حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307299 / تحميل: 6765
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.

مع أنّ المراد غير ذلك، بل المراد أنّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدّة والقسوة إلى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل، وأفئدتهم، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدّة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.

فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.

منها قوله سبحانه:( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (١) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى، فدعاهم فلم يؤمنوا، فسأل الله أن يعذّبهم، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا، فكشفه الله عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى الله سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس، هل كان ظنّاً قائماً بمشاعره، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردّد في ذهن غيرهم، فكيف الأنبياء ؟! بل المراد أنّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان

_____________________

١ - الأنبياء: ٨٧.

٨١

ممثّلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس، وبين كون عمله مجسّماً وممثّلاً لهذا الظن في كل مَن رآه وشاهده ؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.

ومنها: قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة، ولمّا خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم، ضيّق عليهم النبي، فلجأوا إلى حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه:( هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) (١) .

فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة ؟ هل كانوا يظنّون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من الله ؟ فإنّ ذلك بعيد جداً، فإنّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير أنّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوّته كان يحكى عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.

ولذلك نظائر في المحاورات العرفية، فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها، والبانين للقصور المشيّدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة، وأنّ الموت كأنّه كتب على غيرهم، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكنّ بالمعنى الذي عرفت: أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن، ومصدر هذه النسبة.

وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة

_____________________

١ - الحشر: ٢.

٨٢

حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألدّاء، وكان المؤمنون بهم في قلّة، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل، والبأساء والضرّاء، مظنّة لأن يتخيّل كل مَن وقف عليها من نبي وغيره، أنّ ما وعدوا به وعد غير صادق، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه، للمؤمنين، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول:( فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين ) (١) .

ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (٢) .

فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين، فعندما كانت البأساء والضرّاء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّ-ها كانت تحبس الأنفاس، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجّر في شكل ضراعة إلى الله، فيقول الرسول والذين آمنوا معه( متى نصر الله ) ؟ فإنّ كلمة( متى نصر الله ) مقرونة بالضراعة والالتماس، تقع مظنّة تصوّر استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.

وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.

هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس ممّا ذكرناه.

_____________________

١ - يوسف: ١١٠.

٢ - البقرة: ٢١٤.

٨٣

الآية الثانية:

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) .

( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) (٢) .

( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ ) (٣) .

وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء، وقد استغلّها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.

وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسّر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخّل في الوحي النازل عليه فيغيّره إلى غير ما نزل به.

ثم إنّه سبحانه يمحو ما يُلقي الشيطان ويصحّح ما أُنزل على رسوله من الآيات، فلو كان هذا مفاد الآية، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلّمين على المصونية في هذا المجال.

وربّما يؤيّد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية، وسيوافيك نصّه وما فيه من الإشكال.

_____________________

١ - الحج: ٥٢.

٢ - الحج: ٥٣.

٣ - الحج: ٥٤.

٨٤

فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن أنّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدلّ، فنقول: يجب توضيح نقاطٍ في الآيات.

الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه:( إذا تمنّى ) ؟

الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول الله سبحانه:( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ؟

الثالثة : ما معنى نسخ الله سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله:( ثمّ يحكم الله آياته ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟

الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها ؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين، وإخبات قلوبهم له ؟

وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول:

١ - ما معنى أُمنية الرسول أو النبي ؟

أمّا الأُمنية قال ابن فارس: فهي من المنى، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به، منه قولهم: مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي:

لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ

حتى تلاقي ما يمني لك الماني

والمنا: القدر، وماء الإنسان: منيّ، أي يُقدّر منه خلقته والمنيّة: الموت؛ لأنّها مقدّرة على كل أحد، وتمنّى الإنسان: أمل يقدّره، ومنى مكّة: قال قوم: سمّي به لما قُدّر أن يُذبح فيه، من قولك مناه الله(١) .

_____________________

١ - المقاييس: ٥/٢٧٦.

٨٥

وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز، ولا يشك مَن سبر الذكر الحكيم أنّه لم يكن للرسل والأنبياء، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً، وكانوا يخطّطون لهذا الأمر، ويفكّرون في الخطّة بعد الخطّة، ويمهّدون له قدر مستطاعهم، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها:

يقول سبحانه في حق النبي الأكرم:( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤمِنين َ) (١) .

ويقول أيضاً:( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) (٢) .

ويقول أيضاً:( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ ) (٣) .

ويقول سبحانه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (٤) .

ويقول سبحانه:( فَذَكّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِرٍ ) (٥) .

هذا كلّه في حق النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته:( وَإِنّي كُلَّما

_____________________

١ - يوسف: ١٠٣.

٢ - فاطر: ٨.

٣ - النحل: ٣٧.

٤ - القصص: ٥٦.

٥ - الغاشية: ٢١ - ٢٢.

٨٦

دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ) (١) .

ويقول سبحانه بعد عدّةٍ من الآيات:( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّ خَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً ) (٢) .

فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم، وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى الله، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن، وإن منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع؛ فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.

إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل، وهلمّ معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني، أعني:

٢ - ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل ؟

وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح، فنقول: إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين:

١ - أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم، وأنّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية، فتظهر بسبب

_____________________

١ - نوح: ٧ - ٩.

٢ - نوح: ٢١ - ٢٤.

٨٧

ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.

ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنصّ القرآن الكريم؛ لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد، والقرآن الكريم ينفي تسلّل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم، ويقول سبحانه:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) (١) .

ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان:( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (٢) .

وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفيّ بنص الآيات.

٢ - أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياءعليهم‌السلام والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخطّطاتهم عقيمة غير مفيدة.

وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحضّ أقوام الأنبياءعليهم‌السلام على المخالفة ويعدهم بالأماني، حتى يخالفوهم.

قال سبحانه:( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ) (٣) .

_____________________

١ - الحجر: ٤٢، الإسراء: ٦٥.

٢ - ص: ٨٢ - ٨٣.

٣ - النساء: ١٢٠.

٨٨

وقال سبحانه:( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِىَ الأمرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدّة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني، وعند ذلك يتضح مفاد الآية، قال سبحانه:( وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلاّ إذا تمنّى ) أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط، وهيّأ لذلك المقدّمات( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) (بحضّ الناس على المخالفة والمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدّمات عقيمة غير منتجة ).

٣ - ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟

إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه: ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) وما معنى هذا النسخ ؟

والمراد من ذاك النسخ ما وعد الله سبحانه رسله بالنصر، والعون والإنجاح، قال سبحانه:( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) ، وقال سبحانه:( كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِىّ عَزِيزٌ ) (٣) ، وقال سبحانه:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) (٤) .

_____________________

١ - إبراهيم: ٢٢.

٢ - غافر: ٥١.

٣ - المجادلة: ٢١.

٤ - الأنبياء: ١٨.

٨٩

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) (١) .

وقال في حق النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه:( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُها عباديَ الصّالِحُونَ ) (٣) .

إلى غير ذلك من الآيات الساطعة التي تحكي عن انتصار الحق الممثّل في الرسالات الإلهية في صراعها مع الباطل وأتباعه.

٤ - ما معنى إحكامه سبحانه آياته ؟

إذا تبيّن معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان، يتبيّن المراد من قوله سبحانه:( ثمّ يحكم الله آياته ) .

فالمراد من الآيات هي الدلائل الناصعة الهادية إلى الله سبحانه وإلى مرضاته وشرائعه.

وإن شئت قلت: إذا نسخ ما يلقيه الشيطان، يخلفه ما يلقيه سبحانه إلى أنبيائه من الآيات الهادية إلى رضاه أوّلاً، وسعادة الناس ثانياً.

ومن أسخف القول: إنّ المراد من الآيات، الآيات القرآنية التي نزلت على النبي الأكرم؛ وذلك لأنّ موضوع البحث فيها ليس خصوص النبي الأكرم، بل الرسل والأنبياء على وجه الإطلاق أضف إليه أنّه ليس كل نبيٍّ ذا كتاب وآيات ،

_____________________

١ - الصافات: ١٧١ - ١٧٣.

٢ - التوبة: ٣٣.

٣ - الأنبياء: ١٠٥.

٩٠

فكيف يمكن أن يكون ذا قرآن مثله ؟

ويعود مفاد الجملة إلى أنّ الله سبحانه يحكم دينه وشرائعه وما أنزله الله إلى أنبيائه وسفرائه من الكتاب والحكمة.

والحاصل: إنّ في مجال الصراع بين أنصار الحق وجنود الباطل يكون الانتصار والظفر للأوّل، والاندحار والهزيمة للثاني، فتضمحل الخطط الشيطانية وتنهزم أذنابه بإرادة الله سبحانه، فتخلفها البرامج الحيوية الإلهية وآياته الناصعة، فيصبح الحق قائماً وثابتاً، والباطل داثراً وزاهقاً، قال سبحانه:( وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (١) .

٥ - ما هي النتيجة من هذا الصراع ؟

قد عرفت أنّ الآية تعلّل الهدف من هذا الصراع بأنّ ما يلقيه الشيطان يكون فتنة لطوائف ثلاث:

١ - الذين في قلوبهم مرض.

٢ - ذات القلوب القاسية.

٣ - الذين أُوتوا العلم.

إنّ نتيجة هذا الصراع تعود إلى اختبار الناس وامتحانهم حتى يظهروا ما في مكامن نفوسهم وضمائر قلوبهم من الكفر والنفاق أو من الإخلاص والإيمان.

فالنفوس المريضة التي لم تنلها التزكية والتربية الإلهية، والقلوب القاسية التي أسّرتها الشهوات، وأعمتها زبارج الحياة الدنيا، تتسابق إلى دعوة الشيطان

_____________________

١ - الإسراء: ٨١.

٩١

وتتبعه فيظهر ما في مكامنها من الكفر والقسوة، فيثبت نفاقها ويظهر كفرها.

وأمّا النفوس المؤمنة الواقفة على أنّ ما جاء به الرسل حق من جانب الله سبحانه، فلا يزيدها ذلك إلاّ إيماناً وثباتاً وهداية وصموداً.

وهذه النتيجة حاكمة في عامّة اختبارات الله سبحانه لعباده، فإنّ اختباراته سبحانه ليس لأجل العلم بواقع النفوس ومكامنها، فإنّه يعلم بها قبل اختبارها( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ ) (١) ، وإنّما الهدف من الاختبار هو إخراج تلك القوى والقابليات الكامنة في النفوس والقلوب، إلى عالم التحقّق والفعلية وبالتالي تمكين الاستعدادات من الظهور والوجود.

وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام في معنى الاختبار بالأموال والأولاد الوارد في قوله:( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَولادُكُمْ فِتْنَةٌ ) (٢) : ( ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب)(٣) .

وقد وقفت بعد ما حرّرت هذا على كلام لفقيد العلم والتفسير الشيخ محمد جواد البلاغي - قدّس الله سرّه - وهو قريب ممّا ذكرناه: قال: المراد من الأُمنية هو الشيء المتمنّى كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر، كما أنّ الظاهر من التمنّي المنسوب إلى الرسول والنبي، ويشهد به سوق الآيات، هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما، وهو تمنّي ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى، وتأييد شريعة الحق، ونحو ذلك، فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمّنى

_____________________

١ - الملك: ١٤.

٢ - الأنفال: ٢٨.

٣ - نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم: ٩٣.

٩٢

الصالح ما يشوّشه، ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض، كما ألقى بين أُمّة موسى من الضلال والغواية ما ألقى، وألقى بين أتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم، وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم، وأحكام الشريعة بعده، وألقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه، وبين أُمّته ما أوجب الخلاف وظهور البدع فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق، ثم يحكم الله آياته ويؤيّد حججه بإرسال الرسل، أو تسديد جامعة الدين القيم(١) .

وما ذكره - قدّس الله سرّه - كلام لا غبار عليه، وقد شيّدنا أساسه فيما سبق.

إلى هنا تبيّن مفاد جميع مقاطع الآية بوضوح وبقي الكلام في التفسير السخيف الذي تمسّك به بعض القساوسة الطاعنين في الإسلام، ومَن حذا حذوهم من البسطاء.

التفسير الباطل للآية

ثمّ إنّ بعض القساوسة الذين أرادوا الطعن في الإسلام والتنقيص من شأن القرآن، تمسّكوا بهذه الآية وقالوا: بأنّ المراد من الآية هو أنّ ( ما من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنّى وتلا الآيات النازلة عليه تدخّل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس منها ) واستشهدوا لذلك التفسير بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نادٍ من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذٍ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه( وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) (٢) فقرأهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا بلغ:( أفَرأيتُمُ اللاَّتَ والعُزّى * ومَناةَ الثالِثَةَ الأُخْرى ) (٣) ألقى عليه الشيطان كلمتين: ( تلك

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٤.

٢ - النجم: ١ - ٢.

٣ - النجم: ١٩ - ٢٠.

٩٣

الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى ) فتكلّم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها، فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به وقالوا قد عرفنا: إنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، قالا: فلمّا أمسى أتاه جبرائيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة، فلمّا بلغ الكلمتين اللّتين ألقى الشيطان عليه، قال ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله إليه:( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ ) إلى قوله:

( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) (١) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِىٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ ما يلقِي الشَّيطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ واللهُ عَليِمٌ حَكِيمٌ ) قال فسمع مَن كان من المهاجرين بأرض الحبشة أنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان(٢) .

ولا يخفى ما في هذا التفسير وشأن النزول من الإشكالات التي تسقطه عن صحّة الاستناد إليه.

أمّا أوّلاً: فلأنّه مبني على أنّ قوله ( تمنّى ) بمعنى تلا، وأنّ لفظة ( أُمنيته ) بمعنى تلاوته، وهذا الاستعمال ليس مأنوساً في لغة القرآن والحديث، ولو صحّ فإنّما هو استعمال شاذ يجب تنزيه القرآن عنه.

_____________________

١ - الإسراء: ٧٣، ٧٥.

٢ - تفسير الطبري: ١٧/١٣١، ونقله السيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية.

٩٤

نعم استدلّ بعضهم بقول حسّان على ذاك الاستعمال:

تمنّى كتاب الله أوّل ليلةٍ

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر:

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزبور على رسل

وهذان البيتان لو صحّ إسنادهما إلى عربي صميم كحسّان لا يحسن حمل القرآن على لغة شاذّة.

أضف إلى ذلك أنّ البيت غير موجود في ديوان حسّان، وإنّما نقله عنه المفسّرون في تفاسيرهم، وقد نقله أبو حيان في تفسيره (ج٦ ص٣٨٢) واستشهد به صاحب المقاييس (ج٥ ص٢٧٧).

ولو صحّ الاستدلال به فرضاً فإنّما يتم في اللفظ الأوّل دون الأُمنية لعدم ورودها فيه.

وثانياً: أنّ الرواية لا يمكن أن يحتج بها لجهات كثيرة أقلّها أنّها لا تتجاوز في طرقها عن التابعين ومن هو دونهم إلاّ إلى ابن عباس مع أنّه لم يكن مولوداً في الوقت المجعول للقصّة.

أضف إلى ذلك، الاضطراب الموجود في متنها فقد نقل بصور مختلفة يبلغ عدد الاختلاف إلى أربع وعشرين صورة، وقد جمع تلك الصور المختلفة العلاّمة البلاغي في أثره النفيس، فلاحظ(١) .

وثالثاً: أنّ القصة تكذّب نفسها؛ لأنّها تتضمّن أنّ النبي بعد ما أدخل الجملتين الزائدتين في ثنايا الآيات، استرسل في تلاوة بقيّة السورة إلى آخرها

_____________________

١ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٩٥

وسجد النبي والمشركون الحاضرون معه، فرحاً بما جاء في تينك الجملتين من الثناء على آلهتهم.

ولكنّ الآيات التي وقعت بعدهما، واسترسل النبي في تلاوتها عبارة عن قوله سبحانه:( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى * إِنْ هيَ إِلاّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباوَكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ) (١) إلى آخر الآيات.

وعندئذ يطرح هذا السؤال، وهو أنّه كيف رضي متكلّم العرب ومنطيقهم وحكيمهم وشاعرهم: الوليد بن المغيرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الثناء القصير، وغفل عن الآيات اللاحقة التي تندّد بآلهتهم بشدّة وعنف، ويعدّها معبودات خرافية لا تملك من الإلوهية إلاّ الاسم والعنوان ؟!

أو ليس ذلك دليلاً على أنّ جاعل القصّة من الوضّاعين الكذّابين الذي افتعل القصّة في موضع غفل عن أنّه ليس محلاًّ لها، وقد قيل: لا ذاكرة لكذوب.

ورابعاً: أنّ الله سبحانه يصف في صدر السورة نبيّه الأكرم بقوله:( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْىٌ يُوحى ) (٢) ، وعندئذ كيف يصح له سبحانه أن يصف نبيّه في أوّل السورة بهذا الوصف، ثم يبدر من نبيّه ما ينافي هذا التوصيف أشدّ المنافاة، وفي وسعه سبحانه صون نبيّه عن الانزلاق إلى مثل هذا المنزلق الخطير ؟!

وخامساً: أنّ الجملتين الزائدتين اللّتين أُلصقتا بالآيات، تكذّبهما سائر الآيات الدالة على صيانة النبي الأكرم في مقام تلقّي الوحي والتحفّظ عليه وإبلاغه كما مرّ في تفسير قوله سبحانه:( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ) (٣) .

_____________________

١ - النجم: ٢٢ - ٢٣.

٢ - النجم: ٣ - ٤.

٣ - الجن: ٢٧.

٩٦

وقوله تعالى:( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاويل * لأخذنا مِنْهُ بِالْيَمينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١) .

وسادساً: أنّ علماء الإسلام، وأهل العلم والدراية من المسلمين، قد واجهوا هذه الحكاية بالرد، فوصفها المرتضى بالخرافة التي وضعوها(٢) .

وقال النسفي: إنّ القول بها غير مَرْضيّ وقال الخازن في تفسيره: إنّ العلماء وهّنوا أصل القصّة ولم يروها أحد من أهل الصحّة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنّما رواها المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، الملفّقون من الصحف كل صحيح وسقيم، والذي يدل على ضعف هذه القصّة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها(٣) .

هذه هي أهم الإشكالات التي ترد على القصّة وتجعلها في موضع من البطلان قد ذكرها المحقّقون في الرد على هذه القصّة وقد ذكرنا قسماً منها في كتابنا ( فروغ أبديت )(٤) ، ولا نطيل المقام بذكرها.

_____________________

١ - الحاقة: ٤٤ - ٤٦.

٢ - تنزيه الأنبياء: ١٠٩.

٣ - الهدى إلى دين المصطفى: ١/١٣٠.

٤ - كتاب أُلّف في بيان سيرة النبي الأكرم من ولادته إلى وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد طُبع في جزأين.

٩٧

الطائفة الثانية

ما يمسّ عصمة عدّة خاصّة من الأنبياء

فهذه الطائفة عبارة عن الآيات التي تمسّ بظاهرها عصمة بعض الأنبياء بصورة جزئية وها نحن نذكرها واحدة بعد أُخرى.

- ١ -

عصمة آدمعليه‌السلام والشجرة المنهي عنها

وجعل الشريك لله

وقد طرحنا في هذه الطائفة أبرز الآيات التي وقعت ذريعة بأيدي المخطّئة في مجال نفي العصمة عن عدّة معيّنة من الأنبياء، وراعينا الترتيب التاريخي لهم، فنقدّم البحث عن عصمة آدمعليه‌السلام على البحث عن عصمة نوحعليه‌السلام وهكذا.

إنّ حديث الشجرة المنهيّ عنها هو أقوى ما تمسّك به المخالفون للعصمة المجوّزون صدور المعصية من الرسل والأنبياء، ويعدّ ذلك في منطقهم ( كبيت القصيد ) في ذلك المجال، ولأجل ذلك ينبغي التوسّع في البحث واستقصاء ما يمكن أن يقع ذريعة في يد المخالف فنقول:

٩٨

إنّ حديث الشجرة ورد على وجه التفصيل في سور ثلاث، نذكر منها ما يتعلّق بمورد البحث قال سبحانه:( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الْشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتاعٌ إِلَى حِين * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (١) .

ويقول سبحانه:( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُرِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءاتِهِما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ إلاّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ * فَدَلاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُما رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوّ مُبينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِر لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (٢) .

فأنت ترى أنّه سبحانه يتوسّع في بيان القصّة في هذه السورة، بينما هو يختصر في بيانها في السورة السابقة، ووجه ذلك أنّ سورة الأعراف مكّيّة وسورة البقرة مدنية، ولمّا توسّع في البيان في السورة المتقدّمة أوجز في السورة اللاحقة ولم يفصّل.

____________________

١ - البقرة: ٣٥ - ٣٧.

٢ - الأعراف: ١٩ - ٢٤.

٩٩

ويقول سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا ولا تَعْرَى * وَأنَّكَ لا تَظْمَؤا فِيَها ولا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُما وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ مِنّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (١) .

هذه السور الثلاث قد احتوت على مهمّات هذه القصّة، فينبغي علينا توضيح ما ورد فيها من الجمل والكلمات التي تعتبر مثاراً للتساؤلات الآتية:

التساؤلات حول الآيات

إنّ التساؤلات المطروحة حول الآيات عبارة عن:

١ - ما هي نوعية النهي في قوله تعالى:( لا تقربا ) ؟

٢ - ما هو المراد من وسوسة الشيطان لآدم وزوجته ؟

٣ - ماذا يراد من قوله:( فأزلّهما الشيطان ) ؟

٤ - ماذا يراد من قوله:( فعصى آدم ربّه فغوى ) وهل العصيان والغواية يلازمان المعصية المصطلحة ؟

٥ - ما معنى اعتراف آدم بظلمه لنفسه في قوله:( ربّنا ظلمنا أنفسنا ) ؟

____________________

١ - طه: ١١٥ - ١٢٣.

١٠٠

وليس في تاريخ هذا الشرق ولا في غيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في عدله ونزاهته ، وإيثاره للحقّ على كلّ شيء ، فقد كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ لمْ يخضع لأيّة نزعة عاطفية ، ولمْ يستجب لأي هوى مطاع ، وإنّما سار على الطريق الواضح والمنهج السليم الذي سلكه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يحاب ولمْ يداهن في دينه ، وتبنّى النصح الخالص لجميع المسلمين ، وقد حاول جاهداً أيّام حكومته أنْ يرفعَ راية الإسلام ويحقّق مبادئه التي كان منها رفع الحيف والظلم ، ومنع الاستغلال ، وإزالة الفوارق بين أبناء المسلمين.

وكان مِن أعظم ما عنى به وضع أموال الدولة في مواضعها ، فلمْ ينفقَ أيّ شيء منها إلاّ على مرافقها التي عيّنها الإسلام ، وما تاجر بها ، ولو اشترى بها العواطف والضمائر ـ كما كان يفعل معاوية ـ لما تنكّر عليه النفعيون في جيشه ، كالأشعث بن قيس وغيره مِن أقطاب الخيانة والعمالة. لقد احتاط في أموال الدولة كأشدّ ما يكون الاحتياط ، وأجهد نفسه وحمّلها مِنْ أمره رهقاً مِنْ أجل أنْ يبسط العدل الاقتصادي بين الناس.

يقول عبد الله بن رزين : دخلت على علي (عليه السّلام) يوم الأضحى ، فقرّب إلينا حريرة ، فقلت له : أصلحك الله! لو قرّبت إلينا مِن هذا البط فإنّ الله قد أكثر الخير. فقال : «يا بن رزين ، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : لا يحلّ لخليفة مِن مال الله إلاّ قصعتان ؛ قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يضعها بين يدي الناس»(١) .

وقد نقم على سياسته كلّ مَنْ استسلم لدوافع المادة وشهواتها ، فراحوا يعملون جاهدين للإطاحة بحكومته ، وتشكيل حكومة تضمن مصالحهم الاقتصادية والسياسية. ومِن المؤكد أنّ الإمام (عليه السّلام) كان يعلم كيف يجلب له الطاعة ، وكيف يبسط

__________________

(١) جواهر المطالب ـ شمس الدين أبو البركات / ٤٣ ، مِن مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

١٠١

سلطانه ونفوذه على اُولئك الذين نقموا عليه ، ولكن ذلك لا يتم إلاّ بأنْ يداهن في دينه ، فيوارب ويخادع ، ويعطي المال في غير حقّه ، فيكون كبقية عشّاق المُلْك والسلطان. ومِن الطبيعي إنّ الانحراف عن الحقّ والمتاجرة بمصالح الأُمّة ممّا يأباه علي (عليه السّلام) ، وتأباه مُثُلُه العليا ، فلا السلطة تغريه ، ولا اجتماع الناس حوله تزيده عزّة ، ولا تفرّقهم عنه تزيده وحشة كما كان يقول.

لقد كان الإمام (عليه السّلام) يؤمن إيماناً خالصاً بالدين ، ويرى مِن الضرورة أنْ يكون هو المسيطر على قلوب الناس وتفكيرهم ، وأنْ لا يكون هناك أيّ ظلّ للمنافع والأهواء. وممّا لا شك فيه أنّ هذا النوع الخالص مِن الإيمان لمْ يتحقّق إلاّ للقلة القليلة مِن أصحابه ، كحِجْر بن عدي ، ومالك الأشتر ، وعدي بن حاتم ، وميثم التمّار ونظرائهم ممّن تغذّوا بهديه ، وهم الذين قرؤوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، وأحيوا السُنّة وأماتوا البدعة على حدّ تعبيره. أمّا الأكثرية الساحقة مِن جيشه وشعبه ، فإنّهم لمْ يعوا أهدافه ومبادئه ، وجهلوا القيم العليا في سياسته المشرقة التي كانت تهدف إلى ضمان حقوق المظلومين والمضطهدين.

لقد تحرّج الإمام (عليه السّلام) في سلوكه السياسي ، فأخضع سياسته العامّة للقيم الدينية والخلقية ؛ فبسط الحقّ بجميع رحابه ومفاهيمه ، ولمْ يعد أي نفوذ للأقوياء ، ولا سلطان للرأسمالية القرشية التي كانت تعتبر السواد بستاناً لقريش. وقد هبّت القوى المنحرفة عن الحقّ في وجه الإمام (عليه السّلام) فأشعلت نار الحرب ، وأوقفت مسيرة الإمام (عليه السّلام) في تطبيق العدل الاجتماعي ، ووضعت السدود والحواجز في طريقه.

وقد وقف الإمام العظيم ملتاعاً حزيناً ، قد احتوشته ذئاب الإثرة والاستغلال ، وتناهبت مشاعره الأحداث المُفزعة التي تواكبت عليه ، وكان مِن أفجعها الفتن الداخلية التي كانت تثيرها الخوارج ، الذين كانوا يعيشون معه ، وهم يجاهرونه بالعداء ، وينشرون الفتن والاختلاف ، ويتربصون

١٠٢

الفرص للخروج عليه.

مؤتمرُ مكة :

ونزح فريق مِن الخوارج إلى مكة فعقدوا فيها مؤتمراً ، عرضوا فيه مصارع إخوانهم الذين قتلوا في النهروان ، كما عرضوا فيه الأحداث الجسام التي يواجهها العالم الإسلامي والتي أدّت إلى اختلافه وتفكّكه ، وعزوها إلى ثلاث ـ حسب ما يزعمون ـ : الإمام علي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص.

وقد عقدوا النيّة بعد تبادل الرأي على القيام باغتيالهم ، وانبرى لتنفيذ هذا المخطط كلّ مِنْ.

١ ـ عبد الرحمن بن ملجم : تعهد بقتل الإمام علي (عليه السّلام).

٢ ـ الحجّاج بن عبد الله الصريمي : تعهد بقتل معاوية.

٣ ـ عمرو بن بكر التميمي : التزم بقتل ابن العاص.

وقد اتفقوا على القيام بعملية الاغتيال في ليلة الثامن عشر مِن رمضان ، ساعة خروج هؤلاء الثلاثة إلى صلاة الصبح ، وقد أقاموا بمكة أشهراً ، واعتمروا في رجب ، ثمّ تفرّقوا وقصد كلّ واحد لتنفيذ ما عهد إليه.

رأيٌ رخيص :

مِن الآراء الزائفة التي تحملها بعض الكتب ما ذهب إليه الدكتور (بديع شريف) مِن اتّهام الفرس بقتل علي(١) ، وهل وقف الدكتور على نسب ابن ملجم وأنّه كان فارسياً؟! أليس هو مِن مراد إحدى القبائل

__________________

(١) الصراع بين الموالي والعرب / ٣٢ ـ ٣٣.

١٠٣

العربية التي كانت تقطن في الكوفة؟! وعلّق الدكتور نوري جعفر على هذا الرأي بقوله : ومَنْ يدري! فلعلّ حبّ الفرس لعلي هو الذي جعل هؤلاء الكتّاب يبغضونهم ، ويكيلون لهم التهم بغير حساب(١) .

اشتراكُ الاُمويِّين في المؤامرة :

وذكر المؤرّخون هذا الحادث الخطير بشيء كثير مِن التحفّظ ، فلمْ يكشفوا النقاب عن أبعاده ، والذي نراه في كثير مِن الترجيح أنّ المؤامرة لمْ تكن مقتصرة على الخوارج ، وإنّما كان للحزب الاُموي ضلع كبير فيها ، والذي يدعم ذلك ما يلي :

١ ـ أنّ أبا الأسود الدؤلي ألقى تبعة مقتل الإمام (عليه السّلام) على بني اُميّة ، وذلك في مقطوعته التي رثا بها الإمام (عليه السّلام) ، فقد جاء فيها :

ألا أبلغ معاويةَ بنَ حربٍ

فلا قرّت عيونُ الشامتينا

أفي شهر الصيامِ فجعتمونا

بخيرِ الناس طُرّاً أجمعينا

قتلتُمْ خيرَ مَنْ ركب المطايا

ورحّلها ومَنْ ركب السفينا(٢)

ومعنى هذه الأبيات أنّ معاوية هو الذي فجع المسلمين بقتل الإمام (عليه السّلام) ، الذي هو خير الناس ، فهو مسؤول عن إراقة دمه. ومِن الطبيعي أنّ أبا الأسود لمْ ينسب هذه الجريمة لمعاوية إلاّ بعد التأكد منها ، فقد كان الرجل متحرّجاً أشدّ التحرّج فيما يقول.

٢ ـ أنّ القاضي نعمان المصري ، وهو مِن المؤرّخين القُدامى ، قد ذكر قولاً في أنّ معاوية هو الذي دسّ ابن ملجم لاغتيال الإمام (عليه السّلام) ، قال ما نصه :

__________________

(١) الصراع بين الموالي ومبادئ الإسلام / ١٠٣.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٩٨.

١٠٤

وقيل : إنّ معاوية عامَلَه ـ أي عامل ابن ملجم ـ على ذلك ـ أي على اغتيال الإمام (عليه السّلام) ـ ودسّ إليه فيه ، وجعل له مالاً عليه(١) .

٣ ـ وممّا يؤكد اشتراك الحزب الاُموي في المؤامرة هو أنّ الأشعث بن قيس قد ساند ابن ملجم ، ورافقه أثناء عملية الاغتيال ، فقد قال له : النجا فقد فضحك الصبح. ولمّا سمعه حِجْر بن عدي صاح به : قتلته يا أعور! وكان الأشعث مِن أقوى العناصر المؤيدة للحزب الاُموي ، فهو الذي أرغم الإمام (عليه السّلام) على قبول التحكيم ، وهدّد الإمام (عليه السّلام) بالقتل قبل قتله بزمان قليل ، كما كان عيناً لمعاوية بالكوفة.

إنّ المؤامرة ـ كما يقول الرواة ـ قد أُحيطت بكثير مِن السرّ والكتمان ، فما الذي أوجب فهم الأشعث ودعمه لها لولا الإيعاز إليه مِن الخارج؟!

٤ ـ إنّ مؤتمر الخوارج قد انعقد في مكة أيّام موسم الحجّ ، وهي حافلة ـ مِن دون شك ـ بالكثيرين مِن أعضاء الحزب الاُموي الذين نزحوا إلى مكة لإشاعة الكراهية والنقمة على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وأغلب الظنّ أنّهم تعرّفوا على الخوارج الذين كانوا مِن أعدى الناس للإمام (عليه السّلام) ، فقاموا بالدعم الكامل لهم على اغتيال الإمام (عليه السّلام).

وممّا يساعد على ذلك أنّ الخوارج بعد انقضاء الموسم أقاموا بمكة إلى رجب ، فاعتمروا في البيت ، ثمّ نزحوا إلى تنفيذ مخططهم ، فمِن المحتمل أنْ يكونوا في طيلة هذه المدّة على اتصال دائم مع الحزب الاُموي ، وسائر الأحزاب الاُخرى المناهضة لحكم الإمام (عليه السّلام).

٥ ـ والذي يدعو إلى الاطمئنان في أنّ الحزب الاُموي كان له الضلع الكبير في هذه المؤامرة ، هو أنّ ابن ملجم كان معلّماً للقرآن(٢) ،

__________________

(١) المناقب والمثالب ـ القاضي نعمان المصري / ٩٨ ، مِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم.

(٢) لسان ميزان ٣ / ٤٤٠.

١٠٥

وكان يأخذ رزقه مِن بيت المال ، ولمْ تكن عنده أيّة سعة مالية ، فمِنْ أين له الأموال التي اشترى بها سيفه ـ الذي اغتال به الإمام (عليه السّلام) ـ بألف وسمّه بألف؟! ومِنْ أين له الأموال التي أعطاها مهراً لقطام ، وهو ثلاثة آلاف وعبد وقَينة؟! كلّ ذلك يدعو إلى الظنّ أنّه تلقّى دعماً مالياً مِن الاُمويِّين إزاء قيامه باغتيال الإمام (عليه السّلام).

٦ ـ وممّا يؤكد أنّ ابن ملجم كان عميلاً للحزب الاُموي هو أنّه كان على اتصال وثيق بعمرو بن العاص ، وزميلاً له منذ عهدٍ بعيدٍ ؛ فإنّه لمّا فتح ابن العاص مصر كان ابن ملجم معه ، وكان أثيراً عنده ، فقد أمره بالنزول بالقرب منه(١) .

وأكبر الظنّ أنّه أحاط ابن العاص علماً بما اتفق عليه مع زميليه مِن عملية الاغتيال له وللإمام (عليه السّلام) ومعاوية ؛ ولذا لمْ يخرج ابن العاص إلى الصلاة ، وإنّما استناب غيره ، فلم تكن نجاته وليدة مصادفة ، وإنّما جاءت وليدة مؤامرة حيكت اُصولها مع ابن العاص.

هذه بعض الاُمور التي توجب الظنّ باشتراك الحزب الاُموي في تدبير المؤامرة ودعمها.

اغتيالُ الإمام (عليه السّلام) :

وأطلّ على المسلمين شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ، وقد كان الإمام (عليه السّلام) على يقين بانتقاله إلى حظيرة القدس في بحر هذا الشهر العظيم ، فكان يجهد نفسه ويرهقها على أنْ يفطر على خبز الشعير وجريش الملح ، وأنْ لا يزيد على ثلاث لقم ـ حسب ما يقوله المؤرّخون ـ ، وكان يُحيي ليالي هذا الشهر بالعبادة.

ولمّا أقبلت ليلة الثامن عشر أحس الإمام (عليه السّلام) بنزول الرزء القاصم ،

__________________

(١) لسان ميزان ٣ / ٤٤٠.

١٠٦

فكان برماً تساوره الهموم والأحزان ، وجعل يتأمل في الكواكب ، وهي مرتعشة الضوء كأنّها ترسل أشعة حزنها إلى الأرض ، وطفق يقول :

«ما كذبتُ ولا كُذّبت ، إنّها الليلة التي وُعِدْتُ فيها».

وأنفق الإمام (عليه السّلام) ليله ساهراً ، وقد راودته ذكريات جهاده وعظيم عنائه في الإسلام ، وزاد وجيبه وشوقه لملاقاة ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ ليشكو إليه ما عاناه مِن أُمّته مِن الأود. وتوجّه الإمام (عليه السّلام) بمشاعره وعواطفه إلى الله يطلب منه الفوز والرضوان ، وقبل أنْ تشرق أنوار ذلك الفجر ـ الذي دام في ظلامه على البؤساء والمحرومين ـ انطلق الإمام (عليه السّلام) فأسبغ الوضوء ، وتهيّأ إلى الخروج مِن البيت ، فصاحت في وجهه وزّ ، كأنّها صاحب ملتاعة حزينة ، تُنذر بالخطر العظيم الذي سيدهم أرض العرب والمسلمين.

وتنبّأ الإمام مِن لوعتهن بنزول القضاء ، فقال : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، صوائح تتبعها نوائح»(١) . وخرج الإمام (عليه السّلام) إلى بيت الله ، فجعل يوقظ الناس على عادته إلى عبادة الله ، ثمّ شرع في صلاته ، وبينما هو ماثل بين يدي الله وذكره على شفتيه إذ هوى عليه المجرم الخبيث عبد الرحمن بن ملجم ، وهو يهتف بشعار الخوارج : (الحكم لله لا لك) ، فعلا رأس الإمام (عليه السّلام) بالسيف فقدّ جبهته الشريفة التي طالما عفّرها بالسجود لله ، وانتهت الضربة الغادرة إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر فيه إلاّ في سعادة الناس ، وجمعهم على صعيد الحقّ. ولمّا أحسّ الإمام (عليه السّلام) بلذع السيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة ، وانطلق صوته يدوّي في رحاب الجامع قائلاً : «فزتُ وربِّ الكعبة».

لقد كنتَ يا أمير المؤمنين أوّل الفائزين ، وأعظم الرابحين

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٩١.

١٠٧

بمرضاة الله ، فقد سايرتَ الحقّ منذ نعومة أظفارك ، فلمْ تداهن في دينك ، ولمْ تؤثر رضا أحدٍ على طاعة الله ، قد جاهدتَ وناضلتَ مِن أجل أنْ تعلو كلمة الله في الأرض ، ووقيتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنفسك ومُهجتك. لقد فزتَ ، وانتصرتْ مبادئك ، وبقيتَ أنت وحدك حديث الدهر بما تركته مِن سيرةٍ مشرقةٍ أضاءت سماء الدنيا ، وغذّت الأجيال بجوهر الحقّ والعدل.

وخفّ الناس مسرعين إلى الجامع حينما أُذيعَ مقتل الإمام (عليه السّلام) ، فوجدوه طريحاً في محرابه وهو يلهج بذكر الله ، قد نزف دمه. ثمّ حُمل إلى داره والناس تعجّ بالبكاء ، وهم يهتفون ـ بذوب الروح ـ : قُتلَ إمام الحقّ والعدل! قُتِلَ أبو الضعفاء وأخو الغرباء! واستقبلته عائلته بالصراخ ، فأمرهنَّ (عليه السّلام) بالخلود إلى الصبر. وغرق الإمام الحسن (عليه السّلام) بالبكاء ، فالتفت إليه الإمام (عليه السّلام) قائلاً : «يا بُني ، لا تبكِ فأنت تُقْتَلُ بالسمّ ، ويُقْتَلُ أخوك الحُسين بالسيف». وتحقّق تنبّؤ الإمام (عليه السّلام) ، فلمْ تمضِ حفنةٌ مِن السنين وإذا بالحسن (عليه السّلام) اغتاله معاوية بالسمّ فذابت أحشاؤه ، وأمّا الحُسين (عليه السّلام) فتناهبت جسمه السيوف والرماح ، وتقطّعت أوصاله على صعيد كربلاء.

ويقول المؤرّخون : إنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يكن حاضراً بالكوفة حينما اغتيل أبوه ، وإنّما كان في معسكر النخيلة قائداً لفرقة مِن الجيش الذي أعدّه الإمام (عليه السّلام) لمناجزة معاوية ، وقد أرسل إليه الإمام الحسن (عليه السّلام) رسولاً يعرّفه بما جرى على أبيه ، فقفل راجعاً إلى الكوفة وهو غارق بالأسى والشجون ، فوجد أباه على حافّة الموت ، فألقى بنفسه عليه يوسعه تقبيلاً ، ودموعه تتبلور على خديه.

١٠٨

وأخذ الإمام العظيم يوصي أولاده بالمُثل الكريمة والقيم الإنسانية ، وعهد إليهم أنْ لا يقتلوا غير قاتله ، وأنْ لا يتّخذوا مِنْ قتله سبباً لإثارة الفتنة وإراقة الدماء بين المسلمين ، كما فعل بنو اُميّة حينما قُتِلَ عميدهم عثمان.

الى رفيق الاعلى :

وأخذ الإمام (عليه السّلام) يعاني آلام الاحتضار وهو يتلو آيات الذكر الحكيم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى : «لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ». ثمّ فاضت روحه الزكية تحفّها ملائكة الرحمن ، فمادت أركان العدل في الأرض ، وانطمست معالم الدين. لقد مات ملاذ المنكوبين والمحرومين ، الذي جهد نفسه أنْ يقيم في ربوع هذا الكون دولة تكتسح الإثرة والاستغلال ، وتقيم العدل والحقّ بين الناس.

وقام سبطا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بتجهيز أبيهما ، فغسّلا جسده الطاهر وأدرجاه في أكفانه ، وفي الهزيع الأخير مِن الليل حملوه إلى مقرّه الأخير فدفنوه في النجف الأشرف ، وقد واروا معه العدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية لمّا وافاه النبأ بمقتل الإمام (عليه السّلام) فرح ، واتّخذ يوم قتله عيداً رسمياً في دمشق ، فقد تمّت بوارق آماله ، وتمّ له اتّخاذ المُلْك وسيلة لاستعباد المسلمين ، وإرغامهم على ما يكرهون.

متاركُ حكومة الإمام (عليه السّلام) :

وتركت حكومة الإمام (عليه السّلام) آثاراً بالغة الأهميّة والخطورة في المجتمع الإسلامي ، ولعلّ مِن أهمها ما يلي :

١٠٩

١ ـ أنّها أبرزت الواقع الإسلامي بجميع طاقاته في عالم السياسة والحكم ، فقد كان الإمام (عليه السّلام) يهدف في حكمه إلى إزالة الفوارق الاجتماعية بين الناس ، وتحقيق الفرض المتكافئة بينهم على اختلاف قومياتهم وأديانهم ، ومعاملة جميع الطوائف بروح المساواة والعدالة فيما بينهم مِن دون أنْ تتمتّع أي طائفة بامتيازٍ خاصٍ. وقد أوجدت هذه السياسة للإمام (عليه السّلام) رصيداً شعبياً هائلاً ، فقد ظلّ علي (عليه السّلام) قائماً في قلوب الجماهير الشعبية بما تركه مِنْ صنوف العدل والمساواة ، وقد هام بحبّه الأحرار ، ونظروا إليه كأعظم مصلح اجتماعي في الأرض ، وقدّموه على جميع أعلام تلك العصور.

يقول أيمن بن خريم الأسدي مخاطباً بني هاشم ، وعلى رأسهم الإمام (عليه السّلام) :

أأجعلُكمْ وأقواماً سواءً

وبينكُمُ وبينهمُ الهواءُ

وهمْ أرضٌ لأرجلِكُمْ وأنتمْ

لأرؤوسِهمْ وأعينِهم سماءُ(١)

٢ ـ أنّ مبادئ الإمام (عليه السّلام) وآراءه النيّرة ظلّت تطارد الاُمويِّين وتلاحقهم في قصورهم ، فكانوا ينظرون إليها شبحاً مُخيفاً يُهدّد سلطانهم ، ممّا جعلهم يفرضون سبّه على المنابر ؛ للحطّ مِن شأنه ، وصرْف الناس عن قِيَمه ومبادِئه.

٣ ـ أنّ حكومة الإمام (عليه السّلام) التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية الكبرى قد جرّت لأبنائه كثيراً مِن المشاكل والمصاعب ، وألحقت بهم التنكيل والقتل مِن حكّام عصرهم ، وقد تنبّأ النّبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، فقد روى أبو جعفر الإسكافي أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السّلام) فوجد عليّاً (عليه السّلام) نائماً ، فذهبت لتوقظه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «دعيه ، فرُبّ سهرٍ له بعدي طويل ، ورُبّ جفوةٍ لأهل بيتي مِنْ أجله». فبكت فاطمة (عليها السّلام) ، فقال لها : «لا تبكي فإنّه معي ، وفي موقف الكرامة عندي»(٢) .

__________________

(١) الأغاني ١ / ٢١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٧.

١١٠

لقد أمعن الحكم الاُموي والعباسي في ظلم أبناء الإمام (عليه السّلام) ؛ لأنّهم تبنَّوا حقوق المظلومين والمضطهدين ، وتبنَّوا المبادئ العليا التي رفع شعارها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فناضلوا كأشدّ ما يكون النضال في سبيل تحقيقها على مسرح الحياة.

وكان مِن أشدّ أبناء الإمام (عليه السّلام) حماساً واندفاعاً في حماية مبادئ أبيه الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد انطلق إلى ساحات الجهاد عازماً على الموت ، آيساً مِن الحياة ؛ ليحمي مبادئ جدّه وأبيه ، ويرفع راية الإسلام عاليةً خفّاقة ، وينكّس أعلام الشرك والإلحاد ، ويحطّم قيود العبودية والذلّ.

٤ ـ أوجد الإمام (عليه السّلام) في أثناء حكمه القصير وعياً أصيلاً في مقارعة الظلم ومناهضة الجور ، فقد هبّ في وجه الحكم الاُموي أعلام أصحابه كحِجْر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وعبد الله بن عفيف الأزدي وأمثالهم مِن الذين تربّوا بهدي الإمام (عليه السّلام) ، فدوّخوا اُولئك الظالمين بثورات متلاحقة أطاحت بزهوهم وجبروتهم. لقد كان حكم الإمام (عليه السّلام) ـ حقّاً ـ مدرسة للنضال والثورة ، ومدرسة لبث الوعي الديني والإدراك الاجتماعي ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن مخلّفات حكومة الإمام (عليه السّلام).

خلافةُ الحسن (عليه السّلام) :

وتقلّد الإمام الحسن (عليه السّلام) أزمة الخلافة الإسلامية بعد أبيه ، فتسلّم قيادة حكومة شكلية عصفت بها الفتن ، ومزّقت جيشها الحروب والأحزاب ، ولمْ تَعُدْ هناك أيّة قاعدة شعبية تستند إليها الدولة ، فقد كان الاتّجاه العام الذي يمثّله الوجوه والأشراف مع معاوية ، فقد كانوا على اتصال وثيق به قبل مقتل الإمام (عليه السّلام) وبعده ، كما كان لهم الدور الكبير في إفساد جيش الإمام (عليه السّلام) حينما مُنِيَ جيش معاوية بالهزيمة والفِرار. وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الإمام الحسن (عليه السّلام)

١١١

بعد أنْ تقلّد الخلافة أخذ يتهيّأ للحرب ، وقد أمر بعقد اجتماع عام في جامع الكوفة ، وقد حضرته القوات المسلّحة وغيرها ، وألقى الإمام (عليه السّلام) خطاباً رائعاً ومؤثراً دعا فيه إلى تلاحم القوى ووحدة الصف ، وحذّر فيه مِن الدعايات التي تبثّها أجهزة الحكم الاُموي ، ثمّ ندب الناس لحرب معاوية ، فلمّا سمعوا ذلك وجلت قلوبهم وكُمّتْ أفواههم ، ولمْ يستجب منهم أحد سوى البطل المُلهم عَدِي بن حاتم ، فانبرى يُعلن دعمه الكامل للإمام (عليه السّلام) ، ووجّه أعنف اللوم والتقريع لأهل الكوفة على موقفهم الانهزامي ، واستبان للإمام وغيره أنّ جيشه لا يريد الحرب ، فقد خلع يد الطاعة ، وانساب في ميادين العصيان والتمرّد.

وبعد جهود مكثّفة قام بها بعض المخلصين للإمام (عليه السّلام) نفر للحرب أخلاط مِن الناس ـ على حدّ تعبير الشيخ المُفيد ـ كان أكثرهم مِن الخوارج والشكّاكين وذوي الأطماع ، وهذه العناصر لمْ تؤمن بقضية الإمام (عليه السّلام) ، وقد تطعّمت بالخيانة والغدر.

ويقول الرواة : إنّ الإمام (عليه السّلام) أسند مقدمة قيادة جيشه لعبيد الله بن العباس ـ الذي وتره معاوية بابنيه ـ ليكون ذلك داعية إخلاص له ، وحينما التقى جيشه بجيش معاوية مدّ إليه معاوية أسلاك مكره ، فمنّاه بمليون درهم يدفع نصفه في الوقت ، والنصف الآخر إذا التحقّ به(١) . وسال لعاب عبيد الله فاستجاب لدنيا معاوية ، ومال عن الحقّ ، فالتحق بمعسكر الظلم والجور ومعه ثمانية آلاف مِن الجيش(٢) ، غير حافل بالخيانة والعار ، ولا بالأضرار الفظيعة التي ألحقها بجيش ابن عمّه ؛ فقد تفلّلت جميع وحداته وقواعده.

ولمْ تقتصر الخيانة على عبيد الله ، وإنّما خان غيره مِن كبار قادة ذلك

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ / ٢٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١.

١١٢

الجيش فالتحقوا بمعاوية ، وتركوا الإمام (عليه السّلام) في أرباض ذلك الجيش المنهزم يصعد آهاته وآلامه. ولمْ تقتصر محنة الإمام (عليه السّلام) وبلاؤه في جيشه على خيانة قادة فرقه ، وإنّما تجاوز بلاؤه إلى ما هو أعظم مِن ذلك ، فقد قامت فصائل مِن ذلك الجيش بأعمال رهيبة بالغة الخطورة ، وهي :

١ ـ الاعتداء على الإمام (عليه السّلام).

وقام الرجس الخبيث الجرّاح بن سنان بالاعتداء على الإمام (عليه السّلام) ، فطعنه في فخذه بمغول(١) ، فهوى الإمام (عليه السّلام) جريحاً ، وحُمِلَ إلى المواني لمعالجة جرحه(٢) ، وطعنه شخص آخر بخنجر في أثناء الصلاة(٣) ، كما رماه شخص بسهم في أثناء الصلاة إلاّ أنّه لمْ يؤثّر فيه شيئاً(٤) ، وأيقن الإمام (عليه السّلام) أنّ أهل الكوفة جادون في قتله واغتياله.

٢ ـ الحكم عليه بالكفر.

وأُصيب ذلك الجيش بدينه وعقيدته ، فقد رموا حفيد نبيّهم وريحانته بالكفر والمروق مِن الدين ، فقد جابهه الجرّاح بن سنان رافعاً عقيرته ، قائلاً : أشركت يا حسن كما أشرك أبوك(٥) . وكان هذا رأي جميع الخوارج الذين كانوا يمثّلون الأكثرية الساحقة في ذلك الجيش.

٣ ـ الخيانة العظمى.

والخيانة العظمى التي قام بها بعض زعماء ذلك الجيش أنّهم راسلوا

__________________

(١) المغول : آلة تشبه السيف.

(٢) الإرشاد / ١٧٠.

(٣) و (٤) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٠٢ ـ ١٠٥.

(٥) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٠٣.

١١٣

معاوية ، وضمنوا له تسليم الإمام (عليه السّلام) أسيراً ، أو اغتياله متى رغب وشاء(١) ، وأقضَّ ذلك مضجع الإمام (عليه السّلام) ، فخاف أنْ يؤسر ويُسلّم إلى معاوية فيمنّ عليه ، ويسجّل بذلك يداً لبني اُميّة على الأُسرة النّبوية ، كما كان (عليه السّلام) يتحدّث بذلك بعد إبرام الصلح.

٤ ـ نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام).

وعمد أجلاف أهل الكوفة إلى نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام) وأجهزته ، فنزعوا بساطاً كان جالساً عليه ، كما سلبوا منه رداءه(٢) .

هذه بعض الأحداث الرهيبة التي قام بها ذلك الجيش الذي تمرّس في الخيانة والغدر.

الصلحُ :

ووقف الإمام الحسن (عليه السّلام) مِن هذه الفتن السود موقف الحازم اليقظ ، الذي تمثّلت فيه الحكمة بجميع رحابها ومفاهيمها ، فرأى أنّه أمام أمرين :

١ ـ أنْ يفتح باب الحرب مع معاوية ، وهو على يقين لا يخامره أدنى شك أنّ الغلبة ستكون لمعاوية ؛ فإمّا أنْ يُقتل هو وأصحابه وأهل بيته الذين يمثّلون القيم الإسلامية ، ويخسر الإسلام بتضحيتهم قادته ودعاته مِن دون أنْ تستفيد القضية الإسلامية أيّ شيء ؛ فإنّ معاوية بحسب قابلياته الدبلوماسية يحمّل المسؤولية على الإمام (عليه السّلام) ، ويُلقي على تضحيته ألف حجاب ، أو أنّه يؤسر فيمنّ عليه معاوية فتكون سيئة على بني هاشم ، وفخراً لبني اُميّة.

٢ ـ أنْ يصالح معاوية فيحفظ للإسلام رجاله ودعاته ، ويبرز في

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٠٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي.

١١٤

صلحه واقع معاوية ، ويكشف عنه ذلك الستار الصفيق الذي تستّر به ، وقد اختار (عليه السّلام) هذا الأمر على ما فيه مِن قذى في العين ، وشجى في الحلق.

ويقول المؤرّخون : إنّه جمع جيشه فعرض عليهم الحرب أو السلم ، فتعالت الأصوات مِن كلّ جانب وهم ينادون : البقيّة البقيّة(١) .

لقد استجابوا للذلّ ورضوا بالهوان ومالوا عن الحقّ ، وقد أيقن الإمام (عليه السّلام) أنّهم قد فقدوا الشعور والإحساس ، وأنّه ليس بالمستطاع أنْ يحملهم على الطاعة ويكرههم على الحرب ، فاستجاب ـ على كره ومرارة ـ إلى الصلح.

لقد كان الصلح أمراً ضرورياً يحتّمه الشرع ، ويلزم به العقل ، وتقضي به الظروف الاجتماعية الملبدة بالمشاكل السياسية ؛ فإنّ مِن المؤكد أنّه لو فتح باب الحرب لمُنِيَ جيشه بالهزيمة ، ومُنِيَت الأُمّة مِن جرّاء ذلك بكارثة لا حدّ لأبعادها.

أمّا كيفية الصلح وشروطه وأسبابه ، وزيف الناقدين له فقد تحدّثنا عنها بالتفضيل في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام).

موقفُ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

والشيء المحقّق أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد تجاوب فكرياً مع أخيه في أمر الصلح ، وأنّه تمّ باتفاقٍ بينهما ، فقد كانت الأوضاع الراهنة تقضي بضرورته ، وأنّه لا بدّ منه.

وهناك بعض الروايات الموضوعة تعاكس ما ذكرناه ، وأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان كارهاً للصلح ، وقد همّ أنْ يعارضه فأنذره أخوه

__________________

(١) حماة الإسلام ١ / ١٢٣ ، المجتنى لابن دريد / ٣٦.

١١٥

بأنْ يقذفه في بيت فيطيّنه عليه حتّى يتمّ أمر الصلح ، فرأى أنّ مِن الوفاء لأخيه أنْ يطيعه ولا يخالف له أمراً ، فأجابه إلى ذلك. وقد دلّلنا على افتعال ذلك وعدم صحته إطلاقاً في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام).

عدي بن حاتم مع الحسين (عليه السّلام) :

ولمّا أُبرم أمر الصلح خفّ عدي بن حاتم ومعه عبيدة بن عمر إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) وقلبه يلتهب ناراً ، فدعا الإمامَ إلى إثارة الحرب قائلاً : يا أبا عبد الله ، شريتم الذلّ بالعزّ ، وقبلتم القليل وتركتم الكثير! أطعنا اليوم واعصنا الدهر ؛ دع الحسن وما رأى مِن هذا الصلح ، واجمع إليك شيعتك مِن أهل الكوفة وغيرها ، وولّني وصاحبي هذه المقدمة ، فلا يشعر ابن هند إلاّ ونحن نقارعه بالسيوف.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «إنّا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل لنقض بيعتنا»(١) . ولو كان الحسين (عليه السّلام) يرى مجالاً للتغلّب على الأحداث لخاض الحرب وناجز معاوية ، ولكنْ قد سُدّتْ عليه وعلى أخيه جميع النوافذ والسبل ، فرؤوا أنّه لا طريق لهم إلاّ الصلح.

تحوّلُ الخلافة :

وتحوّلت الخلافة الإسلاميّة مِن طاقتها الأصيلة ومفاهيمها البنّاءة إلى مُلْكٍ عضوض مستبد ، لا ظل فيه للعدل ، ولا شبح فيه للحقّ ؛ قد تسلّطت الطغمة

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٠٣.

١١٦

الحاكمة مِن بني أُميّة على الأُمّة ، وهي تمعن في إذلالها ونهب ثرواتها وإرغامها على العبودية. يقول بعض الكتّاب : ونجمَ عن زوال الخلافة الراشدة وانتقال الخلافة إلى بني أُميّة نتائج كبيرة ، فقد انتصرت اُسرة بني أُميّة على الاُسرة الهاشميّة ، وهذا كان معناه انتصار الأرستقراطية القرشية وأصحاب رؤوس المال والمضاربات التجارية على أصحاب المبادئ والمُثل.

لقد كان نصر معاوية هزيمة لكلّ الجهود التي بُذلت للحدّ مِن طغيان الرأسمالية القرشية ، هزيمة لحلف الفضول ، وهزيمة للدوافع المباشرة لقيام الإسلام وحربه على الاستغلال والظلم ، هزيمة للمُثل والمبادئ ، ونجاح للحنكة والسياسة المدعومة بالتجربة والمال ، ولقد كان لهذه الهزيمة وقع مفجع على الإسلام وأجيال المسلمين.

ويقول نيكلسون : واعتبر المسلمون انتصار بني أُميّة وعلى رأسها معاوية ، انتصاراً للأرستقراطية والوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء ، والتي جاهدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى قضى عليها ، وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتّى نصرهم الله ، وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام ، ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السّراء والضرّاء ، وأزال سيادة رهطٍ كانوا يحتقرون الفقراء ، ويستذلون الضعفاء ، ويبتزّون الأموال.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد فُجع العالم الإسلامي بعد الصلح بكارثة كبرى ، فخرج مِن عالم الدعة والأمن والاستقرار إلى عالم مليء بالظلم والجور ؛ فقد أسرع الاُمويّون بعد أنْ استتب لهم الأمر إلى الاستبداد بشؤون المسلمين ، وإرغامهم على ما يكرهون.

وعانى الكوفيّون مِن الظلم ما لم يعانه غيرهم ؛ فقد أخذت

١١٧

السلطة تحاسبهم حساباً عسيراً على وقوفهم مع الإمام (عليه السّلام) في أيّام صفين ، وعهدت في شؤونهم إلى الجلادين أمثال المغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، فصبّوا عليهم وابلاً مِن العذاب الأليم ، وأخذ الكوفيّون يندبون حظهم التعيس على ما اقترفوه من عظيم الإثم في خذلانهم للإمام أمير المؤمنين وولده الحسن (عليهما السّلام) ، وجعلوا يلحّون على الإمام الحسين (عليه السّلام) بوفودهم ورسائلهم لينقذهم مِن ظلم الاُمويِّين وجورهم. إلاّ أنّ مِن المدهش حقّاً أنّه لمّا استجاب لهم شهروا في وجهه السّيوف ، وقطّعوا أوصاله وأوصال أبنائه على صعيد كربلاء وبهذا ينتهي بنا المطاف عن اُفول دولة الحقّ.

١١٨

حكومةُ معاوية

١١٩
١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470