حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218100 / تحميل: 6651
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

٢ ـ خمسة عشر ، الذكور احدى عشر ، والاناث أربع(١) .

٣ ـ ستة عشر ، الذكور احدى عشر ، والاناث خمس(٢) .

٤ ـ تسعة عشر ، الذكور ثلاثة عشر ، والبنات ست(٣) .

٥ ـ عشرون ، ستة عشر ذكرا ، وأربع بنات(٤) .

٦ ـ اثنان وعشرون ، الذكور أربعة عشر ، والاناث ثمان(٥) .

وقيل غير ذلك ، وقد اتفق المؤرخون أنه لم يعقب أحد من أولاده سوى الحسن وزيد ، اما أعلام أولاده فهم :

__________________

(١) النفحة العنبرية.

(٢) زينب ، والزينبات للعبيدلي ، اتعاض الحنفا في أخبار الخلفاء للمقريزي المجدي ، وقد نص على أسمائهم فالذكور : زيد ، والحسن ، والحسين الأثرم ، وطلحة ، واسماعيل ، وعبد الله ، وحمزة ، ويعقوب ، وعبد الرحمن ، وأبو بكر ، وعمر.

وأما الاناث : أم الخير ، ورملة ، وأم الحسن ، وأم سلمة ، وأم عبد الله. وجاء فيه أن زيدا ، وأم الخير ، وأم الحسن أمهم خزرجية ، وأم الحسن خولة بنت منظور الفزارية ، وزوجه عمه الحسين بنته فاطمة ، وعمر أمه أم ولد ، والحسين أمه أم ولد ، وطلحة أمه من تيم قرشية ، وذكر ان عبد الرحمن بن الامام الحسن مات محرما بالأبواء فكفنه عمه الحسين ولم يحنطه ولا غطى وجهه.

(٣) سر السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري.

(٤) تذكرة الخواص لابن الجوزي ،

(٥) الحدائق الوردية ص ١٠٧.

٤٦١

١ ـ القاسم :

وفي طليعة أولاد الامام الحسن القاسم ، وقد استشهد مع عمه سيد الشهداء في واقعة كربلا الخالدة في دنيا الأحزان ، وكان حينذاك فى ريعان الشباب وغضارة العمر ، وكالقمر فى جماله ، وبهائه ، ونضارته ، برز يوم الطف حينما رأى ريحانة النبي (ص) وحيدا ، قد أبيدت الصفوة من أهل بيته ، وعلا الصراخ والعويل من ثقل النبوة ، فلم يتمكن أن يرى ذلك ، فانبرى الى عمه يقبل يديه ورجليه يطلب منه الاذن للدفاع عنه ، فأذن له ، أما كيفية شهادته فتذوب لها النفس لهولها أسى وحسرات ، وقد ذكرها المؤرخون وأرباب المقاتل والسير بالتفصيل.

٢ ـ أبو بكر :

واسمه عبد الله ، أمه أم ولد(١) يقال لها رملة(٢) برز يوم الطف يحامى عن دين الله ، ويذب عن ريحانة رسول الله (ص) ، فاستشهد فى تلك الواقعة التي وتر فيها رسول الله (ص).

٣ ـ عبد الله :

استشهد مع عمه سيد الشهداء في كارثة كربلا ، وله من العمر احدى عشر سنة ، نظر الى عمه الحسين وقد أحاطت به جيوش الأمويين ، فأقبل يشتد للدفاع عنه ، وأهوى أبحر بن كعب بالسيف ليضرب الإمام الحسين فصاح به الغلام ، ويلك يا ابن الخبيثة أتضرب عمي؟ واتقى الغلام الضربة بيده فأطنها الى الجلد فاذا هي معلقة ، فاستنجد الغلام بعمه ، فانبرى إليه

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٩.

(٢) الحدائق الوردية ص ١٠٧.

٤٦٢

الإمام فضمه إليه(١) ، وبينما هو في حجره إذ رماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه(٢) وليس في تأريخ الإنسانية قديما ولا حديثا مثل أولئك الفتية من آل النبي (ص) فى نخوتهم ونبلهم وبطولتهم.

٤ ـ زيد :

وزيد أمّه خزرجية كان جليل القدر ، كريم الطبع ، كثير البر والاحسان ، قصده الناس من جميع الآفاق لطلب بره ومعروفه ، وكان يلي صدقات رسول الله (ص) فلما ولي سليمان بن عبد الملك عزله عنها ، ولما هلك واستخلف عمر بن عبد العزيز أرجعها إليه ، وقد مدحه محمد بن بشير الخارجي بقوله :

إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة

نفى جدبها واخضرّ بالنبت عودها

وزيد ربيع الناس في كل شتوة

إذا اخلقت انواؤها ورعودها

حمول لأشتات الديات كأنه

سراج دجى قد فارقته سعودها(٣)

وكان يركب فيأتي سوق ( الظهر ) فيقف به فتزدحم الناس على النظر إليه ويعجبون من خلقه ، ويقولون يشبه جده رسول الله(٤) توفي سنة مائة وعشرين وله من العمر تسعون سنة وقيل مائة ، ورثاه جماعة من الشعراء منهم قدامة بن موسى الجحمي بقوله :

فان يك زيد غالت الأرض شخصه

فقد بان معروف هناك وجود

وإن يك أمسى رهن رمس فقد ثوى

به وهو محمود الفعال فقيد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٩.

(٢) اللهوف ص ٦٨.

(٣) البحار ١٠ / ١٨٠.

(٤) طبقات ابن سعد ٥ / ٣٤.

٤٦٣

سميع الى المضطر يعلم أنه

سيطلبه المعروف ثم يعود

وليس بقوال وقد حط رحله

لملتمس المعروف اين تريد

إذا قصر الوعد الذي قد نمى به

الى المجد آباء له وجدود

مناديل للمولى محاشيد للقرى

وفي الروع عند النائبات أسود

إذا مات منهم سيد قام سيد

كريم فيا بني مجدهم ويشيد(١)

٥ ـ الحسن :

كان الحسن سيدا جليلا عظيم القدر ، وهو وصي أبيه ، ووالي صدقته(٢) ، حضر مع عمه الحسين (ع) في واقعة كربلا ، فقاتل معه حتى سقط الى الأرض جريحا ، ولما أقبل أجلاف أهل الكوفة على حزّ رءوس الشهداء وجدوا في الحسن رمقا فجاء اسماء بن خارجة الفزاري ، وكان من أخواله فاستشفع به فشفعوه فيه فحمله معه الى الكوفة وعالجه حتى بريء ثم لحق بالمدينة ، وكان يلي صدقات جده أمير المؤمنين (ع) وقد تزوج بابنة عمه فاطمة بنت الحسين ، ولما مات جزعت عليه جزعا شديدا فضربت على قبره فسطاطا سنة كاملة فكانت تصلي في الليل وتصوم في النهار(٣) توفي وعمره خمس وثلاثون سنة مسموما قد سقاه السم الوليد بن عبد الملك(٤) .

الى هنا ينتهي بنا الحديث عن أولاده وقد بحثنا عنهم بحثا موجزا وعسى أن يساعدني التوفيق فأتشرف بالبحث عن سيرتهم وثورات احفادهم الإصلاحية ضد الظالمين والمستبدين من خلفاء الأمويين والعباسيين.

__________________

(١) البحار ١٠ / ٢٣٤.

(٢) الحدائق الوردية ص ١٠٧.

(٣) البحار ١٠ / ١٣٨ ، تنقيح المقال ١ / ٢٧٢.

(٤) عمدة الطالب ص ٧٨.

٤٦٤

نهاية المطاف

٤٦٥
٤٦٦

وحقق معاوية جميع ما يصبو إليه فى هذه الحياة ونال من دنياه كل ما اشتهى وأراد ولكن بقيت عنده فكرة واحدة تراوده في جميع أوقاته قد أقضت مضجعه ، لو تمت لتم له كل شيء بحسابه وهي جعل الخلافة والملك العضوض وراثة في أبنائه وذريته ، وقد بذل جميع جهوده ومساعيه في تحقيق ذلك ، فأدنى الأباعد ، وأنفق الأموال الطائلة ، وسافر الى يثرب مع ما هو فيه من الشيخوخة والضعف ، فلم يظفر بذلك ما دام الإمام الحسن حيا ، فعلم أنه لا يتمكن من انجاز مهمته إلا باغتيال شخصية الإمام التي ينتظر دورها العادل جميع المسلمين لينتشر العدل ويعم الخير والرفاهية في جميع أنحاء البلاد.

وأخذ معاوية يفكر في ذلك فيطيل التفكير ، ويقلب الرأي على وجوهه باي وسيلة يتوصل الى تحقيق أمنيته ، فمثل أمامه قوله الذي ضربه مثلا للفتك والغدر : « إن لله جنودا من عسل » ، وقد طبق ذلك فنجح به مع سعد بن أبي وقاص ، والزعيم مالك الأشتر ، فانحصرت وسيلته بتطبيق ذلك فأرسل الى الإمام غير مرة سما مميتا حين ما كان فى دمشق فلم ينجح به ، فراسل عاهل الروم يطلب منه أن يبعث إليه سما فاتكا سريع التأثير فامتنع من إجابته قائلا له : « انه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لا يقاتلنا » ان ملك الروم لم يسمح له دينه أن يغتال بريئا ، ولكن معاوية قد استباح ذلك واعرب عن كفره ، فراسله مرة ثانية يخبره بمشروعية هذا الأمر قائلا : « إن هذا الرجل ابن الذي خرج بأرض تهامة ـ يعني رسول الله ـ قد خرج يطلب ملك أبيه ، وأنا أريد إليه السم ، فاريح منه العباد والبلاد » لقد استحل اغتيال الإمام لأنه ابن رسول الله (ص) الذي حطم أوثان الجاهلية ، وقضى على الشرك ، وقد وجد ملك الروم عند ذلك

٤٦٧

مجالا فبعث إليه سما مميتا(١) ، ولما وصل السم الى معاوية جعل يفكر فى إيصاله الى الإمام فاستعرض أقرباء الإمام ومن يمت إليه فلم يجد أحدا يعينه على ارتكاب هذه الجريمة ، فاستعرض ثانيا أزواج الإمام فوجد في جعدة بنت الأشعث طلبته فأبوها الذي أرغم أمير المؤمنين على قبول التحكيم وأفسد جيشه ولعله يجد فى ابنته تحقيق اربه وبلوغ أمنيته فأرسل إليها السم بتوسط الأثيم مروان بن الحكم وأمره أن يمينيها بزواج يزيد وأن يقدم لها مائة ألف درهم(٢) وحري بهذه الأثيمة أن تجيب نداء ابن هند فهي من اسرة انتهازية لها تأريخها الأسود فقد جبلت على الطمع وعلى الاستجابة لجميع الدوافع المادية ، وقد قال الإمام الصادق (ع) فيها : « ان الأشعث شرك فى دم أمير المؤمنين ، وابنته جعدة سمت الحسن ، وابنه شرك فى دم الحسين »(٣) . ويضاف لذلك أن جعدة كانت مصابة بالعقد النفسية لأنها لم ترزق من الامام ولدا ، وكانت تعامل في بيتها معاملة عادية.

ولما وصل السم الى مروان حمله إليها فقدم لها الأموال ومناها بزواج يزيد ان أجابت طلبته ، فأخذ الشيطان يوسوس لها فانخدعت وفرحت بالأموال وباقترانها بيزيد ، فوافقت على ارتكاب الجريمة فأخذت منه السم وكان الامام صائما في وقت شديد الحر فأخرجت له افطاره والقت السم في لبن فتناول منه الامام جرعة فلما وصل الى جوفه تقطعت أمعاؤه ،

__________________

(١) البحار ١٠ / ١٧٣.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣٥٣ ، وقيل إن معاوية بعث لها عشرة آلاف دينار وأقطعها ضياعا من سواد الكوفة جاء ذلك فى تحف العقول ص ٣٩١.

(٣) اعيان الشيعة ٤ / ٧٨.

٤٦٨

فقال (ع) لما أحس بألمه الشديد :

« إنا لله وإنا إليه راجعون ، الحمد لله على لقاء محمد سيد المرسلين وأبي سيد الوصيين ، وأمى سيدة نساء العالمين ، وعمي جعفر الطيار ، وحمزة سيد الشهداء. »

ثم التفت الى جعدة فقال لها :

« يا عدوة الله ، قتلتيني قتلك الله ، والله لا تصيبين منى خلفا ، ولقد غرك ـ يعني معاوية ـ وسخر منك يخزيك الله ويخزيه »(١) .

لقد أخزاها الله فلقد أصبحت مضرب المثل للسوء والخزي والاثم والخيانة فقد أصبحت عارا لذريتها وأبنائها من غير الامام فقد وصموا بابناء مسممة الأزواج(٢) ولقد سخر منها معاوية فلم يف لها بزواج يزيد حيث طلبت منه ذلك فقد ردها بسخرية واستهزاء قائلا :

« أنا نحب حياة يزيد ، ولو لا ذلك لوفينا لك بتزويجه!! »(٣) .

واتفق أكثر المؤرخين ان الامام مات مسموما وان معاوية هو الذي دسّ إليه السم فقتله(٤) ، وذهب فريق آخر أن يزيد هو الذي سم

__________________

(١) تحف العقول ص ٣٩١.

(٢) أعيان الشيعة ٤ / ٧٦.

(٣) مروج الذهب ٢ / ٣٠٣.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٧ ، تأريخ الدول الاسلامية ١ / ٥٣ ، تذكرة الخواص ص ٢٢٢ ، الاستيعاب ١ / ٣٧٤ ، النصائح الكافية ص ٦٢ تأريخ أبي الفداء ١ / ١٩٤ ، وهذه المصادر كلها لأبناء السنة والجماعة وقد عزت قتل الامام الى معاوية ، وبهذا يتضح فساد ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن الشيعة هي التي روت أن معاوية قد سم الامام كما انه يتضح فساد ما ذكره ـ

٤٦٩

الإمام(١) ولو سلمنا ذلك فانه إنما كان بأمر من أبيه إذ لا يعقل أن يرتكب مثل هذا الحادث الخطير من دون مراجعته واحراز موافقته ، ومن الغريب جدا ما ذهب إليه ابن خالدون حيث حاول تبرير ساحة معاوية ونفي الجريمة عنه ، قال :

« وما ينقل من أن معاوية قد دس السم الى الامام الحسن على يد زوجته جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة ، وحاشا لمعاوية ذلك »(٢) .

وابن خالدون مدفوع بدافع العصبية وهي داء خبيث قد القت الناس في شر عظيم وقد منى بها هذا المؤرخ ، فهو لم يكتب فى أمثال هذه

__________________

ـ الدكتور فيليب حتى في كتابه ( العرب ) ص ٧٩ ما نصه : « وأما الشيعة فتعزوا مقتله ـ يعني الحسن ـ الى معاوية وتجعل الحسن شهيدا لا بل سيد الشهداء أجمعين » وقد استقى الدكتور قوله من ابن خالدون ولم يتتبع بقية المصادر ليطلع على جلية الحال وهذا دليل على فقدان المستشرقين للتحقيق العلمي وعدم تركيز بحوثهم على المنطق والدليل.

(١) تاريخ أبي الفداء ١ / ١٩٣ ، نور الأبصار ص ١١٢ ، تأريخ ابن الوردي ٨ / ٤٣ ، وعند اين كثير ان هذا ليس بصحيح من يزيد فضلا عن معاوية ولم يبين مدرك عدم الصحة وما سبب ذلك إلا العصبية الهوجاء وإلا فما يمنع يزيد من ذلك وهو الذي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين وأباح عاصمة الرسول لجنده ثلاثة أيام ، وزنى بعمته أم الحكم.

(٢) تأريخ ابن خالدون ٢ / ١٨٧ ، واستند عبد المنعم فى كتابه التأريخ السياسي ٢ / ٢٠ ، الى قول ابن خالدون فقال فى معرض حديثه عن وفاة الامام : « ولكنا نستبعد قيام معاوية بذلك ».

٤٧٠

البحوث إلا ليرضي عصبيته وعاطفته وميوله وإنا لنسأله ما الذي يمنع معاوية من ارتكاب هذه الجريمة في سبيل توطيد ملكه وسلطانه وقد ارتكب من أجل ذلك افحش الموبقات واعظم الجرائم ، فحارب الخليفة الشرعي أمير المؤمنين وولده الحسن وقتل الصحابي حجر بن عدي واصحابه المؤمنين ، وسم مالك الأشتر ، وسعد بن أبي وقاص واستلحق به زياد بن ابيه إلى غير ذلك من جرائمه التي لا تحصى وبعد هذا فما الذي يمنعه من اغتيال الامام وسمه وقد علم أن الأمر لا يتم لولده إلا بذلك ،

أقوال غريبة :

ولا بأس بالاشارة الى بعض الاقوال الغريبة التي تضارع قول ابن خالدون في عدم الصحة وفى البعد عن الواقع وهي :

١ ـ موته بالسل :

ذكر المستشرق ( روايت م. رونلدس ) ان الإمام الحسن (ع) مات بالسل عند ما بلغ من العمر خمسا واربعين سنة(١) ، وهذا القول من الغرابة بمكان ولم يذهب إليه أحد من المؤرخين فقد أجمعوا أنه مات مسموما ولم يصب بداء السل ، وقد كتب هذا المستشرق جميع بحوثه على هذا الطراز في الخلو عن التحقيق وفي الاعتماد على الافتراء والكذب.

٢ ـ سمه في العصا :

ذكر الاستاذ حسين واعظ : « أن الإمام الحسن قد ترك المدينة الى الموصل في العراق بقصد الاستشفاء لأنه شعر بتأخر في صحته من بعد حوادث

__________________

(١) عقيدة الشيعة ص ٩٠ ، وذكر عين هذا المعنى لامنس في دائرة المعارف الإسلامية ٧ / ٤٠٠

٤٧١

التسميم ، إلا أن شخصا فقيرا أعمى قد جاء يطلب منه أن يتصدق عليه وكان (ع) جالسا على الأرض فرمى الأعمى عصاه على رجل الحسن ثم ضغطها على رجله ، وكانت عصاه متسممة إلا أنه عولج على أيدي الأطباء هناك فبريء من ذلك »(١) .

وهذا القول بعيد عن الصحة كل البعد إذ لم يصرح مؤرخ بما ذكره وهو افتراء محض لا نصيب له من الصحة.

٣ ـ سمه في الطواف :

ذكر المؤرخ الشهير أحمد بن سهل البلخي الشهير بالمقدسي : « أن الإمام كان يطوف فى البيت الحرام فطعنه شخص بظهر قدمه بزج(٢) مسموم فتوفى على أثر ذلك »(٣) .

وهذا القول من الغرابة بمكان قد انفرد به هذا المؤرخ ولعله أراد تنزيه معاوية ورفع المسئولية عنه بارتكابه هذه الجريمة ، ولم نحسب أن مؤرخا قد ذهب الى ذلك.

٤ ـ موته حتف أنفه :

ذكر الدكتور حسن ابراهيم أن بعض المؤرخين ذهب الى أن الإمام مات حتف أنفه بعد رجوعه من العراق الى يثرب بأربعين يوما(٤) وهذا

__________________

(١) روضة الشهداء ص ١٠٧.

(٢) الزج : الحديدة في أسفل الرمح.

(٣) البدء والتاريخ ٦ / ٥ ط باريس.

(٤) تاريخ الإسلام السياسي ١ / ٣٩٨ ، وذكر قريب من ذلك محمد أسعد طلس في كتابه تاريخ الأمة العربية ص ٩ وص ١٦ ، فقال : « وغادر الحسن ـ بعد الصلح ـ الى المدينة ، ولم يلبث أكثر من شهرين حتى مات ».

٤٧٢

القول ظاهر الفساد فان الإمام ( أولا ) لم يمت حتف أنفه ، و ( ثانيا ) انه قد مكث فى يثرب حفنة من السنين بعد وصوله إليها حتى وافاه الأجل المحتوم كما أجمع على ذلك المؤرخون.

ونعود بعد هذا الى تفصيل حالة الإمام فانه لما وصل السم الى جوفه أخذ يعاني آلام الموت فبقي في فراش المرض أربعين يوما(١) ، وقيل : شهرين(٢) وفي كل يوم تزداد فعالية السم في جسمه حتى ذاب قلبه الشريف من الألم ذلك القلب الذي يضم الحب والعطف للناس جميعا ، ودخل عليه عائدا شقيقه الحسين فلما رآه وهو خابئ اللون ، معصوب الرأس ، قد ذابت حشاه من السم التفت إليه وقد أذهله المصاب ، وأفزعه الخطب قائلا :

« أخي من سقاك السم؟ »

ـ وما تريد منه؟

ـ أريد أن أقتله.

« إن يكن الذي أظنه فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا ، وإن لم يكن هو فما أحب أن يقتل بي بريء »(٣) .

وهكذا كان (ع) محتاطا في الدماء حريصا عليها ، لا يحب أن يهراق في أمره ملأ محجمة دما ، وجيء له بطبيب ففحصه فحصا دقيقا وبعد الامعان في التشخيص يئس منه فالتفت الى أهله قائلا لهم :

__________________

(١) دائرة المعارف للبستاني ٧ / ٣٨ ، شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٤.

(٢) حياة الحيوان للدميري ١ / ٥٣ ، وقيل انه مكث يومين بعد التسمم لا غير ، جاء ذلك فى تحف العقول ص ٣٩١.

(٣) الاستيعاب ١ / ٣٧٤.

٤٧٣

« ان السم قد قطع أمعاءه »(١) .

فعند ذلك يئس الإمام من حياته ودخل عليه عائدا الصحابي العظيم جنادة بن أبي أميّة فالتفت الى الإمام قائلا :

« عظني يا ابن رسول الله ».

فاجاب (ع) طلبته وهو في أشد الأحوال حراجة ، وأقساها ألما ومحنة فاتحفه بهذه الكلمات الذهبية التي هي أغلى وأثمن من الجوهر وقد كشفت عن أسرار إمامته ، قائلا :

« يا جنادة ، استعد لسفرك ، وحصل زادك قبل حلول أجلك ، واعلم أنك تطلب الدنيا والموت يطلبك ، ولا تحمل هم يومك الذي لم يأت على يومك الذي أنت فيه ، واعلم أنك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك ، واعلم أن الدنيا في حلالها حساب ، وفى حرامها عقاب ، وفي الشبهات عتاب ، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة خذ منها ما يكفيك فان كان حلالا كنت قد زهدت فيه ، وإن كان حراما لم يكن فيه وزر فأخذت منه كما أخذت من الميتة ، وإن كان العقاب فالعقاب يسير ، واعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، وإذا أردت عزا بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذل معصية الله الى عز طاعة الله عز وجل ، وإذا نازعتك الى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك ، وإذا أخذت منه صانك ، وإذا أردت منه معونة أعانك وان قلت صدق قولك ، وان صلت شدّ صولتك ، وإن مددت يدك بفضل مدها ، وإن بدت منك ثلمة سدها ، وإن رأى منك حسنة عدها وإن سألته أعطاك ، وإن سكت عنه ابتدأك ، وإن نزلت بك إحدى

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ٤٣.

٤٧٤

الملمات واساك ، من لا تأتيك منه البوائق ، ولا تختلف عليك منه الطرائق ولا يخذلك عند الحقائق ، وان تنازعتما منقسما آثرك »(١) .

لقد اعطى (ع) لجنادة بهذه الوصية الخالدة الدروس النافعة ، والحكم القيامة ، والآراء الصائبة التي استقاها من جده الرسول (ص) ومن أبيه أمير المؤمنين ، فقد أرشده الى أفضل المناهج التي تضمن له النجاح في آخرته ودنياه.

ودخل على الإمام عائدا عمير بن اسحاق فالتفت (ع) له قائلا.

« يا عمير سلني قبل أن لا تسلني! »

وثقل على عمير أن يسأله وهو بهذه الحالة فقال له :

« لا والله لا أسألك حتى يعافيك الله ثم أسألك »(٢) .

والتفتعليه‌السلام إلى أهل بيته معربا لهم عما يعانيه من ألم السم ، « لقد القيت طائفة من كبدي ، واني سقيت السم مرارا ، فلم اسقه مثل هذه المرة ، لقد لفظت قطعة من كبدي(٣) ، فجعلت أقلبها بعود

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ٨٥.

(٢) صفة الصفوة ١ / ٣٢٠ ، البداية والنهاية ٨ / ٤٢.

(٣) لقد نصت الرواية ـ على تقدير ثبوتها ـ ان السم أثر في كبد الإمامعليه‌السلام حتى قاء بعضا منه ، وقد تحقق في الطب الحديث ان السم لا يوجب قيء الكبد ، وإنما يحدث التهابا بالمعدة ، وتهيجا في الأمعاء إذا كان التسمم حادا وإذا كان غير حاد فإنه يؤدي الى هبوط فى ضغط الدم ، والى التهاب في الأعصاب وقد يؤدي فى أحوال نادرة الى التهاب كبدي وغير ذلك من العوارض التي نص عليها الأطباء المختصون في الطب العدلي ، وقد يتوهم ان هذا يتصادم مع ما جاء في الرواية وهو مدفوع فان الكبد فى الاستعمالات العربية يطلق على الجهاز الخاص ـ

٤٧٥

معي »(١) .

ودخل عليه عائدا أخوه سيد الشهداء فلما نظر الى ما يعانيه من ألم السم غامت عيناه بالدموع ، فنظر إليه الحسن فقال له :

ـ ما يبكيك يا أبا عبد الله؟

ـ أبكي لما صنع بك.

واستشف الإمام الحسن بما سيجري على أخيه من بعده فهان عليه ما هو فيه ، وأرخى عينيه بالدموع وقال له بنبرات مرتعشة حزينة :

« إن الذي أوتي إلي سم اقتل به ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفا ، يدعون أنهم من أمّة جدنا محمد (ص) وينتحلون دين الإسلام ، فيجتمعون على قتلك ، وسفك دمك ، وانتهاك

__________________

ـ في الجانب الأيمن الذي يفرز الصفراء ، كذلك يطلق على ما فى الجوف بكامله كما جاء في القاموس ١ / ٣٣٢ ، وفى تاج العروس ٢ / ٤٨١ ما نصه : وربما سمي الجوف بكامله كبدا حكاه ابن سيده عن كراع انه ذكره فى المنجّد وأنشد :

إذا شاء منهم ناشئ مد كفه

الى كبد ملساء أو كلفل نهد

قال : ومن المجاز الكبد الجنب ، وفي الحديث : فوضع يده على كبده وإنما وضعها على جنبه من الظاهر ، وفى حديث مرفوع : « وتلقي الأرض أفلاذ كبدها » أي تلقي ما خبئ في بطنها من الكنوز والمعادن فاستعار لها الكبد ، وجاء ذلك أيضا في لسان العرب ٤ / ٣٧٨ ، وعلى ذلك فيكون المراد من الرواية انه القى من جوفه قطعا من الدم المتخثر تشبه الكبد وبهذا ظهر عدم التنافي بين الرواية وبين ما ذكره الأطباء فيما نحسب والله العالم.

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٧.

٤٧٦

حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك »(١)

إن جميع ما واجهته العترة الطاهرة بعد وفاة النبي (ص) من الشجون والخطوب لا يضارع كارثة أبي عبد الله (ع) فلا يوم كيومه فقد ذل فيه الإسلام ، وانتهكت فيه كرامة المسلمين وحرمة النبي (ص) التي هي أولى بالرعاية والعطف من كل شيء ، ويشتد الوجع به ويسعر عليه الألم فيجزع ، فيلتفت إليه بعض عواده قائلا له :

« يا ابن رسول الله ، لم هذا الجزع؟ أليس الجد رسول الله (ص) والأب علي والأم فاطمة ، وأنت سيد شباب أهل الجنة؟!! »

فاجابه بصوت خافت :

« أبكي لخصلتين : هول المطلع ، وفراق الأحبة »(٢) .

وصيته للحسين :

ولما ازداد ألمه وثقل حاله علم أنه قد قرب دنوه من دار الآخرة ، وبعده عن هذه الدنيا ، فاستدعا أخاه سيد الشهداء فأوصاه بوصيته وعهد إليه بعهده ، وقد روت الشيعة وصيته بلون لا يتفق مع ما روته أبناء السنة والجماعة.

أما ما روته الشيعة فهذا نصه :

« هذا ما أوصى به الحسن بن علي الى أخيه الحسين ، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأنه يعبده حق عبادته ، لا شريك له فى الملك ، ولا ولي له من الذل ، وأنه خلق كل شيء فقدره

__________________

(١) البحار ١٠ / ١٢٣.

(٢) أمالي الصدوق ص ١٣٣ ،

٤٧٧

تقديرا ، وأنه أولى من عبد ، وأحق من حمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى ، فاني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ، أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم وتكون لهم خلفا ووالدا ، وأن تدفنني مع رسول الله (ص) فاني أحق به وببيته ، فان أبوا عليك فأنشدك الله وبالقرابة التي قرب الله منك ، والرحم الماسة من رسول الله (ص) أن لا يهراق من أمري محجمة من دم حتى تلقى رسول الله فتخصمهم وتخبره بما كان من أمر الناس إلينا »(١) .

وقد اشتملت فقرات هذه الوصية على توحيد الله تعالى وتنزيهه عن المماثل ، ونفي الشريك عنه ، وقد أمر فيها أخاه بالصفح عمن أذنب من أهل بيته ، والإحسان لمن أساء منهم ، ومواراة جثمانه بجوار جده ، فهو أولى الناس به فان عارضه المناوئون لهم بذلك فلا يهريق من أجل ذلك محجمة دم ، وقد عرف (ع) بالمحافظة على هذه الجهات ، فقد أنفق جميع ما عنده في سبيل الله ، وقابل جميع من أساء إليه بالصفح والإحسان ، وترك الخلافة محافظة على دماء المسلمين.

وأما ما روته أبناء السنة والجماعة فهذا نصه :

« يا أخي إن أباك لما قبض رسول الله (ص) استشرف لهذا الأمر ورجا أن يكون صاحبه فصرفه الله عنه ووليها أبو بكر ، فلما حضرت أبا بكر الوفاة تشوف لها أيضا ، فصرفت عنه الى عمر ، فلما احتضر عمر جعلها شورى بين ستة هو أحدهم ، فلم يشك أنها لا تعدوه ، فصرفت عنه الى عثمان ، فلما هلك عثمان بويع ثم نوزع حتى جرد السيف وطلبها فما

__________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ٧٩ ، أمالي الصدوق ، عيون المعجزات للسيد المرتضى مرآة العقول ١ / ٢٢٦.

٤٧٨

صفا له شيء منها ، وإني والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النبوة والخلافة فلا أعرفن ما استخفك سفهاء أهل الكوفة فأخرجوك ، إني وقد كنت طلبت الى عائشة إذا مت أن تأذن لي فأدفن في بيتها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت نعم. وإني لا أدري لعلها كان ذلك منها حياء فاذا أنا مت فأطلب ذلك منها فان طابت نفسها فادفني في بيتها ، وما أظن القوم إلا سيمنعونك إذا أردت ذلك ، فان فعلوا فلا تراجعهم فى ذلك ، وادفني في بقيع الغرقد فان لي فيمن فيه أسوة »(١) .

وقد اشتملت هذه الوصية على الحط من كرامة أمير المؤمنين (ع) وانتقاصه ، وهذا لا يتفق مع سيرة الإمام الحسن بحال من الأحوال ولكن فى التأريخ صورا هزيلة أثبتت لأغراض غير خفية على النبيه.

وصيته لمحمد :

ومشى الموت الى الإمامعليه‌السلام فعلم انه على أبواب الآخرة ، فأمر قنبرا أن يحضر أخاه محمد بن الحنفية ، فمضى إليه مسرعا فلما رآه محمد ذعر فقال :

« هل حدث إلا خير؟ »

فأجابه بصوت خافت : « أجب أبا محمد ».

فذهل محمد واندهش وخرج يعدو حتى انه لم يسو شسع نعله من كثرة ذهوله ، فدخل على أخيه وهو مصفر الوجه قد مشت الرعدة بأوصاله فالتفتعليه‌السلام له :

« اجلس يا محمد ، فليس يغيب مثلك عن سماع كلام تحيى به الأموات

__________________

(١) الاستيعاب ١ / ٣٧٥ ، تاريخ الخميس ٢ / ٢٢٧.

٤٧٩

وتموت به الأحياء ، كونوا أوعية العلم ، ومصابيح الدجى ، فان ضوء النهار بعضه أضوأ من بعض ، أما علمت أن الله عز وجل جعل ولد ابراهيم أئمة ، وفضل بعضهم على بعض ، وآتى داود زبورا ، وقد علمت بما استأثر الله به محمدا (ص) يا محمد بن علي إني لا أخاف عليك الحسد ، وإنما وصف الله به الكافرين ، فقال تعالى : « كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق »(١) ، ولم يجعل الله للشيطان عليك سلطانا ، يا محمد بن علي ألا اخبرك بما سمعت من أبيك فيك؟ »

ـ بلى.

ـ سمعت أباك يقول يوم البصرة : من أحب أن يبرني في الدنيا والآخرة فليبر محمدا ، يا محمد بن علي لو شئت أن أخبرك وأنت نطفة في ظهر أبيك لأخبرتك ، يا محمد بن علي أما علمت أن الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ، ومفارقة روحي جسدي إمام بعدي ، وعند الله فى الكتاب الماضي وراثة النبي (ص) أصابها في وراثة أبيه وأمه ، علم الله أنكم خير خلقه فاصطفى منكم محمدا ، واختار محمد عليا ، واختارني علي للإمامة واخترت أنا الحسين.

فانبرى إليه محمد مظهرا له الطاعة والانقياد قائلا :

« أنت إمامي ، وأنت وسيلتي إلى محمد (ص) ، والله لوددت إن نفسي ذهبت قبل أن أسمع منك هذا الكلام ، ألا وإن فى رأسي كلاما لا تنزفه الدلاء ، ولا تغيره بعد الرياح ، كالكتاب المعجم في الرق المنمنم ، أهم بابدائه فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل ، وما جاءت به الرسل وإنه لكلام يكل به لسان الناطق ، ويد الكاتب ، ولا يبلغ فضلك ، وكذلك

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٠٩.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529