حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام0%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

مؤلف: باقر شريف القرشي
الناشر: دار البلاغة
تصنيف:

الصفحات: 529
المشاهدات: 188812
تحميل: 4119


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188812 / تحميل: 4119
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

من التكريم والحفاوة بقيس ، فالتفت الى معاوية قائلا :

« لا تأته هذا وقاتله!! »

ولم يخف على معاوية حقد ابن العاص لقيس وعدم نصحه في مقاله فأجابه :

« على رسلك فانا لا نخلص الى قتلهم حتى يقتل اعدادهم من أهل الشام فما خير في العيش بعد ذلك واني والله لا أقاتله أبدا حتى لا أجد من قتاله بدّا ».

وأوصل الرسول الطومار الى قيس ، وابلغه بمقالة معاوية ، فتأمل قيس وأطال التفكير ، وأخيرا لم يجد بدا من الدخول فيما دخل فيه الناس إذ لم تكن عنده قوة يستطيع بها على مناجزة معاوية ، ولم يكن هناك ركن شديد يأوى إليه حتى يتخلص من بيعته ، فأجاب الرسول بالموافقة وسجل في الطومار الأمان له ولشيعته ، ولم يسأل غير ذلك(1) ولكنه امتنع من الاجتماع معه لأنه قد عاهد الله أن لا يجتمع معه إلا وبينهما السيف والرمح فلما علم معاوية ذلك أمر باحضار سيف ورمح ليجعل بينهما حتى يبر قيس بيمينه ولا يحنث ، فعند ذلك التجأ قيس الى الاجتماع به فأقبل وقد أحاطت به الجماهير ، وشخصت نحوه الأبصار ، وهو مطأطئ الرأس ، مثقل الخطى لا يبصر طريقه من الأسى والذل ، يتنفس فيلفظ شظايا قلبه مع أنفاسه ، ولما استقر به المجالس التفت الى الجموع الحاشدة قائلا :

« يا معشر الناس ، لقد اعتضتم الشر من الخير ، واستبدلتم الذل من العز ، والكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين وسيد المسلمين ، وابن عم رسول رب العالمين ، وقد وليكم الطليق ابن الطليق ، يسومكم الخسف ، ويسير فيكم بالسيف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم ، أم

__________________

(1) الكامل 3 / 207 ، الطبري 6 / 94.

٢٦١

طبع الله على قلوبكم وأنتم لا تعقلون »(1) .

ثم التفت الى الإمام (ع) وقد استولى عليه الذل والانكسار قائلا بصوت خفيض وبنبرات مرتعشة.

« أفي حل أنا من بيعتك؟ »

والتاع الإمام أشد اللوعة من حديث قيس فأجابه بكلمة واحدة :

« نعم ».

ولم يكتف معاوية بذلك فقد دفعته الوقاحة وصفاقة الوجه ، وضيق الوعاء أن يقول له :

« أتبايع يا قيس؟ »

فأجابه بصوت خافت حزين :

« نعم ».

ثم أطرق برأسه ووضع يده على فخذه لم يمدها إليه ، وقام معاوية من سريره وأكب عليه ومسح يده ، وقيس لم يرفع يده.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن اجتماع الإمام بمعاوية ، وقد كان الاجتماع من أعظم المحن وأقساها عليه ، وأقبل (ع) بعد ذلك يتهيأ للسفر الى يثرب ليترك العراق الذي غدر به وبأبيه من قبل ، فلم يف لهما بعهد ووعد يتركه الى معاوية ولبني أميّة يتصرفون فيه حسبما شاءت لهم أهواؤهم الخاصة ، فقد أخرجوه من الدعة والرفاهية والأمن ، الى الشدة والقسوة والعذاب ، وجعل العراقيون بعد نزوح الإمام عنهم يذكرون أيام حياتهم تحت ظلال الحكومة الهاشمية فيحزنون أشد الحزن ، ويندمون أشد الندم على تفريطهم في جنب أمير المؤمنين ، وولده الإمام الحسنعليهما‌السلام .

__________________

(1) اليعقوبي 2 / 192.

٢٦٢

المندّدون بالصّلح

٢٦٣
٢٦٤

ولم تقتصر محنة الإمام وبلواه الخالدة على ما لاقاه من عظيم البلاء وشدة المحنة في صلحه مع معاوية واجتماعه به ، فقد تجاوز بلاؤه الى ما هو أعظم من ذلك وأشد أثرا في نفسه وهو كلام المنددين بصلحه من أعدائه وأصحابه فقد جابهوه بكلام أشد عليه من وقع الحسام المهند ، فقد رأى منهم غلظة فى القول وقسوة في الحديث وجفاء أي جفاء ، فاستاء (ع) من شيعته أكثر مما استاء من اعدائه لأنهم على علم بالظروف السود ، والعوامل المرة التي ألجأته الى الصلح والهدنة ، وفيما يلي كلام المنددين في ذلك مع جواب الإمام (ع) لهم.

1 ـ حجر بن عدي :

وأقبل بطل العقيدة ومثال الإيمان حجر بن عدي الى الامام وقد مشت الرعدة بأوصاله ، واستولى عليه الحزن قائلا :

« أما والله ، لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم ، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا ».

ولا أدري كيف فاه حجر بهذا الكلام القاسي وهو أعلم بمركز الإمام وبواقعه من غيره ، وأدرى بالظروف العصيبة والمصاعب الشديدة التي أحاطت به (ع) حتى اضطرته الى الصلح ، ولكنه يعذر لأن لوعة المصاب وذهول النفس تخرج الإنسان عن موازين الاعتدال والاستقامة ، وقام الإمام (ع) فأخذ بيد حجر واختلى به في زاوية من زوايا البيت فبيّن له الحكمة التي من أجلها صالح معاوية قائلا :

« يا حجر ، قد سمعت كلامك في مجلس معاوية ، وليس كل انسان يحب ما تحب ، ولا رأيه كرأيك ، وإني لم أفعل إلا إبقاء عليكم ، والله

٢٦٥

تعالى كل يوم فى شأن »(1) .

وقد أبان (ع) عدم وجود المخلصين له فى الجيش العراقي ولو كان هناك أمثال حجر فى عقيدته وايمانه ورأيه واخلاصه لما صالح معاوية ، كما بيّن (ع) انه إنما صالح خصمه محافظة على حجر وأمثاله من المؤمنين.

2 ـ عدي بن حاتم :

وعدي بن حاتم هو الفذ المثالي الذي ضرب الرقم القياسي للعقيدة والايمان والفداء فى سبيل الله ، وقد اندفع هذا الصحابي العظيم بثورة نفسية عارمة الى انكار الصلح ، وكانت لهجة حديثه لهجة مؤدب كامل ، فقال للإمام وقد ذابت حشاه من الحزن والمصاب :

« يا ابن رسول الله ، لوددت أني مت قبل ما رأيت ، أخرجتنا من العدل الى الجور ، فتركنا الحق الذي كنّا عليه ، ودخلنا في الباطل الذي كنّا نهرب منه ، وأعطينا الدنية من أنفسنا ، وقبلنا الخسيس التي لم تلق بنا ».

وترك كلام عدي في نفس الامام بالغ الأسى والحزن ، فانبرى (ع) مبينا له العلة التي صالح من أجلها قائلا :

« يا عدي ، إني رأيت هوى معظم الناس في الصلح ، وكرهوا الحرب فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون ، فرأيت دفع هذه الحروب الى يوم ما فان الله كل يوم هو في شأن ».

وأعرب (ع) في جوابه عن سأم جيشه من الحرب ، وحبه للعافية وايثاره للسلم ، وإنه عازم على إثارة الحرب ومناجزة معاوية ، ولكن في

__________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب 2 / 169.

٢٦٦

وقت مناسب يضمن له النجاح والنصر ، ولم يقتنع عدي بكلام الامام ، فمضى وهو مثقل الخطى نحو الإمام الحسين (ع) وقلبه يلتهب نارا وحماسا وكان معه عبيدة بن عمر ، فلما انتهى الى الإمام قال له بنبرات تقطر حماسا وعزما الى اثارة الحرب.

« يا أبا عبد الله شريتم الذل بالعز ، وقبلتم القليل وتركتم الكثير ، أطعنا اليوم وأعصنا الدهر ، دع الحسن وما رأى من هذا الصلح ، وأجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وغيرها ، وولني وصاحبي هذه المقدمة ، فلا يشعر ابن هند إلا ونحن نقارعه بالسيوف ».

فقال له (ع) :

« إنا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل لنقض بيعتنا »(1) .

3 ـ المسيب بن نجبة :

والمسيب بن نجبة(2) من عيون المؤمنين وخيار الصالحين الذين عرفوا بالولاء والاخلاص لآل البيت (ع) وقد تأثر من الصلح وتألم بكل ما للتألم من معنى فقد أقبل الى الامام وهو محزون النفس مكلوم القلب قائلا : « ما ينقضي تعجبي منك!!! بايعت معاوية ومعك اربعون ألفا ،

__________________

(1) الدينوري ص 203.

(2) المسيب بن بجبة : كوفي روى عن أمير المؤمنين (ع) وحذيفة ، وروى عنه جماعة ، خرج مع سليمان بن صرد في الطلب بثأر الحسين فقتل سنة 65 ه‍ وقال ابن سعد : في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ، المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح ، شهد القادسية ، ومشاهد علي (ع) ، وقتل يوم عين الوردة ، وقال العسكري : روى المسيب عن النبي (ص) مرسلا وليست له صحبة ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب 10 / 154.

٢٦٧

ولم تأخذ لنفسك وثيقة ، وعهدا ظاهرا ، أعطاك أمرا فيما بينك وبينه ، ثم قال : ما قد سمعت ، والله ما أراد بها غيرك ».

فقال له الامام : « ما ترى؟ »

« أرى أن ترجع الى ما كنت عليه ، فقد كان نقض ما بينك وبينه »

فانبرى إليه الإمام مبينا له أن المصلحة كانت تقضي بالصلح قائلا :

« يا مسيب ، إني لو أردت ـ بما فعلت ـ الدنيا لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ، ولا أثبت عند الحرب مني ، ولكني أردت صلاحكم ، وكف بعضكم عن بعض »(1) .

وأعرب الإمام (ع) في حديثه أنه لو كان من طلاب الدنيا وعشاق الملك والسلطان ما كان معاوية بأصبر منه ، ولا أثبت في الحرب ، ولكن الانتصار عليه يتوقف على الاعتماد على الطرق التي لا يقرها الدين كالمواربة والمداهنة والخداع وما شاكل ذلك ، ولكنه (ع) أبى أن يسلك ذلك وسار على خطة أبيه الداعية الى ملازمة الحق والعدل ، ومتابعة الشرع.

4 ـ مالك بن ضمرة :

ودخل على الإمام مالك بن ضمرة(2) فتكلم معه بكلام مرّ كان في

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 2 / 225.

(2) مالك بن ضمرة الضمري : كان معروفا بسعة العلم والفضل ، وكان ملازما للصحابي العظيم أبي ذر ، وقد أدرك النبي (ص) ، ولمّا حضرته الوفاة أوصى بسلاحه الى المجاهدين من بني ضمرة ، واشترط عليهم أن لا يقاتلوا به أهل البيت (ع). فقال له أخوه : يا أخي عند الموت تقول هذا؟ فقال له : هو ذاك ، ولما أقبل سيد الشهداء الى العراق وخرج أهل الكوفة لقتاله ، جاء أحد أعوان ابن زياد الى موسى بن مالك مستعيرا منه رمح أبيه ليقاتل به ريحانة ـ

٢٦٨

منتهى الشدة فأجابه الامام (ع).

« إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض ، فأردت أن يكون للدين ناعي »(1) .

وأدلى الامام (ع) في حديثه عن حرصه على دماء المسلمين وانه لو فتح باب الحرب بينه وبين معاوية لما بقي مسلم على وجه الأرض ، فصالح حفظا على دماء المسلمين وابقاء عليهم.

5 ـ سفيان بن أبي ليلى :

وسفيان بن أبي ليلى كان ممن يدين بفكرة الخوارج ، فقد دخل على الامام وتكلم بكلمات تنمّ عن نفس مترعة بالجفاء والجهل قائلا :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين » ،

فتأثر (ع) منه واندفع قائلا :

« ويحك أيها الخارجي ، لا تعنفني ، فان الذي أحوجني الى ما فعلت قتلكم أبي ، وطعنكم إياي ، وانتهابكم متاعي ، وإنكم لما سرتم الى صفين كان دينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم اليوم ودنيا كم أمام دينكم ، ويحك أيها الخارجي!!! إني رأيت أهل الكوفة قوما لا يوثق بهم ، وما اعتز بهم إلا من ذل ، وليس أحد منهم يوافق رأي الآخر ، ولقد لقى أبي منهم امورا صعبة ، وشدائدا مرّة وهي أسرع البلاد خرابا ، وأهلها هم الذين

__________________

ـ رسول الله ، فأعطاه إياه ، فلما خرج قالت إليه امرأة من أهله : يا موسى أما تذكر وصية أبيك ، فلما سمع بذلك طلبه حتى أخذ منه الرمح فكسره ، جاء ذلك فى الاصابة 3 / 460.

(1) البحار.

٢٦٩

فرقوا دينهم وكانوا شيعا »(1) .

6 ـ بشير الهمداني :

ودخل بشير الهمداني على الامام وكان (ع) في يثرب فقال له :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين ».

« وعليك السلام ، اجلس ».

فلما استقر به المجالس التفت (ع) له قائلا :

« لست مذلاّ للمؤمنين ، ولكني معزّهم ، ما أردت بمصالحتي إلا أن أدفع عنكم القتل عند ما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال »(2) .

7 ـ سليمان بن صرد :

وسليمان بن صرد من صفوة أصحاب الامام في إيمانه وعقيدته وولائه لآل البيتعليهم‌السلام ، ولم يكن حاضرا في المدائن حينما جرى الصلح فلما وافته الأنباء المؤلمة توجه الى الامام وكان في يثرب فلما انتهى إليه اندفع قائلا :

« السلام عليك يا مذل المؤمنين ».

« عليك السلام ، اجلس ».

فلما جلس اندفع قائلا :

« إن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك لمعاوية!! ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز ، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد ، ولا حظا من

__________________

(1) تذكرة الخواص ص 207 ، وروى ابن أبي الحديد في شرح النهج والكشي فى رجاله صورة أخرى غير هذه الصورة.

(2) الدينوري ص 203.

٢٧٠

القضية ، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت ، وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق كنت كتبت عليه بذلك كتابا ، وأشهدت عليه شهودا من أهل المشرق والمغرب ، أن هذا الأمر لك من بعده ، كان الأمر علينا أيسر ، ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله ، ثم قال وزعم على رءوس الناس ما قد سمعت : إني كنت شرطت لقوم شروطا ، ووعدتهم عدات ، ومنيتهم أماني ، إرادة إطفاء نار الحرب ، ومداراة لهذه الفتنة ، إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا ، فان كل ما هنالك تحت قدمي هاتين ، والله ما أعنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه ، فأعد للحرب خدعة ، واذن لي أشخص الى الكوفة ، فأخرج عامله منها ، وأظهر فيها خلعه ، وأنبذ إليه على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين ».

وقد دلّ حديث سليمان على ولائه واخلاصه للإمام (ع) وقد حفزه الى الثورة على حكومة معاوية ونقض البيعة لأنه لم يف بالعهد ولم يلتزم ببنود الصلح ، كما أعلن ذلك أمام الرأي العام ، وصادف حديث سليمان هوى في نفوس من حضر نادي الامام فهتفوا بالتأييد لمقالته قائلين :

« ابعث سليمان بن صرد ، وابعثنا معه ، ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله ، وأظهرنا خلعه ».

ولما كانت المصلحة العامة للمسلمين لا تساعد على خلع معاوية ونقض المعاهدة ، لأن ذلك غير ممكن نظرا لتلبد الجو بالفتن والاضطرابات ، ولقلة الناصر ، وخذلان المحب ، وكثرة العدو ، فقد أمرهم (ع) بالسكون وهدّأ ثورتهم النفسية قائلا لهم بعد حمد الله والثناء عليه :

« أما بعد : فإنكم شيعتنا ، وأهل مودتنا ، ومن نعرفه بالنصيحة والصحبة والاستقامة لنا ، وقد فهمت ما ذكرتم ، ولو كنت بالحزم في

٢٧١

أمر الدنيا. وللدنيا أعمل وأنصب ، ما كان معاوية بأبأس مني بأسا ، وأشد شكيمة ، ولكان رأيي غير ما رأيتم ، ولكني أشهد وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم ، وإصلاح ذات بينكم ، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله ، وسلموا الأمر لله ، والزموا بيوتكم ، وكفوا أيديكم ، حتى يستريح بر ، أو يستراح من فاجر ، مع ان أبي كان يحدثني أن معاوية سيلي الأمر ، فو الله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر إن الله لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، وأما قولك : يا مذل المؤمنين. فو الله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلي من أن تعزوا وتقتلوا ، فان رد الله علينا حقنا فى عافية قبلنا ، وسألنا الله العون على أمره وان صرفه عنا رضينا وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا فليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته ، ما دام معاوية حيا ، فان يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا ، والمعونة على أمرنا ، وأن لا يكلنا الى أنفسنا ، فان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. »(1)

لقد أمر الامام شيعته بالخلود الى الصبر والسكون ما دام معاوية في قيد الحياة ، وعلل صلحه بأمور تقدم بيانها بالتفصيل.

8 ـ عبد الله بن الزبير :

وعبد الله بن الزبير وغد خبيث عرف بالبغض والعداء لآل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عاب على الامام صلحه مع معاوية ، فأجابه (ع) قائلا :

« وتزعم أني سلمت الأمر ، وكيف يكون ذلك ـ ويحك ـ كذلك وانا ابن أشجع العرب ، وقد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين ، لم أفعل

__________________

(1) المحاسن والمساوئ للبيهقي 1 / 60 ـ 65.

٢٧٢

ذلك ـ ويحك ـ جبنا ولا ضعفا ، ولكنه بايعني مثلك ، وهو يطلبني بترة ويداجيني المودة ، ولم أثق بنصرته ».

لقد اتهم ابن الزبير الإمام بالجبن ، وحاشاه من ذلك ، فمن أين جاءه الجبن « أمن أبيه أسد الله وأسد رسوله ، أم من جديه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيخ البطحاء ، أم من عميه سيدي الشهداء العظمين حمزة وجعفر ، أم من أخيه أبي الشهداء ، أم من مواقفه المشهورة في مختلف الميادين ، يوم الدار ، ويوم البصرة ، وفى مظلم ساباط ، وهو ذلك الرئبال الذي ( إذا سار سار الموت حيث يسير ) على حد تعبير عدوه فيه؟؟ ».

9 ـ أبو سعيد :

وأقبل أبو سعيد إلى الإمام يعاتبه على صلحه ، ويؤنبه على ذلك قائلا :

« يا ابن رسول الله لم هادنت معاوية وصالحته ، وقد علمت أن الحق لك دونه ، وان معاوية ضال باغ؟ »

ـ يا أبا سعيد ألست حجة الله على خلقه ، وإماما عليهم بعد أبي؟

ـ بلى.

ـ يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبنى ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.

يا أبا سعيد ، إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى الخضر لمّا خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، سخط موسى فعله لاشتباه الحكمة عليه ، حتى أخبره فرضي. هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم وجه الحكمة ، ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على

٢٧٣

وجه الأرض أحد إلا قتل »

إن شأن الإمام كشأن النبي ، لا يفعل إلا ما فيه الصالح العام ، ولكن المصلحة قد تخفى أحيانا على الناس فلا يعقلونها إلا بعد حين ، وقد شبه صلحه بفعل الخضر (ع) لما خرق السفينة ، وهدم الجدار ، وقتل الغلام ، ولما لم يفهم صاحبه المصلحة فى ذلك نقم عليه ، وراح يشتد في معارضته والإنكار عليه ، وحينما تبين له الحال أذعن له وأطاع ، وكذلك الإمام في صلحه ، فإن الحكمة قد خفيت على كثير من شيعته فاندفعوا الى اعلان سخطهم وإلى الإنكار عليه.

10 ـ بعض أصحابه :

ودخل على الإمام بعض أصحابه ، وهو مندلع الثورة قد أخذ منه الوجد والأسى مبلغا ليس بالقليل فقال له :

« يا ابن رسول الله ، أذللت رقابنا بتسليمك الأمر الى هذا الطاغية : » فأجابه الإمام :

« والله ، إني ما سلمت الأمر إلا لأني لم أجد أنصارا ، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ، ولكن عرفت أهل الكوفة ، وبلوتهم ، ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا ، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ، ولا فعل ، إنهم لمختلفون ، ويقولون لنا : إن قلوبهم معنا ، وإن سيوفهم لمشهورة علينا »

لقد بيّن (ع) انه لا ناصر له ولا معين ليناجز معاوية ، إذ لم يكن معه سوى أهل الكوفة الذين لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل فكيف يحارب بهم معاوية؟

لقد ردعليه‌السلام شبه الناقدين ، وأوضح لهم الحكمة في ذلك ، وأجاب كلا على عتابه ببراعة الحجة ، وروعة العرض واصالة الرأي.

٢٧٤

الى يثرب

٢٧٥
٢٧٦

بقي الإمام (ع) فى الكوفة أياما وهو مكلوم القلب قد طافت به الهموم والآلام يتلقى من شيعته مرارة الكلام ، وقسوة القول ، ومن معاوية وحزبه الاستهانة بمركزه الرفيع وهو مع ذلك صابر محتسب ، قد كظم غيظه ، وأوكل أمره الى الله ، وقد عزم على مغادرة العراق ـ البلد الذي غدر به وبأبيه من قبل ـ والشخوص الى مدينة جده ، وقد أظهر عزمه ونيته الى أصحابه ، ولما أذيع ذلك دخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري ، وظبيان ابن عمارة التميمي(1) ليودّعاه ، فالتفت لهما ونفسه الشريفة مترعة بالألم والحزن على ما آل إليه أمر المسلمين قائلا :

« الحمد لله الغالب على أمره ، لو أجمع الخلق جميعا على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا ».

ويلمس في كلامه التسليم لقضاء الله وقدره والحزن واللوعة على ضياع حقه الشرعي ولما رأى المسيب الشجا قد بدا على غصني النبوة ، وفرعي الإمامة ، وذلك لخوفهم على شيعتهم من أن يضاموا في عهد هذا الطاغية التفت لهما مهدئا روعهما قائلا :

« إنه والله ما يكبر علينا هذا الأمر إلا أن تضاموا وتنتقصوا ، فأما نحن فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه ».

فانبرى إليه الإمام الحسين (ع) يشكره على ولائه وإخلاصه قائلا :

« يا مسيب ، نحن نعلم أنك تحبنا ».

__________________

(1) ظبيان بن عمارة التميمي : روى عن أمير المؤمنين (ع) ذكره البخاري في الصحابة ، وذكره في التابعين ابن حاتم وابن حبان ، جاء ذلك فى الاصابة 2 / 232. وجاء في لسان الميزان 3 / 215 ان ابن حبان عدّ ظبيانا من الثقات وان ابن حاتم لم يذكر فيه جرحا.

٢٧٧

والتفت إليه الإمام الحسن (ع) فبشره بحبه لهم قائلا :

« سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله (ص) يقول : من أحب قوما كان معهم ».

وطلب منه المسيب وظبيان المكث في الكوفة فأمتنع (ع) من اجابتهم وقال :

« ليس الى ذلك من سبيل »(1) .

وأخذ (ع) يعمل في تهيئة سفره ، وبعدها توجه هو وأهل بيته الى عاصمة جده ، وقد خرج أهل الكوفة بجميع طبقاتهم الى توديعه وهم ما بين باك وآسف(2) يندبون حظهم التعيس وسعادتهم التي حطموها بأيديهم ، فقد نقلت الخلافة ومعها بيت المال من بلدهم الى دمشق ، وقد أقض ذلك مضاجعهم ، ولكن بعد أن سبق السيف العذل ، فقد كانوا أصحاب الدولة وإذا ببلدهم ـ بعد غدرهم بالامام وعدم مناصرته ـ قد أصبحت مصرا من الأمصار ، وإذا القطع السورية من الجيش تدخل مصرهم وتسيطر عليهم ويقام في بلدهم حكم ارهابي عنيف لا يعرف الرحمة والرأفة.

لقد رحل (ع) عن الكوفة هو وأهل بيته ومعه أبو رافع خازن بيت المال ، وقد غشيتها الكابة ، وخيم عليها الحزن ، وحل بها الشقاء والوبال والدمار ، فلقد صبّ الله عليها بعد خروج الامام الطاعون فقضى على كثير من أبنائها ، وفرّ منها المغيرة بن شعبة وإليها ثم بعد مدة عاد إليها فلما وصل جرفه الطاعون فمات به(3) .

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

(2) تحفة الأنام للفاخوري ص 67.

(3) المسعودي على هامش ابن الأثير 6 / 97.

٢٧٨

وسارت قافلة الامام تطوي البيداء ، فلما انتهت الى دير هند(1) القى الامام (ع) على عاصمته نظرة ملؤها الأسى واللوعة ، ثم تمثل ببيت من الشعر يلمس فيه مدى استيائه وحزنه قائلا :

ولا عن قلى فارقت دار معاشري

هم المانعون حوزتي وذماري(2)

لقد ودع الامام الكوفة بالأسى والحسرات ، ولم يذكر ما لاقاه من الغدر والخيانة به ، فأي « نفس ملائكية هذه التي لقيت من نشوز هذه الحاضرة ومن بوائقها ما لقيت ، ثم هي تودعها بهذا البيت من الشعر فلا تذكر من تاريخها الطويل العريض ، إلا وفاء الأوفياء « المانعين الحوزة والذمار » ، وهم الذين منعوا عنه من أراده في المدائن ، والذين ثبتوا على طاعته يوم العسرة في مسكن فكانوا اخوان صدق ، وخيرة الأنصار على قلتهم » وسار موكب الامام ولكنه لم يبعد كثيرا حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يرده الى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج خرجت عليه ، فأبىعليه‌السلام أن يعود وكتب الى معاوية :

« لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك ، فإني تركتك لصلاح الأمّة وحقن دمائها »(3) .

ثم مضى (ع) ولم يعتن بمعاوية ، وما اجتاز موكبه على حي أو قرية إلا وخف من فيهما الى استقباله والتشرف بمقابلته ، وكان أول حديث يبدءون به السؤال عما صار إليه أمره مع معاوية فيخبرهم (ع) بالحال

__________________

(1) دير هند : يقع بالحيرة ترهبت به هند بنت النعمان بن المنذر فسمي بها.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

(3) الكامل 3 / 208.

٢٧٩

فيظاهرون له الاستياء والتذمر وعدم الرضا وذلك لخوفهم من سلطة معاوية ولكنه (ع) ما يصنع وقد مني جيشه وشعبه بالتمرد والخذلان حتى التجأ الى الصلح والمسالمة.

وانتهت قافلة الامام الى يثرب فلما علم أهلها بتشريفه (ع) خفوا جميعا لاستقباله فقد أقبل إليهم الخير وحلت في ديارهم السعادة والرحمة ، وعاودهم الخير الذي انقطع عنهم منذ نزح أمير المؤمنينعليه‌السلام عنهم ، جاء الى يثرب فاستقام فيها عشر سنين ، فملأ رباعها بعطفه المستفيض ، ورقيق حنانه وحلمه ، ونقدم عرضا موجزا لبعض أعماله وشئونه حين مكثه فيها.

مدرسته :

وأنشأ الامام مدرسته الكبرى في يثرب ، وراح يعمل مجدا في نشر الثقافة الاسلامية ، وتوجيه المجتمع الاسلامى نحو الدين ، وافهامه بالنظم الاسلامية ، وقد انتمى لمدرسته كبار العلماء ، وعظماء المحدثين والرواة ، وقد وجد بهم خير عون لأداء رسالته الاصلاحية الخالدة التي بلورة عقلية المجتمع ، وأيقظته بعد الغافلة والجمود ، وقد ذكر المؤرخون بعض أعلام تلامذته ورواة حديثه وهم :

ابنه الحسن المثنى ، والمسيب بن نجبة ، وسويد بن غفلة ، والعلا ابن عبد الرحمن ، والشعبي ، وهبيرة بن بركم ، والأصبغ بن نباتة ، وجابر ابن خلد ، وأبو الجوزاء ، وعيسى بن مأمون بن زرارة ، ونفالة بن المأموم وأبو يحيى عمير بن سعيد النخعي ، وأبو مريم قيس الثقفي ، وطحرب العجلي ، واسحاق بن يسار ، والد محمد بن اسحاق ، وعبد الرحمن بن عوف

٢٨٠