حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218025 / تحميل: 6645
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك، بل المراد أنّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدّة والقسوة إلى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدّة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظنّاً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردّد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد أنّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

_____________________

١ - الأنبياء: ٨٧.

٨١

ممثّلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسّماً وممثّلاً لهذا الظن في كل مَن رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولمّا خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١) .

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنّون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فإنّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير أنّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوّته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية، فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيّدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وأنّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكنّ بالمعنى الذي عرفت: أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

_____________________

١ - الحشر: ٢.

٨٢

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألدّاء، وكان المؤمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضرّاء، مظنّة لأن يتخيّل كل مَن وقف عليها من نبي وغيره، أنّ ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول:( فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين ) (١) .

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (٢) .

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضرّاء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّ-ها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجّر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه( متى نصر الله ) ؟ فإنّ كلمة( متى نصر الله ) مقرونة بالضراعة والالتماس، تقع مظنّة تصوّر استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس ممّا ذكرناه.

_____________________

١ - يوسف: ١١٠.

٢ - البقرة: ٢١٤.

٨٣

الآية الثانية:

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) .

( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (٢) .

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٣) .

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء، وقد استغلّها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسّر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخّل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يُلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلّمين على المصونية في هذا المجال.

وربّما يؤيّد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصّه وما فيه من الإشكال.

_____________________

١ - الحج: ٥٢.

٢ - الحج: ٥٣.

٣ - الحج: ٥٤.

٨٤

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن أنّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدلّ، فنقول: يجب توضيح نقاطٍ في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه:( إذا تمنّى ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه:( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله:( ثمّ يحكم الله آياته ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول:

١ - ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا: القدر، وماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته والمنيّة: الموت؛ لأنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الإنسان: أمل يقدّره، ومنى مكّة: قال قوم: سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه الله(١) .

_____________________

١ - المقاييس: ٥/٢٧٦.

٨٥

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك مَن سبر الذكر الحكيم أنّه لم يكن للرسل والأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخطّطون لهذا الأمر، ويفكّرون في الخطّة بعد الخطّة، ويمهّدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم:( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين َ) (١) .

ويقول أيضاً:( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (٢) .

ويقول أيضاً:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ ) (٣) .

ويقول سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٤) .

ويقول سبحانه:( فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ ) (٥) .

هذا كلّه في حق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته:( وَإِنّي كُلَّما

_____________________

١ - يوسف: ١٠٣.

٢ - فاطر: ٨.

٣ - النحل: ٣٧.

٤ - القصص: ٥٦.

٥ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٨٦

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) (١) .

ويقول سبحانه بعد عدّةٍ من الآيات:( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً ) (٢) .

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم، وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وإن منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع؛ فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، وهلمّ معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:

٢ - ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح، فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

١ - أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وأنّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب

_____________________

١ - نوح: ٧ - ٩.

٢ - نوح: ٢١ - ٢٤.

٨٧

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنصّ القرآن الكريم؛ لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد، والقرآن الكريم ينفي تسلّل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (١) .

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفيّ بنص الآيات.

٢ - أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياءعليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخطّطاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحضّ أقوام الأنبياءعليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه:( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ) (٣) .

_____________________

١ - الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥.

٢ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٣ - النساء: ١٢٠.

٨٨

وقال سبحانه:( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدّة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه:( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تمنّى ) أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدّمات( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) (بحضّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدّمات عقيمة غير منتجة ).

٣ - ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر، والعون والإنجاح، قال سبحانه:( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) ، وقال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ ) (٣) ، وقال سبحانه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (٤) .

_____________________

١ - إبراهيم: ٢٢.

٢ - غافر: ٥١.

٣ - المجادلة: ٢١.

٤ - الأنبياء: ١٨.

٨٩

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) (١) .

وقال في حق النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُونَ ) (٣) .

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

٤ - ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبيّن معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبيّن المراد من قوله سبحانه:( ثمّ يحكم الله آياته ) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق أضف إليه أنّه ليس كل نبيٍّ ذا كتاب وآيات ،

_____________________

١ - الصافات: ١٧١ - ١٧٣.

٢ - التوبة: ٣٣.

٣ - الأنبياء: ١٠٥.

٩٠

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل: إنّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل، والاندحار والهزيمة للثاني، فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه بإرادة الله سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه:( وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (١) .

٥ - ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

١ - الذين في قلوبهم مرض.

٢ - ذات القلوب القاسية.

٣ - الذين أُوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

_____________________

١ - الإسراء: ٨١.

٩١

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصموداً.

وهذه النتيجة حاكمة في عامّة اختبارات الله سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ ) (١) ، وإنّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) : ( ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب)(٣) .

وقد وقفت بعد ما حرّرت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدّس الله سرّه - وهو قريب ممّا ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي، ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

_____________________

١ - الملك: ١٤.

٢ - الأنفال: ٢٨.

٣ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم: ٩٣.

٩٢

الصالح ما يشوّشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه، وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويؤيّد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم(١) .

وما ذكره - قدّس الله سرّه - كلام لا غبار عليه، وقد شيّدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسّك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، ومَن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو أنّ ( ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخّل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها ) واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (٢) فقرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ:( أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرى ) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين: ( تلك

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٤.

٢ - النجم: ١ - ٢.

٣ - النجم: ١٩ - ٢٠.

٩٣

الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) فتكلّم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه:( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ) إلى قوله:

( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع مَن كان من المهاجرين بأرض الحبشة أنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان(٢) .

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحّة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله ( تمنّى ) بمعنى تلا، وأنّ لفظة ( أُمنيته ) بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث، ولو صحّ فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

_____________________

١ - الإسراء: ٧٣، ٧٥.

٢ - تفسير الطبري: ١٧/١٣١، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

٩٤

نعم استدلّ بعضهم بقول حسّان على ذاك الاستعمال:

تمنّى كتاب الله أوّل ليلةٍ

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر:

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صحّ إسنادهما إلى عربي صميم كحسّان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذّة.

أضف إلى ذلك أنّ البيت غير موجود في ديوان حسّان، وإنّما نقله عنه المفسّرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج٦ ص٣٨٢) واستشهد به صاحب المقاييس (ج٥ ص٢٧٧).

ولو صحّ الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصّة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة، وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ(١) .

وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها؛ لأنّها تتضمّن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقيّة السورة إلى آخرها

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٩٥

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكنّ الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه:( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال، وهو أنّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندّد بآلهتهم بشدّة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصّة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصّة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاًّ لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً: أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيّه الأكرم بقوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيّه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيّه ما ينافي هذا التوصيف أشدّ المنافاة، وفي وسعه سبحانه صون نبيّه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذّبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٣) .

_____________________

١ - النجم: ٢٢ - ٢٣.

٢ - النجم: ٣ - ٤.

٣ - الجن: ٢٧.

٩٦

وقوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاويل * لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١) .

وسادساً: أنّ علماء الإسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها(٢) .

وقال النسفي: إنّ القول بها غير مَرْضيّ وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٣) .

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصّة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصّة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا ( فروغ أبديت )(٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

_____________________

١ - الحاقة: ٤٤ - ٤٦.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٩.

٣ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٤ - كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طُبع في جزأين.

٩٧

الطائفة الثانية

ما يمسّ عصمة عدّة خاصّة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمسّ بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

- ١ -

عصمة آدمعليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطّئة في مجال نفي العصمة عن عدّة معيّنة من الأنبياء، وراعينا الترتيب التاريخي لهم، فنقدّم البحث عن عصمة آدمعليه‌السلام على البحث عن عصمة نوحعليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهيّ عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء، ويعدّ ذلك في منطقهم ( كبيت القصيد ) في ذلك المجال، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول:

٩٨

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) .

ويقول سبحانه:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُما رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٢) .

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصّة في هذه السورة، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكّيّة وسورة البقرة مدنية، ولمّا توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

____________________

١ - البقرة: ٣٥ - ٣٧.

٢ - الأعراف: ١٩ - ٢٤.

٩٩

ويقول سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيَها ولا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (١) .

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمّات هذه القصّة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية:

التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:

١ - ما هي نوعية النهي في قوله تعالى:( لا تقربا ) ؟

٢ - ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟

٣ - ماذا يراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

٤ - ماذا يراد من قوله:( فعصى آدم ربّه فغوى ) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟

٥ - ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله:( ربّنا ظلمنا أنفسنا ) ؟

____________________

١ - طه: ١١٥ - ١٢٣.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

أزواجه وعقبه

٤٤١
٤٤٢

وتساءل السائلون عن كثرة أزواج الإمام الحسن (ع) وأرجف المرجفون فى ذلك ، وقد بلغ الحقد وسوء الظن ببعض الجاهلين أن قالوا إنه إنما تزوج بهذه الكثرة اجابة لداعي الهوى واشباعا للشهوة ، وما عرفوا أن الإمام بعيد كل البعد عن الانقياد لهذه الغرائز فهو سيد شباب أهل الجنة وممن نطق القرآن الكريم بعصمته وطهارته ، وسنذكر نص كلام القائلين بذلك مشفوعا ببيان بطلانه وفساده ، وحيث أن الموضوع قد حامت حوله الشكوك والظنون ، وحفّت به التهم والطعون فلا بد من البحث عنه وبيان الواقع فيه ولو اجمالا ، فنقول : قد ذهب بعض أهل العلم الى تصحيح ذلك والى عدم منافاته لسيرة الإمام وهديه ، وذهب بعض آخر الى وضع ذلك وعدم صحته ، ومن الخير أن نسوق أدلة الطرفين ، أما المصححون فقد استدلوا عليه بما يلي :

١ ـ انه لا مانع بحسب الشريعة الإسلامية المقدسة من كثرة الزواج فقد ندب الإسلام إليه كثيرا ، وقد اشتهرت كلمة المنقذ الأعظم في الحث على ذلك فقد قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « تناكحوا تناسلوا حتى أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالقسط ». وقال سفيان الثوري : « ليس فى النساء سرف ». وقال الخليفة الثاني : « إني أتزوج المرأة ومالي فيها من أرب ، وأطؤها ومالي فيها من شهوة » ، فقيل له : « فلما ذا تتزوجها؟ » فقال : « حتى يخرج مني من يكاثر به النبي (ص) » وتزوج المغيرة بن شعبة بألف امرأة(١) ، وقد كان لأمير المؤمنين (ع) أربع نسوة ، وتسعة عشر وليدة(٢) هذا في الإسلام. وأما قبل الإسلام فقد كان لسليمان بن

__________________

(١) الإستيعاب ٤ / ٣٧٠.

(٢) شرح الشفاء لعلي القاري ١ / ٢٠٨.

٤٤٣

داود سبعمائة حرة وثلاثمائة سرية ، وتزوج أبوه داود (ع) بمائة حرة وثلاثمائة سرية ، فكثرة التزويج لا مانع منها بحسب الشرع الإسلامى وغيره ، وعليه فأي حزازة على الإمام في ارتكابه لذلك؟

٢ ـ إنما تزوج بهذه الكثرة لتقوى شوكته ، ويشتد أزره بالمصاهرة على الأمويين الذين بذلوا جميع جهودهم للقضاء على الهاشميين وتحطيم كيانهم ومحو ذكرهم.

٣ ـ إن أولياء النسوة كانوا يعرضون بناتهم على الإمام ويلحون عليه بالتزويج بهن لأجل التشرف به ، والتقرب إليه ، فهو حفيد النبي (ص) وسبطه الأكبر ، وسيد شباب أهل الجنة ، ومضافا الى ذلك انهم رأوا أن عائشة بنت أبي بكر كان أبوها من أواسط قريش شرفا وبسبب زواج النبي (ص) بابنته قد احتل مكانة مرموقة فى العالم الإسلامى ، ولهذا الأمر كانوا يعرضون بناتهم على الإمام ويلحون عليه بالتزويج بهن ليحضوا بالعز والشرف بمصاهرة الإمام لهم ، هذا ما استدل به المصححون للكثرة وأما النافون فقد استدلوا على ذلك بأمور :

١ ـ كراهة الطلاق شرعا.

لقد ثبت عند القائلين بالكثرة والملتزمين بها ان الإمام كان مطلاقا وانه كان يفارق من تزوجها بأقرب وقت ، ومن المعلوم ان الطلاق من أبغض الأشياء في الإسلام ، وقد تواترت الأخبار في كراهته وفي النهي عنه ، فقد أثر عن النبي (ص) انه لما بلغه أن أبا أيوب يريد أن يطلق زوجه ، قال (ص) إن طلاق أم أيوب لحوب ـ أى أثم ـ وقال أبو عبد الله الصادق (ع) : إن الله يحب البيت الذي فيه العرس ، ويبغض البيت الذي فيه الطلاق ، وما من شيء أبغض الى الله عز وجل من الطلاق

٤٤٤

وقال أبو عبد الله (ع) : ما من شيء مما أحله الله أبغض إليه من الطلاق وإن الله عز وجل يبغض المطلاق الذواق ، وقالعليه‌السلام : تزوجوا ، ولا تطلقوا ، فإن الطلاق يهتز منه العرش(١) ومع هذه الكراهة الشديدة كيف يرتكبه الإمام ويبالغ فيه؟

٢ ـ منافاته لهدي الإمام.

وقد ثبت ان الإمام حليم المسلمين والمثل الأعلى للأخلاق الفاضلة ، ومن المعلوم أن الطلاق ينافي الحلم إذ فيه كسر لقلب المرأة وإذلال لها وذلك لا يتفق مع ما عرف به الإمام من الحرص على ادخال السرور على الناس واجتناب المساءة ، والأذى لكل انسان.

٣ ـ انشغاله عن ذلك.

لقد كان الإمام مشغولا عن أمثال هذه الأمور بعبادته واتجاهه نحو الله وعمله المستمر في حقل الإصلاح وقضاء حوائج الناس وجلب الخير لهم ودفع الشر والشقاء عنهم فلا تفكير له إلا بالأمور الإصلاحية ، وليس عنده مزيد من الوقت ليقضيه فى ذلك.

هذا مجموع ما استدل به النافون ، وإن كان بعضه لا يخلو من ضعف.

أما أنا فبحسب تتبعي عن أحوال الإمام أرى أن هذه الكثرة موضوعة وبعيدة عن الواقع كل البعد ، وبيان ذلك لا يتم إلا بعرض الروايات ، والبحث عن سندها الذي هو شرط فى قبول الرواية فنقول : قد اختلف رواة الأثر فى ذلك اختلافا كثيرا فقد روي أنهن :

١ ـ سبعون.

٢ ـ تسعون.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٤٤٥

٣ ـ مائتان وخمسون.

٤ ـ ثلاثمائة.

وروي غير هذا إلا أنه من الشذوذ بمكان ، والمهم البحث عن سند هذه الروايات فعليها يدور البحث نفيا واثباتا فنقول :

أما الرواية ( الأولى ) : فقد ذكرها ابن أبي الحديد وغيره(١) وقد أخذوها عن علي بن عبد الله البصري الشهير بالمدائني المتوفى سنة ( ٢٢٥ هج ) وهو من الضعفاء الذين لا يعول على أحاديثهم ، فقد امتنع مسلم من الرواية عنه فى صحيحه(٢) ، وضعفه ابن عدي فى الكامل فقال فيه : « ليس بالقوي الحديث ، وهو صاحب الأخبار قل ماله من الروايات المسندة »(٣) وقال له الأصمعي : والله لتتركن الإسلام وراء ظهرك(٤) ، وكان من خلص أصحاب أبي اسحاق الموصلي ، وقد رافقه من أجل أمواله وثرائه. فقد روى أحمد بن أبي خيثمة قال : كان أبي ويحيى بن معين ، ومصعب الزبيري يجلسون على باب مصعب فمر رجل على حمار فاره ، وبزة حسنة فسلم ، وخص بسلامه يحيى فقال له : يا أبا الحسن الى أين؟ قال : الى دار هذا الكريم الذي يملأ كمي دنانير ودراهم اسحاق الموصلي ، فلما ولى قال يحيى : ثقة ، ثقة ، ثقة فسألت أبي من هذا؟ فقال : هذا المدائني(٥) وكان يروي عن عوانة بن الحكم المتوفى سنة ( ١٥٨ هج ) وهو عثماني وكان

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٨.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ / ١٣٨ ط دار احياء الكتاب العربية.

(٣) لسان الميزان ٤ / ٢٥٢.

(٤) ميزان الاعتدال ٣ / ١٣٩.

(٥) لسان الميزان ٤ / ٢٥٣ ، معجم الأدباء ١٢ / ١٢٦.

٤٤٦

يضع الأخبار لبني أمية(١) ، ولذا كان المدائني يشيد بالأمويين ويبالغ فى تمجيدهم وبالإضافة لذلك ، فقد كان مولى لسمرة بن حبيب الأموي(٢) ، والموالي على الأكثر تنطبع في نفوسهم ميول مواليهم وسائر نزعاتهم ، وقد تأثر المدائني بنفسية سمرة ، فكان أموي النزعة ومن المنحرفين عن أهل البيت وبعد هذا فلا يبقى لنا أي وثوق برواياته واحاديثه.

وأما الرواية ( الثانية ) : فقد اقتصر على روايتها الشبلنجي(٣) وقد رواها مرسلة فلا يصح التعويل عليها نظرا لارسالها.

وأما الرواية ( الثالثة ) و ( الرابعة ) : فقد رواهما المجلسي(٤) ، وابن شهر اشوب(٥) ، وقد نص كل منهما انه قد أخذهما عن ( قوت القلوب ) لأبي طالب المكي المتوفى سنة ( ٣٨٠ هج ) ، وقد راجعنا هذا الكتاب فوجدناه قد ذكر ذلك ، وهذا نص ما جاء فيه :

« وتزوج الحسن بن علي (ع) مائتين وخمسين ، وقيل ثلاثمائة ، وكان علي يضجر من ذلك ويكره حياء من أهلهن إذ طلقهن ، وكان يقول : ان حسنا مطلق فلا تنكحوه ، فقال له رجل من همدان : والله يا أمير المؤمنين لننكحنه ما شاء ، فمن أحب أمسك ، ومن كره فارق ، فسرّ علي بذلك وأنشأ يقول :

__________________

(١) لسان الميزان ٤ / ٣٨٦.

(٢) معجم الأدباء ١٤ / ١٢٤ ، وفى لسان الميزان ٤ / ٢٥٣ انه مولى لعبد الرحمن بن سمرة.

(٣) نور الأبصار ص ١١١.

(٤) البحار ١٠ / ١٣٧.

(٥) المناقب ٢ / ٢٤٦.

٤٤٧

ولو كنت بوابا على باب جنة

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وهذا أحد ما كان الحسن يشبه فيه رسول الله (ص) وكان يشبهه فى الخلق والخلق ، فقد قال رسول الله (ص) : اشبهت خلقي وخلقي وقال : حسن مني وحسين من علي ، وكان الحسن ربما عقد له على أربعة وربما طلق أربعة »(١) .

وأبو طالب المكي لا يعول على مؤلفه ، فقد ورد في ترجمته انه لما ألف ( قوت القلوب ) ، كان طعامه عروق البردي حتى اخضر جلده من كثرة تناولها ، وكان مصابا ( بالهستيريا ) ، قدم بغداد واعظا فاحتف به البغداديون فرأوا في حديثه هذيانا وخروجا عن موازين الاستقامة فتركوه ونبذوه ، ومن هجره وشذوذ قوله : « ليس على المخلوقين أضر من الخالق » وكان يبيح سماع الغناء فدعا عليه عبد الصمد بن علي ودخل عليه معاتبا فقال له أبو طالب :

فيا ليل كم فيك من متعة

ويا صبح ليتك لم تقرب

فخرج منه عبد الصمد وهو ساخط عليه ، ومن شذوذه انه لما حضرته الوفاة دخل عليه بعض أصدقائه فقال له أبو طالب : « إن ختم لي بخير فانثر على جنازتي لوزا وسكرا » ، فقال له صديقه : وما علامة الغفران لك؟ قال : إن قبضت على يدك. فلما حان موته قبض على يد صاحبه قبضا شديدا ، فامتثل زميله ذلك فنثر على جنازته لوزا وسكرا(٢) ، ونص المترجمون له أيضا أنه ذكر في كتابه أحاديث لا أصل لها.

__________________

(١) قوت القلوب ٢ / ٢٤٦.

(٢) البداية والنهاية ١١ / ٣١٩ ، لسان الميزان ٥ / ٣٠٠ ، الكنى والألقاب ١ / ١٠٦ ، المنتظم لابن الجوزي ٧ / ١٩٠.

٤٤٨

ومع هذا فكيف يعول على رواياته ويؤخذ بها ، ومن أخذ عنه فهو غير عالم بحاله ، وعلى كل فالرقم القياسي لكثرة أزواج الإمام مستندة إليه ومأخوذة عنه ، ونظرا لما هو فيه من الشذوذ والانحراف فلا يمكن التعويل على ما ذكره.

ومهما يكن من شيء فليس عندنا دليل مثبت لكثرة أزواج الإمام سوى هذه الروايات ، وهي لا تصلح للاعتماد عليها نظرا للشبه والطعون التي حامت حولها ، ويؤيد افتعال تلكم الكثرة امور :

١ ـ انها لو صحت لكان للإمام من الأولاد جمع غفير يتناسب معها والحال أن النسابين والرواة لم يذكروا للإمام ذرية كثيرة فان الرقم القياسي الذي ذكر لها اثنان وعشرون ولدا ما بين ذكر وانثى وهذا لا يلتئم كليا مع تلك الكثرة ولا يلتقي معها بصلة.

٢ ـ ومما يزيد وضوحا في افتعال تلكم الروايات هي المناظرات التي جرت بين الإمام الحسن (ع) وبين خصومه فى دمشق وغيره ، وقد أجهدوا نفوسهم ، وانفقوا كثيرا من الوقت للتفتيش عما يشين الامام ليتخذوه وسيلة الى التطاول عليه ، والنيل منه ، فلم يجدوا لذلك سبيلا ، كما تقدم بيانه عند عرض مناظراته ، ولو كان الامام (ع) كثير الزواج والطلاق ـ كما يقولون ـ لقالوا له : أنت لا تصلح للخلافة لأنك مشغول بالنساء ، ولطبلوا بذلك ، واتخذوه وسيلة للتشهير به ، وجابهوه به عند اجتماعهم به فسكوتهم عنه وعدم ذكرهم له مما يدل على عدم واقعيته وصحته.

٣ ـ ومما يؤيد عدم صحة تلك الروايات أن أبا جعفر محمد بن حبيب المتوفى سنة ( ٢٤٥ هج ) قد ذكر فى كتابه ( المحبر ) ثلاثة أصهار للإمام ، وهم : الامام علي بن الحسين (ع) وعنده أم عبد الله ، وعبد الله بن الزبير

٤٤٩

وعنده أم الحسن ، وعمرو بن المنذر وعنده أم سلمة(١) ولم يزد على ذلك ولو كان الامام (ع) كثير الأزواج لكان له من الأصهار ما يتناسب مع تلك الكثرة ، ومضافا لذلك فان أبا جعفر من المعنيين بأمثال هذه البحوث فقد ذكر في ( المحبر ) كثيرا من نوادر الأزواج ، ولو كان للإمام تلك الكثرة من الأزواج لألمع لها في محبره.

٤ ـ ومما يدل على وضع ذلك وعدم صحته ما روي أن الامام أمير المؤمنين (ع) كان يصعد المنبر فيقول : « لا تزوجوا الحسن فانه مطلاق » كما روى ذلك أبو طالب وغيره ، إن نهي أمير المؤمنين الناس عن تزويج ولده على المنبر لا يخلو إما أن يكون قد نهى (ع) ولده عن ذلك فلم يستجب له حتى اضطر (ع) الى الجهر به والى نهي الناس عن تزويجه ، وإما أن يكون ذلك النهي ابتداء من دون أن يعرف ولده الامام الحسن (ع) مبغوضية ذلك وكراهته لأبيه وكلا الأمرين بعيدان كل البعد

أما « الأول » فهو بعيد لأن الامام الحسن من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وممن باهل بهم النبي (ص) ومن المستحيل أن يخالف أباه ويعصي أمره.

وأما « الثاني » فبعيد أيضا لأن الاولى بالامام أمير المؤمنين أن يعرف ولده بمبعوضية ذلك وكراهته له ولا يعلن ذلك على المنبر أمام الجماهير الحاشدة الأمر الذي لا يخلو من حزازة على ولده ووصيه وشريكه فى آية التطهير ، ومضافا الى ذلك أن الأمر إما أن يكون سائغا شرعا أو ليس بسائغ فان كان سائغا فما معنى نهى الامام (ع) عنه ، وإن لم يكن سائغا فكيف يرتكبه الحسن؟ إنا لا نشك في افتعال هذا الحديث ووضعه من

__________________

(١) المحبر ص ٥٧.

٤٥٠

خصوم الامام ليشوهوا بذلك سيرته العاطرة التي تحكي سيرة جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة أبيه أمير المؤمنين (ع).

٥ ـ ومما يؤيد افتعال تلك الكثرة لأزواجه ما روي أن الامام الحسنعليه‌السلام لما وافاه الأجل المحتوم خرجت جمهرة من النسوة حافيات حاسرات خلف جنازته ، وهن يقلن نحن أزواج الامام الحسن(١) . ان افتعال ذلك صريح واضح ، فانا لا نتصور ما يبرر خروج تلك الكوكبة من النسوة حافيات حاسرات ، وهن يهتفن أمام الجماهير بأنهن زوجات الامام ، فان كان الموجب لخروجهن إظهار الأسى والحزن ، فما الموجب لهذا التعريف والسير فى الموكب المزدحم بالرجال مع أنهن قد أمرن بالتستر وعدم الخروج من بيوتهن ، إن هذا الحديث وأمثاله قد وضعه خصوم العلويين من الأمويين والعباسيين ، والغرض منه الحط من قيمة الامام ، وتقليل أهميته.

ومن الأخبار الموضوعة التي تشابه تلك الأخبار ما رواه محمد بن سيرين ان الامام الحسن (ع) تزوج بامرأة فبعث لها صداقا مائة جارية مع كل جارية الف درهم(٢) إنا نستبعد أن يعطي الامام هذه الأموال الضخمة مهرا لاحدى زوجاته فان ذلك لون من ألوان الاسراف والتبذير ، وهو منهى عنه في الاسلام ، فقد أمر بالاقتصار ، على مهر السنة ، وكره تجاوزه ، فقد أثر عن النبي (ص) أنه قال : « أفضل نساء أمتي أقلهن مهرا » ، وتزوج (ص) نساءه بمهر السنة ، وكذلك تزوج أمير المؤمنين به ولم يتجاوزه ، وسبب ذلك تسهيل أمر الزواج لئلا يكون فيه ارهاق وعسر

__________________

(١) البحار

(٢) البداية والنهاية ٨ / ٣٨ ، المسالك للشهيد الثاني.

٤٥١

على الناس ، ومن المقطوع به ان الامام الحسن (ع) لا يجافى سنة جده ولا يسلك أي مسلك يتنافى مع شريعته. إن هذا الحديث وأمثاله من الموضوعات فى المقام تؤيد وضع كثرة الأزواج ، وتزيد فى الافتعال وضوحا وجلاء.

وعلى أي حال ، فليس هناك دليل يثبت كثرة أزواج الإمام سوى تلكم الروايات ، ونظرا لما ورد عليها من الطعون فلا تصلح دليلا للإثبات.

فرية المنصور :

وأكبر الظن أن أبا جعفر المنصور هو أول من افتعل ذلك ، وعنه أخذ المؤرخون ، وسبب ذلك هو ما قام به الحسنيون من الثورات التي كادت أن تطيح بسلطانه ، وعلى أثرها القى القبض على عبد الله بن الحسن وخطب على الخراسانيين في الهاشمية خطابا شحنه بالسبّ والشتم لأمير المؤمنين ولأولاده ، وافتعل فيه على الحسن ذلك ، وهذا نص خطابه :

« إن ولد آل أبي طالب تركناهم والذي لا إله إلا هو والخلافة ، فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير ، فقام فيها علي بن أبي طالب (ع) ، فما أفلح وحكم الحاكمين ، فاختلفت عليه الأمة ، وافترقت الكلمة ، ثم وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته ، فقتلوه ، ثم قام بعده الحسن بن علي فو الله ما كان برجل عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسّ إليه معاوية أني أجعلك ولي عهدي ، فخلعه ، وانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه ، وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ، ويطلق غدا أخرى ، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه »(١) ..

وحفل خطابه بالمغالطات والأكاذيب فقد جاء فيه :

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٢٢٦.

٤٥٢

١ ـ إن الإمام أمير المؤمنين (ع) قد حكم الحاكمين ، وهو افتراء محض ، فان الذي حكم الحاكمين إنما هم المتمردون من جيش الإمام ، فقد أصرّوا على ذلك ، وأرغموه على قبوله ، فاضطر (ع) الى اجابتهم كما بيّنا ذلك في الحلقة الأولى من هذا الكتاب.

٢ ـ وجاء في خطابه ان الإمام قد وثبت عليه شيعته وأنصاره وثقاته فقتلوه ، وقد جافى بذلك الواقع ، فان الذي قتله إنما هم الخوارج ، وهم ليسوا من شيعته ، ولا من أنصاره ، وإنما كانوا من ألدّ أعدائه وخصومه.

٣ ـ وذكر ان الإمام الحسن (ع) أقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ، ويطلق غدا أخرى ، وهو بعيد كل البعد ولم يفه به أحد سواه.

وإنما عمد الى تلفيق هذه الأكاذيب لأجل تدعيم ملكه وسلطانه ، وقهر الحسنيين والحط من شأنهم ، لأنه قد بايع محمدا ذا النفس الزكية مرتين ، ولم يكن له أي أمل بالخلافة كما لم يكن له أي شأن في المجتمع فقد كان فقيرا بائسا يجوب في القرى والأرياف وهو يمدح العترة الطاهرة فيتصدق عليه المسلمون ، وليس له ولأسرته أي خدمة للمجتمع حتى يستحق هذا المنصب الخطير.

ومن مفتريات هذا الطاغية السفاك على سبط الرسول (ص) وريحانته ما جاء في كتابه الى ذي النفس الزكية ، وهذا نصه :

« وأفضى أمر جدك ـ يعني أمير المؤمنين (ع) ـ الى الحسن فباعها الى معاوية بخرق ودراهم ، ولحق بالحجاز ، وأسلم شيعته بيد معاوية ، ودفع الأمر الى غير أهله ، وأخذ مالا من غير ولائه ، ولا حله ، فان كان لكم فيها شيء فقد بعتموه ، وأخذتم ثمنه. »(١)

__________________

(١) صبح الأعشى ١ / ٢٣٣ ، جمهرة رسائل العرب ٣ / ٩٢.

٤٥٣

لقد عمد المنصور الى هذا التهريج ، والى هذه المغالطات ليبرر تقمصه للخلافة فقد أخذها بغير حق لأن الثورة التي أطاحت بالحكم الأموي كانت من أجل العلويين ، ولارجاع حقهم الغصيب ، وليس للعباسيين فيها أي نصيب.

مخاريو لامنس :

وطالما تحدى لامنس كرامة الإسلام ، فألصق به التهم ، وطعن برجاله وحماته ، وقد ذكرنا في أسباب الصلح شطرا من مفترياته على الإمام ، وقد كتب في بحثه عن أزواج الإمام ما نصه :

« ولما تجاوز ـ يعنى الإمام الحسن (ع) ـ الشباب ، وقد انفق خير سني شبابه في الزواج والطلاق فاحصي له حوالي المائة زوجة ، والصقت به هذه الأخلاق السائبة لقب المطلاق ، وأوقعت عليا في خصومات عنيفة وأثبت الحسن كذلك أنه مبذر كثير السرف ، وقد خصص لكل من زوجاته مسكنا ذا خدم وحشم ، وهكذا نرى كيف يبعثر المال أيام خلافة علي التي اشتد عليها الفقر »(١)

لقد اعتمد لامنس في قوله : إن الإمام كان كثير الزواج والطلاق على أقوال المدائني وأمثاله من المؤرخين الذين تابعوا السلطة الحاكمة فكتبوا لها لا للتاريخ ، وقد استقى المستشرقون الذين كادوا للإسلام في بحوثهم من منهل المؤرخين الذين ساندوا تلك الدول الجائرة التي ناهضت أهل البيت ، وعملت على تشويه واقعهم والحط من كرامتهم ، وقد زاد عليهم ( لامنس ) فذكر من المخاريق والأكاذيب بما لم يقل به أحد غيره فقد قال :

__________________

(١) دائرة المعارف ٧ / ٤٠٠.

٤٥٤

١ ـ إنه القى أباه بسبب كثرة زواجه وطلاقه في خصومات عنيفة ، ولم يشر أحد ممن ترجم الإمام الى تلك الخصومات العنيفة التي زعمها لامنس.

٢ ـ وذكر ان الإمام خصص لكل من زوجاته مسكنا ذا خدم وحشم ، إن جميع المؤرخين لم ينقلوا ذلك ، وهو من الكذب السافر والافتراء المحض.

إن لجان التبشير المسيحي التي حاربت الإسلام وبغت عليه هي التي تدفع هذه الأقلام المأجورة وتزج بها للنيل من الإسلام ، والى تشويه واقعه والحط من قيم رجاله واعلامه الذين أناروا الطريق للركب الإنساني ، ورفعوا منار الحضارة في العالم.

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن كثرة أزواج الإمام مع ما حف بها من الطعون والشكوك ، وقد بقي علينا أن نشير الى أسماء أزواجه اللاتي ذكرهن المؤرخون مع بيان ما عثرنا عليه من تراجمهن وإليك ذلك :

١ ـ خولة الفزارية :

وخولة بنت منظور الفزارية من سيدات النساء في وفور عقلها وكمالها تزوج بها الإمام ، وفي ليلة اقترانه بها بات معها على سطح الدار فشدت خمارها برجله ، وشدت الطرف الآخر بخلخالها فلما استيقظ وجد ذلك فسألها عنه فقالت له معربة عن اخلاصها وحرصها على حياته :

« خشيت أن تقوم من وسن النوم فتسقط فأكون أشأم سخلة على العرب ».

فلما رأى ذلك منها أحبها وأقام عندها سبعة أيام(١) وقد بقيت عنده حولا لم تتزين ولم تكتحل حتى رزقت منه السيد الجليل ( الحسن ) فتزينت

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٢١٦.

٤٥٥

حينئذ ، فدخل عليها الامام فرآها متزينة فقال لها : « ما هذا؟ » فقالت له : « خفت أن أتزين وأتصنع فتقول النساء تجملت فلم تر عنده شيئا ، فأما وقد رزقت ولدا فلا أبالي » ، وبقيت عنده إلى أن توفي (ع) فجزعت عليه جزعا شديدا فقال لها أبوها مسليا :

نبئت خولة أمس قد جزعت

من أن تنوب نوائب الدهر

لا تجزعي يا خول واصطبري

إن الكرام بنوا على الصبر(١)

وذكرت السيدة زينب بنت علي العاملية في ترجمة خولة ما حاصله انها لما بلغت مبالغ النساء خطبها جملة من وجهاء قريش وأشرافهم فأمتنع أبوها من إجابتهم لأنهم ليسوا بأكفاء لها ، ثم انه طلق امها مليكة بنت خارجة فتزوجها من بعده طلحة بن عبيد الله ، وتزوج ابنه محمد بخولة فأولدت له ابراهيم وداود وأم القاسم ، وقتل زوجها محمد في واقعة الجمل فخطبها جماعة من الناس فجعلت أمرها بيد الحسن (ع) فتزوجها ، ولما نزح الإمام الى يثرب حملها معه ، فبلغ أباها ذلك ، فأقبل الى مسجد رسول الله (ص) وبيده راية فركزها في المسجد فلم يبق قيسي إلا وانضم تحتها ، وهو يهتف بقومه ويستنجد بهم على أخذ بنته من الامام ، فلما بلغه (ع) ذلك خلى سراحها فأخذها وخرج فجعلت خولة تتوسل به على ارجاعها وتندد بعمله وتذكر له فضل الامام ، فندم على فعله وقال لها : البثي هاهنا فان كان للرجل بك من حاجة سيلحق بك ، فلحقه الامام مع أخيه الحسين ، وعبد الله بن عباس ، فلما انتهوا إليه قابلهم بحفاوة وتكريم وأرجعها الى الامام ، وفي ذلك يقول جبير العبسي :

إن الندى في بني ذبيان قد علموا

والجود في آل منظور بن سيار

_________________

(١) الأمالي للزجاج ص ٧.

٤٥٦

والماطرين بأيديهم ندى ديما

وكل غيث من الوسمى مدرار

تزور جارتهم وهنا قواضبهم

وما فتاهم لها سرا بزوار

ترضى قريش بهم صهرا لأنفسهم

وهم رضا لبني أخت وأصهار

ثم انها بقيت عند الإمام حتى أسنت ، ولما مات الإمام لم تتزوج من بعده. وقيل انها تزوجت بعبد الله بن الزبير ودخلت عليها النوار زوج الفرزدق مستشفعة بزوجها فأجابتها الى ذلك ، فكلمات عبد الله به فأجابها الى ذلك وفي هذا يقول الفرزدق :

أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم

وشفعت بنت منظور بن زبانا

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا

مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا(١)

وعندي ان هذه القصة ضرب من الخيال ولا نصيب لها من الواقع وذلك لأن زواج الإمام بها من دون مراجعة أبيها أمر لا يتناسب مع كرامة الإمام ومحال أن يقدم عليه من دون مراجعته وأخذ رأيه فى ذلك ، ومضافا لهذا فانه من المستبعد عدم علم أبيها بقتل زوجها الأول في تلك المدة الطويلة من الزمن حتى تزوج بها الإمام ، ويبعده أيضا نزوحه الى يثرب واستنجاده بأسرته ليأخذ ابنته من الامام ، وقد كان يتطلب مصاهرة الأشراف ، ومناسبة العظماء ، فردّ جماعة من الأشراف الذين خطبوا ابنته لأنهم ليسوا أكفاء لها ، وبعد هذا فكيف لا يرضى بمصاهرة الامام له وهو من ألمع الشخصيات في العالم الاسلامى ، إنا لا نشك في افتعال ذلك وعدم صحته.

٢ ـ جعدة بنت الأشعث :

واختلف المؤرخون في اسمها ، فقيل سكينة ، وقيل شعثاء ، وقيل

__________________

(١) الدر المنثور ص ١٨٧ ، وعمدة الطالب ص ٧٣.

٤٥٧

عائشة ، والأصح انها جعدة حسب ما ذكره أكثر المؤرخين(١) ، وسبب زواج الامام بها أن أمير المؤمنين خطب من سعيد بن قيس الهمداني ابنته أم عران لولده الحسن فقال له سعيد : أمهلني يا أمير المؤمنين حتى أستشير ثم خرج من عنده فلقيه الأشعث فسأله عن مجيئه فأخبره بالأمر فقال له هذا المنافق مخادعا :

« كيف تزوج الحسن وهو يفتخر عليها ولا ينصفها ويسيء إليها؟! فيقول لها : أنا ابن رسول الله ، وابن أمير المؤمنين ، وليس لها هذا الفضل ولكن هل لك فى ابن عمها فهي له وهو لها ».

ـ ومن ذلك؟

ـ محمد بن الأشعث.

فانخدع هذا الغبي من مقالته وقال : « قد زوجته من ابنتي ».

وأخذ الأشعث يشتد نحو أمير المؤمنين ، فقال له :

« خطبت الى الحسن ابنة سعيد؟ »

ـ نعم.

ـ فهل لك فى أشرف منها بيتا ، وأكرم منها حسبا ، وأتم منها جمالا وأكثر مالا؟

ـ ومن هي؟

ـ جعدة بنت الأشعث بن قيس.

ـ قد قاولنا رجلا ـ يعني سعيدا الهمداني ـ.

ـ ليس الى ذلك الذي قاولته من سبيل.

ـ إنه فارقني ليستشير أمها.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٣ وغيره.

٤٥٨

ـ قد زوجها من محمد بن الأشعث.

ـ متى؟!!

ـ قبل أن آتيك.

فوافق أمير المؤمنين ، ولما فهم سعيد باغراء الأشعث ومخادعته له أقبل نحوه يشتد فقال له : « يا أعور خدعتني!! »

ـ أنت أعور خبيث ، حيث تستشير في ابن رسول الله ألست الأحمق؟!

وأقبل الأشعث الى الامام فقال له : « يا أبا محمد ألا تزور أهلك » مستعجلا فى الأمر خوفا من فواته ، ثم إنه فرش أبسطة من باب بيته الى بيت الامام وزف ابنته إليه(١) بهذه الصورة كان زواج الامام بجعدة.

٣ ـ عائشة الخثعمية :

ومن جملة أزواج الامام عائشة الخثعمية تزوجها في حياة أمير المؤمنين ولما قتل (ع) أقبلت الى الامام الحسن فأظهرت الشماتة بوفاة أبيه فقالت له :

« لتهنك الخلافة ». ولما علمعليه‌السلام شماتتها قال لها :

« ألقتل علي تظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنت طالق ».

فتلفعت بثيابها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث لها بقية صداقها وعشرة آلاف درهم صدقة لتستعين بها على أمورها ، فلما وصلت إليها قالت : « متاع قليل من حبيب مفارق »(٢) ، ولم يذكر التاريخ ان الإمام طلق زوجه سوى هذه وأم كلثوم وامرأة من بني شيبان ، فأين كثرة الزواج والطلاق التي طبل بها بعض المؤرخين؟

وأما بقية أزواجه اللاتي لم نعثر على تراجمهن فهن :

__________________

(١) الأذكياء لابن الجوزي ص ٢٧.

(٢) تأريخ ابن عساكر ٤ / ٢١٦.

٤٥٩

٤ ـ أم كلثوم بنت الفضل بن العباس ، تزوجها (ع) ثم فارقها فتزوجها من بعده أبو موسى الأشعري(١) .

٥ ـ أم اسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمي ، أولدت منه ولدا أسماه طلحة.

٦ ـ أم بشير بنت أبي مسعود الأنصاري ، أولدت منه ولدا أسماه زيدا

٧ ـ هند بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.

٨ ـ امرأة من بنات عمرو بن أهيم المنقري.

٩ ـ امرأة من ثقيف ، أولدت له ولدا أسماه عمرا.

١٠ ـ امرأة من بنات زرارة.

١١ ـ امرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة

، فقيل له إنها ترى رأي الخوارج فطلقها وقال : « إنى أكره أن أضم الى نحري جمرة من جمر جهنم »(٢) .

١٢ ـ أم عبد الله

، وهي بنت الشليل بن عبد الله أخو جرير البجلي.

١٣ ـ أم القاسم ، وهي أم ولد ، وقيل اسمها نفيلة ، وقيل رملة.

فمجموع ما تزوجه الامام من النساء هذا العدد المذكور لم يتجاوزه بقليل ، وهو كما ترى لا يمت الى الكثرة المزعومة بصلة ، الى هنا ينتهي بنا الحديث عن أزواج الامام

وقد بقي علينا الاشارة الى عدد أولاده ذكورا وأناثا ، وقد اختلف المؤرخون في ذلك اختلافا كثيرا فقد روي أنهم :

١ ـ اثنا عشر ، ثمانية ذكورا وأربع اناث(٣) .

__________________

(١) الاستيعاب ٣ / ٢٠٤.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٨ ، وقد ذكر اسماء هذه النسوة.

(٣) الارشاد.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529