حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام0%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: دار البلاغة
تصنيف:

الصفحات: 529
المشاهدات: 188769
تحميل: 4119


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188769 / تحميل: 4119
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

بنود الصّلح

٢٢١
٢٢٢

واختلف المؤرخون اختلافا كثيرا فيمن بادر لطلب الصلح فأبن خالدون وجماعة من المؤرخين ذهبوا الى أن المبادر لذلك هو الامام الحسنعليه‌السلام بعد ما آل أمره الى الانحلال(1) ، وذهب فريق آخر الى أن معاوية هو الذي بادر لطلب الصلح بعد ما بعث إليه برسائل أصحابه المتضمنة للغدر والفتك به متى شاء معاوية أو أراد(2) ، وذكر السبط ابن الجوزي أن معاوية قد راسل الامام سرا يدعوه الى الصلح فلم يجبه ، ثم أجابه بعد ذلك(3) ، وأكبر الظن ان معاوية هو الذي استعجل الصلح وبادر إليه وذلك خوفا من العراقيين أن ترجع إليهم أحلامهم ، ويثوب إليهم رشدهم وذلك لما عرفوا به من سرعة الانقلاب وعدم الاستقامة على رأي ، ومما يدل على ان معاوية هو الذي ابتدأ في طلب الصلح ، خطاب الامام الحسن الذي ألقاه في المدائن فقد جاء فيه « ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة ».

__________________

(1) تاريخ ابن خالدون 2 / 186 ، وفي الاصابة انه لما طعن الامام بخنجر دعا عمرو بن سلمة الأرحبى وأرسله الى معاوية يشترط عليه ، وفي الكامل 3 / 205 قال لما رأى الامام الحسن تفرق الأمر عنه كتب الى معاوية ، وذكر ذلك ابن أبي الحديد 4 / 8.

(2) الارشاد ص 170 ، كشف الغمة ص 154 ، مقاتل الطالبيين ص 26

(3) تذكرة الخواص ص 206 ، وذكر الحاج احمد افندي في فضائل الأصحاب ص 157 انه يمكن الجمع بين الأخبار بأن معاوية أرسل له أولا في الصلح فكتب الحسن إليه ثانيا يطلب ما ذكر ، وأجملت بعض المصادر الأمر ، فقال اليعقوبي في تأريخه 2 / 192 : لما رأى الحسن أن لا قوة به وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية ، وكذا ذكر غيره.

٢٢٣

ومهما يكن من شيء فان تحقيق ذلك ليس بذي أهمية ، لأن الامام إن كان هو الذي استعجل الصلح فلا ضير عليه نظرا للمحن الشاقة التي أحاطت به حتى ألجأته الى المسالمة ، وإن كان معاوية هو الذي استعجل الصلح فلا ضير على الامام أيضا لما أوضحناه في أسباب الصلح ، والمهم البحث عن الشروط التي اشترطها الإمام على خصمه.

فقد اختلف التأريخ فيها اختلافا فاحشا ، واضطربت كلمات المؤرخين فى ذلك ، وفيما يلي بعض تلك الاقوال.

1 ـ ذكر بعض المؤرخين ان الامام أرسل سفيرين الى معاوية ، هما عمرو بن سلمة الهمداني ، ومحمد بن الأشعث الكندي ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده. فأعطاهما معاوية هذا الكتاب وهذا نصه :

« بسم الله الرحمن الرحيم : هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان ، إني صالحتك على ان لك الأمر من بعدي ، ولك عهد الله وميثاقه وذمته ، وذمة رسوله محمد (ص) ، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد ، لا أبغيك غائلة ولا مكروها ، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال ، وعلى أن لك خراج پسا ودارابجرد ، تبعث إليهما عمالك ، وتصنع بهما ما بدا لك ». شهد بها عبد الله بن عامر ، وعمرو بن سلمة الكندي ، وعبد الرحمن بن سمرة ، ومحمد ابن الأشعث الكندي ، كتب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى واربعين هجرية.

وتنص هذه الوثيقة على اعطاء معاوية للحسن ثلاثة أشياء :

1 ـ جعله ولي عهده.

2 ـ للإمام من بيت المال راتب سنوي ألف ألف درهم.

3 ـ منحه كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ، ويصنع بهما ما شاء.

٢٢٤

واحتفظ الامام برسالة معاوية ، فأرسل إليه رجلا من بني عبد المطلب وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل وأمّه اخت معاوية فقال له : ائت خالك وقل له إن أمنت الناس بايعتك.

ولما انتهى عبد الله الى معاوية وعرض عليه مهمة الامام وهي طلب الأمن العام لعموم الناس ، استجاب له وأعطاه طومارا وختم في أسفله وقال له : فليكتب الحسن فيه ما شاء ، فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق الى الامام ، فكتب (ع) ما رامه من الشروط ، وسنذكر نص ما كتبه عند التعرض لبعض الروايات ، لأنه لا يختلف عنها ، وقد عول على هذه الرواية الدكتور طه حسين(1) .

2 ـ وروى كل من الطبري وابن الأثير صورة غير هذه وخلاصتها ان الامام راسل معاوية فى الصلح واشترط عليه امورا فان التزم بها ونفذها أجرى الصلح وإلا فلا يبرمه ، فلما وصلت رسالة الامام الى معاوية أمسكها واحتفظ بها ، وكان معاوية قبل ورود هذه الرسالة عليه قد بعث للامام صحيفة بيضاء مختوما في أسفلها ، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت وقد وصلت هذه الصحيفة الى الامام بعد ما بعث الى معاوية الوثيقة التي سجل فيها ما أراده ، وسجل الامام في تلك الصحيفة البيضاء اضعاف الشروط التي اشترطها أولا ثم أمسكها ، فلما سلم له الأمر طلب منه الوفاء بالشروط التي اشترطها أخيرا ، فلم يف له بها وقال له : « لك ما كنت كتبت إليّ أولا تسألني أن أعطيكه فاني قد أعطيتك حين جاءني كتابك ، فقال له الحسن (ع) : وأنا قد اشترطت حين جاءني كتابك وأعطيتني العهد على

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 200.

٢٢٥

الوفاء بما فيه ، فاختلفا في ذلك ، فلم ينفذ للحسن من الشروط شيئا »(1) .

وهذه الرواية لم تذكر لنا الشروط التي اشترطها الامام « أولا » ولا ما سجله. « ثانيا » في الصحيفة البيضاء التي بعث بها معاوية إليه إلا أن أبا الفداء في تأريخه نص على الشروط الاولى التي اشترطها الامام فقال : « وكتب الحسن الى معاوية واشترط عليه شروطا وقال : إن أجبت إليها فأنا سامع مطيع ، فأجاب معاوية إليها ، وكان الذي طلبه الحسن أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة ، وخراج دارابجرد من فارس ، وأن لا يسب عليا ، فلم يجبه الى الكف عن سب علي فطلب الحسن أن لا يشتم عليا وهو يسمع فأجابه الى ذلك ، ثم لم يف له به »(2) .

وعندي ان ما ذكره ابن الأثير والطبري بعيد عن الصحة كل البعد وذلك لأن الشروط التي اشترطها الامام أخيرا إن كانت ذات أهمية بالغة فلما ذا أهملها ولم ينص عليها في بداية الأمر؟ ولو اغمضنا النظر عن ذلك فأي فائدة فى تسجيلها مع عدم اطلاع معاوية عليها وإقراره لها ، مضافا لذلك ان معاوية في تلك المرحلة لو سأله الإمام أي شيء لأجابه إليه.

3 ـ وروى ابن عبد البر : « ان الإمام كتب الى معاوية يخبره أنه يصيّر الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطلب أحدا من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه ، فأجابه معاوية وكاد يطير فرحا إلا أنه قال : أما عشرة انفس فلا أؤمنهم ، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه يقول : إني قد آليت متى ظفرت بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده ، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبدا وأنت تطلب قيسا

__________________

(1) الكامل 3 / 205 ، الطبري 6 / 93.

(2) تأريخ ابي الفداء 1 / 192.

٢٢٦

أو غيره بتبعة ، قلت : أو كثرت! فبعث إليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال : اكتب ما شئت فيه وأنا التزمه ، فاصطلحا على ذلك ، واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده ، فالتزم ذلك كله معاوية »(1) .

وقد احتوت هذه الرواية على أن أهم ما طلبه الامام الأمن العام لعموم اصحابه واصحاب أبيه ، ولا شك ان هذا الشرط من أوليات الشروط وأهمها عند الامام أما ان الصلح جرى بهذا اللون فأنا أشك في ذلك.

4 ـ وذكر جماعة من المؤرخين ان الإمام ومعاوية اصطلحا وارتضيا بما احتوته الوثيقة الآتية وقد وقّع عليها كل منهما وهذا نصها :

بسم الله الرحمن الرحيم

« هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على ان يعمل فيهم بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وسيرة الخلفاء الصالحين ، وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد الى احد من بعده عهدا ، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين ، وعلى ان الناس آمنون حيث كانوا من ارض الله فى شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى ان اصحاب علي وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم ، وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وما أخذ الله على احد من خلقه بالوفاء ، وبما اعطى الله من نفسه ، وعلى ان لا يبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من اهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ، ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق ، شهد عليه فلان ابن فلان بذلك ، وكفى

__________________

(1) الاستيعاب 1 / 370.

٢٢٧

بالله شهيدا »(1) .

وهذه الصورة افضل صورة وردت مبينة لكيفية الصلح فقد احتوت على امور مهمة يعود صالح الأكثر منها الى عموم المسلمين إلا انا نشك في ان ما احتوت عليه هذه الوثيقة هو مجموع ما طلبه الإمام واراده ، ونذكر فيما يلي مجموع الشروط التي ذكرها رواة الأثر وإن كان كل واحد منهم لم يذكرها بأسرها إلا ان بعضهم نص على طائفة منها ، والبعض الآخر ذكر طائفة اخرى ، وقد اعترف الفريقان ان ما ذكره كل واحد من الشروط ليس جميع ما اشترطه الإمام وإنما هي جزء من كل ، وها هي :

1 ـ تسليم الأمر الى معاوية على ان يعمل بكتاب الله ، وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) وسيرة الخلفاء الصالحين(3) .

2 ـ ليس لمعاوية ان يعهد بالأمر الى احد من بعده والأمر بعده للحسن(4)

__________________

(1) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 145 ، كشف الغمة للإربلي ص 170 البحار 10 / 115 ، فضائل الأصحاب ص 157 ، الصواعق المحرقة ص 81.

(2) ذكرت هذه المادة في صورة المعاهدة التي ذكرناها ، وذكرها ابن ابي الحديد في شرح النهج 4 / 8.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 159 ( الطبعة الثانية ) اخذه عن فتح الباري ، وصحيح البخاري.

(4) الاصابة 1 / 329 ، الطبقات الكبرى للشعراني ص 23 ، حياة الحيوان للدميري 1 / 57 ، تهذيب 2 / 229 ، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1 / 199 ، ذخائر العقبى ص 139 ، الامامة والسياسة 1 / 171 ، ينابيع المودة ص 293 ، وجاء فيه ان يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.

٢٢٨

فان حدث به حدث فالأمر للحسين(1) .

3 ـ الأمن العام لعموم الناس الأسود والأحمر منهم سواء فيه ، وان يحتمل عنهم معاوية ما يكون من هفواتهم ، وان لا يتبع احدا بما مضى ، وان لا يأخذ اهل العراق بإحنة(2) .

4 ـ ان لا يسميه امير المؤمنين(3) .

5 ـ ان لا يقيم عنده الشهادة(4) .

6 ـ ان يترك سب امير المؤمنين(5) وان لا يذكره إلا بخير(6) .

7 ـ ان يوصل الى كل ذي حق حقه(7) .

8 ـ الأمن لشيعة امير المؤمنين وعدم التعرض لهم بمكروه(8) .

9 ـ يفرق في أولاد من قتل مع ابيه في يوم الجمل وصفين الف الف درهم ، ويجعل ذلك من خراج دارابجرد(9) .

__________________

(1) عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب لجمال الحسني ص 52.

(2) الدينوري ص 200 ، مقاتل الطالبيين ص 26.

(3) تذكرة الخواص لابن الجوزي ص 206.

(4) اعيان الشيعة 4 / 43.

(5) نفس المصدر.

(6) مقاتل الطالبيين ص 26 ، شرح النهج 4 / 15.

(7) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 144 ، ومناقب ابن شهر اشوب 2 / 167.

(8) اعيان الشيعة 4 / 43 ، الطبري 6 / 97 ، علل الشرائع ص 81.

(9) البحار 10 / 101 ، تأريخ دول الإسلام 1 / 52 ، الامامة والسياسة ص 200 ، تاريخ ابن عساكر 4 / 221 ، وجاء فيه ان يعطيه خراج پسا ودارابجرد.

٢٢٩

10 ـ ان يعطيه ما في بيت مال الكوفة(1) ويقضي عنه ديونه ويدفع إليه في كل عام مائة الف(2) .

11 ـ ان لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأهل بيت رسول الله (ص) غائلة سرا ولا جهرا ولا يخيف احدا منهم في افق من الآفاق(3) .

هذه بنود الصلح ومواده التي ذكرها رواة الأثر اما ان الإمام قد اشترطها كلها او بعضها فسوف نذكر ذلك عند دراسة الشروط وتحليلها ، وقبل ان نلقي الستار على هذا الفصل لا بد لنا من التعرض الى انه فى اي مكان جرى الصلح وفى اي زمان نفذ؟

مكان الصلح :

اما المكان الذي جرى فيه الصلح فقد كان في مسكن حسب ما ذكرته اوثق المصادر ، ففي تلك البقعة ابرم الصلح ونفذ امام جمع حاشد من الجيش العراقي والشامى ، وذهب بعض المؤرخين إلى انه وقع في بيت المقدس(4) ، وذهب بعض آخر إلى انه وقع بأذرح من ارض الشام(5) وهذان القولان من الشذوذ بمكان فلا يعول عليهما.

__________________

(1) تأريخ دول الإسلام 1 / 53.

(2) جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام ص 112.

(3) البحار 10 / 115 ، النصائح الكافية ص 160.

(4) تأريخ الخميس 2 / 323 ، دائرة المعارف للبستاني 7 / 38.

(5) تذكرة الخواص ص 206.

٢٣٠

عام الصلح :

وكما اختلف المؤرخون في المكان الذي وقع فيه الصلح فقد اختلفوا في الزمان أيضا ، فقد قيل : إنه كان سنة 41 هجرية فى ربيع الأول ، وقيل : فى ربيع الآخر ، وقيل : في جمادى الأولى ، وعلى الأول تكون خلافته خمسة أشهر ونصف ، وعلى الثاني فستة أشهر وأيام ، وعلى الثالث فسبعة أشهر وايام(1) ، وقيل : وقع الصلح سنة اربعين من الهجرة فى ربيع الأول(2) ، وقيل غير ذلك ، والأصح ان مدة خلافته كانت ستة اشهر حسب ما ذكره اكثر المؤرخين.

وعلى أي حال فقد اصطلح بعض المؤرخين على تسمية ذلك العام ـ الخالد في دنيا الأحزان ـ بتسميته بعام الجماعة ، نظرا لاجتماع كلمة المسلمين بعد الفرقة ، ووحدتهم بعد الاختلاف ، ولكن الحق ان هذه التسمية من باب تسمية الضد باسم ضده لأن المسلمين منذ ذلك العام قد وقعوا في شر عظيم ، وانصبت عليهم الفتن كقطع الليل المظلم ، حتى تغيرت معالم الدين ، وتبدلت سنن الإسلام ، وآلت الخلافة الإسلامية الى المصير المؤلم تنتقل بالوراثة من ظالم الى ظالم حتى اغرقت البلاد فى الدماء والماسي والشجون ، يقول الجاحظ : « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية

__________________

(1) تأريخ أبي الفداء 1 / 193.

(2) تهذيب التهذيب 2 / 299 ، وجاء فى الاستيعاب ان الإمام سلم الأمر الى معاوية فى النصف من جمادى الاولى سنة 41 ه‍ وكل من قال : إنه كان سنة اربعين فقد توهم ، وفي تأريخ سينا ان الامام تنازل عن الخلافة في 26 ربيع الثاني سنة 41 ه‍.

٢٣١

الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه ( عام الجماعة ) وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا ، والخلافة منصبا قيصريا »(1) .

لقد انفتح باب الجور على مصراعيه منذ ذلك العام الذي تم فيه الملك الى ( كسرى العرب ) فقد لا فى المسلمون وخصوصا شيعة آل محمد (ص) من العناء والظلم والإرهاق ما لم يشاهد له التاريخ نظيرا فى فظاعته وقسوته يقول ابن أبي الحديد عما جرى على المسلمين بعد عام الصلح : « ولم يبق أحد من المؤمنين إلا وهو خائف على دمه أو مشرد في الأرض ، يطلب الأمن فلا يجده » ، وبعد هذا الظلم الشامل والجور المرهق هل يصح أن يسمى ذلك العام عام الجماعة والألفة؟

دراسة وتحليل :

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى تحقيق الشروط التي اشترطها الإمام على معاوية ، كما لا بد من دراستها والإحاطة بها ـ ولو إجمالا ـ لأنها قد احتوت على امور بالغة الأهمية ، فقد الغمت نصر معاوية ببارود ، وعادت عليه بالخزي ، واخرجته من حكام العدل الى حكام الجور والظالمين.

اما الشروط التي ذكرت فانا نؤمن بجميعها سوى شرطين ، وهما : ان يكون للإمام ما في بيت مال الكوفة ، ومنحه راتب سنوي له ، ولأخيه

اما ( الاول ) فهو بعيد لأن ما في خزانة الكوفة من الأمتعة والأموال قد كانت تحت قبضة الإمام وبيده ، يتصرف فيها حيثما اراد ، ولم تكن

__________________

(1) الغدير 10 / 227.

٢٣٢

محجوبة عنه أو ممنوعة عليه حتى يشترط على معاوية أن يمكنه منها ، على أنا نشك ان خزانة الدولة قد احتوت على أموال كثيرة لأن سياسة أهل البيت تقضي بصرف المال فورا على ما خصصه الإسلام لها.

وأما ( الثاني ) فهو بعيد لأن الإمام كان في غنى عن أموال معاوية ، وليس بحاجة لها ، ولو سلمنا ذلك فانه لا ضير على الإمام من أخذها ، لأن انقاذ أموال المسلمين من حكام الجور أمر لازم كما سنوضحه عند التعرض لسفر الإمام الى دمشق ، والذي أراه أن معاوية قد أعطى الامام فى بداية الأمر هذين الشرطين ، فتوهم بعض المؤرخين أنهما من جملة الشروط التي اشترطها الإمام عليه.

وعلى أي حال ، فان تلك الشروط كانت تهدف الى طلب الأمن العام ، والسلم الشامل لجميع المسلمين ، وتدعوهم في نفس الوقت الى اليقظة والتحرر من الاستعباد الأموي ، كما دلت على براعة الإمام في الاحتفاظ بحقه الشرعي ، والتدليل على غصب معاوية له ، وإنه لم يتنازل له عن حقه ، اما محتويات الشروط فهي كما يلي :

1 ـ العمل بكتاب الله :

ولم يخل الإمام بين معاوية وبين المسلمين يتصرف في شئونهم حيثما شاء ، فقد أخذ عليه أن لا يعدو الكتاب والسنة في سياسته وسياسة عماله ، ولو كان يراه يسير على ضوء القرآن ، ويسير على منهج الإسلام لما شرط عليه ذلك ، وجعله من أهم الشروط الأساسية التي ألزمه بها.

٢٣٣

2 ـ ولاية العهد :

وعالج الإمام نقطة مهمة في تلك المعاهدة ، وهي مصير الخلافة الاسلامية بعد هلاك معاوية ، فقد شرط عليه أن تكون الخلافة له ولأخيه من بعده ، وصرحت بعض المصادر ان الامام اشترط عليه أن يكون الأمر شورى بين المسلمين بعد هلاك معاوية ، وعلى كلا القولين فقد أرجع الامام الخلافة الى كيانها الرفيع ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه باتجاهاته السيئة ، وانه لا بد أن ينقل الخلافة الاسلامية من واقعها الى الملك العضوض ، ويجعلها في عقبه من شذاذ الآفاق والمجرمين ، فأراد الامام ايقاظ المجتمع ، وبعثه الى مناجزته إن قدم على ذلك.

3 ـ الأمن العام :

وأهم ما ينشده الإمام من تلكم الشروط هو بسط الأمن ، ونشر العافية بين جميع المسلمين سواء الأسود منهم والأحمر ، وقد دلّ ذلك على مدى حنانه وعطفه على جميع المسلمين ، كما نصت هذه المادة على أن لا يتبع أحدا بما مضى ، وأن لا يأخذ أهل العراق بإحنة مما قد مضى ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيعاملهم به من الارهاق والتنكيل انتقاما لما صدر منهم فى أيام صفين.

4 ـ عدم تسميته بأمير المؤمنين :

وفي رفض الامام (ع) تسمية معاوية بأمير المؤمنين تجربد له من

٢٣٤

السلطة الدينية عليه وعلى سائر المسلمين ، ولم يلتفت معاوية الى هذه الطعنة النجلاء ، فانه إذا لم يكن على الحسن أميرا لم تكن له بالطبع على المسلمين امرة أو سلطان ، وكان بذلك حاكم جور وبغي ، وقد جرده بذلك من منصب الامامة والخلافة ، وأثبت له الغصب لهذا المركز العظيم.

5 ـ عدم اقامة الشهادة :

وهذه المادة قد فضحت معاوية وأخزته ، ودلت على أنه من حكام الجور ، فان اقامة الشهادة حسب ما ذكره الفقهاء إنما تقام عند الحاكم الشرعي ، فهي من الوظائف المختصة به ، وإذا لم تصح إقامة الشهادة عند معاوية فهو ليس بحاكم عدل وإنما هو حاكم جور ، وحكام الجور لا يكون حكمهم نافذا ، ولا تصرفهم ماضيا عند الشرع ، ويجب على الأمّة أن تزيلهم عن هذا المنصب الذي انيط به حفظ الدماء ، وصيانة الاعراض ، وحفظ الأموال ، وفى هذا الشرط بيّن الامام أنه صاحب الحق ، وان معاوية غاصب له ،

6 ـ ترك سب أمير المؤمنين :

وأظهر (ع) بهذا الشرط تمادي معاوية فى الاثم ، فقد علم أنه لا يترك سبّ أمير المؤمنين والحطّ من كرامته ، فأراد (ع) أن يبيّن للمجتمع الاسلامى مدى استهتاره ، وعدم اعتنائه بشئون الإسلام وتعاليمه ، فان سب المسلم وانتقاصه قد حرّمه الاسلام ، ولكن ابن هند لم يقم للإسلام وزنا ، فقد أخذ بعد إبرام الصلح يسب أمير المؤمنين على رءوس الأشهاد

٢٣٥

كما سنبين ذلك عند التعرض لخرقه شروط الصلح. ولا يخفى أن الامام قد فضحه بهذا الشرط وأماط عنه الستر الصفيق الذي تستر به باسم الدين.

7 ـ الامن العام للشيعة :

كان الامام (ع) حريصا أشد الحرص على شيعته وشيعة أبيه ، فقد صالح معاوية حقنا لدمائهم ، وحفظا عليهم ، وقد اشترط على معاوية أن لا يتعرض لهم بمكروه وسوء ، وهذا الشرط عنده من أهم الشروط وأعظمها قال سماحة المغفور له آل ياسين : « واعتصم فيها ـ أي في المعاهدة ـ بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ، ووفائهم مع أبيه ، وليحتفظ بهم امناء على مبدئه ، وانصارا مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه يوم يعود الحق الى نصابه »(1) .

إن أغلب الشروط التي اشترطها الامام كانت تهدف لصالح شيعته وضمان حقوقهم وعدم التعرض لهم بأذى أو مكروه.

8 ـ خراج دارابجرد :

واشترط الامام على معاوية أموالا خاصة ينفقها على شيعته وشيعة أبيه وهي خراج دارابجرد(2) والوجه في هذا التخصيص إن الذي يجلب الى الدولة من الأموال يسمى بعضه بالفيء ، وهو المال المأخوذ من الأراضي

__________________

(1) صلح الحسن ص 258.

(2) دارابجرد : اراض واسعة بفارس على حدود الأهواز قد فتحها المسلمون عنوة.

٢٣٦

المفتوحة عنوة ، وهذا يصرف على المصالح العامة ، وعلى الشؤون الاجتماعية وذلك كتحسين الجيش ، وإنشاء المؤسسات وما شاكل ذلك من المشاريع الحيوية ، وقسم من الأموال يسمى ( بالصدقة ) وهي الضرائب المالية التي فرضها الاسلام في اموال مخصوصة وانواع من الواردات يدور عليها رحى سوق التجارة في العالم فرضها على الأغنياء تجلب منهم وتدفع الى الفقراء لمكافحة الفقر وقلع بذور البؤس ، فقد قال (ص) : « أمرت في الصدقة ان آخذها من اغنيائكم واردها فى فقرائكم » ، وقد كره الحسن ان يأخذ من هذه الأموال لنفسه أو لشيعته ، اما له فانها محرمة عليه لأن الصدقة حرام على آل البيت ، واما كراهة اخذها لشيعته فلأن اموال الصدقة لا تخلو من حزازة عليهم لأنها اوساخ الناس ، وقد كره (ع) ان يأخذ منها لشيعته ، وخصّ ما يأخذه لهم من دارابجرد ، لأنها قد فتحت عنوة ، وما فتح عنوة فهو ليس بصدقة ، وبذلك قد اختار لشيعته من الأموال ما هو ابعد عن الشبهة الشرعية وهي خراج دارابجرد التي هي للمسلمين وعلى الامام أن ينفقها على صالحهم.

9 ـ عدم البغى عليهم :

ومن مواد المعاهدة أن لا يبغي معاوية للحسن والحسين ، ولا لأهل بيت النبي (ص) غائلة ، ولا يخيف أحدا منهم ، وإنما شرط عليه ذلك لعلمه بما سيبغيه لهم من الشر والمكر ، فكان من غوائله لهم أنه دس السم للإمام ـ كما سنبينه ـ فأراد الإمام بهذا الشرط وبغيره من بنود الصلح أن يكشف الستار عن معاوية ، ويبدي عاره وعياره ، وانه لا ذمة ولا حريجة له في الدين.

٢٣٧

هذه بعض بنود الصلح ، وقد حفلت بعناصر ذات أهمية بالغة دلت على براعة الإمام ، وقابلياته الفذة فى التغلب على خصمه ، يقول سماحة المغفور له آل ياسين فى هذه المعاهدة :

« ومن الحق أن نعترف للحسن بن علي على ضوء ما أثر عنه من تدابير ودساتير هي خير ما تتوصل إليه اللباقة الدبلوماسية لمثل ظروفه من زمانه وأهل زمانه بالقابليات السياسية الرائعة التي لو قدر لها أن تلي الحكم في ظرف غير هذا الظرف ، وفي شعب أو بلاد رتيبة بحوافزها ودوافعها لجاءت بصاحبها على رأس القائمة من السياسيين المحنكين ، وحكام الاسلام اللامعين ، ولن يكون الحرمان يوما من الأيام ، ولا الفشل في ميدان من الميادين بدوافعه القائمة على طبيعة الزمان دليلا على ضعف أو منفذا الى نقد ، ما دامت الشواهد على بعد النظر وقوة التدبير ، وسمو الرأي ، كثيرة متضافرة تكبر على الريب وتنبو عن النقاش.

وللقابليات الشخصية مضاؤها الذي لا يعدم مجال العمل ، مهما حدّ من تيارها الحرمان أو ثنى من عنانها الفشل ، وها هي من لدن هذا الرجل تستجد ـ منذ الآن ـ ميدانها البكر القائم على الفكرة الجديدة القائمة على صيانة حياة أمّة بكاملها في حاضرها ومستقبلها ، بما تضعه المعاهدة من خطوط وبما تستقبل به خصومها من شروط »(1) .

__________________

(1) صلح الحسن ص 257.

٢٣٨

موقف الإمام الحسين

٢٣٩
٢٤٠