حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218076 / تحميل: 6651
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(١) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(٢) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

١ ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٣.

(٢) عصر المأمون ١ / ١٧.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

٢ ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

٣ ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

١ ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

٢ ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

٣ ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

٤ ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(١) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(٢) .

__________________

(١) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٣.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(١) .

__________________

(١) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان ٨ / ١٦٩.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(١) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(٢) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(١) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان ٨ / ٢٧٦.

(٢) شرح النهج ابن أبي الحديد ٤ / ١٣.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(١) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(١) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة ٣ / ٣٩٢ ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(١) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(٢) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(١) شرح النهج ابن أبي الحديد ٤ / ١٤.

(٢) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة ٤٢ هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة ٣٩ في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة ٣ / ٤٧٥ ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(١) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(٢) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(١) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة ٤ / ٤٠٧.

(٢) جاء في الخرائج والجرائح ص ٢٢٨ أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

١ ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

٢ ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(١) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

٣ ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

١ ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٨٩.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(١) .

٢ ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(٢) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(٣) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(١) صلح الحسن ص ٩٦.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ١٤.

(٣) تأريخ الطبري ٦ / ٩٤.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(١) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(٢) ، وقيل أنه سبعون ألفا(٣) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(٤) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٥١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٤ ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(٣) البداية والنهاية ٨ / ٤٢ وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج ٤ / ٧.

(٤) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص ٣٥٤.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(١) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(٢) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(٣) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(٤) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(١) شرح النهج محمد عبده ٢ / ١٣٢.

(٢) تاريخ أبي الفداء ١ / ١٩٣.

(٣) الكامل ٣ / ٦١.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٦.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(١) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

٣ ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(١) صلح الحسن ص ١٠٦.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(١) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

١ ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(١) الارشاد ص ١٦٩ ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص ١٤٣ ، والأربلي فى كشف الغمة ص ١٦١ ، والمجلسي في البحار ١٠ / ١١٠.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وهو على مصر، ويقال عبد العزيز، أن يبعث بموسى بن نصر إلى افريقية، وكان أبوه نصير من حرس معاوية، ولمّا سار معاوية إلى صفّين لم يسر معه ؛ فقال له: ما يمنعك عن المسير معي إلى قتال عليّ ويدي عندك معروفة.

فقال: لا أُشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك وهو الله عزّ وجلّ، فسكت عنه معاوية. فبعث عبد الله موسى بن نصير وقدم القيروان سنة ٨٩ وبها صالح خليفة حسان، فعقد له، ورأى البربر قد طمعوا في البلاد، فوجّه البعوث في النواحي، وبعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة، فغنم بها وسبى وعاد.

ثمّ بعثه إلى ناحية أُخرى وابنه مروان كذلك، وتوجّه هو إلى ناحيةٍ فغنم منها وسبى وعاد، وبلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي.

ثمّ غزا طنجة وافتتح درعة وصحراء فيلالت وأرسل ابنه إلى السوس، وأذعن البربر لسلطانه ودولته، وأخذ رهائن المصامدة وأنزلهم بطنجة وولى عليها طارق بن زياد الليثي، ثمّ أجاز طارق إلى الأندلس.

فكان فتحها سنة تسعين، وتعاقب عليها ولاة المسلمين إلى أن انتهى أمرها إلى الأغالبة، وجدّهم إبراهيم بن الأغلب وهو الذي تولاّها من قِبَل الرشيد مع الأندلس.

وفي سنة ٢١٩ هـ فتح أسد بن الفرات صقلية وكانت من عمالات الروم وأمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية، وولّى عليها سنة إحدى عشر ومئتين بطريقاً اسمه قسنطيل، واستعمل على الأسطول قائداً من الروم حازماً شجاعاً فغزا سواحل افريقية وانتهبها.

ثمّ بعد مدّةٍ كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض على مقدّم الأسطول وقتله، ونُميَ الخبر إليه بذلك فانتقض وتعصّب له أصحابه، وسار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلية فملكها، وقاتله قسنطيل فهزمه القائد ودخل مدينة تطانية، فأتبعه جيشاً أخذوه وقتلوه.

واستولى القائد على صقلية فملكها وخُوطب بالملك، وولّى على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بلاطة.

وكان ميخائيل ابن عمّ بلاطة على مدينة بليرم، فانتقض هو وابن عمّه على القائد واستولى بلاطة على مدينة سرقوسة.

وركب القائد في أساطيله إلى إفريقية مستنجداً بزيادة الله فبعث معهم العساكر، واستعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان، فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مازر، وساروا إلى بلاطة، ولقيهم القائد وجميع الروم الذين بها استمدّهم فهزموا

٣٢١

بلاطة والروم الذين معه وغنموا أموالهم. وهرب بلاطة إلى فلونرة، فقتل واستولى المسلمون على عدّة حصون من الجزيرة، ووصلوا إلى قلعة الكرات وقد اجتمع بها خلقٌ كثير، فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح وأداء الجزية حتّى استعدّوا للحصار، ثمّ امتنعوا عليه فحاصرهم وبعث السرايا في كلّ ناحيةٍ وكثرت الغنائم.

ثمّ حاصروا سرقوسة برّاً وبحراً، وجاء المدد من افريقية وحاصروا بليرم.

وزحف الروم إلى المسلمين وهم يحاصرون سرقوسة، قد بعثوهم واشتدّ حصار المسلمين لسرقوسة، ثمّ أصاب معسكرهم الفناء، وهلك كثيرٌ منهم ومات أسد بن الفرات أميرهم ودُفن بمدينة قَصريانَّة. ومعهم القائد الذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة وقتلوه.

وجاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين، وهزموهم ودخل فلّهم إلى قصريانة.

ثمّ توفّي محمد بن الحواري أمير المسلمين وولي بعده زهير بن عوف.

ثمّ محّص الله المسلمين فهزمهم الروم مرّات، وحصروهم في معسكرهم حتّى جهدهم الحصار وخرج مَن كان في كبركيب من المسلمين بعد أن هدموها وساروا إلى مازر، وتعذّر عليهم الوصول إلى إخوانهم، وأقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن اشرفوا على الهلاك. فوصلت مراكب إفريقية مدداً وأسطول من الأندلس، خرجوا للجهاد واجتمع منهم ثلاثمئة مركب فنزلوا الجزيرة، وأفرج الروم عن حصار المسلمين وفتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة. ثمّ ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة وهزموا الروم عليها سنة عشرين.

ثمّ بعثوا إلى طرميس، ثمّ بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سريّة إلى سرقوسة فغنموا، ثمّ سارت سريّةٌ أُخرى واعترضها بطريق صقلية فامتنعوا منه في وعر وخمل من الشعراء، حتّى يئس منهم وانصرف على غير طائل. فحمل عليهم أهل السريّة وانهزموا، وسقط البطريق عن فرسه فطُعن وجرح.

وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودوابّ ومتاع، ثمّ جهّز زيادة الله إلى صقلية إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر وولاّه أميراً عليها، فخرج منتصف رمضان وبعث أسطولاً، فلقي أسطولاً للروم فغنمه، وقتل مَن كان فيه وبعث أسطولاً آخر إلى قصوره فلقي أسطولاً فغنمه، وسارت سريّةٌ إلى جبل النار والحصون التي في نواحيها، وكثر

٣٢٢

السبي بأيدي المسلمين، وبعث الأغلب سنة (٢١) أسطولاً نحو الجزائر فغنموا وعادوا، وبعث سريّةً إلى قطلبانة وأُخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين.

ثمّ كانت وقعة أُخرى كان فيها الظفر للمسلمين، وغنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب.

ثمّ عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدلّ المسلمين عليها ودخلوا منها البلد، وتحصّن المشركون بحصنه حتّى استأمنوا، وفتحه الله، وغنم المسلمون غنائمه وعادوا إلى بليرم، إلى أن وصلهم الخبر بوفاة زيادة الله، فوهنوا أوّلاً، ثمّ أنشطوا وعادوا إلى الصبر والجهاد. وكانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث وعشرين ومئتين لإحدى وعشرين سنة ونصف من ولايته، وولي مكانه أخوه أبو عقال الأغلب.وبعث سنة أربع وعشرين ومئتين سريّةً إلى صقلية، فغنموا وعادوا ظافرين.

وفي سنة خمس وعشرين ومئتين استأمن للمسلمين عدّة حصون من صقلية، فأمنوهم وفتحوها صلحاً.

وسار أسطول المسلمين إلى قلورية، ففتحوها ولقوا أسطول القسطنطينية فهزموهم.

وفي سنة ستّ وعشرين ومئتين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة، ثمّ حصن القيروان وأثخنوا في نواحيها.

ثمّ توفّي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ستّ وعشرين ومئتين لسنتين وسبعة أشهر من إمارته، وولي مكانه ابنه أبو العبّاس محمد بن الإغلب، وتوفّي سنة اثنتين وأربعين ومئتين، فولي مكانه ابنه أبو إبراهيم أحمد بن محمد بن الأغلب.

وفي أيّامه افتتحت قصريانة من مدن صقلية في شوال سنة تسع وأربعين ومئتين لثمان سنين من ولايته.

وفي أيّام ولاية أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب تغلّب الروم على مواضع من جزيرة صقلية.

بقيّة أخبار صقلية

وفي سنة ثمان وعشرين ومئتين سار الفضل بن جعفر الهمداني في البحر، ونزل مرسى مسينة وحاصرها ؛ فامتنعت عليه، وبثّ السرايا في نواحيها فغنموا.

ثمّ بعث طائفةً من عسكره وجاؤوا إلى البلد من وراء جبلٍ مطلٍّ عليه وهم مشغولون بقتاله، فانهزموا وأعطوا باليد ففتحها.

ثمّ حاصر سنة ثنتين وثلاثين ومئتين مدينة لسى.

وكاتب أهلها بطريق صقلية

٣٢٣

يستمدّونه ؛ فأجابهم وأعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل. وبلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل، وأكمن لهم من ناحيةٍ فخرجوا، واستطرد لهم حتّى جاوزوا الكمين فخرجوا عليهم فلم ينج منهم إلاّ القليل، وسلّموا البلد على الأمان.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين أجاز المسلمون إلى أرض انكبردة من البرّ الكبير، وملكوا منها مدينةً وسكنوها.

وفي سنة أربع وثلاثين ومئتين صالح أهل رغوس وسلّموا المدينة للمسلمين، فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها.

وفي سنة ثلاث وثلاثين ومئتين توفّي أمير صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب، واجتمع المسلمون بعده على ولاية العبّاس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم.

وكتب له محمد بن الأغلب، بعهده على صقلية، وكان من قبل يغزو ويبعث السرايا وتأته الغنائم، ولمّا جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه وعلى مقدّمته عمّه رياح، فعاث في نواحي صقلية وردّد البعوث والسرايا إلى قطانية وسرقوسة وبوطيف ورغوس، فغنموا وخربّوا وحرقوا، وافتتح حصوناً جمّة، وهزم أهل قصريانة وهي مدينة ملك صقلية، وكان الملك قبله يسكن سرقوسة فلمّا فتحها المسلمون انتقل الملك إلى قصريانة.

وخبر فتحها أنّ العبّاس كان يردّد الغزو إلى نواحي سرقوسة وقصريانة شاتية وصائفة، فيصيب منهم ويرجع بالغنائم والأسارى. فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى وقدّمهم للقتل، فقال له بعضهم - وكان له قدر وهيبة - استبقني وأنا أملك قصريانة، ودلّهم على عورة البلد ؛ فجاؤوها ليلاً ووقفهم على بابٍ صغيرٍ فدخلوا منه، فلمّا توسّطوا البلد وضعوا السيف وفتحوا الأبواب ودخل العبّاس في العسكر فقتل المقاتلة وسبى بنات البطارقة وأصاب فيها ما يعجز الوصف عنه.

وذل الروم بصقلية من يومئذٍ، وبعث ملك الروم عسكراً عظيماً مع بعض بطارقته، وركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة، فجاءهم العبّاس من بليرم، فقاتلهم وهزمهم وأقلع فلّهم إلى بلادهم، بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر، وذلك سنة سبع وثلاثين ومئتين.

وافتتح بعدها كثيراً من قلاع صقلية، وجاء مدد الروم من القسطنطينية وهو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة ورجف إليهم العبّاس من مكانه وهزمهم.

ورجع إلى قصريانة فحصنها وأنزل بها الحامية، ثمّ سار سنة سبع وأربعين

٣٢٤

ومئتين إلى سرقوسة فغنم، ورجع فاعتلّ في طريقه، فهلك منتصف سنته ودُفن في نواحي سرقوسة، وأحرق النصارى شلوه وذلك إحدى عشرة سنة من إمارته.

واتّصل الجهاد بصقلية والفتح، وأجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال، وغزوا أرض قلورية وانكبردة، وفتحوا فيها حصوناً وسكن بها المسلمون.

ولمّا توفّي العبّاس اجتمع الناس على ابنه عبد الله، وكتبوا إلى صاحب افريقية.

وبعث عبد الله السرايا ففتح القلاع، وبعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من افريقية على صقلية في منتصف ثمان وأربعين ومئتين، وأخرج ابنه محموداً في سريّةٍ إلى سرقوسة، فعاث في نواحيها وخرج إليهم الروم فقاتلهم وظفر ورجع، ثمّ فتح مدينة نوطوس سنة خمس وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وجبل النار، واستأمن إليه أهل طرميس. ثمّ غدروا فسرّح ابنه محمداً في العساكر، وسبى أهلها ثمّ سار خفاجة إلى رغوس، وافتتحها وأصابه المرض، فعاد إلى بليرم، ثمّ سار سنة ثلاث وخمسين ومئتين إلى سرقوسة وقطانية فخرب نواحيها، وأفسد زرعها، وبعث سراياه في أرض صقلية فامتلأت أدهم من الغنائم.

وفي سنة أربع وخمسين ومئتين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلية، فقاتله جمع من المسلمين وهزموه، وعاث خفاجة في نواحي سرقوسة ورجع إلى بليرم، وبعث سنة خمس وخمسين ومئتين ابنه محمداً في العساكر إلى طرميس، وقد دلّه بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها وشرعوا في النهب.

وجاء محمد بن خفاجة من ناحيةٍ أُخرى فظنوه مدداً للعدو فأجفلوا ورآهم محمد مجفلين فرجع.

ثمّ سار خفاجة إلى سرقوسة في حرّها وعاث في نواحيها، ورجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه وقتله، وذلك سنة خمس وخمسين ومئتين.

وولّى الناس عليهم ابنه محمداً، وكتبوا إلى محمد بن أحمد أمير افريقية فأقرّه على الولاية، وبعث إليه بعهده.

وفي سنة سبع وثمانين ومئتين بعث إبراهيم بن أحمد أخي أبي الغرانيق ابنه أبا العبّاس عبد الله على صقلية، فوصل إليها في مئة وستّين مركباً وحصر طلاية، وانتقض عليه بليرم وأهل كبركيت وكانت بينهم فتنة، فأغراه كلّ واحدٍ منهم بالآخرين، ثمّ اجتمعوا لحربه وزحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم واستباحهم.

وبثّ جماعةٌ من وجوهها إلى أبيه وفرّ

٣٢٥

آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية، وآخرون إلى طرميس فاتّبعهم وعاث في نواحيها.

ثمّ حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين، وتجهّز سنة ثمان وثمانين للغزو، فغزا ميسنى ثمّ مسينة، ثمّ جاء في البحر إلى ريو ففتحها عنوةً، وشحن مراكبه بغنائمها.

ورجع إلى مسينة فهدم سورها، وجاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم وأخذ له ثلاثين مركباً.

ثمّ أجاز إلى عدوة الروم وأوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر ورجع إلى صقلية.

وجاء في هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به، فاستقدم ابنه أبا العبّاس من صقلية وارتحل هو إليها.

وذكر ابن الأثير أنّ فتح سرقوسة كان في أيّامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلية، وأنّه حاصرها تسعة أشهر، وجاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم، ثمّ فتح البلد واستباحها.

واتفقوا كلّهم على أنّه ركب البحر من افريقية إلى صقلية، فنزل طرانية ثمّ تحوّل عنها إلى بليرم، ونزل على دمشق وحاصرها سبعة عشر يوماً، ثمّ فتح مسينة وهدم سورها، ثمّ فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع وثمانين، ووصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها.

ثمّ بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العبّاس عبد الله إلى قلعة بيقض فافتتحها، وابنه أبو محرز إلى رمطة فأعطوه الجزية، ثمّ عبر إلى عدوة البحر وسار في برّ الفرنج ودخل قلورية عنوة، فقتل وسبى ورهب منه الفرنجة.

ثمّ رجع إلى صقلية ورغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك.

ثمّ سار إلى كنسة في حرّها، واستأمنوا إليه فلم يقبل ثمّ هلك وهو محاصر لها آخر تسع وثمانين لثمان وعشرين سنة من إمارته، فولّى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر والأمور، إلى أن يصل ابنه أبو العبّاس وهو يومئذٍ بافريقية. فأمن أهل كنسة قبل أن يعلموا بموت جدّه، وقبل منهم الجزية، وأقام قليلاً حتّى تلاحقت به السرايا من النواحي، ثمّ ارتحل وحمل جدّه إبراهيم فدفنه في بليرم، وقال ابن الأثير حمله إلى القيروان فدفنه بها.

وفي أيّامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد ويبطن الدعوة لعبيد الله المهدي من أبناء إسماعيل الإمام، واتبعه كتامة وهو من الأسباب التي دعته للتوبة والإقلاع والخروج إلى صقلية. وبعث إليه موسى بن عياش صاحب صلته بالخبر، وبعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بانكجان يهدّده ويحذّره فلم يقبل، وأجابه بما يكره. فلمّا

٣٢٦

قربت أُمور أبي عبد الله وجاء كتاب المعتضد لإبراهيم أظهر التوبة ومضى إلى صقلية، وكانت بعده بإفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع قبائل كتامة حتّى استولى عليهم واتّبعوه.

وكان إبراهيم قد أسرّ لابنه أبي العبّاس في شأن الشيعي، ونهاه عن محاربته وأن يلحق به إلى صقلية إن ظهر عليه.

ولمّا هلك إبراهيم سنة تسع وثمانين وولي مكانه ولده أبو العبّاس عبد الله، ولأُمورٍ بلغته عن ولده زيادة الله من اعتكافه على اللّذات واللهو، وعزمه على التوثّب عليه ؛ اعتقله وولّى على صقلية مكانه محمد بن السرقوسي، ثمّ ولي زيادة الله أبو مضر بعد مقتل أبيه أبي العبّاس.

وجرت حروب بينه وبين أبي عبد الله الشيعي، كان فيها الظهور للشيعي واستيلاؤه على بلاده فخروج زيادة الله من المغرب إلى المشرق سنة ستّ وتسعين.

ثمّ تفرّق بنو الأغلب وانقطعت أيّامهم، وأصبحت افريقية وصقلية في حكم عبيد الله المهدي ودانت له، وبعث العمّال في نواحيها وأصبحت صقلية في ولاية الكلبيّين ؛ فكان أول والٍ عليها من قبل المهدي الحسن بن محمد بن أبي خنزير(١) من رجالات كتامة، فوصل إلى مازر سنة سبع وتسعين في العساكر، فولّى أخاه على كبركيت، وولّى على القضاء بصقلية اسحق بن المنهال.

ثمّ سار سنة ثمان وتسعين في العساكر إلى دمشق فعاث في نواحيها ورجع، ثمّ شكى أهل صقلية سوء سيرته وثاروا به وحبسوه، وكتبوا إلى المهدي معتذرين، فقبل عذرهم وولّى عليهم أحمد بن قهرب، وبعث سريّةً إلى أرض قلورية فدوّخوها ورجعوا بالغنائم والسبي.

ثّم أرسل سنة ثلاثمئة ابنه عليّاً إلى قلعة طرمن المحدثة ليتخذها حصناً لحاشيته وأمواله حذراً من ثورة أهل صقلية. فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامه وأرادوا قتله فمنعه العرب، ودعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه.

وقطع خطبة المهدي وبعث الأسطول إلى افريقية، ولقوا أسطول المهدي وقائده الحسن ابن أبي خنزير فقتلوه وأحرقوا الأسطول.

وسار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخرّبوها، وانتهوا إلى طرابلس، وانتهى الخبر إلى القائم بن المهدي، ثمّ وصلت الخِلَع

____________________

(١) وفي تاريخ أبي الفداء ابن أبي حفترير.

٣٢٧

والألوية من المقتدر إلى ابن قهرب، ثمّ بعث الجيش في الأسطول إلى قلوية، فعاثوا في نواحيها ورجعوا، ثمّ بعث ثانيةً أسطولاً إلى افريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره وعصى عليه أهل كبركيت، وكاتبوا المهدي، ثمّ ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمئة وحبسوه وأرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر خنزير في جماعةٍ من خاصّته.

وولّى على صقلية أبا سعيد بن أحمد، وبعث معه العساكر من كتامة، فركب إليها البحر فنزل في طرانية، وعصى عليه أهل صقلية بمَن معه من العساكر فامتنعوا عليه وقاتله أهل كبركيت وأهل طرانية، فهزمهم وقتلهم، ثمّ استأمن إليه أهل طرانية فأمنهم وهدم أبوابها.

وأمره المهدي بالعفو عنهم، ثمّ ولّى المهدي على صقلية سالم بن راشد، وأمدّه سنة ثلاث عشرة بالعساكر، فعبر البحر إلى أرض انكبردة فدوّخها، وفتحوا فيها حصوناً ورجعوا، ثمّ عادوا إليها ثانية وحاصروا مدينة أدرنت أيّاماً، ورحلوا عنها، ولم يزل أهل صقلية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلية وقلورية ويعيثون في نواحيها.

وبعثّ المهدي سنة ثنتين وعشرين جيشاً في البحر مع يعقوب بن إسحاق فعاث في نواحي جنوة. ولمّا كانت سنة خمس وعشرين انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد، وقاتلوا جيشه، وخرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم وحصرهم ببلدهم واستمدّ القائم فأمده بالعساكر مع خليل بن اسحاق، فلمّا وصل إلى صقلية شكا إليه أهلها من سالم بن راشد، واسترحمته النساء والصبيان، وجاءه أهل كبركيت وغيرها من أهل صقلية بمثل ذلك، فرقّ لشكواهم ودسّ إليهم سالمٌ بأنّ خليلاً إنّما جاء للانتقام منهم بمَن قتلوا من العسكر. فعاودوا الخلاف واختطّ خليل مدينةً على مرسى المدينة وسمّاها الخالصة.

وتحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم، واستعدّوا للحرب، فسار إليهم خليل منتصف ستّ وعشرين وحصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال ويراوحهم. حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة واجتمع أهل صقلية على الخلاف، واستمدّوا ملك القسطنطينية فأمدّهم بالمقاتلة والطعام، واستمدّ خليل القائم فأمدّه بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور وقلعة البلّوط وحاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع وعشرين ؛ فارتحل عنها وحاصر كبركيت ثمّ حبس عليها عسكراً للحصار مع أبي خلف بن هارون، ورحل عنها وطال حصارها إلى سنة

٣٢٨

تسع وعشرين. فهرب كثيرٌ من أهل البلد إلى بلد الروم واستأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة، ثمّ غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع وأطاعوا.

ورجع خليل إلى أفريقية آخر سنة تسع وعشرين، وحمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة، وأمر بخرقها في لجّة البحر فغرقوا أجمعين.

ثمّ ولّى على صقلية عطاف الأزدي.

ثمّ كانت فتنة أبي يزيد، وشُغل القائم والمنصور بأمره، فلمّا انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلية للحسن بن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم ووجوه قوّاده، وكنيته أبو الغنائم، وكان له في الدولة محلٌّ كبير في مدافعة أبي يزيد عناء عظيم.

وكان سبب ولايته أنّ أهل بليرم كانوا قد استضعفوا عطافاً، واستضعفهم العدو لعجزه ؛ فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس وثلاثين.

وتولّى كبروبك بنو الطير منهم، ونجا عطاف إلى الحصن وبعث للمنصور يعلمه ويستمدّه، فولّى الحسن بن علي على صقلية، وركب البحر إلى مازر وأرسى بها فلم يلقه أحدٌ منهم، وأتاه في الليل جماعة من كتامة واعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير، وبعث بنو الطير عيونهم عليه واستضعفوه وواعدوه أن يعودوا إليه، فسبق ميعادهم ودخل المدينة ولقيه حاكم البلد وأصحاب الدواوين.

واضطرّ بنو الطير إلى لقائه وخرج إليهم كبيرهم إسماعيل، ولحق به من انحرف عن بني الطير فكثر جمعه، ودسّ إسماعيل بعض غلمانه فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنّه أكره امرأته على الفاحشة، يعتقد أنّ الحسن لا يعاقب مملوكه فتخشن قلوب أهل البلد عليه. وفطن الحسن لذلك فدعا الرجل واستحلفه على دعواه وقتل عبده. فسرّ الناس بذلك ومالوا عن الطير وأصحابه وافترق جمعهم. وضبط الحسن أمره وخشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين، وبعث ملك الروم بطريقاً في البحر في عسكرٍ كبيرٍ إلى صقلية واجتمع هو والسردغرس.

واستمدّ الحسن بن علي المنصور فأمدّه بسبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف وخمسمئة راجل، وجمع الحسن مَن كان عنده وسار برّاً وبحراً وبعث السرايا في أرض قلورية، ونزل على أبراجه فحاصرها. وزحف إليه الروم، فصالحه على مالٍ أخذه، وزحف إلى الروم ففرّوا من غير حرب.

ونزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهراً وصالحهم على مال، ورجع بالأسطول إلى مسينة فشتى بها.

وجاءه أمر

٣٢٩

المنصور بالرجوع إلى قلورية، فعبر إلى خراجة فلقي الروم والسردغرس، فهزمهم وامتلأ من غنائمهم، وذلك يوم عرفة سنة أربعين وثلاثمئة.

ثمّ سار إلى خراجة في حرّها حتّى هادنه ملك الروم قسطنطين.

ثمّ عاد إلى ربو وبنى بها مسجداً وسط المدينة، وشرط على الروم أن لا يعرضوا له، وأنّ مَن دخله من الأسرى أمن.

ولمّا توفّي المنصور وملك ابنه المعز سار إليه الحسن واستخلف على صقلية ابنه أحمد، وأمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية، فغزاها وفتح طرمين وغيرها سنة إحدى وخمسين، وأعيته رمطة فحاصرها، فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفاً مدداً.

وبعث أحمد يستمدّ المعز، فبعث إليه المدد بالعساكر والأموال مع أبيه الحسن، وجاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة ورجفوا إلى رومطة، ومقدّم الجيش على حصارها الحسن بن عمّار وأبن أخي الحسن بن علي. فأحاط الروم بهم وخرج أهل البلد إليهم، وعظم الأمر على المسلمين فاستماتوا وحملوا على الروم وعقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه، وقُتل جماعة من البطارقة معه، وانهزم الروم وتتبّعهم المسلمون بالقتل، وامتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى والسبي.

ثم فتحو رمطة عنوة وغنموا ما فيها، وركب فلّ الروم من صقلية وجزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم، فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب، فحرقوا مراكبهم وقتل كثير منهم، وتُعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز وكانت سنة أربع وخمسين، وأسر فيها ألف من عظمائهم ومئة بطريق، وجاءت الغنائم والأُسارى إلى مدينة بليرم حضرة صقلية، وخرج الحسن للقائهم فأصابته الحمّى من الفرح فمات وحزن الناس عليه، وولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلية بعد أن ولّى المعزّ عليهم يعيش مولى الحسن، فلم ينهض بالأمر ووقعت الفتنة بين كتامة والقبائل وعجز عن تسكينها. وبلغ الخبر إلى المعزّ فولّى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابةً عن أخيه أحمد، ثمّ توفّي أحمد بطرابلس سنة تسع وخمسين، واستبدّ بالإمارة أخوه أبو القاسم علي، وكان مدلاًّ محيّاً.

وسار إليه سنة إحدى وسبعين ملك الفرنج في جموع عظيمة، وحصر قلعة رمطة وملكها وأصاب سرايا المسلمين. وسار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم فلمّا قاربهم خام عن اللقاء ورجع.

وكان الإفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في أتباعه وأدركه، فاقتتلوا وقُتل

٣٣٠

أبو القاسم في الحرب، وأهمّ المسلمين أمرهم فاستماتوا وقاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة. ونجا ردويل إلى خيامه برأسه وركب البحر إلى رومة. وولّى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم ابنه جابراً فرحل بالمسلمين لوقته راجعاً ولم يعرّج على الغنائم.

وكانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة ونصفاً، وكان عادلاً حسن السيرة، ولمّا ولي ابن عمّه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن، وكان من وزراء العزيز وندمائه استقامت الأمور وحسنت الأحوال، وكان يحب أهل العلم ويجزل الهبات لهم. وتوفّي سنة خمس وسبعين، ووُلِّي أخوه عبد الله فاتّبع سيرة أخيه إلى أن توفّي سنة تسع وسبعين.

ووُلِّي ابنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن فأنسى بجلائله وفضائله مَن كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج وعطّل نصفه الأيسر سنة ثمان وثمانين.

وولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف، فضبط الأمور وقام بأحسن قيام وخالف عليه أخوه علي سنة خمس وأربعمئة أنّه مع البربر والعبيد ؛ فزحف إليه جعفر فظفر به وقتله ونفى البربر والعبيد واستقامت أحواله. ثمّ انقلبت حاله واختلت على يد كاتبه ووزيره حسن بن محمد الباغاني، فثار عليه الناس بسببها وجاؤوا حول القصر، وأخرج إليهم أبو الفتوح في محفّة، فتلطّف بالناس وسلّم إليهم الباغاني فقتلوه وقتلوا حافده أبا رافع، وخلع ابنه ابن جعفر ورحل إلى مصر وولّى ابنه ابن جعفر سنة عشرة، ولقبّه بأسد الدولة بن تاج الدولة ويُعرف بالأكحل ؛ فسكن الاضطراب واستقامت الأحوال وفوّض الأمور إلى ابنه ابن جعفر وجعل مقاليد الأمور بيده، فأساء ابن جعفر السيرة وتحامل على صقلية ومال إلى أهل افريقية، وضجّ الناس وشكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان وأظهروا دعوته ؛ فبعث الأسطول فيه ثلاثمئة فارس مع ولديه عبد الله وأيّوب.

واجتمع أهل صقلية وحصروا أميرهم الأكحل، وقُتل وحُمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة وأربعمئة.

ثمّ ندم أهل صقلية على ما فعلوه، وثاروا بأهل افريقية وقتلوا منهم نحواً من ثلاثمئة وأخرجوهم، وولّوا الصمصام أخا الأكحل. فاضطربت الأمور وغلب السفلة على الأشراف.

ثمّ ثار أهل بليرم على الصمصام وأخرجوه، وقدّموا عليهم ابن الثمنة من رؤوس الأجناد، وتلقّب القادر بالله واستبدّ بمازر... ابنه عبد الله قبل

٣٣١

الصمصام، وغلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله واستقلّ بملك الجزيرة إلى أن أُخذت من يده. ولمّا استبدّ ابن الثمنة بصقلية تزوّج ميمونة بنت الجراس، فتخيّل له منها شيء فسقاها السمّ، ثمّ تلافاها وأحضر الأطباء فأنعشوها وأفاقت، فندم واعتذر، فأظهرت له القبول، واستأذنته في زيارة أخيها بقصريانة، وأخبرت أخاها فحلف أن لا يردّها.

ووقعت الفتنة وحشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس، فانتصر ابن الثمنة بالروم وجاء القمص، وجاء ابن ينقر بن خبرة ومعه سبعة من أخوته وجمع من الفرنج ووعدهم بملك صقلية، وقصد قصريانة وحكموا على مروا من المنازل، وخرج ابن جراس فهزمه ورجع إلى افريقية عُمر بن خلف بن مكّي فنزل تونس ووُلِّي قضاؤها، ولم يزل الروم يملكونها حتّى لم يبق إلاّ المعاقل.

وخرج ابن الجراس بأهله وماله صلحاً سنة أربع وستين وأربعمئة. وتملّكها رجار كلّها وانقطعت كلمة الإسلام منها، ودولة الكلبيين وهم عشرة ومدتهم خمس وتسعون سنة.

ومات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع وتسعين، وولي ابنه رجار الثاني وطالت أيامه، وله ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب: نزهة المشارق(١) في أخبار الآفاق.

وممّن شارك من الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة ومَن ساهم في أعمالها

١ - كان الكتاميّون أوّل من لبّى الدعوة الفاطميّة وأيّدوا داعيها أبا عبد الله الشيعي، وقد عرفت في تضاعيف البحث عنهم وفيما سبق في تاريخ الدولة الفاطميّة، ما كان لهم من المكانة والمنزلة في بلاد المغرب، وبنصرتهم مهدّ أبو عبد الله الأمر لأوّل خلفائهم أبي عبيد الله الملقّب بالمهدي، وبهم انتصر المهديُّ على بني الأغلب وبني مدرار، واستولى على سلطانهم الذي طوى قروناً وقد عرف لهم بلاءهم وقسّم على وجوههم الأعمال سنة ٢٩٧.

وفي خطط المقريزي:

وما زالت كتامة هي أهل الدولة مدّة خلافة المهدي عبيد الله وخلافة ابنه القاسم القائم بأمر الله وخلافة المنصور بنصر الله إسماعيل بن القاسم وخلافة معدّ بن

____________________

(١) المعروف المشتاق بدل المشارق.

٣٣٢

المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لمّا سيّرهم إليها مع القائد جوهر في سنة ٣٥٨ وهم أيضاً كانوا أكابر من قَدِم معه من الغرب في سنة ٣٦٢، فلمّا كان في أيّام ولده العزيز بالله نزار اصطنع الديلم والأتراك وقدمهم وجعلهم خاصّته، فتنافسوا وصار بينهم وبين كتامة تحاسد إلى أن مات العزيز بالله، وقام من بعده أبو علي المنصور الملقّب بالحاكم بأمر الله فقدّم ابن عمّار الكتامي وولاّه الوساطة ج ٣ ص ١٨.

ولمّا انحرف أبو عبد الله وأخوه أبو الفضل أحمد عن المهدي لاستبداده دونهما بالأمر، وحاولا الانتقاض عليه وائتمرا على قتله، وأرسلا شيخ مشايخ كتامة لامتحان المهدي وتوهين أمره بزعمهما، بعد أن هبّت ريحه واشتدّت عصبته وقويت بالكتاميين أنفسهم شوكته، فخدعا ذلك الكتاميّ الذي جُوزي بالقتل، أعادا المؤامرة على المهدي وكان من الكتاميّين في المؤتمرين أبو زاكي تمّام بن معارك، ولكنّ المهدي تعجّل تنفيذ المؤامرة بقتلهما، ولمّا علم بمداخلة أبي زاكي في المؤامرة بعثه والياً على طرابلس وأمر واليها بقتله فقتله.

وظهرت فتنة سكنها المهدي، ورجعت كتامة إلى بلادها بعد أن استقرّ له الأمر.

٢ و ٣ - عروبة وأخوه حباسة:

لمّا قوي أمر الشيعي والتقى جيشه وجيش زيادة الله وقد بلغ عدده مئة ألف، وقد زحف لقتال الشيعي وكتامة إبراهيم بن جيش من صنائع زيادة الله وقد تلقّته كتامة بإجانة فانهزمت عساكره وتقهقر إلى باغاية ثمّ إلى القيروان.

وكان ممّن توجّه لقتال زيادة الله عروبة بن يوسف من أمراء كتامة وأوقع بباغاية.

ولمّا فرّ زيادة الله إلى الشرق حضر الشيعي وفي مقدّمته عروبة بن يوسف وحسن بن أبي جفترير (خنزير) وهما اللذان أمرهما المهديُّ بقتل الشيعي وأخيه سنة ٢٩٧، وبعد قتلهما ولّى حباسة على برقة وعلى المغرب عروبة، وأنزله باغاية إلى تاهرت وافتتحها.

وفي سنة ٣٠٠ هـ لمّا أغزى المهدي ابنه أبا القاسم الإسكندرية بعث أسطولاً مؤلّفاً من مئتي مركب، عقد لواءه على حباسة، فملكوا برقة ثمّ الاسكندرية والفيّوم، ثمّ عاد حباسة بعد أن بعث المقتدر العبّاسي سبكتكين ومؤنساً الخادم سنة ٣٠٢.

وقد قتل المهدي حباسة فشقّ ذلك على أخيه عروبة فانتقض عليه، وتبعه جموع من كتامة والبربر،

٣٣٣

فأرسل إليهم المهدي مولاه غالباً فهزمهم وقتل عروبة وبني عمّه وكثيراً من أشياعهم.

٤ - يعقوب الكتامي:

لما جهّز المهدي سنة ٣٠٧ ابنه أبا القاسم على مصر ثالثةً فملك الإسكندرية والجزيرة والأشمونين، فأرسل المقتدر مؤنساً، وبعد عدّة مواقع انتصرت مراكب الخليفة القادمة من طرسوس وكانت خمسة وعشرين مركباً على أسطول افريقية المؤلّف من ثمانين مركباً، وقد سيّر نجدةً لأبي القاسم يقوده سليمان الخادم ويعقوب الكتامي وقد أُسرا، أمّا سليمان فقد مات في السجن، ويعقوب فقد هرب من حبس بغداد وكان قد سيّر إليها.

٥ - الحسن بن هارون الكتامي:

جمع هذا الرجل كلمة قبيلة كتامة لتأييد دعوة أبي عبد الله الشيعي، وذلك أنّه لمّا بلغ ابن الأغلب خبره كتب إلى عامله على ميلة يسأله عنه فصغّره، وذكر أنّه يلبس الخشن ويأمر بالخير والعبادة فسكت عنه.

ثمّ قال الشيعي للكتاميين: أنا صاحب البذر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلواني، فازدادت محبتهم له وتعظيمهم لأمره، وتفرقت كلمة البربر وكتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله فاختفى ووقع بينهم قتال شديد، واتصل الخبر بالحسن بن هارون وهو من أكابر كتامة فأخذ أبا عبد الله إليه ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون فأتته القبائل من كلّ مكانٍ وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبد الله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار وشهر الحروب فكان له الظفر فيها، وغنم الأموال وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها واقتتلوا ثمّ اصطلحوا ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة ظفر بهم وصارت إليه أمولهم، فاستقام له أمر البربر وكتامة.

٦ - ريحان الكتامي:

ولاّه موسى بن أبي العافية على فاس سنة ٣٠٩ هـ.

وفي سنة ٣١٣ ثار عليه الحسن بن محمد بن القاسم الإدريسي الملقّب بالحجام ونفاه عن فاس.

٧ - عبد الله بن يخلف الكتامي:

ولاّه المعزّ على طرابلس سنة ٣٦١ هـ. وهي السنة التي عزم على المسير فيها إلى مصر، وقد مهّد له

٣٣٤

جوهر ملكها، وأبقى صقلية في يد ابن الكلبي أبي القاسم علي بن الحسن بن علي بن أبي الحسين.

وفي سنة ٣٦٥ أقرّه العزيز نزار على طرابلس وأضاف إلى ولايته سرت وجرابية.

٨ و ٩ - من رؤساء كتامة الذين رافقوا أبا عبد الله الشيعي من مكّة إلى مصر فافريقية وأيّدوا دعوته: حريث الجميلي وموسى بن مكاد.

١٠ - جعفر بن فلاح الكتامي:

كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصريّة، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فتغلّب على الرملة سنة ٣٥٨، ثمّ غلب على دمشق وملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ٣٦٠، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق، فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل فظفر به القرمطي، وقتله وقتل خلقاً كثيراً من أصحابه سنة ٣٦١.

وقد ترجم له القاضي ابن خلّكان في وفياته ؛ فقال: كان أحد قوّاد المعز أبي تميم معدّ بن المنصور العبيدي صاحب افريقية، وجهّزه مع القائد جوهر لمّا توجّه لفتح الديار المصرية، فلمّا أخذ مصر بعثه جوهر إلى الشام فغلب على الرملة في ذي الحجّة سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، ثمّ غلب على دمشق فملكها في المحرّم سنة ٣٥٩ بعد أن قاتل أهلها، ثمّ أقام بها إلى سنة ستّين، ونزل إلى الدكّة فوق نهر يزيد بظاهر دمشق فقصده الحسن بن أحمد القرمطي المعروف بالأعصم فخرج إليه جعفر وهو عليل، فظفر به القرمطي فقتله وقتل من أصحابه خلقاً كثيراً، وذلك في يوم الخميس لستّ خلون من ذي القعدة سنة ٣٦٠ (ره).

وقال بعضهم: قرأت على باب قصر القائد جعفر بن فلاح المذكور بعد قتله مكتوباً:

يا منزلاً عبث الزمانُ بأهله فـأبادهم بـتفرّقٍ لا يجمعُ

أيـن الذين عهدتهم بك مرّةً كان الزمان بهم يضر وينفعُ

٣٣٥

وكان جعفر المذكور رئيساً جليل القدر ممدوحاً، وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هاني الأندلسي:

كـانت مساءلة الركبان تخبرني عن جعفر بن فلاح أطيب الخبرِ

حـتّى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن ممّا قد رأى بصري

١١ - سليمان بن جعفر بن فلاح:

قال القلانسي:

(وكان هذا القائد مشهوراً بالكفاية والغناء وتوقّد اليقظة في أحواله والمضاء، ويكنّى بأبي تميم، بعثه العزيز بالله والياً على دمشق سنة ٣٦٩ فنزل بظاهرها، ولم يمكّنه قسّام الحارثي من دخولها وقوتل وأزعج من مكانه).

وفي سنة ٣٨٦ جهّزه الحاكم بأمر الله إلى الشام لقتال برجوان، وقد انتقض عليه بسبب تغلّب ابن عمّار وكتامة على الشام، فبعث سليمان هذا أخاه عليّاً إلى دمشق، فامتنع أهلها عليه فكاتبهم وتهددهم وأذعنوا ودخل البلد ففتك بهم، ثمّ قدم أبو تميم فأمن وأحسن. وبعث أخاه عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش بن الصمصامة، فسار إلى مصر. وبعد قتل ابن عمّار وإظهار برجوان الحاكم وتجديد البيعة له انتقض برجوان على أبي تميم بن فلاح.

قال المقريزي في خططه:

(وفي سنة ٣٨٦ هـ ندب الحسن بن عمّار أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح وقدّمه وجعله اسفهلاّر الجيش، وأمره بالمسير إلى الشام، فسار من مصر ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ أموالها.

وجرى بينه وبين سليمان حرب في عسقلان انتهت بهزيمة منجوتكين، ولمّا انجلت فتنة ابن عمّار بتجديد البيعة للحاكم بأمر الله، وكتب بذلك إلى دمشق وفيه ما يبعث على الوثوب على سليمان، ولمّا كان مع ما عُرف به من الكفاية واليقظة والمضاء، مستهتراً بشرب الراح واستماع الغناء والتوفّر على اللذة، ولمّا وردت المطلقات المصريّة بما اشتملت عليه في حقّه وهو منهمك في القهوة، لم يشعر إلاّ بزحف العامّة والمشارقة إلى قصره وهجومهم عليه، فخرج هارباً على ظهر فرسه. (انتهى ملخّصاً عن تاريخ ابن القلانسي).

٣٣٦

وكان برجوان ألدّ أعداء ابن عمّار وهو الذي عمل على إسقاطه والاستئثار دونه بأمر الخلافة. وفي هذه السنة اصطنع جيش بن محمد بن الصمصامة، وقدّمه وجهّز معه ألف رجلٍ وسيّره إلى دمشق وأعمالها، وبسط يده في الأموال وردّ إليه تدبير الأعمال، فسار جيش ونزل على الرملة، والوالي عليها وحيد الهلالي، ومعه خمسة آلاف رجل، ووافاه ولاة البلد وخدموه. وصادف القائد أبا تميم سليمان بن فلاح فقبضه قبضاً جميلاً.

وسار جيش بن الصمصامة على مقدّمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه، فهرب بين يديه حتّى لحق بجبلي طيئ وتبعه حتّى كاد يأخذه، ثمّ عفى عنه واستحلفه على ما قرّره معه وعاد إلى الرملة. وستجد أخباره في غير هذا المكان.

وفي خطط المقريزي ج ٤ ص ٦٨:

وفي سنة ٣٨٦ هـ ولي الحاكم بأمر الله الخلافة بعد أبيه العزيز بالله نزار، وجعل أبا محمد الحسن بن عمّار وساطة ولقّب بأمين الدولة وقلّد سليمان بن فلاح الشام. فخرج بنجوتكين من دمشق وسار منها لمدافعته، فبلغ الرملة وانضمّ إليه ابن الجراح الطائي في كثيرٍ من العرب، وواقع ابن فلاح فانهزم وفرّ ثمّ أُسر فحمل إلى القاهرة.

وفي سنة ٣٨٧ صرف عن ولاية الشام بجيش بن الصمصامة.

١٢ - علي بن جعفر بن فلاح الكتامي:

الملقّب بقطب الدولة كذا في خطط الشام، تقدّم شيء من خبره في أخبار أخيه سليمان، فقد ولي دمشق من قبل أخيه ثمّ طرابلس.

وفي سنة ٣٩٠ ولي(١) دمشق بعد وفاة واليها فحل بشهور.

وفي سنة ٣٩٢ في شهر رمضان قلد ولايتها تموصلت (طرفلة) عوضاً عن ابن فلاح.

وفي سنة ٣٩٨ مات منجوتكين وولّي علي بن فلاح دمشق. وفي هذه السنة ولّي ولاية طرابلس.

وفي سنة ٣٩٩ ولّي دمشق القائد حامد بن ملهم لست بقين من رجب، وكان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستولياً على الجند نافذ الأمر

____________________

(١) وفي سنة ٣٩٧ كان من قوّاد الجيش الشامي الحاكمي لقتال أبي ركوة الذي خرج على الحاكم واستفحل أمره، وانضمّ إليه بنو قرّة وبعض كتامة لمّا نالهم جميعاً من اضطهاد الحاكم وسوء سياسته، وانتهى أمر أبي ركوة بالانكسار والقتل، ولم يذكر في الكامل خروجه لحرب أبي ركوة.

٣٣٧

في البلد، فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان.

وكانت مدّة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة أشهر ونصف شهر.

وفي سنة ٤٠٩ جاء في الخطط ج ٤ ص ٧٤:

وأقام (الحاكم) ذا الرياستين قطب الدولة أبا الحسن علي بن جعفر بن فلاح في الوساطة والسفارة.

١٣ - القائد أبو محمود بن إبراهيم بن جعفر:

هكذا نسبه في ذيل تاريخ دمشق (ابن القلانسي).

وفي خطط الشام: أبو محمود بن جعفر بن فلاح.

وفي تاريخ ابن خلدون: أبو محمود بن إبراهيم.

وفي الخطط في مكان آخر: وجيش بن محمد بن الصمصامة أبو الفتوح القائد المغربي هو ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام المتوفّى سنة ٣٩١.

وفي خطط المقريزي: أبو محمود إبراهيم بن جعفر.

وأبو محمود من شيوخ كتامة كان من قوّاد المعز وابنه العزيز، ففي سنة ٣٦٣ جرّد في خمسة عشر ألف رجل في طلب القرمطي، وقد فرّ من مصر مغلولاً، فاتبعه وتثاقل في سيره خوفاً من رجوعه عليه. ولمّا علم أبو محمود ارتحاله من أذرعات إلى الأحساء رحل ونزل بها مكانه. وفي هذه السنة وصل بجيشه إلى دمشق، وكان والياً عليها ظالم بن موهوب العقيلي، فخرج لتلقّيه ولمّا نزل على دمشق في جيشه اضطرب الناس وجرت أمورٌ عظام بين الجيش والدمشقيين لم تنفرج إلاّ بعد شهرين ونصف شهر. وتقرّرت الموادعة والمصالحة إلى أن ولي جيش بن الصمصامة البلد من قبل خاله أبي محمود. ولمّا استقرّ الصلح والموادعة بين أهل دمشق وأبي محمود، وخمدت نار الفتنة بعض الخمود، وركدت ريحها بعض الركود، وسكنت نفوس أهل البلد واطمأنت القلوب بين الفريقين، اعتمد أبو محمود على ابن أخته جيش في ولاية دمشق وحمايتها. ولكن لم يطل الأمر حتّى عادت الفتنة، ممّا حدا بالمعز أن يولّي ريّان الخادم عقيب هذه الفتنة والياً عليها، ويستقدمه من طرابلس فيصرف أبو محمود عن دمشق. ولكن أهل دمشق لم تطب نفوسهم لحكم المغاربة والفاطميّين وصادف أن كان قد نزل ضاحية دمشق الفتكين المغربي، فحملوه على ولاية حكم بلدهم. وقد جرت حروب بين جيوش المعز والفتكين. وقد استنجد بالقرمطي، استدعت أخيراً أن يتولّى المعز

٣٣٨

بنفسه القيادة العامّة للجيوش المصرية، وينتهي الأمر بفوزها على الفتكين والقبض عليه، ثمّ العفو عنه وحمله إلى مصر معزّزاً مكرّماً.

ثمّ غلب قسام الحارثي من قرية تلفيت ومن خواص أصحاب الفتكين على دمشق سنة ٣٦١ بعد أن كانت في ولاية حميدان.

ووليها بعده القائد أبو محمود في نفرٍ يسير، وهو ضميمة لقسام وما زال على هذه الحال إلى سنة ٣٧٠ حيث هلك فيها.

١٤ - أبو الفتوح جيش بن محمد بن صمصامة:

القائد المغربي ابن أخت أبي محمود الكافي أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام. تولّى نيابة دمشق غير مرّة وكان ظالماً سفّاكاً للدماء.

قالوا: وعمّ الناس في ولايته البلاء من القتل وأخذ المال، حتّى لم يبق بيت في دمشق ولا بظاهرها إلاّ امتلأ من جوره. توفي سنة ٣٩١.

ولي دمشق سنة ٣٦٤ بعد إخراج ظالم منها، وسكن الناس إليه بعد فتنة. ولمّا عاد المغاربة إلى الجيش وعاد العامّة إلى الثورة وقصدوا القصر الذي فيه جيش، هرب ولحق بالعسكر.

وزحف إلى البلد فقاتلهم وأحرق ما كان بقي، وقطع الماء عن البلد، فضاقت الأحوال وبطلت الأسواق وبلغ الخبر إلى المعز فنكر ذلك على أبي محمود واستعظمه، وبعث إلى ريان الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها وأن يصرف القائد أبا محمود عنها، فصرفه إلى الرملة وبعث إلى المعز بالخبر، وأقام بدمشق إلى أن وصل افتكين (هفتكين) والياً عليها.

وبعد وفاة المعز سنة ٣٦٥ وولاية ابنه العزيز والظفر بافتكين والقبض عليه وولاية قسام الحارثي، كان مع قسام جيش وأقام بعده في ولايته، وقد زحف بلتكين إلى دمشق وأظهر لقسام أنّه جاء لإصلاح البلد، فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول في ظاهر البلد هو وأصحابه.

واستوحش قسام وتجهّز للحرب ثمّ قاتل وانهزم أصحابه، ودخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا وأحرقوا، واعتزم أهل البلد على الاستئمان إلى بلتكين وشافهوه بذلك فأذن لهم.

وسمع قسام فاضطرب وألقى ما بيده واستأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم ولقسام فأمن الجميع.

وولّي على البلد أمير اسمه خطلج، فدخل البلد في المحرم سنة اثنتين وستّين، ثمّ اختفى قسام بعد يومين فانتهبت دوره ودور أصحابه، وجاء ملقياً بنفسه على بلتكين فقبله وحمله إلى مصر فأمنه العزيز.

٣٣٩

ولمّا توفّي العزيز سنة ٣٨٦ هـ. وولي بعده ولده الحاكم بأمر الله، وكان برجوان الخادم قد استولى على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك، وكان مدبّر دولة، وكان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمّار، ولُقّب بأمين الدولة. وقد تغلّب ابن عمّار وانبسطت أيدي كتامة في أموال الناس وحرمهم.

ونكر منجوتكين تقديم ابن عمّار في الدولة وكاتب برجوان بالموافقة على ذلك، فأظهر الانتقاض.

وجهّز ابن عمّار العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح، فلقيهم بعسقلان وانهزم منجوتكين وأصحابه، وسيق أسيراً إلى مصر فأبقى عليه ابن عمّار واستماله للمشارقة.

وعقد على الشام لسليمان بن فلاح، فبعث من طبرية أخاه عليّاً على دمشق. ولمّا جرى منه فيها أُمور لم ترضه وقدم إليها بعث عليّاً إلى طرابلس وعزل عنها جيش ابن الصمصامة، فسار إلى مصر وداخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمّار وأعيان كتامة وكان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة. نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة ونكبة أخيه شرف الدولة إياه، فخلص إلى العزيز فقرّبه وحظي عنده فكان مع برجوان وجيش بن الصمصامة.

وثارت الفتنة واقتتل المشارقة والمغاربة، فانهزمت المغاربة واختفى ابن عمّار، وأظهر برجوان الحاكم وجدّد له البيعة، وكتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح.

ولمّا زحف الدوقش ملك الروم على حصن افامية محاصراً لها، جهّز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان وأسطولاً في البحر.

ثمّ سار جيش إلى المفرج ابن دغفل، فهرب أمامه ووصل إلى دمشق وتلقّاه أهلها مذعنين فأحسن إليهم وسكنهم ورفع أيدي العدوان عنهم.

ثمّ سار إلى افامية وصافّ الروم عندها فانهزم أوّلاً هو وأصحابه، وثبت بشارة اخشيدي بن قرارة في خمس عشرة فارساً، ووقف الدوقش ملك الروم على رابيةٍ في ولده وعدّة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين، فقصد كردي من مصاف الاخشيدي وبيده عصا من حديد يسمّى الخشت، وظنّه الملك مستأمناً، فلمّا دنا منه ضربه بالخشت فقتله وانهزم الروم، واتبعهم جيش بن الصمصامة إلى انطاكية يغنم ويسبي ويحرق.

ثمّ عاد مظفّراً إلى دمشق، فنزل بظاهرها ولم يدخل، واستخلص رؤساء الأحداث واستحجبهم، وأقيم له الطعام في كلّ يوم، وأقام على ذلك برهة ثمّ أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529