام في الاحتفاظ بحقه الشرعي ، والتدليل على غصب معاوية له ، وإنه لم يتنازل له عن حقه ، اما محتويات الشروط فهي كما يلي :

1 ـ العمل بكتاب الله :

ولم يخل الإمام بين معاوية وبين المسلمين يتصرف في شئونهم حيثما شاء ، فقد أخذ عليه أن لا يعدو الكتاب والسنة في سياسته وسياسة عماله ، ولو كان يراه يسير على ضوء القرآن ، ويسير على منهج الإسلام لما شرط عليه ذلك ، وجعله من أهم الشروط الأساسية التي ألزمه بها.

٢٣٣

2 ـ ولاية العهد :

وعالج الإمام نقطة مهمة في تلك المعاهدة ، وهي مصير الخلافة الاسلامية بعد هلاك معاوية ، فقد شرط عليه أن تكون الخلافة له ولأخيه من بعده ، وصرحت بعض المصادر ان الامام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعد هلاك معاوية ، وعلى كلا القولين فقد أرجع الامام الخلافة الى كيانها الرفيع ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه باتجاهاته السيئة ، وانه لا بد أن ينقل الخلافة الاسلامية من واقعها الى الملك العضوض ، ويجعلها في عقبه من شذاذ الآفاق والمجرمين ، فأراد الامام ايقاظ المجتمع ، وبعثه الى مناجزته إن قدم على ذلك.

3 ـ الأمن العام :

وأهم ما ينشده الإمام من تلكم الشروط هو بسط الأمن ، ونشر العافية بين جميع المسلمين سواء الأسود منهم والأحمر ، وقد دلّ ذلك على مدى حنانه وعطفه على جميع المسلمين ، كما نصت هذه المادة على أن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة مما قد مضى ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيعاملهم به من الارهاق والتنكيل انتقاما لما صدر منهم فى أيام صفين.

4 ـ عدم تسميته بأمير المؤمنين :

وفي رفض الامام (ع) تسمية معاوية بأمير المؤمنين تجربد له من

٢٣٤

السلطة الدينية عليه وعلى سائر المسلمين ، ولم يلتفت معاوية الى هذه الطعنة النجلاء ، فانه إذا لم يكن على الحسن أميرا لم تكن له بالطبع على المسلمين امرة أو سلطان ، وكان بذلك حاكم جور وبغي ، وقد جرده بذلك من منصب الامامة والخلافة ، وأثبت له الغصب لهذا المركز العظيم.

5 ـ عدم اقامة الشهادة :

وهذه المادة قد فضحت معاوية وأخزته ، ودلت على أنه من حكام الجور ، فان اقامة الشهادة حسب ما ذكره الفقهاء إنما تقام عند الحاكم الشرعي ، فهي من الوظائف المختصة به ، وإذا لم تصح إقامة الشهادة عند معاوية فهو ليس بحاكم عدل وإنما هو حاكم جور ، وحكام الجور لا يكون حكمهم نافذا ، ولا تصرفهم ماضيا عند الشرع ، ويجب على الأمّة أن تزيلهم عن هذا المنصب الذي انيط به حفظ الدماء ، وصيانة الاعراض ، وحفظ الأموال ، وفى هذا الشرط بيّن الامام أنه صاحب الحق ، وان معاوية غاصب له ،

6 ـ ترك سب أمير المؤمنين :

وأظهر (ع) بهذا الشرط تمادي معاوية فى الاثم ، فقد علم أنه لا يترك سبّ أمير المؤمنين والحطّ من كرامته ، فأراد (ع) أن يبيّن للمجتمع الاسلامى مدى استهتاره ، وعدم اعتنائه بشئون الإسلام وتعاليمه ، فان سب المسلم وانتقاصه قد حرّمه الاسلام ، ولكن ابن هند لم يقم للإسلام وزنا ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يسب أمير المؤمنين على رءوس الأشهاد

٢٣٥

كما سنبين ذلك عند التعرض لخرقه شروط الصلح. ولا يخفى أن الامام قد فضحه بهذا الشرط وأماط عنه الستر الصفيق الذي تستر به باسم الدين.

7 ـ الامن العام للشيعة :

كان الامام (ع) حريصا أشد الحرص على شيعته وشيعة أبيه ، فقد صالح معاوية حقنا لدمائهم ، وحفظا عليهم ، وقد اشترط على معاوية أن لا يتعرض لهم بمكروه وسوء ، وهذا الشرط عنده من أهم الشروط وأعظمها قال سماحة المغفور له آل ياسين : « واعتصم فيها ـ أي في المعاهدة ـ بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ، ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم امناء على مبدئه ، وانصارا مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه يوم يعود الحق الى نصابه »(1) .

إن أغلب الشروط التي اشترطها الامام كانت تهدف لصالح شيعته وضمان حقوقهم وعدم التعرض لهم بأذى أو مكروه.

8 ـ خراج دارابجرد :

واشترط الامام على معاوية أموالا خاصة ينفقها على شيعته وشيعة أبيه وهي خراج دارابجرد(2) والوجه في هذا التخصيص إن الذي يجلب الى الدولة من الأموال يسمى بعضه بالفيء ، وهو المال المأخوذ من الأراضي

__________________

(1) صلح الحسن ص 258.

(2) دارابجرد : اراض واسعة بفارس على حدود الأهواز قد فتحها المسلمون عنوة.

٢٣٦

المفتوحة عنوة ، وهذا يصرف على المصالح العامة ، وعلى الشؤون الاجتماعية وذلك كتحسين الجيش ، وإنشاء المؤسسات وما شاكل ذلك من المشاريع الحيوية ، وقسم من الأموال يسمى ( بالصدقة ) وهي الضرائب المالية التي فرضها الاسلام في اموال مخصوصة وانواع من الواردات يدور عليها رحى سوق التجارة في العالم فرضها على الأغنياء تجلب منهم وتدفع الى الفقراء لمكافحة الفقر وقلع بذور البؤس ، فقد قال (ص) : « أمرت في الصدقة ان آخذها من اغنيائكم واردها فى فقرائكم » ، وقد كره الحسن ان يأخذ من هذه الأموال لنفسه أو لشيعته ، اما له فانها محرمة عليه لأن الصدقة حرام على آل البيت ، واما كراهة اخذها لشيعته فلأن اموال الصدقة لا تخلو من حزازة عليهم لأنها اوساخ الناس ، وقد كره (ع) ان يأخذ منها لشيعته ، وخصّ ما يأخذه لهم من دارابجرد ، لأنها قد فتحت عنوة ، وما فتح عنوة فهو ليس بصدقة ، وبذلك قد اختار لشيعته من الأموال ما هو ابعد عن الشبهة الشرعية وهي خراج دارابجرد التي هي للمسلمين وعلى الامام أن ينفقها على صالحهم.

9 ـ عدم البغى عليهم :

ومن مواد المعاهدة أن لا يبغي معاوية للحسن والحسين ، ولا لأهل بيت النبي (ص) غائلة ، ولا يخيف أحدا منهم ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيبغيه لهم من الشر والمكر ، فكان من غوائله لهم أنه دس السم للإمام ـ كما سنبينه ـ فأراد الإمام بهذا الشرط وبغيره من بنود الصلح أن يكشف الستار عن معاوية ، ويبدي عاره وعياره ، وانه لا ذمة ولا حريجة له في الدين.

٢٣٧

هذه بعض بنود الصلح ، وقد حفلت بعناصر ذات أهمية بالغة دلت على براعة الإمام ، وقابلياته الفذة فى التغلب على خصمه ، يقول سماحة المغفور له آل ياسين فى هذه المعاهدة :

« ومن الحق أن نعترف للحسن بن علي على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين ، وحكام الاسلام اللامعين ، ولن يكون الحرمان يوما من الأيام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان دليلا على ضعف أو منفذا الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير ، وسمو الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.

وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل ، وها هي من لدن هذا الرجل تستجد ـ منذ الآن ـ ميدانها البكر القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمّة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه المعاهدة من خطوط وبما تستقبل به خصومها من شروط »(1) .

__________________

(1) صلح الحسن ص 257.

٢٣٨

موقف الإمام الحسين

٢٣٩
٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529