حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218074 / تحميل: 6651
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وسفين بن الليل ، وعمرو بن قيس الكوفيون(١) وقد ازدهرت يثرب بهذه الكوكبة من العلماء والرواة فكانت من أخصب البلاد الإسلامية علما ، وأدبا ، وثقافة.

وكما كان يتولى نشر العلم في يثرب ، كان يدعو الناس الى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، والتأدب بسنة النبي (ص) ، وقد رفع (ع) منار الأخلاق التي جاء بها جده الرسول لإصلاح المجتمع وتهذيبهم فمن سمو أخلاقه انه كان يصنع المعروف والاحسان حتى مع أعدائه ومناوئيه ، وقد بلغه أن الوليد بن عاقبة قد ألم به السقم فمضى لعيادته مع ما عرف به الوليد من البغض والعداء لآل البيت ، فلما استقر المجالس بالإمام انبرى إليه الوليد قائلا :

« إني أتوب الى الله تعالى مما كان بيني وبين جميع الناس إلا ما كان بيني وبين أبيك فاني لا أتوب منه. »(٢)

وأعرض الإمام عنه ولم يقابله بالمثل ولعله أوصله ببعض ألطافه وهداياه.

عطفه على الفقراء :

وأخذ (ع) يفيض الخير والبر على الفقراء والبائسين ، وينفق جميع ما عنده عليهم وقد ملأ قلوبهم سرورا باحسانه ومعروفه ، ومن كرمه انه جاءه رجل في حاجة فقال له : « اكتب حاجتك في رقعة وادفعها إلينا » فكتبها ذلك الشخص ورفعها إليه ، فأمر (ع) بضعفها له ، فقال بعض الحاضرين :

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ج ١٢ ، صورة فوتوغرافية في مكتبة الامام أمير المؤمنين.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١ / ٣٦٤.

٢٨١

« ما كان أعظم بركة هذه الرقعة عليه يا ابن رسول الله؟! »

فأجابه (ع) :

« بركتها علينا أعظم ، حين جعلنا للمعروف أهلا. أما علمت أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة ، فأما من أعطيته بعد مسألة ، فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه. وعسى أن يكون بات ليلته متململا أرقا يميل بين اليأس والرجاء ، لا يعلم بما يرجع من حاجته ، أبكآبة أم بسرور النجح ، فيأتيك وفرائصه ترعد ، وقلبه خائف يخفق ، فان قضيت له حاجته فيما بذل من وجهه ، فان ذلك أعظم مما نال من معروفك. »

لقد كان موئلا للفقراء والمحرومين ، وملجأ للأرامل والأيتام ، وقد تقدم في الجزء الأول من هذا الكتاب بعض بوادر جوده ومعروفه ، التي كان بها مضرب المثل للكرم والسخاء.

الاستجارة به :

كان (ع) في عاصمة جده كهفا منيعا لمن يلجأ إليه ، وملاذا حصينا لمن يلوذ به ، قد كرّس أوقاته على قضاء حوائج الناس ، ودفع الضيم والظلم عنهم ، وقد استجار به سعيد بن سرح من زياد فأجاره ، فقد ذكر الرواة انه كان معروفا بالولاء لأهل البيت (ع) فطلبه زياد من أجل ذلك فهرب الى يثرب مستجيرا بالإمام ، ولما علم زياد ذلك عمد الى أخيه وولده وزوجه فحبسهم ، ونقض داره ، وصادر أمواله ، وحينما علم الامام الحسن ذلك شقّ عليه الأمر ، فكتب رسالة الى زياد يأمره فيها بأن يعطيه الأمان ، ويخلي سبيل عياله وأطفاله ، ويشيّد داره ، ويرد عليه أمواله ، وهذا نص كتابه :

٢٨٢

« أما بعد : فانك عمدت الى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم ، فهدمت داره ، وأخذت ماله ، وحبست أهله وعياله ، فان أتاك كتابي هذا فابن له داره ، واردد عليه ماله ، وشفعني فيه ، فقد أجرته والسلام ».

وقد أمر الامام زيادا في هذه الرسالة بالمعروف ونهاه عن المنكر ، فقد أوصاه أن يردّ على سعيد ما أخذه منه ، وأن لا ينكّل به ، لأنه لم يحدث فسادا في الأرض حتى يستحق العذاب والتنكيل ، ولما قرأ زياد هذه الرسالة ورم أنفه من الغضب ، لأن الامام لم ينسبه الى أبي سفيان ، فأجاب الامام بجواب ينم عن مدى خبثه ، ولؤم عنصره ، وهذا نصه :

« من زياد بن أبي سفيان الى الحسن بن فاطمة.

أما بعد : فقد أتاني كتابك ، تبدأ فيه بنفسك قبلي وأنت طالب حاجة وأنا سلطان ، وأنت سوقة وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلّط على رعيته كتبت إليّ في فاسق آويته إقامة منك على سوء الرأي ، ورضا منك بذلك وأيم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك ، وإن نلت بعضك غير رقيق بك ، ولا مرع عليك ، فإن أحب لحم عليّ أن آكله اللحم الذي أنت منه ، فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك ، فان عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه ، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق والسلام ».

وقد أعرب زياد بهذه الرسالة عن صفاقته ، وعدم حيائه ونكرانه المعروف فقد تناسى الأيادي البيضاء التي أسداها عليه أمير المؤمنين وولده الحسن (ع) في توليته فارس ، فقابل ذلك المعروف بالاساءة ، والنعمة بالكفران.

أف لك يا زمان ، وتعسا لك يا دهر ، أمثل ابن سمية يتطاول على

٢٨٣

سبط النبي وريحانته ، وينال من كرامته ، إن الذي دعاه لأن يشمخ بأنفه ليس إلا السلطة التي يتمتع بها ، وإلا فأي فضيلة أو مكرمة ماثلة فيه حتى يعتز بها ويفتخر ، ولما وصلت رسالته الى الامام (ع) قرأها وتبسم وعلم سر غضبه وثورته ، لأنه لم ينسبه الى أبي سفيان ، وانبرى (ع) فكتب الى معاوية كتابا عرّفه فيه بمهمته ، وأودع في جوفه رسالة زياد ، ورسم (ع) رسالة أخرى الى زياد حطم بها كيانه ، ورد غلواءه ، وأفسد التحاقه بأبي سفيان ، وقد تقدم ذكرها(١) .

ولما وصلت رسالة الامام الى معاوية واطّلع على جراءة زياد واستهتاره واستخفافه بمركز الامام رفع من فوره رسالة الى زياد ، وهذا نصها :

« أما بعد : فان الحسن بن علي بعث إليّ بكتابك إليه جوابا عن كتاب كتبه إليك في ابن سرح ، فأكثرت العجب منك!!! وعلمت أن لك رأيين أحدهما من أبي سفيان ، والآخر من سمية ، فأما الذي من أبي سفيان حلم وحزم ، وأما الذي من سمية فما يكون رأي مثلها ، من ذلك كتابك الى الحسن ، تشتم أباه ، وتعرض له بالفسق ، ولعمري انك أولى بالفسق من أبيه ، فأما ان الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك ، فان ذلك لا يضعك لو عقلت ، وأما تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلط وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك الى من هو أولى به منك ، فاذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح وابن له داره ، واردد عليه ماله ، ولا تعرض له فقد كتبت الى الحسنعليه‌السلام أن يخيره إن شاء أقام عنده ، وإن شاء رجع الى بلده ، ولا سلطان لك عليه لا بيد ولا لسان ، وأما كتابك الى الحسن (ع) باسمه

__________________

(١) يراجع ص ١٧٥.

٢٨٤

واسم أمّه ولا تنسبه الى أبيه ، فان الحسن ويحك من لا يرمى به الرجوان والى أي أم وكلته لا أم لك ، أما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله (ص) فذاك أفخر له لو كنت تعلمه وتعقله ».

ثم كتب في آخر الكتاب أبياتا في مدح الإمام من جملتها :

أما حسن فابن الذي كان قبله

إذا سار سار الموت حيث يسير

وهل يلد الرئبال إلا نظيره

وذا حسن شبه له ونظير

ولكنه لو يوزن الحلم والحجا

بأمر لقالوا يذبل وثبير(١)

وقد اعترف معاوية بهذه الرسالة بمواهب الإمام وملكاته وشرفه وعظيم شأنه ، وإنه لو وزن حلمه بثبير لرجح عليه ، فتعسا للزمن الهزيل الذي جرّأ زيادا أن ينال من كرامته ، ويعتدي عليه.

مع حبيب بن مسلمة :

وحبيب بن مسلمة الفهري(٢) من أوغاد قريش ومن عملاء معاوية الذين يحقدون على آل البيت ، التقى به الإمام في الطواف فقال له (ع) :

« يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله ».

فانبرى إليه حبيب بسخرية قائلا :

« أما مسيري من أبيك فليس من ذلك ».

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٧٢.

(٢) حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري ، كان يقال له حبيب الروم لكثرة دحوله إليهم ونيله منهم ، وكان من خلص أصحاب معاوية ولم يفارقه في حروبه بصفين وغيرها ، وجهه معاوية واليا الى أرمينية فمات بها سنة ٤٢ ه‍ جاء ذلك فى الإستيعاب ١ / ٣٢٧.

٢٨٥

فردّ عليه الإمام مقالته قائلا :

« بلى والله ، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك ، لقد قعد بك في آخرتك ، ولو كنت إذ فعلت قلت خيرا كان ذلك كما قال الله تعالى : « وآخرون اعترفوا بذنبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا »(١) . ولكنك كما قال الله سبحانه : « كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون »(٢) ، ثم تركه وانصرف(٣) .

رفضه لمصاهرة الامويين :

ورام معاوية أن يصاهر بني هاشم ليحوز بذلك الشرف والمجد ، فكتب الى عامله على المدينة مروان بن الحكم أن يخطب ليزيد زينب بنت عبد الله بن جعفر على حكم أبيها في الصداق ، وقضاء دينه بالغا ما بلغ ، وعلى صلح الحيين بني هاشم وبني أميّة ، فبعث مروان خلف عبد الله ، فلما حضر عنده فاوضه في أمر كريمته ، فأجابه عبد الله :

« إن أمر نسائنا بيد الحسن بن علي فاخطب منه ».

فأقبل مروان الى الإمام فخطب منه ابنة عبد الله ، فقال (ع) :

اجمع من أردت ، فانطلق مروان فجمع الهاشميين والأمويين في صعيد واحد وقام فيهم خطيبا قائلا :

« أما بعد : فان أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أخطب زينب بنت عبد الله بن جعفر ليزيد بن معاوية على حكم أبيها في الصداق ، وقضاء دينه

__________________

(١) سورة التوبة : آية ١٠٢.

(٢) سورة المطففين : آية ١٣.

(٣) أحكام القرآن للرازي ٣ / ١٨١ ، وزهر الآداب لأبي اسحاق ١ / ٥٥.

٢٨٦

بالغا ما بلغ ، وعلى صلح الحيين بني هاشم وبني أميّة ، ويزيد بن معاوية كفؤ من لا كفؤ له ، ولعمري لمن يغبطكم بيزيد أكثر ممن يغبط يزيد بكم فيزيد ممن يستسقى بوجهه الغمام ».

ومروان يرى أن قيم الرجال إنما هي بالإمرة والسلطان ، وقد أعرب بذلك عن حماقته وجهله ، فردّ الإمام عليه أباطيله ، وعلّق على كل جملة من كلامه ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه :

« أما ما ذكرت من حكم أبيها في الصداق ، فانا لم نكن لنرغب عن سنّة رسول الله (ص) فى أهله وبناته »(١) .

« وأما قضاء دين أبيها فمتى قضت نساؤنا بمهورهن ديون آبائهن ».

« وأما صلح الحيين ، فنحن عادينا كم لله وفي الله ، فلا نصالحكم للدنيا ».

« وأما قولك يزيد كفؤ من لا كفؤ له ، فأكفاؤه اليوم أكفاؤه بالأمس لم يزده سلطانه ».

« وأما قولك : من يغبطنا بيزيد أكثر ممن يغبطه بنا ، فان كانت الخلافة قادت النبوة(٢) ، فنحن المغبطون ، وإن كانت النبوة قادت الخلافة فهو المغبوط بنا ».

« وأما قولك : إن الغمام يستسقى بوجه يزيد ، فان ذلك لم يكن إلا لآل رسول الله (ص) ».

وقد فنّد (ع) بكلامه مزاعم مروان ، ورد عليه بهتاته ، ثم أخذعليه‌السلام في إحباط مساعيه ، وتحطيم آماله قائلا :

« وقد رأينا أن نزوجها ( يعني زينب ) من ابن عمها القاسم محمد بن

__________________

(١) كانت سنّة رسول الله (ص) في مهر أزواجه وبناته اربعمائة درهم.

(٢) كذا فى الأصل ، ولعل المراد ان الخلافة تابعة للنبوة والنبوة قائدة لها.

٢٨٧

جعفر ، وقد زوجتها منه ، وجعلت مهرها ضيعتي التي لي بالمدينة ، وقد أعطاني بها معاوية عشرة آلاف دينار ».

ولما سمع ذلك مروان فقد شعوره وصاح بلا اختيار :

« أغدرا يا بني هاشم ».

إن مروان أولى بالغدر والخبث ، وقد صنع الإمام خيرا حيث لم يزوج العلوية من يزيد الفاسق الفاجر.

ورفع مروان في الوقت رسالة الى معاوية أخبره بالحادث ، فلما وصلت إليه قال متأثرا :

« خطبنا إليهم فلم يفعلوا ، ولو خطبوا إلينا لما رددناهم »(١) .

لقد كان (ع) يعلم بدوافع معاوية وبما يبغيه من تشييد أسرته فكان يسعى لإحباط الوسائل التي يتخذها ويفسد عليه أمره وقد بلغه أنه قال :

« لا ينبغي أن يكون الهاشمي غير جواد ، ولا الأموي غير حليم ، ولا الزبيري غير شجاع ، ولا المخزومى غير تياه ».

وعرف (ع) أن غرض معاوية بذلك إنما هو تحطيم هذه الأسر ،

__________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمى ١ / ١٢٤ ، وجاء في مجمع الزوائد ٤ / ٢٧٨ عن معاوية بن خديج قال : أرسلني معاوية بن أبي سفيان الى الحسن بن على أخطب على يزيد بنتا له ـ أو أختا له ـ فأتيته فذكرت له يزيد فقال : إنا قوم لا نزوج نساءنا حتى نستأمرهن ، فأتيتها فذكرت لها يزيد فقالت : والله لا يكون ذلك حتى يسير فينا صاحبك كما سار فرعون فى بني اسرائيل يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم ، فرجعت الى الحسن فقلت له : أرسلتني الى قلقة تسمي أمير المؤمنين فرعون ، قال (ع) : يا معاوية إياك وبغضنا ، فان رسول الله (ص) قال : لا يبغضنا ولا يحسدنا أحد إلا زيد يوم القيامة عن الحوض بسياط من نار.

٢٨٨

وتشييد أسرته ، فردّ عليه مقالته وقال.

« قاتله الله ، أراد أن يجود بنو هاشم فينفذ ما بأيديهم ، ويحلم بنو أميّة فيتحببوا إلى الناس ، ويتشجع آل الزبير فيفنوا ، ويتيه بنو مخزوم فيبغضهم الناس »(١) .

وهكذا كانعليه‌السلام يندد بأعمال معاوية ويكشف الستار عن خبثه وسوء سريرته ، غير مكترث بسلطته ، ولا هياب لسلطانه.

مع معاوية في يثرب :

وروى الخوارزمى أن معاوية سافر الى يثرب فرأى تكريم الناس وحفاوتهم بالإمام وإكبارهم له ، فساءه ذلك فاستدعا أبا الأسود الدؤلي ، والضحاك بن قيس الفهري ، فاستشارهم في أمر الحسن وأنه بما ذا يوصمه ليتخذ من ذلك وسيلة الى الحط من شأنه ، والتقليل من أهميته أمام الجماهير فأشار عليه أبو الأسود بالترك قائلا :

« رأي أمير المؤمنين أفضل ، وأرى ألا يفعل فان أمير المؤمنين لن يقول فيه قولا إلا أنزله سامعوه منه به حسدا ، ورفعوا به صعدا ، والحسن يا أمير المؤمنين معتدل شبابه ، أحضر ما هو كائن جوابه ، فأخاف أن يرد عليك كلامك بنوافذ تردع سهامك ، فيقرع بذلك ظنوبك(٢) ، ويبدي به عيوبك ، فاذن كلامك فيه صار له فضلا ، وعليك كلاّ ، إلا أن تكون تعرف له عيبا في أدب ، أو وقيعة في حسب ، وإنه لهو المهذب ، قد أصبح من صريح العرب فى عز لبابها ، وكريم محتدها ، وطيب عنصرها ، فلا تفعل يا أمير المؤمنين ».

__________________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ / ١٩٦.

(٢) الظنوب : العظم اليابس من الساق.

٢٨٩

وقد أشار عليه أبو الأسود بالصواب ، ومنحه النصيحة ، فأي نقص أو عيب في الإمام حتى يوصمه به ، وهو المطهّر من كل رجس ونقص كما نطق بذلك الذكر الحكيم ، ولكن الضحاك بن قيس قد أشار على معاوية بعكس ذلك فحبذ له أن ينال من الإمام ويتطاول عليه قائلا :

« امض يا أمير المؤمنين فيه برأيك ولا تنصرف عنه بدائك ، فانك لو رميته بقوارص كلامك ، ومحكم جوابك ، لذل لك كما يذل البعير الشارف(١) من الإبل ».

واستجاب معاوية لرأي الضحاك ، فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه ، ثم ذكر أمير المؤمنين وسيد المسلمين علي بن أبي طالب (ع) فانتقصه ، ثم قال :

« أيها الناس ، إن صبية من قريش ذوي سفه وطيش ، وتكدر من عيش ، أتعبتهم المقادير ، فاتخذ الشيطان رءوسهم مقاعد ، وألسنتهم مبارد فباض وفرخ فى صدورهم ، ودرج في نحورهم ، فركب بهم الزلل ، وزين لهم الخطل ، وأعمى عليهم السبل ، وأرشدهم الى البغي والعدوان ، والزور والبهتان ، فهم له شركاء وهو لهم قرين ( ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ) ، وكفى لهم مؤدبا ، والمستعان الله ».

فوثب إليه الإمام الحسن مندفعا كالسيل رادا عليه افتراءه وأباطيله قائلا :

« أيها الناس ، من عرفني فقد عرفنى ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن ابن علي بن أبي طالب ، أنا ابن نبي الله ، أنا ابن من جعلت له الأرض مسجدا وطهورا ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن البشير النذير ، أنا ابن خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وامام المتقين ، ورسول رب العالمين ، أنا ابن من بعث الى الجن والأنس ، أنا ابن من بعث رحمة للعالمين ».

__________________

(١) البعير الشارف : المسن الهرم.

٢٩٠

وشق على معاوية كلام الإمام فبادر الى قطعه قائلا :

« يا حسن عليك بصفة الرطب ». فقالعليه‌السلام : الريح تلقحه ، والحر ينضجه ، والليل يبرده ويطيبه ، على رغم أنفك يا معاوية ، ثم استرسلعليه‌السلام فى تعريف نفسه قائلا :

« أنا ابن مستجاب الدعوة ، أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب ، ويقرع باب الجنة ، أنا ابن من قاتلت الملائكة معه ولم تقاتل مع نبي قبله ، أنا ابن من نصر على الأحزاب ، أنا ابن من ذلت له قريش رغما ».

وغضب معاوية واندفع يصيح :

« أما انك تحدث نفسك بالخلافة ».

فأجابه الإمامعليه‌السلام عمن هو أهل للخلافة قائلا :

« أما الخلافة فلمن عمل بكتاب الله وسنّة نبيه ، وليست الخلافة لمن خالف كتاب الله ، وعطّل السنّة ، إنما مثل ذلك مثل رجل أصاب ملكا فتمتع به ، وكأنه انقطع عنه وبقيت تبعاته عليه ».

وراوغ معاوية ، وانحط كبرياؤه فقال :

« ما في قريش رجل إلا ولنا عنده نعم جزيلة ويد جميلة ».

فردّ عليه الإمام قائلا :

« بلى ، من تعززت به بعد الذلة ، وتكثرت به بعد القلة ».

« من أولئك يا حسن؟ ».

« من يلهيك عن معرفتهم ».

ثم استمر (ع) في تعريف نفسه الى المجتمع فقال :

« أنا ابن من ساد قريشا شابا وكهلا ، أنا ابن من ساد الورى كرما

٢٩١

ونبلا ، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالجود الصادق ، والفرع الباسق ، والفضل السابق ، أنا ابن من رضاه رضى الله ، وسخطه سخطه ، فهل لك أن تساميه يا معاوية؟ ». فقال معاوية : أقول لا ، تصديقا لقولك. فقال الحسن : « الحق أبلج ، والباطل لجلج ، ولم يندم من ركب الحق ، وقد خاب من من ركب الباطل ، ( والحق يعرفه ذوو الألباب ) ».

فقال معاوية على عادته من المراوغة : لا مرحبا بمن ساءك.

الحزب السياسي :

واعتقد الدكتور طه حسين ان الإمام أيام مكثه في المدينة قد شكل حزبا سياسيا وتولى هو رئاسة الحزب ، ومن الخير سوق كلامه قال :

« واعتقد أنا ان اليوم الذي لقي الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفة فسمع منهم ما سمع ، وقال لهم ما قال ، ورسم لهم خطتهم ، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسي المنظم لشيعة علي وبنيه. نظم الحزب في ذلك المجالس ، وأصبح الحسن له رئيسا ، وعاد أشراف أهل الكوفة الى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة ، ويهيئونهم لهذا السلم الموقوت ولحرب يمكن أن تثار حين يأتي الأمر باثارتها من الإمام المقيم في يثرب.

وكان برنامج الحزب في أول إنشائه كما ترى واضحا يسيرا ، لا عسر فيه ولا تعقيد ، طاعة الإمام من بني علي والانتظار في سلم ودعة حتى يؤمروا بالحرب فيثيروها. ورأى الدكتور رأي وثيق ويدل عليه سفر الإمام (ع) الى دمشق لنقد معاوية واذاعة مساوئه ومخازيه في عاصمته وبلاطه ، فان من جملة أهداف ذلك السفر التبشير بالحزب الذي عقده لقلب الحكم الأموي وارجاع الدولة الإسلامية الى نظامها العادل.

٢٩٢

الى دمشق

٢٩٣
٢٩٤

واتفق جمهور المؤرخين ان الإمام الحسن (ع) قد وفد على معاوية في دمشق ، واختلفوا فى أن وفادته كانت مرة واحدة أو أكثر ، واطالة الكلام في تحقيق هذه الجهة لا تغنينا شيئا ، وإنما المهم البحث عن سر سفره ، فالذي نذهب إليه ان المقصود منه ليس إلا الدعاية لمبدإ أهل البيت وابراز الواقع الأموي أمام ذلك المجتمع الذي ظلله معاوية وحرفه عن الطريق القويم ، أما الاستدلال عليه فانه يظهر من مواقفه ومناظراته مع معاوية ـ التي سنذكرها ـ فانه قد هتك بها حجابه. وأبدا عاره وعياره ، وفلّ بها عروش دولته ، ثم انه على تقدير أن يكون سفره لأخذ العطاء من معاوية ـ كما يقول به البعض ـ فقد قيل إنه كيف جاز له أن يأخذ صلاته مع أن جلها أموال مغصوبة ، وقد كفانا مئونة البحث عن هذه المسألة علماء الفقه الإسلامى فقد ذكروا أن صلاة السلطان الجائر وهداياه جائزة ما لم تشتمل على أموال مغصوبة يعلم غصبها على نحو التعيين ، فحينئذ لا يجوز أخذها ، وإن أخذت وجب ردها الى أهلها(١) ، وأكثر الأموال التي كانت بيد معاوية إنما هي من أموال الخراج والزكاة وما شاكل ذلك من الأموال التي تجبيها الدولة فان استيلاء معاوية عليها وإن كان غير مشروع لأنه من حكام الظلم والجور إلا ان لخيار المسلمين الحق في استنقاذها وردها الى أهلها ، فضلا عن الإمام الذي له الولاية العامة على جميع المسلمين.

أما الذاهبون الى أن سفره كان لأخذ العطاء فقد استندوا الى إحدى الروايات الموضوعة ـ فيما نحسب ـ فقد روي أنه كان يفد فى كل سنة الى معاوية فيوصله بمائة ألف ، فلم يمض في بعض السنين فنساه معاوية ولم يبعث له بصلة فهمّ الإمام أن يكتب له فرأى رسول الله (ص) فى منامه

__________________

(١) المكاسب للشيخ الأنصاري وقد بسط الكلام في هذه الجهة.

٢٩٥

وهو يقول له :

« يا حسن أتكتب الى مخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟ »

فقال له : « ما أصنع يا رسول الله؟ »

فعلمه رسول الله (ص) بهذا الدعاء : « اللهم إني أسألك من كل أمر ضعفت عنه حيلتي ، ولم تنته إليه رغبتي ، ولم يخطر ببالي ، ولم يجر على لساني من الشيء الذي أعطيته أحدا من المخلوقين الأولين المهاجرين ، والآخرين الأنصار. »

وانتبه الحسن من منامه وهو حافظ للدعاء ، فدعا به ، فلم يلبث معاوية أن بعث إليه بصلته بعد ما نبهه بعض خواصه ان الإمام لم يفد عليه في تلك السنة(١) . وهذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأن الإمام قد عرف بالعزة والإباء والشمم ، فكيف يتنازل لابن هند فيهمّ أن يكتب له ويسأله العطاء ، فينهاه رسول الله (ص) عن ذلك ، على انه كان فى غنى عن صلاة معاوية لأن له ضياعا كبيرة في يثرب كانت تدر عليه بالأموال الطائلة مضافا الى ما كان يصله من الحقوق التي يدفعها خيار المسلمين وصالحاؤهم له ، على أن الأموال التي كان يصله بها معاوية على القول بذلك لم يكن ينفقها على نفسه وعياله. فقد ورد أنه لم يكن يأخذ منها مقدار ما تحمله الدابة بفيها(٢) ، ومع هذا فكيف يكون سفره لمعاوية لأخذ العطاء منه؟!!

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ، مشارق الأنوار ، نور الأبصار.

(٢) جامع أسرار العلماء مخطوط بمكتبة كاشف الغطاء العامة.

٢٩٦

مناظراته :

وضاق معاوية ذرعا بالإمام حينما كان في دمشق ، فقد رأى من اقبال الناس واحتفائهم به ما ساءه فعقد عدة مجالس حشدها بالقوى المنحرفة عن أهل البيت والمعادية لهم كابن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومروان بن الحكم والوليد بن عاقبة ، وزياد بن أبيه ، وعبد الله بن الزبير ، وأوعز لهم بالتطاول على ريحانة الرسول ، والنيل منه ، ليزهد الناس فيه ، ويشفي نفسه من ابن فاتح مكة ، ومحطم أوثان قريش ، وقد قابله هؤلاء الأوغاد بمرارة القول وبذاءة الكلام ، وبالغوا في الاستهتار والاعتداء عليه ، وكان (ع) يسدد لهم سهاما من منطقه الفياض فيرديهم صرعى ، يلاحقهم العار والخزي ، ويلمسهم مساوئهم وما عرفوا به من الزيغ والانحطاط ، كان يجيبهم ـ وهو مكره ـ ، ويرد على بذاءتهم وهو يقول : « أما والله لو لا أن بني أميّة تنسبني الى العجز عن المقال لكففت تهاونا » ، ولروعة كلامه ، وقوة حجته كان عبد الله بن عباس يقبل ما بين عينيه ويقول له : « أفديك يا ابن العم والله ما زال بحرك يزخر وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد »

لقد كان الإمام في جميع تلك المناظرات هو الظافر المنتصر وخصومه الضعفاء قد عرتهم الاستكانة والهزيمة والذهول ، وقد أوصاهم كبيرهم بعد ما شاهد أشلاءهم مضرجة بطعناته ، أن يجتنبوا محاوراته(١) .

وعلى أي حال فان « نصوص هذه المشاجرات بصيغها البلاغية ، وقيمها الأدبية جديرة بالعرض ، كتراث عربي أصيل يدل بنفسه على صحة نسبه ، وتعطينا بأسلوبه وصياغته صورة عن ( أدب المشاجرات ) في عصره »

__________________

(١) أعلام الزركلى ٢ / ٢١٥.

٢٩٧

وقد تركت نوادي دمشق ومحافلها مشغولة بها ترددها مقرونة بالإكبار والتقدير للإمام ، وبالاستهانة والاحتقار لخصومه ، وفيما يلي نصوصها :

١ ـ وأقبل معاوية على الإمام (ع) فقال له :

« يا حسن ، أنا خير منك!! »

ـ وكيف ذاك يا ابن هند؟!!

ـ لأن الناس قد أجمعوا عليّ ، ولم يجمعوا عليك.

وحيث أن الامرة لم تكن في الإسلام موجبة للتمايز ، وإنما توجبه التقوى وعمل الخير ، وقد انبرى (ع) مبطلا دعوى معاوية :

« هيهات!! لشر ما علوت به يا ابن آكلة الأكباد ، المجتمعون عليك رجلان ، بين مطيع ومكره ، فالطائع لك عاص لله ، والمكره معذور بكتاب الله ، وحاشا لله أن أقول أنا خير منك لأنك لا خير فيك ، فان الله قد برّ أني من الرذائل كما برّأك من الفضائل »(١) .

ان هذا هو منطق الثورة ، ومنطق الأحرار الذين يشجبون الظلم ، ويقاومون المنكر ، وليس هذا هو منطق من يريد العطاء والأموال.

٢ ـ ودخل الإمام على معاوية ، فلما رأى ابن العاص ما في الإمام من عظيم الهيبة والوقار ساءه ذلك ، وتميز من الغيظ والحسد فاندفع قائلا :

« قد جاءكم الفهه العي ، الذي كأن بين لحييه عقله. »

وكان عبد الله بن جعفر حاضرا فلذعه قوله فصاح به :

« مه ، والله لقد رمت صخرة ململمة ، تنحط عنها السيول ، وتقصر دونها الوعول ، ولا تبلغها السهام ، فإياك والحسن إياك ، فانك لا تزل راتعا في لحم رجل من قريش ، ولقد رميت فما برح سهمك ، وقدحت

__________________

(١) روضة الواعظين لأبي علي النيسابوري.

٢٩٨

فما أورى زندك ».

وسمع الإمام الحديث ، فلما اكتظ مجلس معاوية بالناس انبرى (ع) فوجّه خطابه الى معاوية ، فألقى عليه ذنب وزيره ابن العاص ، وتهدده باعلان الحرب عليه إن لم ينته عن مكره وغيه ، وذكر له الصفات الرفيعة الماثلة في شخصيته الكريمة قائلا :

« يا معاوية لا يزال عندك عبد راتعا في لحوم الناس ، أما والله لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الامور ، وتحرّج منه الصدور ».

ثم أنشأ يقول :

أتأمر يا معاوي عبد سهم

بشتمي والملا منّا شهود

إذا أخذت مجالسها قريش

فقد علمت قريش ما تريد

أأنت تظل تشتمني سفاها(١)

لضغن ما يزول وما يبيد

فهل لك من أب كأبي تسامى(٢)

به من قد تسامى أو تكيد

ولاجد كجدي يا ابن حرب(٣)

رسول الله إن ذكر الجدود

ولا أم كأمي من قريش

إذا ما حصل الحسب التليد

فما مثلي تهكم يا ابن حرب

ولا مثلي ينهنهه الوعيد(٤)

فمهلا لا تهج منا أمورا

يشيب لهولها الطفل الوليد(٥)

__________________

(١) وروي قصدت إلي تشتمنى.

(٢) وروي فما لك من أب.

(٣) وروي ابن هند.

(٤) وروي ولا مثلي تجاريه العبيد.

(٥) المحاسن والأضداد للجاحظ ص ٩٥ ، والمحاسن والمساوى للبيهقي ١ / ٦٢ ، شرح ابن أبي الحديد ٢ / ١٠٢ ، جمهرة الخطب ١ / ٤٢٨.

٢٩٩

لقد عرض (ع) بعض فضائله ومآثره ، ونشر مساوئ معاوية ومخازيه بهذا الكلام الرائع الذي تمثلت فيه بلاغة الإعجاز ، وروعة الإيجاز ، وسرعة البديهة ، وقوة الحجة ، فحط به من غلواء معاوية ، وأصاب أبرز مقوماته من حسبه المعروف ، ونسبه الموصوف ، فأين الفهاهة والعي يا ابن العاص؟.

٣ ـ وعظم أمر الإمام فى الشام ، فقد أقبلت الناس تترى لزيارته والى الاستماع لحديثه ، فملك (ع) القلوب والمشاعر والعواطف ، وتحدثت الأندية والمجالس بعظيم فضله ومواهبه ، ولما رأى ذلك أذناب معاوية وعملاؤه وهم : عمرو بن العاص ، والوليد بن عاقبة ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة ابن شعبة ، فخافوا أن يحدث ما لا تحمد عقباه ، وينفلت الأمر من أيديهم ، وتندك عروش الدولة الأموية ، فعقدوا في البلاط الأموي اجتماعا ، وذكروا لمعاوية حفاوة الجماهير بالإمام ، وتكريمهم له ، وازدحامهم على زيارته ، وان وجوده فى دمشق خطر على الدولة الأموية ، وقد رأوا أن خير وسيلة للحط من كرامته ، ولإعراض الناس عنه ، أن يستدعوه فيتهمون أباه بقتل عثمان ، ويسبّونه على ذلك ، وهذا نص حديثهم :

« إن الحسن قد أحيا أباه وذكره ، وقال فصدّق ، وأمر فأطيع ، وخفقت له النعال ، وان ذلك لرافعه الى ما هو أعظم منه ، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا ».

فقال لهم معاوية : ما تريدون؟

قالوا : « ابعث عليه فليحضر لنسبه ونسب أباه ، ونعيّره ونوبخه ، ونخبره أن أباه قتل عثمان ، ونقرره بذلك ، ولا يستطيع أن يغير علينا شيئا من ذلك. »

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وهو على مصر، ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصر إلى افريقية، وكان أبوه نصير من حرس معاوية، ولمّا سار معاوية إلى صفّين لم يسر معه ؛ فقال له: ما يمنعك عن المسير معي إلى قتال عليّ ويدي عندك معروفة.

فقال: لا أُشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك وهو الله عزّ وجلّ، فسكت عنه معاوية. فبعث عبد الله موسى بن نصير وقدم القيروان سنة ٨٩ وبها صالح خليفة حسان، فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد، فوجّه البعوث في النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة، فغنم بها وسبى وعاد.

ثمّ بعثه إلى ناحية أُخرى وابنه مروان كذلك، وتوجّه هو إلى ناحيةٍ فغنم منها وسبى وعاد، وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي.

ثمّ غزا طنجة وافتتح درعة وصحراء فيلالت وأرسل ابنه إلى السوس، وأذعن البربر لسلطانه ودولته، وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم بطنجة وولى عليها طارق بن زياد الليثي، ثمّ أجاز طارق إلى الأندلس.

فكان فتحها سنة تسعين، وتعاقب عليها ولاة المسلمين إلى أن انتهى أمرها إلى الأغالبة، وجدّهم إبراهيم بن الأغلب وهو الذي تولاّها من قِبَل الرشيد مع الأندلس.

وفي سنة ٢١٩ هـ فتح أسد بن الفرات صقلية وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية، وولّى عليها سنة إحدى عشر ومئتين بطريقاً اسمه قسنطيل، واستعمل على الأسطول قائداً من الروم حازماً شجاعاً فغزا سواحل افريقية وانتهبها.

ثمّ بعد مدّةٍ كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض على مقدّم الأسطول وقتله، ونُميَ الخبر إليه بذلك فانتقض وتعصّب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلية فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية، فأتبعه جيشاً أخذوه وقتلوه.

واستولى القائد على صقلية فملكها وخُوطب بالملك، وولّى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة.

وكان ميخائيل ابن عمّ بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمّه على القائد واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة.

وركب القائد في أساطيله إلى إفريقية مستنجداً بزيادة الله فبعث معهم العساكر، واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان، فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مازر، وساروا إلى بلاطة، ولقيهم القائد وجميع الروم الذين بها استمدّهم فهزموا

٣٢١

بلاطة والروم الذين معه وغنموا أموالهم. وهرب بلاطة إلى فلونرة، فقتل واستولى المسلمون على عدّة حصون من الجزيرة، ووصلوا إلى قلعة الكرات وقد اجتمع بها خلقٌ كثير، فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية حتّى استعدّوا للحصار، ثمّ امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كلّ ناحيةٍ وكثرت الغنائم.

ثمّ حاصروا سرقوسة برّاً وبحراً، وجاء المدد من افريقية وحاصروا بليرم.

وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة، قد بعثوهم واشتدّ حصار المسلمين لسرقوسة، ثمّ أصاب معسكرهم الفناء، وهلك كثيرٌ منهم ومات أسد بن الفرات أميرهم ودُفن بمدينة قَصريانَّة. ومعهم القائد الذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه.

وجاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم ودخل فلّهم إلى قصريانة.

ثمّ توفّي محمد بن الحواري أمير المسلمين وولي بعده زهير بن عوف.

ثمّ محّص الله المسلمين فهزمهم الروم مرّات، وحصروهم في معسكرهم حتّى جهدهم الحصار وخرج مَن كان في كبركيب من المسلمين بعد أن هدموها وساروا إلى مازر، وتعذّر عليهم الوصول إلى إخوانهم، وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن اشرفوا على الهلاك. فوصلت مراكب إفريقية مدداً وأسطول من الأندلس، خرجوا للجهاد واجتمع منهم ثلاثمئة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة. ثمّ ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم عليها سنة عشرين.

ثمّ بعثوا إلى طرميس، ثمّ بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سريّة إلى سرقوسة فغنموا، ثمّ سارت سريّةٌ أُخرى واعترضها بطريق صقلية فامتنعوا منه في وعر وخمل من الشعراء، حتّى يئس منهم وانصرف على غير طائل. فحمل عليهم أهل السريّة وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطُعن وجرح.

وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودوابّ ومتاع، ثمّ جهّز زيادة الله إلى صقلية إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر وولاّه أميراً عليها، فخرج منتصف رمضان وبعث أسطولاً، فلقي أسطولاً للروم فغنمه، وقتل مَن كان فيه وبعث أسطولاً آخر إلى قصوره فلقي أسطولاً فغنمه، وسارت سريّةٌ إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر

٣٢٢

السبي بأيدي المسلمين، وبعث الأغلب سنة (٢١) أسطولاً نحو الجزائر فغنموا وعادوا، وبعث سريّةً إلى قطلبانة وأُخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين.

ثمّ كانت وقعة أُخرى كان فيها الظفر للمسلمين، وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب.

ثمّ عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدلّ المسلمين عليها ودخلوا منها البلد، وتحصّن المشركون بحصنه حتّى استأمنوا، وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه وعادوا إلى بليرم، إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله، فوهنوا أوّلاً، ثمّ أنشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد. وكانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث وعشرين ومئتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته، وولي مكانه أخوه أبو عقال الأغلب.وبعث سنة أربع وعشرين ومئتين سريّةً إلى صقلية، فغنموا وعادوا ظافرين.

وفي سنة خمس وعشرين ومئتين استأمن للمسلمين عدّة حصون من صقلية، فأمنوهم وفتحوها صلحاً.

وسار أسطول المسلمين إلى قلورية، ففتحوها ولقوا أسطول القسطنطينية فهزموهم.

وفي سنة ستّ وعشرين ومئتين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثمّ حصن القيروان وأثخنوا في نواحيها.

ثمّ توفّي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ستّ وعشرين ومئتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته، وولي مكانه ابنه أبو العبّاس محمد بن الإغلب، وتوفّي سنة اثنتين وأربعين ومئتين، فولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب.

وفي أيّامه افتتحت قصريانة من مدن صقلية في شوال سنة تسع وأربعين ومئتين لثمان سنين من ولايته.

وفي أيّام ولاية أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب تغلّب الروم على مواضع من جزيرة صقلية.

بقيّة أخبار صقلية

وفي سنة ثمان وعشرين ومئتين سار الفضل بن جعفر الهمداني في البحر، ونزل مرسى مسينة وحاصرها ؛ فامتنعت عليه، وبثّ السرايا في نواحيها فغنموا.

ثمّ بعث طائفةً من عسكره وجاؤوا إلى البلد من وراء جبلٍ مطلٍّ عليه وهم مشغولون بقتاله، فانهزموا وأعطوا باليد ففتحها.

ثمّ حاصر سنة ثنتين وثلاثين ومئتين مدينة لسى.

وكاتب أهلها بطريق صقلية

٣٢٣

يستمدّونه ؛ فأجابهم وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيةٍ فخرجوا، واستطرد لهم حتّى جاوزوا الكمين فخرجوا عليهم فلم ينج منهم إلاّ القليل، وسلّموا البلد على الأمان.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين أجاز المسلمون إلى أرض انكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينةً وسكنوها.

وفي سنة أربع وثلاثين ومئتين صالح أهل رغوس وسلّموا المدينة للمسلمين، فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين توفّي أمير صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العبّاس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم.

وكتب له محمد بن الأغلب، بعهده على صقلية، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا وتأته الغنائم، ولمّا جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه وعلى مقدّمته عمّه رياح، فعاث في نواحي صقلية وردّد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس، فغنموا وخربّوا وحرقوا، وافتتح حصوناً جمّة، وهزم أهل قصريانة وهي مدينة ملك صقلية، وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلمّا فتحها المسلمون انتقل الملك إلى قصريانة.

وخبر فتحها أنّ العبّاس كان يردّد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة، فيصيب منهم ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى وقدّمهم للقتل، فقال له بعضهم - وكان له قدر وهيبة - استبقني وأنا أملك قصريانة، ودلّهم على عورة البلد ؛ فجاؤوها ليلاً ووقفهم على بابٍ صغيرٍ فدخلوا منه، فلمّا توسّطوا البلد وضعوا السيف وفتحوا الأبواب ودخل العبّاس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات البطارقة وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه.

وذل الروم بصقلية من يومئذٍ، وبعث ملك الروم عسكراً عظيماً مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة، فجاءهم العبّاس من بليرم، فقاتلهم وهزمهم وأقلع فلّهم إلى بلادهم، بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة سبع وثلاثين ومئتين.

وافتتح بعدها كثيراً من قلاع صقلية، وجاء مدد الروم من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة ورجف إليهم العبّاس من مكانه وهزمهم.

ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها الحامية، ثمّ سار سنة سبع وأربعين

٣٢٤

ومئتين إلى سرقوسة فغنم، ورجع فاعتلّ في طريقه، فهلك منتصف سنته ودُفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه وذلك إحدى عشرة سنة من إمارته.

واتّصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال، وغزوا أرض قلورية وانكبردة، وفتحوا فيها حصوناً وسكن بها المسلمون.

ولمّا توفّي العبّاس اجتمع الناس على ابنه عبد الله، وكتبوا إلى صاحب افريقية.

وبعث عبد الله السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من افريقية على صقلية في منتصف ثمان وأربعين ومئتين، وأخرج ابنه محموداً في سريّةٍ إلى سرقوسة، فعاث في نواحيها وخرج إليهم الروم فقاتلهم وظفر ورجع، ثمّ فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس. ثمّ غدروا فسرّح ابنه محمداً في العساكر، وسبى أهلها ثمّ سار خفاجة إلى رغوس، وافتتحها وأصابه المرض، فعاد إلى بليرم، ثمّ سار سنة ثلاث وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وقطانية فخرب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في أرض صقلية فامتلأت أدهم من الغنائم.

وفي سنة أربع وخمسين ومئتين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلية، فقاتله جمع من المسلمين وهزموه، وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم، وبعث سنة خمس وخمسين ومئتين ابنه محمداً في العساكر إلى طرميس، وقد دلّه بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب.

وجاء محمد بن خفاجة من ناحيةٍ أُخرى فظنوه مدداً للعدو فأجفلوا ورآهم محمد مجفلين فرجع.

ثمّ سار خفاجة إلى سرقوسة في حرّها وعاث في نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس وخمسين ومئتين.

وولّى الناس عليهم ابنه محمداً، وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير افريقية فأقرّه على الولاية، وبعث إليه بعهده.

وفي سنة سبع وثمانين ومئتين بعث إبراهيم بن أحمد أخي أبي الغرانيق ابنه أبا العبّاس عبد الله على صقلية، فوصل إليها في مئة وستّين مركباً وحصر طلاية، وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت وكانت بينهم فتنة، فأغراه كلّ واحدٍ منهم بالآخرين، ثمّ اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم واستباحهم.

وبثّ جماعةٌ من وجوهها إلى أبيه وفرّ

٣٢٥

آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية، وآخرون إلى طرميس فاتّبعهم وعاث في نواحيها.

ثمّ حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين، وتجهّز سنة ثمان وثمانين للغزو، فغزا ميسنى ثمّ مسينة، ثمّ جاء في البحر إلى ريو ففتحها عنوةً، وشحن مراكبه بغنائمها.

ورجع إلى مسينة فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ له ثلاثين مركباً.

ثمّ أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر ورجع إلى صقلية.

وجاء في هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به، فاستقدم ابنه أبا العبّاس من صقلية وارتحل هو إليها.

وذكر ابن الأثير أنّ فتح سرقوسة كان في أيّامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلية، وأنّه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم، ثمّ فتح البلد واستباحها.

واتفقوا كلّهم على أنّه ركب البحر من افريقية إلى صقلية، فنزل طرانية ثمّ تحوّل عنها إلى بليرم، ونزل على دمشق وحاصرها سبعة عشر يوماً، ثمّ فتح مسينة وهدم سورها، ثمّ فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها.

ثمّ بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العبّاس عبد الله إلى قلعة بيقض فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة فأعطوه الجزية، ثمّ عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل قلورية عنوة، فقتل وسبى ورهب منه الفرنجة.

ثمّ رجع إلى صقلية ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك.

ثمّ سار إلى كنسة في حرّها، واستأمنوا إليه فلم يقبل ثمّ هلك وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولّى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العبّاس وهو يومئذٍ بافريقية. فأمن أهل كنسة قبل أن يعلموا بموت جدّه، وقبل منهم الجزية، وأقام قليلاً حتّى تلاحقت به السرايا من النواحي، ثمّ ارتحل وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير حمله إلى القيروان فدفنه بها.

وفي أيّامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلية. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلته بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بانكجان يهدّده ويحذّره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلمّا

٣٢٦

قربت أُمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم أظهر التوبة ومضى إلى صقلية، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع قبائل كتامة حتّى استولى عليهم واتّبعوه.

وكان إبراهيم قد أسرّ لابنه أبي العبّاس في شأن الشيعي، ونهاه عن محاربته وأن يلحق به إلى صقلية إن ظهر عليه.

ولمّا هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين وولي مكانه ولده أبو العبّاس عبد الله، ولأُمورٍ بلغته عن ولده زيادة الله من اعتكافه على اللّذات واللهو، وعزمه على التوثّب عليه ؛ اعتقله وولّى على صقلية مكانه محمد بن السرقوسي، ثمّ ولي زيادة الله أبو مضر بعد مقتل أبيه أبي العبّاس.

وجرت حروب بينه وبين أبي عبد الله الشيعي، كان فيها الظهور للشيعي واستيلاؤه على بلاده فخروج زيادة الله من المغرب إلى المشرق سنة ستّ وتسعين.

ثمّ تفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيّامهم، وأصبحت افريقية وصقلية في حكم عبيد الله المهدي ودانت له، وبعث العمّال في نواحيها وأصبحت صقلية في ولاية الكلبيّين ؛ فكان أول والٍ عليها من قبل المهدي الحسن بن محمد بن أبي خنزير(١) من رجالات كتامة، فوصل إلى مازر سنة سبع وتسعين في العساكر، فولّى أخاه على كبركيت، وولّى على القضاء بصقلية اسحق بن المنهال.

ثمّ سار سنة ثمان وتسعين في العساكر إلى دمشق فعاث في نواحيها ورجع، ثمّ شكى أهل صقلية سوء سيرته وثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولّى عليهم أحمد بن قهرب، وبعث سريّةً إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي.

ثّم أرسل سنة ثلاثمئة ابنه عليّاً إلى قلعة طرمن المحدثة ليتخذها حصناً لحاشيته وأمواله حذراً من ثورة أهل صقلية. فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامه وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه.

وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى افريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن ابن أبي خنزير فقتلوه وأحرقوا الأسطول.

وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها، وانتهوا إلى طرابلس، وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي، ثمّ وصلت الخِلَع

____________________

(١) وفي تاريخ أبي الفداء ابن أبي حفترير.

٣٢٧

والألوية من المقتدر إلى ابن قهرب، ثمّ بعث الجيش في الأسطول إلى قلوية، فعاثوا في نواحيها ورجعوا، ثمّ بعث ثانيةً أسطولاً إلى افريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي، ثمّ ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمئة وحبسوه وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر خنزير في جماعةٍ من خاصّته.

وولّى على صقلية أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة، فركب إليها البحر فنزل في طرانية، وعصى عليه أهل صقلية بمَن معه من العساكر فامتنعوا عليه وقاتله أهل كبركيت وأهل طرانية، فهزمهم وقتلهم، ثمّ استأمن إليه أهل طرانية فأمنهم وهدم أبوابها.

وأمره المهدي بالعفو عنهم، ثمّ ولّى المهدي على صقلية سالم بن راشد، وأمدّه سنة ثلاث عشرة بالعساكر، فعبر البحر إلى أرض انكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصوناً ورجعوا، ثمّ عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أيّاماً، ورحلوا عنها، ولم يزل أهل صقلية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلية وقلورية ويعيثون في نواحيها.

وبعثّ المهدي سنة ثنتين وعشرين جيشاً في البحر مع يعقوب بن إسحاق فعاث في نواحي جنوة. ولمّا كانت سنة خمس وعشرين انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد، وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم واستمدّ القائم فأمده بالعساكر مع خليل بن اسحاق، فلمّا وصل إلى صقلية شكا إليه أهلها من سالم بن راشد، واسترحمته النساء والصبيان، وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلية بمثل ذلك، فرقّ لشكواهم ودسّ إليهم سالمٌ بأنّ خليلاً إنّما جاء للانتقام منهم بمَن قتلوا من العسكر. فعاودوا الخلاف واختطّ خليل مدينةً على مرسى المدينة وسمّاها الخالصة.

وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدّوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ستّ وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم. حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة واجتمع أهل صقلية على الخلاف، واستمدّوا ملك القسطنطينية فأمدّهم بالمقاتلة والطعام، واستمدّ خليل القائم فأمدّه بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلّوط وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين ؛ فارتحل عنها وحاصر كبركيت ثمّ حبس عليها عسكراً للحصار مع أبي خلف بن هارون، ورحل عنها وطال حصارها إلى سنة

٣٢٨

تسع وعشرين. فهرب كثيرٌ من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة، ثمّ غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا.

ورجع خليل إلى أفريقية آخر سنة تسع وعشرين، وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجّة البحر فغرقوا أجمعين.

ثمّ ولّى على صقلية عطاف الأزدي.

ثمّ كانت فتنة أبي يزيد، وشُغل القائم والمنصور بأمره، فلمّا انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلية للحسن بن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قوّاده، وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محلٌّ كبير في مدافعة أبي يزيد عناء عظيم.

وكان سبب ولايته أنّ أهل بليرم كانوا قد استضعفوا عطافاً، واستضعفهم العدو لعجزه ؛ فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين.

وتولّى كبروبك بنو الطير منهم، ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمدّه، فولّى الحسن بن علي على صقلية، وركب البحر إلى مازر وأرسى بها فلم يلقه أحدٌ منهم، وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير، وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه، فسبق ميعادهم ودخل المدينة ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين.

واضطرّ بنو الطير إلى لقائه وخرج إليهم كبيرهم إسماعيل، ولحق به من انحرف عن بني الطير فكثر جمعه، ودسّ إسماعيل بعض غلمانه فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنّه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أنّ الحسن لا يعاقب مملوكه فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل واستحلفه على دعواه وقتل عبده. فسرّ الناس بذلك ومالوا عن الطير وأصحابه وافترق جمعهم. وضبط الحسن أمره وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين، وبعث ملك الروم بطريقاً في البحر في عسكرٍ كبيرٍ إلى صقلية واجتمع هو والسردغرس.

واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمئة راجل، وجمع الحسن مَن كان عنده وسار برّاً وبحراً وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها. وزحف إليه الروم، فصالحه على مالٍ أخذه، وزحف إلى الروم ففرّوا من غير حرب.

ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهراً وصالحهم على مال، ورجع بالأسطول إلى مسينة فشتى بها.

وجاءه أمر

٣٢٩

المنصور بالرجوع إلى قلورية، فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس، فهزمهم وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمئة.

ثمّ سار إلى خراجة في حرّها حتّى هادنه ملك الروم قسطنطين.

ثمّ عاد إلى ربو وبنى بها مسجداً وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأنّ مَن دخله من الأسرى أمن.

ولمّا توفّي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن واستخلف على صقلية ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية، فغزاها وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها، فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفاً مدداً.

وبعث أحمد يستمدّ المعز، فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن، وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة ورجفوا إلى رومطة، ومقدّم الجيش على حصارها الحسن بن عمّار وأبن أخي الحسن بن علي. فأحاط الروم بهم وخرج أهل البلد إليهم، وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقُتل جماعة من البطارقة معه، وانهزم الروم وتتبّعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي.

ثم فتحو رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلية وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب، فحرقوا مراكبهم وقتل كثير منهم، وتُعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز وكانت سنة أربع وخمسين، وأسر فيها ألف من عظمائهم ومئة بطريق، وجاءت الغنائم والأُسارى إلى مدينة بليرم حضرة صقلية، وخرج الحسن للقائهم فأصابته الحمّى من الفرح فمات وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلية بعد أن ولّى المعزّ عليهم يعيش مولى الحسن، فلم ينهض بالأمر ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعزّ فولّى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابةً عن أخيه أحمد، ثمّ توفّي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين، واستبدّ بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلاًّ محيّاً.

وسار إليه سنة إحدى وسبعين ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم فلمّا قاربهم خام عن اللقاء ورجع.

وكان الإفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في أتباعه وأدركه، فاقتتلوا وقُتل

٣٣٠

أبو القاسم في الحرب، وأهمّ المسلمين أمرهم فاستماتوا وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة. ونجا ردويل إلى خيامه برأسه وركب البحر إلى رومة. وولّى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابراً فرحل بالمسلمين لوقته راجعاً ولم يعرّج على الغنائم.

وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفاً، وكان عادلاً حسن السيرة، ولمّا ولي ابن عمّه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور وحسنت الأحوال، وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم. وتوفّي سنة خمس وسبعين، ووُلِّي أخوه عبد الله فاتّبع سيرة أخيه إلى أن توفّي سنة تسع وسبعين.

ووُلِّي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن فأنسى بجلائله وفضائله مَن كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج وعطّل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين.

وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمئة أنّه مع البربر والعبيد ؛ فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله ونفى البربر والعبيد واستقامت أحواله. ثمّ انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني، فثار عليه الناس بسببها وجاؤوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفّة، فتلطّف بالناس وسلّم إليهم الباغاني فقتلوه وقتلوا حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر ورحل إلى مصر وولّى ابنه ابن جعفر سنة عشرة، ولقبّه بأسد الدولة بن تاج الدولة ويُعرف بالأكحل ؛ فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده، فأساء ابن جعفر السيرة وتحامل على صقلية ومال إلى أهل افريقية، وضجّ الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان وأظهروا دعوته ؛ فبعث الأسطول فيه ثلاثمئة فارس مع ولديه عبد الله وأيّوب.

واجتمع أهل صقلية وحصروا أميرهم الأكحل، وقُتل وحُمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمئة.

ثمّ ندم أهل صقلية على ما فعلوه، وثاروا بأهل افريقية وقتلوا منهم نحواً من ثلاثمئة وأخرجوهم، وولّوا الصمصام أخا الأكحل. فاضطربت الأمور وغلب السفلة على الأشراف.

ثمّ ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدّموا عليهم ابن الثمنة من رؤوس الأجناد، وتلقّب القادر بالله واستبدّ بمازر... ابنه عبد الله قبل

٣٣١

الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقلّ بملك الجزيرة إلى أن أُخذت من يده. ولمّا استبدّ ابن الثمنة بصقلية تزوّج ميمونة بنت الجراس، فتخيّل له منها شيء فسقاها السمّ، ثمّ تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها وأفاقت، فندم واعتذر، فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها.

ووقعت الفتنة وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس، فانتصر ابن الثمنة بالروم وجاء القمص، وجاء ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من أخوته وجمع من الفرنج ووعدهم بملك صقلية، وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى افريقية عُمر بن خلف بن مكّي فنزل تونس ووُلِّي قضاؤها، ولم يزل الروم يملكونها حتّى لم يبق إلاّ المعاقل.

وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحاً سنة أربع وستين وأربعمئة. وتملّكها رجار كلّها وانقطعت كلمة الإسلام منها، ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدتهم خمس وتسعون سنة.

ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه، وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب: نزهة المشارق(١) في أخبار الآفاق.

وممّن شارك من الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة ومَن ساهم في أعمالها

١ - كان الكتاميّون أوّل من لبّى الدعوة الفاطميّة وأيّدوا داعيها أبا عبد الله الشيعي، وقد عرفت في تضاعيف البحث عنهم وفيما سبق في تاريخ الدولة الفاطميّة، ما كان لهم من المكانة والمنزلة في بلاد المغرب، وبنصرتهم مهدّ أبو عبد الله الأمر لأوّل خلفائهم أبي عبيد الله الملقّب بالمهدي، وبهم انتصر المهديُّ على بني الأغلب وبني مدرار، واستولى على سلطانهم الذي طوى قروناً وقد عرف لهم بلاءهم وقسّم على وجوههم الأعمال سنة ٢٩٧.

وفي خطط المقريزي:

وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ بن

____________________

(١) المعروف المشتاق بدل المشارق.

٣٣٢

المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لمّا سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة ٣٥٨ وهم أيضاً كانوا أكابر من قَدِم معه من الغرب في سنة ٣٦٢، فلمّا كان في أيّام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الديلم والأتراك وقدمهم وجعلهم خاصّته، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز بالله، وقام من بعده أبو علي المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله فقدّم ابن عمّار الكتامي وولاّه الوساطة ج ٣ ص ١٨.

ولمّا انحرف أبو عبد الله وأخوه أبو الفضل أحمد عن المهدي لاستبداده دونهما بالأمر، وحاولا الانتقاض عليه وائتمرا على قتله، وأرسلا شيخ مشايخ كتامة لامتحان المهدي وتوهين أمره بزعمهما، بعد أن هبّت ريحه واشتدّت عصبته وقويت بالكتاميين أنفسهم شوكته، فخدعا ذلك الكتاميّ الذي جُوزي بالقتل، أعادا المؤامرة على المهدي وكان من الكتاميّين في المؤتمرين أبو زاكي تمّام بن معارك، ولكنّ المهدي تعجّل تنفيذ المؤامرة بقتلهما، ولمّا علم بمداخلة أبي زاكي في المؤامرة بعثه والياً على طرابلس وأمر واليها بقتله فقتله.

وظهرت فتنة سكنها المهدي، ورجعت كتامة إلى بلادها بعد أن استقرّ له الأمر.

٢ و ٣ - عروبة وأخوه حباسة:

لمّا قوي أمر الشيعي والتقى جيشه وجيش زيادة الله وقد بلغ عدده مئة ألف، وقد زحف لقتال الشيعي وكتامة إبراهيم بن جيش من صنائع زيادة الله وقد تلقّته كتامة بإجانة فانهزمت عساكره وتقهقر إلى باغاية ثمّ إلى القيروان.

وكان ممّن توجّه لقتال زيادة الله عروبة بن يوسف من أمراء كتامة وأوقع بباغاية.

ولمّا فرّ زيادة الله إلى الشرق حضر الشيعي وفي مقدّمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي جفترير (خنزير) وهما اللذان أمرهما المهديُّ بقتل الشيعي وأخيه سنة ٢٩٧، وبعد قتلهما ولّى حباسة على برقة وعلى المغرب عروبة، وأنزله باغاية إلى تاهرت وافتتحها.

وفي سنة ٣٠٠ هـ لمّا أغزى المهدي ابنه أبا القاسم الإسكندرية بعث أسطولاً مؤلّفاً من مئتي مركب، عقد لواءه على حباسة، فملكوا برقة ثمّ الاسكندرية والفيّوم، ثمّ عاد حباسة بعد أن بعث المقتدر العبّاسي سبكتكين ومؤنساً الخادم سنة ٣٠٢.

وقد قتل المهدي حباسة فشقّ ذلك على أخيه عروبة فانتقض عليه، وتبعه جموع من كتامة والبربر،

٣٣٣

فأرسل إليهم المهدي مولاه غالباً فهزمهم وقتل عروبة وبني عمّه وكثيراً من أشياعهم.

٤ - يعقوب الكتامي:

لما جهّز المهدي سنة ٣٠٧ ابنه أبا القاسم على مصر ثالثةً فملك الإسكندرية والجزيرة والأشمونين، فأرسل المقتدر مؤنساً، وبعد عدّة مواقع انتصرت مراكب الخليفة القادمة من طرسوس وكانت خمسة وعشرين مركباً على أسطول افريقية المؤلّف من ثمانين مركباً، وقد سيّر نجدةً لأبي القاسم يقوده سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وقد أُسرا، أمّا سليمان فقد مات في السجن، ويعقوب فقد هرب من حبس بغداد وكان قد سيّر إليها.

٥ - الحسن بن هارون الكتامي:

جمع هذا الرجل كلمة قبيلة كتامة لتأييد دعوة أبي عبد الله الشيعي، وذلك أنّه لمّا بلغ ابن الأغلب خبره كتب إلى عامله على ميلة يسأله عنه فصغّره، وذكر أنّه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه.

ثمّ قال الشيعي للكتاميين: أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني، فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره، وتفرقت كلمة البربر وكتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد، واتصل الخبر بالحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكانٍ وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبد الله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار وشهر الحروب فكان له الظفر فيها، وغنم الأموال وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها واقتتلوا ثمّ اصطلحوا ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة ظفر بهم وصارت إليه أمولهم، فاستقام له أمر البربر وكتامة.

٦ - ريحان الكتامي:

ولاّه موسى بن أبي العافية على فاس سنة ٣٠٩ هـ.

وفي سنة ٣١٣ ثار عليه الحسن بن محمد بن القاسم الإدريسي الملقّب بالحجام ونفاه عن فاس.

٧ - عبد الله بن يخلف الكتامي:

ولاّه المعزّ على طرابلس سنة ٣٦١ هـ. وهي السنة التي عزم على المسير فيها إلى مصر، وقد مهّد له

٣٣٤

جوهر ملكها، وأبقى صقلية في يد ابن الكلبي أبي القاسم علي بن الحسن بن علي بن أبي الحسين.

وفي سنة ٣٦٥ أقرّه العزيز نزار على طرابلس وأضاف إلى ولايته سرت وجرابية.

٨ و ٩ - من رؤساء كتامة الذين رافقوا أبا عبد الله الشيعي من مكّة إلى مصر فافريقية وأيّدوا دعوته: حريث الجميلي وموسى بن مكاد.

١٠ - جعفر بن فلاح الكتامي:

كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصريّة، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فتغلّب على الرملة سنة ٣٥٨، ثمّ غلب على دمشق وملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ٣٦٠، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل فظفر به القرمطي، وقتله وقتل خلقاً كثيراً من أصحابه سنة ٣٦١.

وقد ترجم له القاضي ابن خلّكان في وفياته ؛ فقال: كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي صاحب افريقية، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصرية، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فغلب على الرملة في ذي الحجّة سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، ثمّ غلب على دمشق فملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ستّين، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل، فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقاً كثيراً، وذلك في يوم الخميس لستّ خلون من ذي القعدة سنة ٣٦٠ (ره).

وقال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوباً:

يا منزلاً عبث الزمانُ بأهله فـأبادهم بـتفرّقٍ لا يجمعُ

أيـن الذين عهدتهم بك مرّةً كان الزمان بهم يضر وينفعُ

٣٣٥

وكان جعفر المذكور رئيساً جليل القدر ممدوحاً، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هاني الأندلسي:

كـانت مساءلة الركبان تخبرني عن جعفر بن فلاح أطيب الخبرِ

حـتّى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري

١١ - سليمان بن جعفر بن فلاح:

قال القلانسي:

(وكان هذا القائد مشهوراً بالكفاية والغناء وتوقّد اليقظة في أحواله والمضاء، ويكنّى بأبي تميم، بعثه العزيز بالله والياً على دمشق سنة ٣٦٩ فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام الحارثي من دخولها وقوتل وأزعج من مكانه).

وفي سنة ٣٨٦ جهّزه الحاكم بأمر الله إلى الشام لقتال برجوان، وقد انتقض عليه بسبب تغلّب ابن عمّار وكتامة على الشام، فبعث سليمان هذا أخاه عليّاً إلى دمشق، فامتنع أهلها عليه فكاتبهم وتهددهم وأذعنوا ودخل البلد ففتك بهم، ثمّ قدم أبو تميم فأمن وأحسن. وبعث أخاه عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة، فسار إلى مصر. وبعد قتل ابن عمّار وإظهار برجوان الحاكم وتجديد البيعة له انتقض برجوان على أبي تميم بن فلاح.

قال المقريزي في خططه:

(وفي سنة ٣٨٦ هـ ندب الحسن بن عمّار أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح وقدّمه وجعله اسفهلاّر الجيش، وأمره بالمسير إلى الشام، فسار من مصر ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ أموالها.

وجرى بينه وبين سليمان حرب في عسقلان انتهت بهزيمة منجوتكين، ولمّا انجلت فتنة ابن عمّار بتجديد البيعة للحاكم بأمر الله، وكتب بذلك إلى دمشق وفيه ما يبعث على الوثوب على سليمان، ولمّا كان مع ما عُرف به من الكفاية واليقظة والمضاء، مستهتراً بشرب الراح واستماع الغناء والتوفّر على اللذة، ولمّا وردت المطلقات المصريّة بما اشتملت عليه في حقّه وهو منهمك في القهوة، لم يشعر إلاّ بزحف العامّة والمشارقة إلى قصره وهجومهم عليه، فخرج هارباً على ظهر فرسه. (انتهى ملخّصاً عن تاريخ ابن القلانسي).

٣٣٦

وكان برجوان ألدّ أعداء ابن عمّار وهو الذي عمل على إسقاطه والاستئثار دونه بأمر الخلافة. وفي هذه السنة اصطنع جيش بن محمد بن الصمصامة، وقدّمه وجهّز معه ألف رجلٍ وسيّره إلى دمشق وأعمالها، وبسط يده في الأموال وردّ إليه تدبير الأعمال، فسار جيش ونزل على الرملة، والوالي عليها وحيد الهلالي، ومعه خمسة آلاف رجل، ووافاه ولاة البلد وخدموه. وصادف القائد أبا تميم سليمان بن فلاح فقبضه قبضاً جميلاً.

وسار جيش بن الصمصامة على مقدّمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه، فهرب بين يديه حتّى لحق بجبلي طيئ وتبعه حتّى كاد يأخذه، ثمّ عفى عنه واستحلفه على ما قرّره معه وعاد إلى الرملة. وستجد أخباره في غير هذا المكان.

وفي خطط المقريزي ج ٤ ص ٦٨:

وفي سنة ٣٨٦ هـ ولي الحاكم بأمر الله الخلافة بعد أبيه العزيز بالله نزار، وجعل أبا محمد الحسن بن عمّار وساطة ولقّب بأمين الدولة وقلّد سليمان بن فلاح الشام. فخرج بنجوتكين من دمشق وسار منها لمدافعته، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجراح الطائي في كثيرٍ من العرب، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ ثمّ أُسر فحمل إلى القاهرة.

وفي سنة ٣٨٧ صرف عن ولاية الشام بجيش بن الصمصامة.

١٢ - علي بن جعفر بن فلاح الكتامي:

الملقّب بقطب الدولة كذا في خطط الشام، تقدّم شيء من خبره في أخبار أخيه سليمان، فقد ولي دمشق من قبل أخيه ثمّ طرابلس.

وفي سنة ٣٩٠ ولي(١) دمشق بعد وفاة واليها فحل بشهور.

وفي سنة ٣٩٢ في شهر رمضان قلد ولايتها تموصلت (طرفلة) عوضاً عن ابن فلاح.

وفي سنة ٣٩٨ مات منجوتكين وولّي علي بن فلاح دمشق. وفي هذه السنة ولّي ولاية طرابلس.

وفي سنة ٣٩٩ ولّي دمشق القائد حامد بن ملهم لست بقين من رجب، وكان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستولياً على الجند نافذ الأمر

____________________

(١) وفي سنة ٣٩٧ كان من قوّاد الجيش الشامي الحاكمي لقتال أبي ركوة الذي خرج على الحاكم واستفحل أمره، وانضمّ إليه بنو قرّة وبعض كتامة لمّا نالهم جميعاً من اضطهاد الحاكم وسوء سياسته، وانتهى أمر أبي ركوة بالانكسار والقتل، ولم يذكر في الكامل خروجه لحرب أبي ركوة.

٣٣٧

في البلد، فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان.

وكانت مدّة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة أشهر ونصف شهر.

وفي سنة ٤٠٩ جاء في الخطط ج ٤ ص ٧٤:

وأقام (الحاكم) ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن علي بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة.

١٣ - القائد أبو محمود بن إبراهيم بن جعفر:

هكذا نسبه في ذيل تاريخ دمشق (ابن القلانسي).

وفي خطط الشام: أبو محمود بن جعفر بن فلاح.

وفي تاريخ ابن خلدون: أبو محمود بن إبراهيم.

وفي الخطط في مكان آخر: وجيش بن محمد بن الصمصامة أبو الفتوح القائد المغربي هو ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام المتوفّى سنة ٣٩١.

وفي خطط المقريزي: أبو محمود إبراهيم بن جعفر.

وأبو محمود من شيوخ كتامة كان من قوّاد المعز وابنه العزيز، ففي سنة ٣٦٣ جرّد في خمسة عشر ألف رجل في طلب القرمطي، وقد فرّ من مصر مغلولاً، فاتبعه وتثاقل في سيره خوفاً من رجوعه عليه. ولمّا علم أبو محمود ارتحاله من أذرعات إلى الأحساء رحل ونزل بها مكانه. وفي هذه السنة وصل بجيشه إلى دمشق، وكان والياً عليها ظالم بن موهوب العقيلي، فخرج لتلقّيه ولمّا نزل على دمشق في جيشه اضطرب الناس وجرت أمورٌ عظام بين الجيش والدمشقيين لم تنفرج إلاّ بعد شهرين ونصف شهر. وتقرّرت الموادعة والمصالحة إلى أن ولي جيش بن الصمصامة البلد من قبل خاله أبي محمود. ولمّا استقرّ الصلح والموادعة بين أهل دمشق وأبي محمود، وخمدت نار الفتنة بعض الخمود، وركدت ريحها بعض الركود، وسكنت نفوس أهل البلد واطمأنت القلوب بين الفريقين، اعتمد أبو محمود على ابن أخته جيش في ولاية دمشق وحمايتها. ولكن لم يطل الأمر حتّى عادت الفتنة، ممّا حدا بالمعز أن يولّي ريّان الخادم عقيب هذه الفتنة والياً عليها، ويستقدمه من طرابلس فيصرف أبو محمود عن دمشق. ولكن أهل دمشق لم تطب نفوسهم لحكم المغاربة والفاطميّين وصادف أن كان قد نزل ضاحية دمشق الفتكين المغربي، فحملوه على ولاية حكم بلدهم. وقد جرت حروب بين جيوش المعز والفتكين. وقد استنجد بالقرمطي، استدعت أخيراً أن يتولّى المعز

٣٣٨

بنفسه القيادة العامّة للجيوش المصرية، وينتهي الأمر بفوزها على الفتكين والقبض عليه، ثمّ العفو عنه وحمله إلى مصر معزّزاً مكرّماً.

ثمّ غلب قسام الحارثي من قرية تلفيت ومن خواص أصحاب الفتكين على دمشق سنة ٣٦١ بعد أن كانت في ولاية حميدان.

ووليها بعده القائد أبو محمود في نفرٍ يسير، وهو ضميمة لقسام وما زال على هذه الحال إلى سنة ٣٧٠ حيث هلك فيها.

١٤ - أبو الفتوح جيش بن محمد بن صمصامة:

القائد المغربي ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام. تولّى نيابة دمشق غير مرّة وكان ظالماً سفّاكاً للدماء.

قالوا: وعمّ الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال، حتّى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلاّ امتلأ من جوره. توفي سنة ٣٩١.

ولي دمشق سنة ٣٦٤ بعد إخراج ظالم منها، وسكن الناس إليه بعد فتنة. ولمّا عاد المغاربة إلى الجيش وعاد العامّة إلى الثورة وقصدوا القصر الذي فيه جيش، هرب ولحق بالعسكر.

وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي، وقطع الماء عن البلد، فضاقت الأحوال وبطلت الأسواق وبلغ الخبر إلى المعز فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى ريان الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل افتكين (هفتكين) والياً عليها.

وبعد وفاة المعز سنة ٣٦٥ وولاية ابنه العزيز والظفر بافتكين والقبض عليه وولاية قسام الحارثي، كان مع قسام جيش وأقام بعده في ولايته، وقد زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسام أنّه جاء لإصلاح البلد، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول في ظاهر البلد هو وأصحابه.

واستوحش قسام وتجهّز للحرب ثمّ قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا، واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين وشافهوه بذلك فأذن لهم.

وسمع قسام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسام فأمن الجميع.

وولّي على البلد أمير اسمه خطلج، فدخل البلد في المحرم سنة اثنتين وستّين، ثمّ اختفى قسام بعد يومين فانتهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقياً بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمنه العزيز.

٣٣٩

ولمّا توفّي العزيز سنة ٣٨٦ هـ. وولي بعده ولده الحاكم بأمر الله، وكان برجوان الخادم قد استولى على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولة، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار، ولُقّب بأمين الدولة. وقد تغلّب ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم.

ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك، فأظهر الانتقاض.

وجهّز ابن عمّار العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح، فلقيهم بعسقلان وانهزم منجوتكين وأصحابه، وسيق أسيراً إلى مصر فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة.

وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، فبعث من طبرية أخاه عليّاً على دمشق. ولمّا جرى منه فيها أُمور لم ترضه وقدم إليها بعث عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش ابن الصمصامة، فسار إلى مصر وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة. نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة.

وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة، فانهزمت المغاربة واختفى ابن عمّار، وأظهر برجوان الحاكم وجدّد له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح.

ولمّا زحف الدوقش ملك الروم على حصن افامية محاصراً لها، جهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان وأسطولاً في البحر.

ثمّ سار جيش إلى المفرج ابن دغفل، فهرب أمامه ووصل إلى دمشق وتلقّاه أهلها مذعنين فأحسن إليهم وسكنهم ورفع أيدي العدوان عنهم.

ثمّ سار إلى افامية وصافّ الروم عندها فانهزم أوّلاً هو وأصحابه، وثبت بشارة اخشيدي بن قرارة في خمس عشرة فارساً، ووقف الدوقش ملك الروم على رابيةٍ في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الاخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمناً، فلمّا دنا منه ضربه بالخشت فقتله وانهزم الروم، واتبعهم جيش بن الصمصامة إلى انطاكية يغنم ويسبي ويحرق.

ثمّ عاد مظفّراً إلى دمشق، فنزل بظاهرها ولم يدخل، واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم، وأقيم له الطعام في كلّ يوم، وأقام على ذلك برهة ثمّ أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529