حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام11%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 529

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 529 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 218073 / تحميل: 6650
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٢ ـ المحكمة :

وهم الخوارج الذين ضمهم جيش الامام وكانوا يرومون قتال معاوية بكل حيلة ووسيلة لا إيمانا منهم بقضية الحسن وباطل معاوية ، بل كانوا يرون الحسن ومعاوية في صعيد واحد ، وإنهما لا يستحقان الخلافة وإنما كانوا يستعجلون حرب معاوية ومناجزته لأنهم يعلمون انه أوفر قوة من الامام فرأوا أن ينضموا الى جيشه مؤقتا حتى ينهوا أمره ، فان قضي عليه فيكون أمر الحسن سهلا لأن اغتياله ليس بالعسير عليهم فقد اغتالوا أباه من قبل :

٣ ـ اصحاب المطامع :

وضم جيش الإمام فصيلة من الجند لا تؤمن بالقيم الروحية ولا تقدس العدل ولا تفقه الحق وإنما كانوا ينشدون مصالحهم وأطماعهم وكانوا يرقبون من كثب أي الجهتين قد كتب لها النصر والظفر حتى يلحقوا بها.

٤ ـ الشكاكون :

وأكبر الظن ان الشكاكين هم الذين أثرت عليهم دعوة الخوارج ودعاية الأمويين حتى شككوا في مبدأ أهل البيت (ع) ، وفي رسالتهم الإصلاحية ولو اندلعت نيران الحرب لما ساعدوا الإمام بشيء ، لأنهم لم يكونوا مدفوعين بدافع الإيمان والعقيدة.

٨١

٥ ـ اتباع الرؤساء :

وهم أكثر العناصر عددا ، وأعظمهم خطرا ، فهم يتبعون زعماءهم ورؤساءهم اتّباع أعمى لا إرادة لهم ولا تفكير ولا شعور بالواجب ، وهم المعبر عنهم بالهمج الرعاع. وكان أغلب سواد العراق قد انتمى الى أحد الزعماء على غرار العشائر العراقية في هذا الوقت ، وأكثر زعماء العراق ممن كاتب معاوية بالطاعة والانقياد كقيس بن الأشعث ، وعمرو بن الحجاج وحجار بن أبجر وأضرابهم من الخوارج والمنافقين الذين اشتركوا في أعظم مأساة سجلها التأريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين (ع).

هذه هي العناصر التي تكوّن منها الجيش العراقي ، بل العراق كله من نفر منه الى الحرب ومن لم ينفر ينطبق عليه أحد هذه العناوين التي ذكرها شيخ الإسلام المفيدرحمه‌الله في كلامه القيم ، وأكثر هؤلاء لا يؤمن من شرهم فى السلم فضلا عن الحرب.

٤ ـ أخطاء تاريخية :

وقع فريق من المؤرخين والكتاب فى أخطاء تتعلق فى هذا الفصل يجدر التنبيه عليها وهي :

١ ـ الحاكم :

أفاد الحاكم النيسابوري أن الحسن (ع) أسند قيادة مقدمته إلى ابن عمه عبد الله بن جعفر ، وضم إليه عشرة آلاف جندي(١) وفد تفرد

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٧٤.

٨٢

الحاكم بهذا القول وهو مخالف لما اجمع عليه رواة الأثر من أن قيادة المقدمة كانت لعبيد الله بن العباس باشراك قيس بن سعد وسعيد بن قيس ، كما أن عدد المقدمة كان اثنى عشر الفا حسب ما ذكروه لا عشرة آلاف.

٢ ـ اليعقوبى :

ذكر المؤرخ الشهير اليعقوبي : ان الإمام الحسن تجهز لحرب معاوية بعد ثمانية عشر يوما من وفاة أبيه(١) وهو اشتباه لأن الإمام لم يتجهز لمحاربة خصمه إلا بعد أن راسله بتلك الرسائل التي مرّ ذكرها فى الفصل السالف ، وعلى الظاهر أن مدة المراسلة كانت تزيد على شهرين كما أن الإمام لم يستعد للحرب إلا بعد ما فشلت جميع الوسائل التي اتخذها لأجل السلم والوئام ، وعلم أن معاوية قد زحف إليه بجنده ففى ذلك الوقت تجهز للحرب لا قبله كما أجمع عليه المؤرخون وإذا أردنا تصحيح ما ذكره اليعقوبي فان هذه المدة التي ذكرها كانت فاتحة المراسلات التي دارت بينهما.

٣ ـ ابن كثير :

قال ابن كثير : ولم يكن فى نية الحسن أن يقاتل أحدا ، ولكن غلبوه على رأيه ، فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله ، فأمر الحسن بن علي قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة في اثنى عشر ألفا بين يديه. الخ(٢) . وهذا القول ليس بوثيق لأن الإمام الحسن لو لم يكن من رأيه الحرب لما بعث الى معاوية تلك المذكرات التي يتهدده فيها ويتوعده باعلان الحرب

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١.

(٢) البداية والنهاية ٨ / ١٤.

٨٣

إن لم يدخل فى طاعته ، ولو لم يكن من نيته الحرب لما اعتلى المنبر وحفز الناس الى الجهاد ، ودعاهم الى الحرب كما ذكرنا ذلك بالتفصيل ، وأما قوله : ان الناس اجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله وهم يدعون الإمام الى الحرب. فينافيه ويرده تقاعسهم ، وعدم اجابتهم له ، وسكوتهم لما دعاهم (ع) الى الجهاد في خطابه السالف الذكر.

٤ ـ طه حسين :

قال الدكتور طه حسين : « ومكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبا من ذلك لا يذكر الحرب ، ولا يظهر استعدادا لها ، حتى ألح عليه قيس بن سعد ، وعبيد الله بن العباس ، وكتب إليه عبد الله بن عباس من مكة يحرضه على الحرب ويلح عليه في أن ينهض فيما كان ينهض فيه أبوه »(١) ومواقع النظر في كلامه ما يلي :

١ ـ إن قوله : ومكث الحسن بعد البيعة شهرين أو قريبا من ذلك لا يذكر الحرب ولا يظهر استعدادا لها. فانه بعيد عن الواقع ، وهو قريب مما ذكره ابن كثير في كلامه المتقدم ، ولعل الدكتور استند إليه ، وتفنده رسائل الإمام ـ التي مرّ بيانها ـ فانها صريحة في تصميمه وعزمه على الحرب ، وللاستدلال على ذلك نسوق بعض فقراتها يقول (ع) : « وإن أنت أبيت إلا التمادي فى غيك سرت إليك بالمسلمين حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ». وهذه الفقرات واضحة صريحة فيما ذكرناه ، ولعل الدكتور لم يلحظ هذه الجوانب من رسائل الإمام فأرسل حكمه محفوفا بالخلط والاشتباه ، وبالاضافة الى ذلك فان الإمام ملزم بمناجزة معاوية ،

__________________

(١) علي وبنوه ص ١٩٥.

٨٤

لأن الله أوجب حرب البغاة الذين يشقون عصا الطاعة ، ويخرجون على إمام المسلمين ، قال تعالى : « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء الى أمر الله ». وقال رسول الله (ص) : « من دعا الى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله فقاتلوه ». ومعاوية قد خرج على أمير المؤمنين من قبل وبغى عليه ، وقد أغرق البلاد في الدماء ، وأشاع بين المسلمين الحزن والثكل والحداد ، فمناجزته من أهم الواجبات الإسلامية ، فكيف يتخلف الإمام عنها وهو سبط النبي وريحانته.

٢ ـ وأما قوله : إن قيس بن سعد ، وعبيد الله بن العباس ألحّا عليه فى أن ينهض للحرب ، فان هذا من الوهم والخلط لأنا ذكرنا ـ في أوائل هذا البحث ـ النصوص التأريخية التي دلت على أن الإمام نفر الى الحرب حينما علم أن معاوية قد زحف إليه ، ولم يكن أحد قد ألحّ عليه في ذلك ، وإنما كانت حراجة الموقف والضرورة البالغة تقضيان بخروجه ، فانه لو لم ينفر لحرب معاوية ورد عدوانه لاحتل الكوفة ، وأخذ الإمام أسيرا ، فكان خروجه للدفاع والجهاد أمرا لازما ، ولم يكن هناك أي أحد ألحّ عليه في ذلك.

إن بحوث الدكتور طه حسين فى هذه الجهات محفوفة بالإسفاف والخلط وفاقدة للتحقيق الذي يتطلبه البحث العلمي الذي لا يخضع للعاطفة والأهواء ، فان التاريخ ـ كما يقول ـ قد خلط بالموضوعات حتى أصبح من العسير أن يخلص المؤرخ للحق في أبسط الامور وأيسرها فضلا عن أمثال هذه الجوانب التي لبست أسمك جلابيب الغموض بسبب الروايات التي تعمد أصحابها على وضعها انتصارا للأمويين وتقليلا لجانب أهمية أهل البيت (ع) ، فيجب التثبت والوقف فى كثير مما انفردوا بروايته ،

٨٥

وملاحظة أقوال المؤرخين الذين عرفوا بالاستقامة وعدم الانحراف ، وتحرجوا من الوضع ، وليس من الحق أن يعتمد الدكتور على روايات ابن كثير وأمثاله ممن جرفتهم العصبية ، ومالوا عن القصد فدونوا ما هو مجاف للواقع وبعيد عن الحق.

إن مصدر الخطأ والالتباس في بحوث المتأخرين إنما جاءت من الاعتماد على أمثال هذه المصادر ، وعدم التحقيق والتدقيق فيما انفردوا بروايته انتصارا للحكم القائم ، وليس شيء أدعى للمؤرخ الذي يريد أن يخلص للحق من التثبت فى ذلك فانه مما يقتضيه البحث الحر الذي نحن في أمس الحاجة إليه.

٨٦

في المدائن

٨٧
٨٨

فى سجل التاريخ حوادث مفجعة يذوب القلب من هولها أسى وحسرات ، وذلك بما تتركه من الآثار المريعة ، والمضاعفات السيئة ، وبما تخلفه من المشاكل والمصاعب كانتشار الظلم ، وذيوع الجور ، وهضم الحق ، وضياع العدل. ومن أفجع هذه الحوادث وأقساها ، انتصار الظالمين وتغلبهم على أئمة الحق والعدل ، فانه يؤدي حتما الى شل الحركة الإصلاحية ، وتدمير القيم الإنسانية ، وظهور البغي والجور في البلاد.

وتمثلت هذه المأساة المحزنة بأبشع صورها على مسرح الزمن الهازل في صراع الإمام الحسن (ع) مع معاوية ، وغلبة معاوية عليه ، وقد انتصرت بذلك القوى الحاقدة على الإسلام ، والباغية على المسلمين ، واندحرت المبادئ العليا التي جاء هذا الدين ليقيمها.

إن من نكد الدنيا غلبة معاوية وانتصاره على سبط النبي وريحانته ، وابتزازه لحقه ، وفرضه حاكما على المسلمين باسم الإسلام ، وهو من ألدّ خصومه وأعدائه. إن السر في انتصار معاوية يرجع الى أسباب كثيرة وعوامل متعددة وأهمها الحوادث القاسية التي وقعت في « مسكن »(١) التي كانت تضم مقدمة جيش الإمام ، والحوادث المؤسفة التي جرت فى « المدائن » التي استقرت فيها عامة جيوشه ، وقد عانى الإمام منها ألوانا شاقة من

__________________

(١) مسكن : بفتح أوله وكسر ثالثه ، قال أبو منصور : يقال للموضع المعروف الذي يسكنه الإنسان « مسكن » بفتح الثالث وكسره ، واللغة الثانية شاذة ، والقياس الفتح ، وهو موضع قريب من « أوانا » على نهر الدجيل ، وبها كانت الواقعة بين عبد الملك بن مروان ، ومصعب بن الزبير ، سنة ( ٧٢ ه‍ ) ، وفيها قتل مصعب ، وابراهيم بن مالك الأشتر ، ودفنا هناك ولهما قبر معروف ، معجم البلدان ٨ / ٥٤.

٨٩

المحن والخطوب حتى اضطر الى الصلح ، والتجأ الى مسالمة الخصم ، وعلينا أن ننظر الى تلكم الأحداث ونتأملها فانها من أهم علل الصلح وأسبابه ـ فيما نحسب ـ وهي كما يلي :

حوادث مسكن

وبعد ما أسند الإمام القيادة العامة في مقدمة جيشه الى عبيد الله بن العباس ، انطلق عبيد الله يطوي البيداء مع الجيش حتى انتهى الى « سينور » ومنها خرج الى « شاهي »(١) ، فلزم الفرات والفلوجة حتى وصل الى مسكن فاستقام فيها وقابل العدو وجها لوجه ، وقد قام معاوية بدوره بعمليات التخريب والإفساد فسلك جميع الوسائل للقضاء على أصالة « المقدمة » وتمزيق وحداتها ، واماتة نشاطها العسكري ، فنشر بها المخاوف والأراجيف ، وبث فيها العصيان والتمرد ، ونقدم عرضا لبعضها :

__________________

(١) شاهي : موضع قريب من القادسية ، وكان شريك بن عبد الله قاضي الكوفة قد خرج الى شاهي يستقبل الخيزران فأقام فيه ثلاثة أيام ينتظرها حتى نفذ طعامه ، وكان عنده خبز يابس ، فجعل يبلله بالماء ، فنظر إليه العلاء بن منهال فقال فيه :

فان كان الذي قد قلت حمقا

بأن قد أكرهوك على القضاء

فما لك موضع فى كل يوم

تلقى من يحج من النساء

مقيما فى قرى شاهي ثلاثا

بلا زاد سوى كسر وماء

معجم البلدان ٥ / ٢٢٤.

٩٠

بث الجواسيس

وكانت باكورة الدسائس الخطيرة التي قام بها معاوية فى إفساده « المقدمة » ، انه بعث الجواسيس ، ونشر العيون ليذيعون الذعر والإرهاب ويقومون بخذلان الجيش ، وكانت دعايتهم ذات طابع واحد وهي :

« إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فلم تقتلون أنفسكم؟. »(١)

وتركت هذه الموجة من الافتراء اضطرابا فظيعا ، وخوفا بالغا فى النفوس ، وأحدثت تمردا شاملا في جميع الوحدات العسكرية.

رشوة الوجوه

ولم يقتصر معاوية في عمليات التخريب على ذلك ، فقد صنع ما هو أفتك منها وهو شراؤه الضمائر الرخيصة من قادة الجيش وزعمائه المقيمين في « مسكن » فقد بذل لهم أموالا ضخمة ، ومناهم بالوظائف والمراتب ، فأجابوه الى ذلك ، وتسللوا إليه ، والتحقوا بمعسكره في غلس الليل وفى وضح النهار ، وكتب عبيد الله أنباءهم بالتفصيل الى الإمام الحسن «ع»(٢)

اغراؤه لعبيد الله

ولما رأى معاوية ان عملية الرشوة قد نجح بها الى حد كبير راح يعمل بنشاط فى اغرائه لذوي الضمائر القلقة ، والنفوس المريضة ، فمدّ أسلاك مكره الى عبيد الله بن العباس ، فجذبه إليه ، وصار العوبة بيده ، وقد خان

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٢١٥.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٢٨.

٩١

عبيد الله بذلك ثقل رسول الله ، وترك موكب الحق والهدى ، وانضم الى معسكر الخيانة والجور ، أما نص رسالة معاوية التي خدعه بها فهي :

« إن الحسن قد راسلني فى الصلح ، وهو مسلم الأمر إليّ فان دخلت فى طاعتي الآن كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر »(١)

وتمثل الكذب الصريح ، والمكر السافر في قوله : « إن الحسن قد راسلني في الصلح. » إن الإمام متى راسله فى الصلح؟ أفي رسائله ومذكراته التي احتوت على تهديده وتوعيده باعلانه للحرب عليه إن لم يثب لطاعته ، أم بخروجه لمناجزته؟ مضافا الى أنه لم تجر أي اتصالات بينه وبين الإمام في ذلك الوقت.

وليس هناك أدنى مجال للشك فى أن عبيد الله كان يؤمن في قرارة نفسه بكذب هذا الادعاء لأن الإمام لو كان قد راسله في الصلح فلأي شيء يمنيه معاوية بهذه الأموال الطائلة ، وما قيمته إن أجابه الإمام إلى ذلك.

غدر وخيانة

وغزى معاوية برسالته مشاعر عبيد الله فقد أخذ يطيل التفكير فى ارتكاب الجريمة والخيانة ، وتمثلت أمامه النقاط المغريات التي عرضها عليه معاوية وهي :

١ ـ مراسلة الحسن له في الصلح حسب الادعاء المزعوم.

٢ ـ الدخول فى معسكر معاوية وهو متبوع خير له من أن يكون تابعا.

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٤ / ٢٨.

٩٢

٣ ـ الحصول على مائة ألف درهم.

وانفق ليله ساهرا يفكر في الأمر ، قد ملأت الحيرة اهابه ، وتمثلت أمامه ( المادة ) التي منّاه بها معاوية وهو لم يظفر ببعضها فى ظل الحكومة الهاشمية التي بنيت على بسط العدل والمساواة ، وأخيرا سولت له نفسه الأثيمة بالغدر ونكث العهد ، فاستجاب لدنيا معاوية ، ومال عن الحق ، وانحرف عن الطريق القويم ، وخان الله ورسوله ، وترك سبط النبي (ص) وريحانته ، والتحق بمعسكر الظلم والجور ، وقد تسربل بثياب العار والخزي.

لقد تسلل عبيد الله الى معاوية فى غلس الليل البهيم ومعه ثمانية آلاف من الجيش(١) من ذوي الأطماع والأهواء الذين لم ينطبع الدين في قلوبهم ففي عنق عبيد الله الخائن الأثيم تقع المسئولية الكبرى ، فقد أدت خيانته الى زعزعة الجيش وتفلل وحداته واضطرابه.

إن هذه الخطة التي سلكها معاوية كانت من أهم الأسباب التي مهدت نجاحه ، وفوزه بالموقف وتغلبه على الأحداث ، فقد سببت اندحار جيش الإمام ، وقضت على عزائمه ، وفتحت باب الخيانة ، والغدر على مصراعيهما.

اضطراب الجيش

وأصبحت البقية الباقية من الجيش تفتش عن قائدها ليصلي بها صلاة الصبح فلم تجده ، ولما علمت خيانته وغدره والتحاقه بالعدو اضطربت أشد الاضطراب ، وماجت فى الفتن ، وارتطمت بالنزاع والخلاف ، ولما رأى قيس بن سعد الرجات العنيفة ، والفتن السود قد ضربت أطنابها على الجيش قام فصلى بهم صلاة الصبح ، وبعد الفراغ منها قام خطيبا فهدأ روعهم

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١.

٩٣

وأثابهم الى الصواب والرشاد ، وهذا نص خطابه.

« إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خيرا قط ، إن أباه عمّ رسول الله (ص) خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري(١) فأتى به رسول الله (ص) فأخذ فداءه ، فقسمه بين المسلمين وإن أخاه ولاّه علي على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال ، وإن هذا ولاّه علي على اليمن فهرب من بسر بن أبي أرطاة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الآن هذا الذي صنع »(٢) .

وملك قيس أحاسيس الجيش وشعورهم بخطابه المؤثر الرصين ، فقد رأوا في كلامه منطق الحق ، وفي شخصيته صلابة الإيمان ، وتبين لهم أن عبيد الله خليق بالخيانة ، ومظنة لكل سوء ، وانه لو كان عنده شعور نبيل أو عاطفة انسانية لما هرب من اليمن وترك ولديه بيد الجزار بسر بن أبي أرطاة فقتلهما.

__________________

(١) كعب بن عمرو الأنصاري السلمي ، شهد بدرا بعد العقبة ، وهو الذي أسر العباس يوم بدر ، وانتزع راية المشركين وكانت بيد أبي عزيز ، وشهد مع أمير المؤمنين صفين ، توفي في يثرب سنة (٥٥) جاء ذلك في الاستيعاب ٤ / ٢١٥ ، وجاء في تهذيب التهذيب ٨ / ٤٣٧ ، انه آخر من مات من أهل بدر وأنه شهد مع أمير المؤمنين جميع مشاهده ، توفي وله من العمر مائة وعشرون سنة ، وفي المسند من حديث له : أن النبي (ص) بعثه في حاجة فرآه موليا فقال : « اللهم امتعنا به » فكان من آخر الصحابة موتا ، وكان إذا حدث بهذا الحديث بكى ، وقال : امتعوا بي لعمري حتى كنت من آخرهم.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٣٥.

٩٤

وانبرى الجيش بجميع كتائبه فأعلن التأييد والخضوع لمقالته وهم يهتفون « الحمد لله الذي أخرجه من بيننا. »(١)

وتسلم قيس القيادة ـ بعد غدر عبيد الله ـ بنص الإمام وبالترشيح من جميع القوات المسلحة ، وحينما تسلم منصبه الجديد رفع للإمام مذكرة أخبره فيها بوقوع الحادث المؤسف وبتسلمه مهام القيادة ، وهذا نصها :

« إنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها ( الجنوبية ) بإزاء ( مسكن ) وان معاوية أرسل الى عبيد الله بن العباس يرغبه فى المصير إليه ، وضمن له ألف ألف درهم ، يعجل له منها النصف ، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله الكوفة ، فانسل عبيد الله في الليل الى معسكر معاوية في خاصته ، وأصبح الناس قد فقدوا أميرهم ، فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في امورهم(٢)

وساعد الله قلب الإمام الحسن حينما انتهى إليه هذا النبأ المؤسف ، فقد أترعت نفسه الشريفة بالآلام والهواجس ، ويئس من الظفر والنصر ، وعلم أن أكثر من معه لا واقعية لهم ، وانهم يسلمونه عند الوثبة ويغدرون به عند اندلاع نار الحرب. وأما جيشه الرابض معه فى « المدائن » فانه لما علم بخيانة عبيد الله ، والتحاقه بمعسكر العدو ارتطم في الفتن ، وماج في الشر ، واستولى عليه الذعر والخوف ، وأخذ أكثر قادته يلتمسون الطرق للاتّصال بمعاوية والظفر بأمواله.

اكاذيب واضاليل :

وبعد ما طعن معاوية الجيش العراقي في صميمه بعمليات الرشوة ، سلك

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٥.

(٢) الإرشاد ص ١٧٠.

٩٥

طرقا أخرى في إفساده واماتة نشاطه ، فقد أرسل عيونه وخواصه ينشرون الأكاذيب ، ويبثون الإرهاب في جميع كتائب الجيش سواء المقيمة في المدائن ، أو فى مسكن ، وكانت تلكم الإشاعات ذات صور وهي :

أ ـ إذاعتهم في « المدائن » أن قيس بن سعد قد صالح معاوية ، وصار معه(١) ، ولم يشك الجيش في صدق هذه الدعاية ، فان عبيد الله بن العباس الذي هو أمس الناس رحما بالإمام قد غدر به وخانه فكيف بغيره.

ب ـ إشاعتهم في « مسكن » ان الإمام قد صالح معاوية وأجابه(٢) .

ج ـ افتراؤهم على من في « المدائن » ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا(٣) .

ومزقت هذه الدعايات الكاذبة أعصاب الجيش ، وأماتت نشاطه العسكري ، وأصبح متفككا تسوده الفتن والأهواء.

خلاصة الأحداث :

ومجمل ما تقدم من الفتن السود ، والخيانة المفضوحة التي منيت بها المقدمة التي هي أقوى فصائل الجيش أمور :

١ ـ تسلل ذوي الوجاهة والنفوذ من ذوي البيوتات الشريفة والأسر البارزة الى معاوية.

٢ ـ غدر القائد العام عبيد الله بن العباس وخيانته لسبط النبي وريحانته.

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٤.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١.

(٣) حياة الحيوان للدميري ١ / ٥٧.

٩٦

٣ ـ خيانة ثمانية آلاف من الجيش ، والتحاقهم بمعسكر معاوية ، وناهيك بالضعف والاختلال الذي منيت به المقدمة بعد انسحاب هذا العدد الخطير منها.

٤ ـ اضطراب الجيش على الإطلاق سواء أكان في مسكن أو فى المدائن بسبب الإشاعات الكاذبة التي أذاعها أتباع معاوية من أن الحسن قد صالح معاوية ، وأن قيسا قد قتل.

هذه خلاصة الأخطار الفظيعة التي اصيبت بها « المقدمة » وقد أوجبت انهيارها وأماتت نشاطها ، وأصبحت لا لياقة لها على مواجهة الأحداث ، ولا قابلية لها على الدفاع ورد العدوان الأموي الذي يتمتع بأتم القابليات وأضخم الطاقات. وبعد هذه الزعازع التي فتكت بالمقدمة هل يصح أن يقال إنها جبهة قوية لها القدرة على مناجزة معاوية؟!!

حوادث المدائن :

ونزح الإمام الحسن عن عاصمته ، وقد نفر معه أخلاط من الناس ، وأخذ في مسيره على حمام عمر حتى أتى دير كعب في « مظلم ساباط »(١) فاستقوا فيه ، وأخذ معاوية يعيث فسادا فى جيش الإمام حقى ارتطم بالفتن والخطوب ، ونقدم عرضا من النكبات التي مني بها ، والى الأحداث الهائلة

__________________

(١) مظلم ساباط : يقع قرب المدائن ، ولم يعلم سبب التسمية ، وذكر مظلم ساباط زهرة بن حوية في قوله :

ألا أبلغا أبا حفص آية

وقولا له قول الكمي المغاور

بأنا أثرنا آل طوران كلهم

لدى مظلم يهفو بحمر الطواهر

معجم البلدان ٨ / ٩١.

٩٧

التي واجهها الإمام الحسن.

اذاعة الذعر :

وكانت أول بادرة فعلها معاوية لإفساد جيش الإمام أنه بعث عبد الله ابن عامر ليبثّ الخوف والجزع فى نفوس العراقيين فانطلق عبد الله فنادى بأعلى صوته بين صفوف الجيش العراقى :

« يا أهل العراق ، إني لم أر القتال ، وإنما أنا مقدمة معاوية وقد وافى الأنبار في جموع أهل الشام ، فأقرءوا أبا محمد « يعني الحسن » عني السلام وقولوا له : أنشدك الله في نفسك وأنفس هذه الجماعة التي معك ».

وحينما سمعوا ذلك داخلهم من الخوف والرهبة الى حد لا سبيل الى تصويره ، وأخذ بعضهم يخذل بعضا ، وسئموا القتال ، وكرهوا الحرب.

رشوة الزعماء :

لا تزال الرشوة قديما وحديثا هي الثغرة الوحيدة التي يسلك فيها المستعمرون للاستيلاء على الشعوب ، وسلب سيادتها ، والقضاء على أصالتها وقد أمعن معاوية في استعمال الرشوة بنطاقها الواسع في شراء الضمائر والذمم والأديان لأجل تدعيم ملكه ، والقضاء على حكومة الإمام ، استعمل في سبيل هذه الغاية كل وسيلة ، وسلك كل طريق لأن « الغاية تبرر الواسطة » والرشوة التي استعملها كانت ذات طوابع مختلفة وهي :

أ ـ منح الوظائف المهمة ، والمناصب الخطيرة في الدولة كالولاية على قطر من الأقطار أو القيادة العامة على جيش من جيوشه لمن غدر بالإمام الحسن ، واستجاب له.

ب ـ بذل الأموال الضخمة من المائة ألف فما فوق.

٩٨

ج ـ الوعد بتزويج إحدى بناته ، ومن الغريب ان تتوصل خساسة الرشوة الى مثل هذا اللون الذي ينم عن انحطاط النفس وتماديها في الرذائل والموبقات.

ودلت هذه الأساليب على دراسة معاوية لنفوس العراقيين ، فقد عرف الأشخاص الذي تشترى ضمائرهم بالمادة فبذلها لهم بسخاء ، والأشخاص الذين لا يقيمون وزنا للمادة منّاهم بالوظائف والنفوذ ، والأشخاص الذين يحبون الاتصال والقرب منه منّاهم بزواج إحدى بناته ، وقد نص على هذه الجهات الصدوقرحمه‌الله فى كلامه قال :

« وبعث معاوية لكل من عمرو بن حريث(١) ، والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر(٢) عينا من عيونه يمنى كل واحد منهم بقيادة جند من

__________________

(١) عمرو بن حريث بن عثمان القرشي المخزومى الكوفي ، كان عمره يوم توفى رسول الله (ص) اثنى عشر سنة ، وكان من الطلقاء الصغار ولى الكوفة عن زياد وابنه عبيد الله توفى سنة ٨٥ وقيل ٩٨ هج تهذيب التهذيب ٧ / ١٧.

(٢) حجار بن أبجر العجلي كان أبوه نصرانيا فقال له : يا أبت أرى قوما قد دخلوا فى هذا الدين فشرفوا وقد أردت الدخول فيه ، فقال له أبوه : يا بني أصبر حتى أقدم معك على عمر ليشرفك ، وإياك أن تكون لك همة دون الغاية القصوى ، ووفد على عمر فقال أبجر لعمر : أشهد أن لا إله إلا الله وأن حجارا يشهد أن محمدا رسول الله ، فقال عمر : وما يمنعك أن تقولها أنت؟ فقال أبجر : « إنما أنا هامة اليوم أو غد ». وذكر المرزباني في معجم الشعراء : إن أبجر مات على نصرانيته في زمن أمير المؤمنين علي (ع) قبل قتله بيسير ، ولما مات شيّعته النصارى ، وكان حجار يمشي فى جانب مع أناس من المسلمين ، جاء ذلك فى الاصابة ١ / ٣٧٣. وجاء في كثير من المصادر التاريخية : أن حجارا كان من الأشخاص الذين راسلوا سيد الشهداء الحسين (ع) بالقدوم الى العراق ، ولما قدم (ع) الى العراق كان هذا الأثيم في طليعة الواثبين عليه.

٩٩

جنوده ، أو بتزويج إحدى بناته ، أو بمائة ألف درهم إن هم قتلوا الحسن وقد بلغه ذلك فاستلأم(١) ولبس درعا ، فكان لا يتقدم للصلاة إلا وعليه وقاية »(٢) .

تأثير الرشوة :

واستجابت النفوس المريضة التي لم يهذبها الدين الى دعوى معاوية ، وانجرفت بدنياه الحلوة وانخدعت بوعوده المعسولة ، فأخذت تتهاوى على أعتابه ملبية طلباته ، وممتثلة لأمره ، فراسله جمع من الأشراف والوجوه والبارزين برسائل متعددة أعربوا فيها عن استعدادهم الى الفتك بالإمام متى طلب وأراد وهي ذات مضمونين :

١ ـ تسليم الحسن له سرا أو جهرا.

٢ ـ اغتياله وقتله متى أراد ذلك.

وقد بعث معاوية بتلكم الرسائل الى الإمام ليطلع فيها على خيانة جيشه ، وعند ما عرضت عليه تلك الرسائل أيقن بفسادهم وتخاذلهم وسوء نياتهم(٣) .

ومن تأثير الرشوة على تلك النفوس المريضة التي انمحت عنها جميع النواميس الإنسانية ، ان الإمام (ع) وجه قائدا من كندة فى أربعة آلاف وأمره أن يعسكر بالأنبار وأن لا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره ، فلما نزل بها عرف معاوية فوجّه إليه رسولا وكتب معه « إنك إن أقبلت إليّ أو لك بعض كور الشام والجزيرة غير منفس عليك » وأرسل إليه بخمسمائة ألف

__________________

(١) استلأم : أي لبس لامة حربه.

(٢) علل الشرائع ص ٨٤.

(٣) جنات الخلود الفصل التاسع منه ، وكشف الغمة ص ١٥٤ وغيرها.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529