حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام7%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218102 / تحميل: 6651
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

نبعته. وخصه بسره ، وجعله باب مدينته ، وأعلم بحبه المسلمين ، وأبان ببغضه المنافقين ، فلم يزل كذلك يؤيده بمعونته ، ويمضى على سنن استقامته لا يرجع لراحة اللذات وهو مفلق الهام ، ومكسر الأصنام ، إذ صلى والناس مشركون ، وأطاع والناس مرتابون ، فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر ، وأفنى أهل أحد ، وفرق جمع هوازن ، فيا لها وقائع زرعت فى قلوب قوم نفاقا ، وردة وشقاقا ، وقد اجتهدت فى القول ، وبالغت فى النصيحة ، وبالله التوفيق وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ».

فانتفخت أوداج معاوية غيظا وحنقا وقال لها بنبرات تقطر غضبا :

« والله يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلي ، والله لو قتلتك ما حرجت فى ذلك ».

فأجابته وهي غير خائفة منه :

« والله ما يسؤني يا ابن هند أن يجري الله ذلك على يد من يسعدني الله بشقائه ».

ـ هيهات يا كثيرة الفضول ، ما تقولين فى عثمان بن عفان؟

ـ وما عسيت أن أقول فيه استخلفه الناس وهم كارهون ، وقتلوه وهم راضون.

وبعد حديث جرى بينهما أطلق أخيرا سراحها وعفا عنها(١) .

٣ ـ سودة بنت عمارة :

وسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمداني من سيدات نساء العراق ، ومن ربات الفصاحة والبيان ، ورثت حب أمير المؤمنين من آبائها الكرام الذين عرفوا بالحب والأخلاص له ، وفدت على معاوية تشتكي عنده جور عامله

__________________

(١) اعلام النساء ١ / ٣٣٢ ، بلاغات النساء ص ٣٦ صبح الأعشى.

٤٠١

فلما دخلت عليه عرفها فقال لها :

ألست القائلة يوم صفين؟ :

شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة

يوم الطعان وملتقى الأقران

وانصر عليا والحسين ورهطه

واقصد لهند وابنها بهوان

إن الإمام أخا النبي محمد

علم الهدى ومنارة الإيمان

فقد الجيوش وسر أمام لوائه

قدما بأبيض صارم وسنان

قالت : « أي والله ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب ».

ـ فما حملك على ذلك؟!

ـ حب علي وإتباع الحق.

ـ فو الله ما أرى عليك من أثر علي شيئا؟!

ـ يا أمير المؤمنين مات الرأس وبتر الذنب ، فدع عنك تذكار ما قد نسي واعادة ما مضى.

ـ هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى ، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك.

ـ صدق فوك لم يكن أخي ذميم المقام ، ولا خفي المكان كان والله كقول الخنساء :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم فى رأسه نار

ـ صدقت كان كذلك.

ـ مات الرأس وبتر الذنب ، وبالله أسأل أمير المؤمنين اعفائي مما استعفيت منه.

ـ قد فعلت فما حاجتك؟

ـ إنك أصبحت للناس سيدا. ولأمرهم متقلدا ، والله سائلك من

٤٠٢

أمرنا ، وما افترض من حقنا. ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزك. ويبطش بسلطانك فيحصدنا حصد السنبل ، ويدوسنا دوس البقر ، ويسومنا الخسيسة ، ويسلبنا الجليلة هذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي وأخذ مالي ، ولو لا الطاعة لكان فينا عز ومنعة ، فأما عزلته عنا فشكرناك ، وإما لا فعرفناك.

فتأثر معاوية من كلامها وقال لها :

« أتهدديني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه ».

فأطرقت الى الأرض وهي باكية العين حزينة القلب ثم أنشأت تقول :

صلى الإله على جسم تضمنه

قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلا

فصار بالحق والإيمان مقرونا

ـ ومن ذلك؟

ـ علي بن أبي طالب.

ـ وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟

ـ قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين ، فأتيت علياعليه‌السلام لأشكو إليه ما صنع ، فوجدته قائما يصلي فلما نظر إلي انفتل من صلاته ، ثم قال لي برأفة وتعطف : ألك حاجة؟ فأخبرته الخبر فبكى ثم قال : « اللهم إنك أنت الشاهد عليّ وعليهم أني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا بترك حقك » ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب ، فكتب فيها : « بسم الله الرحمن الرحيم ، قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ، وما أنا

٤٠٣

عليكم بحفيظ ، إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام » فأخذته منه ، والله ما ختمه بطين ولا حزمه بحزام.

فتبهر معاوية وتعجب من هذا العدل والإنصاف وقال : « أكتبوا لها بالانصاف والعدل لها ».

فانبرت إليه قائلة :

« ألي خاصة أم لقومى عامة؟ »

ـ وما أنت وغيرك؟

ـ هي والله إذن الفحشاء واللؤم ، إن لم يكن عدلا شاملا ، وإلا فأنا كسائر قومى.

ـ هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة وغركم قوله :

فلو كنت بوابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

ثم قال : « اكتبوا لها ولقومها بحاجتها »(١) .

٤ ـ أم البراء بنت صفوان :

وكانت أم البراء بنت صفوان بن هلال من سيدات النساء في عفتها وطهارة ذيلها ، عرفت بالولاء والإخلاص لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان لها موقف مشرف في صفين فكانت تحرض الجماهير الحاشدة على مناجزة معاوية وقتاله ، ولما انتهى الأمر إليه وفدت عليه فقال لها :

« كيف أنت يا بنت صفوان؟ »

ـ بخير يا أمير المؤمنين.

ـ كيف حالك؟

__________________

(١) أعلام النساء ٢ / ٦٦٣ ، العقد الفريد ١ / ٢١١ ، بلاغات النساء ص ٣٠.

٤٠٤

ـ ضعفت بعد جلد ، وكسلت بعد نشاط.

ـ شتان بينك اليوم وحين تقولين :

يا عمرو دونك صارما ذا رونق

غضب المهزة ليس بالخوار

أسرج جوادك مسرعا ومشمرا

للحرب غير معرد لفرار

أجب الإمام ودب تحت لوائه

وافر العدو بصارم بتار

يا ليتني أصبحت ليس بعورة

فأذب عنه عساكر الفجار

ـ قد كان ذاك يا أمير المؤمنين ، ومثلك عفا والله تعالى يقول :

« عفا الله عما سلف ».

ـ هيهات أما انه لو عاد لعدت ، ولكن أخترم دونك فكيف قولك حين قتل؟ » فقالت نسيته.

فانبرى إليه بعض جلسائه فقال إنها تقول :

يا للرجال لعظم هول مصيبة

فدحت فليس مصابها بالهازل

الشمس كاسفة لفقد إمامنا

خير الخلائق والإمام العادل

يا خير من ركب المطي ومن مشى

فوق التراب لمحتف أو ناعل

حاشا النبي لقد هددت قواءنا

فالحق أصبح خاضعا للباطل

فتألم ابن هند وقال لها :

« قاتلك الله يا بنت صفوان ، ما تركت لقائل مقالا اذكري حاجتك ».

ولما رأت بنت صفوان الاستهانة والتحقير من معاوية امتنعت أن تفوه بحاجتها وتسأله بمسألتها فقالت له :

« هيهات بعد هذا والله لا سألتك شيئا ».

ولما قامت من مجلسه عثرت فقالت : « تعس شاءني علي »(١) .

__________________

(١) بلاغات النساء ص ٧٥ ، وصبح الأعشى.

٤٠٥

وقد لاقت هذه المرأة النبيلة الكريمة المحتد والطيبة العنصر الاستهانة والإذلال لحبها لأمير المؤمنين.

٥ ـ بكارة الهلالية :

وبكارة الهلالية من سيدات النساء الموصوفات بالشجاعة والإقدام والفصاحة والبلاغة ، كانت من أنصار أمير المؤمنين في واقعة صفين وقد خطبت فيها خطبا حماسية دعت فيها جنود الحق للذب عن سيد المسلمين وأمير المؤمنين (ع) ولحرب عدوه.

وفدت بكارة على معاوية بعد أن تم له الأمر ، وقد كبرت ودق عظمها ، ومعها خادمان وهي متكئة عليهما وبيدها عكاز ، فسلمت على معاوية بالخلافة فأحسن لها الرد وأذن لها بالجلوس ، وكان عنده مروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، فعرفها مروان فالتفت الى معاوية قائلا : « أما تعرف هذه يا أمير المؤمنين؟ »

ـ ومن هي؟

ـ هي التي كانت تعين علينا يوم صفين وهي القائلة :

يا زيد دونك فاستثر من دارنا

سيفا حساما فى التراب دفينا

قد كان مذخورا لكل عظيمة

فاليوم أبرزه الزمان مصونا

واندفع ابن العاص قائلا : يا أمير المؤمنين وهي القائلة :

أترى ابن هند للخلافة مالكا

هيهات ذاك وما أراد بعيد

منتك نفسك في الخلاء ضلالة

أغراك عمرو للشقاء وسعيد

فارجع بأنكد طائر بنحوسها

لاقت عليا أسعد وسعود

وانبرى بعدهما سعيد قائلا : يا أمير المؤمنين وهي القائلة :

قد كنت آمل أن أموت ولا أرى

فوق المنابر من أميّة خاطبا

٤٠٦

فالله أخر مدتي فتطاولت

حتى رأيت من الزمان عجائبا

في كل يوم لا يزال خطيبهم

وسط الجموع لآل أحمد عائبا

وسكت القوم ، فالتفتت بكارة الى معاوية قائلة له :

« نبحتنى كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني ، فقصرت محجتي وكثر عجبي ، وغشي بصري ، وأنا والله قائلة ما قالوا لا أدفع ذلك بتكذيب ، فامض لشأنك ، فلا خير فى العيش بعد أمير المؤمنين »(١) .

ثم انصرفت والألم يحز فى فؤادها ، قد نبحتها كلاب معاوية واحتوشها جلساؤه الأوغاد.

٦ ـ أروى بنت الحارث :

وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب من سيدات نساء المسلمين فى اقدامها وشجاعتها وحسن منطقها ، قد عرفت بالولاء والحب لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفدت على معاوية فوجهت له سهاما من القول ، وعرضت في كلامها عن محنة أهل البيت (ع) وما لاقوه بعد النبي (ص) من المحن والبلاء وهذا نص كلامها :

« أنت يا ابن أخي لقد كفرت بالنعمة ، وأسأت لابن عمك ـ يعني عليا ـ الصحبة ، وتسميت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك بغير بلاء كان منك ولا من آبائك في الإسلام ، ولقد كفرتم بما جاء به محمد (ص) فأتعس الله منكم الجدود ، وأصعر منكم الخدود ، حتى رد الله الحق الى أهله ، وكانت كلمة الله هي العليا ، ونبينا محمد (ص) هو المنصور على من ناوأه ولو كره المشركون ، فكنا أهل البيت أعظم الناس فى الدين حظا ونصيبا وقدرا حتى قبض الله نبيه (ص) مغفورا ذنبه ، مرفوعا

__________________

(١) بلاغات النساء ص ٣٤ ، عقد الفريد.

٤٠٧

درجته شريفا عند الله مرضيا فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون يذبحون أبناءهم ، ويستحيون نساءهم ، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى حيث يقول : « يا ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » ، ولم يجمع بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لنا شمل ، ولم يسهل لنا وعر ، وغايتنا الجنة ، وغايتكم النار ».

وكان ابن العاص حاضرا فلسعه كلامها فاندفع قائلا :

« أيتها العجوز الضالة أقصري من قولك ، وغضي من طرفك ».

ـ ومن أنت لا أم لك؟

ـ عمرو بن العاص.

ـ يا ابن اللخناء النابغة ، أتكلمني؟!! أربع على ضلعك ، وأعن بشأن نفسك ، فو الله ما أنت من قريش فى اللباب من حسبها ، ولا كريم منصبها ، ولقد ادعاك ستة من قريش كل واحد يزعم أنه أبوك ، ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر فأتم بهم فانك بهم أشبه.

والتفت لها مروان بن الحكم فقال لها :

« أيتها العجوز الضالة ساخ بصرك مع ذهاب عقلك ، فلا تجوز شهادتك ».

فانبرت إليه قائلة :

« يا بني أتتكلم؟ فو الله لأنت الى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم ، وإنك لتشبهه فى زرقة عينيك ، وحمرة شعرك ، مع قصر قامته ، وظاهر دمامته ، ولقد رأيت الحكم ماد القامة ، ظاهر الأمة ، سبط الشعر وما بينكما من قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب

٤٠٨

فاسأل أمك عما ذكرت لك فانها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت ».

ثم التفتت الى معاوية فقالت له :

« والله ما عرضني لهؤلاء غيرك وإن أمك هند القائلة فى يوم أحد في قتل حمزة رحمة الله عليه :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب يوم الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

أبي وعمي وأخي وصهرى

شفيت وحشي غليل صدري

شفيت نفسي وقضيت نذري

فشكر وحشي عليّ عمري

حتى تغيب أعظمي في قبري

فأجبتها :

يا بنت رقاع عظيم الكفر

خزيت فى بدر وغير بدر

صبحك الله قبيل الفجر

بالهاشميين الطوال الزهر

بكل قطاع حسام يفري

حمزة ليثي وعلي صقري

إذ رام شبيب وأبوك غدري

أعطيت وحشي ضمير الصدر

هتك وحشي حجاب الستر

ما للبغايا بعدها من فخر

فثار معاوية والتفت الى ابن العاص ومروان قائلا :

« ويلكما أنتما عرضتماني لها وأسمعتماني ما أكره ».

ثم التفت إليها فقال لها :

« يا عمة اقصدي حاجتك ودعي عنك أساطير النساء ».

ـ تأمر لي بألفي دينار ، وألفي دينار ، وألفي دينار.

ـ ما تصنعين بألفي دينار؟

ـ أشتري بها عينا خرخارة ، في أرض خوارة تكون لولد الحارث ابن عبد المطلب.

٤٠٩

ـ نعم الموضع وضعتها ، فما تصنعين بألفي دينار؟

ـ أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.

ـ نعم الموضع وضعتها ، فما تصنعين بألفي دينار؟

ـ أستعين بها على عسر المدينة ، وزيارة بيت الله الحرام.

ـ نعم الموضع وضعتها ، هي لك نعم وكرامة.

ثم التفت إليها بعد هذا العطاء الجزيل ليرى مدى اخلاصها لأمير المؤمنين قائلا :

« أما والله لو كان علي ما أمر لك بها!! »

ـ صدقت ، إن عليا أدى الأمانة ، وعمل بأمر الله وأخذ به ، وأنت ضيعت أمانتك ، وخنت الله فى ماله ، فأعطيت مال الله من لا يستحقه وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبيّنها فلم تأخذ بها ، ودعانا علي الى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا فشغل بحربك عن وضع الأمور في مواضعها ، وما سألتك من مالك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا ، ولا نرى أخذ شيء غير حقنا ، أتذكر عليا فضّ الله فاك وأجاهد بلاءك؟.

ثم بكت وقالت راثية لأمير المؤمنين :

ألا يا عين ويحك أسعدينا

ألا وابكي أمير المؤمنينا

رزينا خير من ركب المطايا

وفارسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال أو احتذاها

ومن قرأ المثاني والمئينا

إذا استقبلت وجه أبي حسين

رأيت البدر راع الناظرينا

ولا والله لا أنسى عليا

وحسن صلاته في الراكعينا

أفي الشهر الحرام فجعتمونا

بخير الناس طرا أجمعينا

٤١٠

فأمر لها معاوية بستة آلاف دينار فأخذتها وانصرفت(١) وقد أراد معاوية بتكريمه لها استمالة قلبها وصرفها عن حب أمير المؤمنين (ع) ، وقد خاب سعيه ، فان من طبع على حب أمير المؤمنين والإخلاص إليه كيف يغيره المال؟ وتقلب عقيدته المادة ، وقد فاهت بهذا الشعور الطيب كريمة أبي الأسود الدؤلي فقد بعث معاوية حلوى هدية الى أبيها ليستميله عن حب أمير المؤمنين (ع) فتناولت ابنته قطعة من تلك الحلوى ووضعتها في فيها فقال لها أبوها :

« يا بنتي القيها فانها سم ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين ويردنا عن محبة أهل البيت!! »

فلما سمعت بذلك انبرت الى أبيها تعرب له عن شعورها الطيب وعن مدى حبها لأمير المؤمنين قائلة :

« قبحه الله ، يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر ، تبا لمرسله وآكله!! »

ثم قاءت ما أكلته وأنشأت تقول :

أبا لشهد المزعفر يا ابن هند

نبيع عليك أحسابا ودينا

معاذ الله كيف يكون هذا

ومولانا أمير المؤمنينا(٢)

٧ ـ عكرشة بنت الأطرش :

وعكرشة بنت الأطرش سيدة جليلة تعد في طليعة نساء العرب فى شجاعتها ، وقوة بيانها ، كانت فى صفين تدعو الناس الى نصرة الإمام ومناجزة عدوه ، ولما تم الأمر الى معاوية وفدت عليه فسلمت عليه بالخلافة

__________________

(١) بلاغات النساء ص ٢٧ ، العقد الفريد ١ / ٢١٩.

(٢) الكنى والألقاب ١ / ٨.

٤١١

فتذكر موقفها في صفين فقال لها :

« يا عكرشة الآن صرت أمير المؤمنين؟ »

فقالت له :

« نعم إذ لا عليّ حي ».

فلم يقتنع بذلك وأخذ يذكرها بموقفها وخطبها فى صفين قائلا :

« ألست صاحبة الكور المسدول ، والوسيط المشدود ، والمتقلدة بحمائل السيف ، وأنت واقفة بين الصفين تقولين :

« يا أيها الناس ، عليكم أنفسكم ، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إن الجنة دار لا يرحل عنها من قطنها ، ولا يحزن من سكنها ، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها ، ولا تنصرم همومها ، كونوا قوما مستبصرين ، إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب ، غلف القلوب ، لا يفقهون الإيمان ، ولا يدرون ما الحكمة؟ دعاهم بالدنيا فأجابوه ، واستدعاهم الى الباطل فلبوه ، فالله الله عباد الله في دين الله!! وإياكم والتواكل ، فان فى ذلك نقض عروة الإسلام ، وإطفاء نور الإيمان ، وذهاب السنة ، وإظهار الباطل هذه بدر الصغرى ، والعقبة الأخرى ، قاتلوا يا معشر الأنصار والمهاجرين على بصيرة من دينكم ، واصبروا على عزيمتكم ، فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة ، والبغال الشحاجة تضفع ضفع البقر ، وتروث روث العتاق ».

وبعد ما تلى معاوية عليها خطابها قال لها بنبرات تقطر غضبا :

« فو الله لو لا قدر الله ، وما أحب أن يجعل لنا هذا الأمر لقد كان انكفأ علي العسكران فما حملك على ذلك؟ »

فقابلته بناعم القول قائلة :

٤١٢

« إن اللبيب إذا كره أمرا لم يحب إعادته ».

ـ صدقت اذكري حاجتك.

ـ إن الله قد رد صدقاتنا علينا ورد أموالنا فينا إلا بحقها ، وإنا قد فقدنا ذلك ، فما ينعش لنا فقير ، ولا يجبر لنا كسير فان كان ذلك عن رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ، ولا استعمل الظالمين.

فما اعتنى معاوية باسترحامها وقال لها :

« يا هذه إنه تنوبنا أمور هي أولى بنا منكم ، من بحور تنبثق ، وثغور تنفتق ».

ـ يا سبحان الله!! ما فرض الله لنا حقا جعل لنا فيه ضررا على غيرنا ما جعله لنا وهو علام الغيوب.

ولم يجد حينئذ معاوية بدا من إجابتها فقال لها :

ـ هيهات يا أهل العراق نبهكم ابن أبي طالب فلن تطاقوا.

ثم أمر لها بقضاء حاجتها وردها الى أهلها(١) .

٨ ـ الدارمية الحجونية :

ومن سيدات النساء وخيارهن الدارمية الحجونية ، عرفت بالصلاح والنسك ، وبقوة الحجة ، وشدة العارضة ، قد والت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولما تم الأمر الى معاوية بعث خلفها وكان آنذاك في الحجاز فلما مثلت عنده قال لها :

« كيف حالك يا ابنة حام »

ـ بخير ، ولست لحام إنما أنا امرأة من قريش من بني كنانة ، ثمت من بني أبيك.

__________________

(١) بلاغات النساء ص ٧٠ ، العقد الفريد ١ / ٢١٥ ، صبح الأعشى.

٤١٣

ـ صدقت ، هل تعلمين لم بعثت إليك؟

ـ لا ، يا سبحان الله!! وأنّى لي بعلم ما لم أعلم؟

ـ بعثت إليك أن أسألك علام أحببت عليا (ع) وأبغضتيني؟ وعلام وأليتيه وعاديتيني؟

ـ أو تعفيني من ذلك؟

ـ لا أعفيك ، لذلك دعوتك.

ـ فأما إذا أبيت فإني أحببت عليا (ع) على عدله في الرعية ، وقسمه بالسوية ، وأبغضتك على قتالك من هو أولى بالأمر منك ، وطلبك ما ليس لك ، وواليت عليا على ما عقد له رسول الله (ص) من الولاية وحب المساكين ، واعظامه لأهل الدين ، وعاديتك على سفكك الدماء ، وشقك العصا.

فتأثر ابن هند من مقالها وقال فاحشا ومستهزئا :

« صدقت فلذلك انتفخ بطنك ، وكبر ثديك ، وعظمت عجيزتك » فردت عليه مقالته بالمثل :

« يا هذا بهند والله يضرب المثل لا أنا ».

ـ لا تغضبي فانا لم نقل إلا خيرا ، إنه إن انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها ، وإذا كبر ثديها حسن غذاء ولدها ، وإذا عظمت عجيزتها وزن مجلسها.

فهدأ روعها ، وسكن غضبها ، ثم التفت لها :

ـ هل رأيت عليا؟

ـ أي والله لقد رأيته.

ـ كيف رأيته؟

٤١٤

ـ لم ينفخه الملك ، ولم تصقله النعمة(١) .

ـ هل سمعت كلامه؟

ـ كان والله كلامه يجلو القلوب من العمى ، كما يجلي الزيت صداء الطست.

ـ صدقت ، هل لك من حاجة؟

ـ أو تفعل إذا سألتك؟

ـ نعم.

ـ تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها.

ـ ما تصنعين بها؟

ـ أغذو بألبانها الصغار ، وأستحيي بها الكبار ، واكتسب بها المكارم واصلح بها بين العشائر.

ـ فان أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟

ـ سبحان الله!!! أو دونه أو دونه.

فتبهر معاوية وقال :

إذا لم أعد بالحلم مني عليكم

فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم

خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد

جزاك على حرب العداوة بالسلم

أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا.

ـ لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين(٢) .

__________________

(١) وفي العقد الفريد : رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.

(٢) بلاغات النساء ص ٧٢ ، العقد الفريد ١ / ٢١٦ ، صبح الأعشى ١ / ٢٥٩.

٤١٥

الى هنا يننهي بنا الحديث عما لاقته شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام من التنكيل ، والتعذيب ، والإعدام ، والعسف ، والإرهاب ، والإذلال ، والتحقير من قبل معاوية وعامله زياد ، وبذلك فقد نقض معاوية أهم شروط الصلح ، وهو عدم التعرض لشيعة آل البيت بسوء ومكروه وغائلة :

المؤتمر الحسيني :

ولما رأى سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) الإجرءات الحاسمة التي اتخذها معاوية ضد العترة الطاهرة ، عقد (ع) مؤتمرا في مكة ، دعا فيه جمهورا غفيرا ممن شهد موسم الحج من المهاجرين والأنصار ، والتابعين ، وغيرهم من سائر المسلمين ، وعرض عليهم ما ألمّ بأهل البيت وبشيعتهم من المحن والخطوب من جراء الحكم القائم الذي عمد الى اتخاذ جميع الوسائل للكيد لآل النبي (ص) واخفاء فضائلهم ، وستر ما أثر عن الرسول فى حقهم وقد ألزم حضار مؤتمره باذاعة ذلك بين المسلمين ، ونسوق ما رواه سليم ابن قيس فى ذلك قال :

« ولما كان قبل موت معاوية بسنة ، حج الحسين بن علي ، وعبد الله ابن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحسين بني هاشم ، رجالهم ونساءهم ، ومواليهم ، ومن حج منهم من الأنصار ، ممن يعرفه الحسينعليه‌السلام وأهل بيته ، ثم أرسل رسلا وقال لهم : لا تدعوا أحدا حج العام من أصحاب رسول الله (ص) المعروفين بالصلاح والنسك إلا اجمعوهم لي ، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم فى سرادقه. عامتهم من التابعين ، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقام فيهم خطيبا :

٤١٦

« فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ، فان هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم. وإني أريد أن أسألكم عن شيء فان صدقت فصدقوني ، وإن كذبت فكذبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا الى أمصاركم وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم الى ما تعلمون من حقنا. فاني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويغلب ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ».

« وما ترك شيئا مما أنزله الله فيهم من القرآن إلا تلاه وفسره ، ولا شيئا مما قاله رسول الله (ص) فى أبيه وأخيه وأمه وفى نفسه وأهل بيته إلا رواه وكل ذلك يقول أصحابه اللهم نعم ، وقد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللهم قد حدثني به من أصدقه وائتمنه من الصحابة ، فقال : أنشدكم الله إلا حدثتم به من تثقون به وبدينه »(١)

وكان هذا المؤتمر الذي عقده الإمام أول مؤتمر عرفه العالم الإسلامى في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه الإمام سياسة معاوية ، ودعا المسلمين الى مناهضة حكمه ، والى الإطاحة بسلطانه.

٤ ـ البيعة ليزيد :

ومن أهم بنود الصلح إرجاع الخلافة الإسلامية الى الإمام الحسن ، ومن بعده الى أخيه الحسينعليهما‌السلام بعد هلاك معاوية ، فقد كانت هذه المادة من أهم شروط الصلح التي وقع عليها معاوية ، ولكنه بعد ما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، صمم على نقضها ، وعلى عدم الوفاء بها ، فقد أخذ يعمل مجدّا في جعل الخلافة وراثة في أهل بيته ، وهو بهذا الفعل

__________________

(١) سليم بن قيس.

٤١٧

كما يقول الاستاذ السيد قطب : « مدفوع بدافع لا يعرفه الإسلام ، دافع العصبية العائلية والقبلية ، وما هي بكثيرة على معاوية ولا بغريبة عليه ، فمعاوية بن أبي سفيان وابن هند بنت عتبة ، وهو وريث قومه وأشبه شيء بهم في بعد روحه عن حقيقة الإسلام »(١) .

لقد كان معاوية في فعله هذا مدفوعا بدافع الجاهلية العمياء ، وبدافع العصبية القبلية التي شجبها الإسلام فقد اعتبر المواهب والكفاءة والعلم والجدارة فيمن يتولى شئون الحكم ، والغى جميع الاعتبارات التي لا تمت لذلك ، فقد صح عن رسول الله (ص) أنه قال : « من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمّر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم »(٢) ولكن معاوية الذي برىء من الإسلام راح يعمل بوحي من جاهليته الى الانتقام من الإسلام والى تمزيق صفوف المسلمين فعمد الى جعل الخلافة الى ولده الفاسق الأثيم يزيد وقد صور فسقه ومجونه الشاعر العبقري الاستاذ الكبير بولس سلامة بقوله :

وترفق بصاحب العرش مشغو

لا عن الله بالقيان الملاح

ألف ( الله أكبر ) لا يساوي

بين كفي يزيد نهلة راح

تتلظى في الدنان بكرا فلم

تدنس بلثم ولا بماء قراح(٣)

وقال فيه عبد الله بن حنظلة الصحابي العظيم المنعوت بالراهب قتيل واقعة الحرة : والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنه رجل ينكح الامهات ، والبنات ، والأخوات ، ويشرب الخمر

__________________

(١) العدالة الاجتماعية ص ١٨٠.

(٢) النصائح ص ٣٩.

(٣) ملحمة الغدير ص ٢٢٧.

٤١٨

ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا »(١) . وقال فيه المنذر بن الزبير لما قدم المدينة : « إن يزيد قد أجازني بمائة الف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره ، والله إنه ليشرب الخمر ، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة »(٢) ، وقال ابن فليح إن أبا عمرو بن حفص وفد على يزيد فأكرمه ، وأحسن جائزته ، فلما قدم المدينة قام الى جنب المنبر وكان مرضيا صالحا فخطب الناس فقال لهم : « ألم أحب؟ ألم أكرم؟ والله رأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة مسكرا ،(٣) .

لقد كان معاوية يعلم فسق ولده وارتكابه للموبقات ، وادمانه على شرب المسكر ، وتركه للصلاة ، وقد أدلى بذلك في كتابه الذي ندد فيه بأفعاله فقد جاء فيه ما نصه :

« بلغني أنك اتخذت المصانع والمجالس للملاهي والمزامير كما قال تعالى : « أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخالدون » ، وأجهرت الفاحشة حتى اتخذت سريرتها عندك جهرا. اعلم يا يزيد ، ان أول ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة ، وآلائه المتواترة ، وهي الجرحة العظمى ، والفجعة الكبرى : ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها ، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ، ثم استحسان العيوب ، وركوب الذنوب ، وإظهار العورة ، وإباحة السر ، فلا تأمن نفسك على سرك ، ولا تعتقد على فعلك »(٤) .

__________________

(١) تأريخ ابن عساكر ٧ / ٣٧٢ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٨١.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٢١٦ ، الكامل لابن الأثير ٤ / ٤٥.

(٣) تاريخ ابن عساكر ٧ / ٢٨.

(٤) صبح الأعشى ٦ / ٣٨٨.

٤١٩

ومع علمه بمروق ولده عن الدين ، واستحلاله لما حرّم الله ، واغراقه في الشهوات ، كيف يمكنه من رقاب المسلمين ويفرضه حاكما عليهم ، إنه بذلك مدفوع بدافع الحقد على الإسلام ، وبدافع العصبية الجاهلية التي أترعت بها نفسه الشريرة.

لقد أجاهد معاوية نفسه في فرض يزيد حاكما على المسلمين ، فقد ظل سبع سنين يروض الناس ، ويعطي الأقارب ، ويدني الأباعد من أجل ذلك(١) ، ولما هلك زياد وكان كارها لبيعة يزيد أظهر عهدا مفتعلا عليه فيه عقد الخلافة ليزيد من بعده(٢) ، وهكذا اعتمد على جميع الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين فى سبيل جعل الملك في بني أميّة وتحويل الخلافة عن مفاهيمها الخلاقة الى الملك العضوض. وقد جرت تلك المقدمات التي عملها معاوية فى حياة الإمام الحسن (ع) ولكنه لم يعلن البيعة الرسمية ليزيد إلا بعد اغتياله للإمام ، وعلينا أن نعرض بعض الوسائل التمهيدية التي عملها معاوية من أجل ذلك.

دعوة المغيرة :

وأول من تصدى الى الدعوة لهذه البيعة المشومة المنافق الأثيم أعور ثقيف المغيرة بن شعبة صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام(٣) وسبب

__________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٣٠٢.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٧٠ ، العقد الفريد ٢ / ٣٠٢.

(٣) من موبقات المغيرة انه أول من رشى في الإسلام كما يروي ذلك البيهقي وغيره ، ومن جرائمه انه الوسيط في استلحاق زياد بمعاوية ، وهو صاحب الدعوة الى البيعة ليزيد ،

٤٢٠

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529