حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307428 / تحميل: 6768
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وليس في تاريخ هذا الشرق ولا في غيره حاكم كالإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في عدله ونزاهته ، وإيثاره للحقّ على كلّ شيء ، فقد كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ لمْ يخضع لأيّة نزعة عاطفية ، ولمْ يستجب لأي هوى مطاع ، وإنّما سار على الطريق الواضح والمنهج السليم الذي سلكه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يحاب ولمْ يداهن في دينه ، وتبنّى النصح الخالص لجميع المسلمين ، وقد حاول جاهداً أيّام حكومته أنْ يرفعَ راية الإسلام ويحقّق مبادئه التي كان منها رفع الحيف والظلم ، ومنع الاستغلال ، وإزالة الفوارق بين أبناء المسلمين.

وكان مِن أعظم ما عنى به وضع أموال الدولة في مواضعها ، فلمْ ينفقَ أيّ شيء منها إلاّ على مرافقها التي عيّنها الإسلام ، وما تاجر بها ، ولو اشترى بها العواطف والضمائر ـ كما كان يفعل معاوية ـ لما تنكّر عليه النفعيون في جيشه ، كالأشعث بن قيس وغيره مِن أقطاب الخيانة والعمالة. لقد احتاط في أموال الدولة كأشدّ ما يكون الاحتياط ، وأجهد نفسه وحمّلها مِنْ أمره رهقاً مِنْ أجل أنْ يبسط العدل الاقتصادي بين الناس.

يقول عبد الله بن رزين : دخلت على علي (عليه السّلام) يوم الأضحى ، فقرّب إلينا حريرة ، فقلت له : أصلحك الله! لو قرّبت إلينا مِن هذا البط فإنّ الله قد أكثر الخير. فقال : «يا بن رزين ، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول : لا يحلّ لخليفة مِن مال الله إلاّ قصعتان ؛ قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يضعها بين يدي الناس»(١) .

وقد نقم على سياسته كلّ مَنْ استسلم لدوافع المادة وشهواتها ، فراحوا يعملون جاهدين للإطاحة بحكومته ، وتشكيل حكومة تضمن مصالحهم الاقتصادية والسياسية. ومِن المؤكد أنّ الإمام (عليه السّلام) كان يعلم كيف يجلب له الطاعة ، وكيف يبسط

__________________

(١) جواهر المطالب ـ شمس الدين أبو البركات / ٤٣ ، مِن مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

١٠١

سلطانه ونفوذه على اُولئك الذين نقموا عليه ، ولكن ذلك لا يتم إلاّ بأنْ يداهن في دينه ، فيوارب ويخادع ، ويعطي المال في غير حقّه ، فيكون كبقية عشّاق المُلْك والسلطان. ومِن الطبيعي إنّ الانحراف عن الحقّ والمتاجرة بمصالح الأُمّة ممّا يأباه علي (عليه السّلام) ، وتأباه مُثُلُه العليا ، فلا السلطة تغريه ، ولا اجتماع الناس حوله تزيده عزّة ، ولا تفرّقهم عنه تزيده وحشة كما كان يقول.

لقد كان الإمام (عليه السّلام) يؤمن إيماناً خالصاً بالدين ، ويرى مِن الضرورة أنْ يكون هو المسيطر على قلوب الناس وتفكيرهم ، وأنْ لا يكون هناك أيّ ظلّ للمنافع والأهواء. وممّا لا شك فيه أنّ هذا النوع الخالص مِن الإيمان لمْ يتحقّق إلاّ للقلة القليلة مِن أصحابه ، كحِجْر بن عدي ، ومالك الأشتر ، وعدي بن حاتم ، وميثم التمّار ونظرائهم ممّن تغذّوا بهديه ، وهم الذين قرؤوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، وأحيوا السُنّة وأماتوا البدعة على حدّ تعبيره. أمّا الأكثرية الساحقة مِن جيشه وشعبه ، فإنّهم لمْ يعوا أهدافه ومبادئه ، وجهلوا القيم العليا في سياسته المشرقة التي كانت تهدف إلى ضمان حقوق المظلومين والمضطهدين.

لقد تحرّج الإمام (عليه السّلام) في سلوكه السياسي ، فأخضع سياسته العامّة للقيم الدينية والخلقية ؛ فبسط الحقّ بجميع رحابه ومفاهيمه ، ولمْ يعد أي نفوذ للأقوياء ، ولا سلطان للرأسمالية القرشية التي كانت تعتبر السواد بستاناً لقريش. وقد هبّت القوى المنحرفة عن الحقّ في وجه الإمام (عليه السّلام) فأشعلت نار الحرب ، وأوقفت مسيرة الإمام (عليه السّلام) في تطبيق العدل الاجتماعي ، ووضعت السدود والحواجز في طريقه.

وقد وقف الإمام العظيم ملتاعاً حزيناً ، قد احتوشته ذئاب الإثرة والاستغلال ، وتناهبت مشاعره الأحداث المُفزعة التي تواكبت عليه ، وكان مِن أفجعها الفتن الداخلية التي كانت تثيرها الخوارج ، الذين كانوا يعيشون معه ، وهم يجاهرونه بالعداء ، وينشرون الفتن والاختلاف ، ويتربصون

١٠٢

الفرص للخروج عليه.

مؤتمرُ مكة :

ونزح فريق مِن الخوارج إلى مكة فعقدوا فيها مؤتمراً ، عرضوا فيه مصارع إخوانهم الذين قتلوا في النهروان ، كما عرضوا فيه الأحداث الجسام التي يواجهها العالم الإسلامي والتي أدّت إلى اختلافه وتفكّكه ، وعزوها إلى ثلاث ـ حسب ما يزعمون ـ : الإمام علي ، ومعاوية ، وعمرو بن العاص.

وقد عقدوا النيّة بعد تبادل الرأي على القيام باغتيالهم ، وانبرى لتنفيذ هذا المخطط كلّ مِنْ.

١ ـ عبد الرحمن بن ملجم : تعهد بقتل الإمام علي (عليه السّلام).

٢ ـ الحجّاج بن عبد الله الصريمي : تعهد بقتل معاوية.

٣ ـ عمرو بن بكر التميمي : التزم بقتل ابن العاص.

وقد اتفقوا على القيام بعملية الاغتيال في ليلة الثامن عشر مِن رمضان ، ساعة خروج هؤلاء الثلاثة إلى صلاة الصبح ، وقد أقاموا بمكة أشهراً ، واعتمروا في رجب ، ثمّ تفرّقوا وقصد كلّ واحد لتنفيذ ما عهد إليه.

رأيٌ رخيص :

مِن الآراء الزائفة التي تحملها بعض الكتب ما ذهب إليه الدكتور (بديع شريف) مِن اتّهام الفرس بقتل علي(١) ، وهل وقف الدكتور على نسب ابن ملجم وأنّه كان فارسياً؟! أليس هو مِن مراد إحدى القبائل

__________________

(١) الصراع بين الموالي والعرب / ٣٢ ـ ٣٣.

١٠٣

العربية التي كانت تقطن في الكوفة؟! وعلّق الدكتور نوري جعفر على هذا الرأي بقوله : ومَنْ يدري! فلعلّ حبّ الفرس لعلي هو الذي جعل هؤلاء الكتّاب يبغضونهم ، ويكيلون لهم التهم بغير حساب(١) .

اشتراكُ الاُمويِّين في المؤامرة :

وذكر المؤرّخون هذا الحادث الخطير بشيء كثير مِن التحفّظ ، فلمْ يكشفوا النقاب عن أبعاده ، والذي نراه في كثير مِن الترجيح أنّ المؤامرة لمْ تكن مقتصرة على الخوارج ، وإنّما كان للحزب الاُموي ضلع كبير فيها ، والذي يدعم ذلك ما يلي :

١ ـ أنّ أبا الأسود الدؤلي ألقى تبعة مقتل الإمام (عليه السّلام) على بني اُميّة ، وذلك في مقطوعته التي رثا بها الإمام (عليه السّلام) ، فقد جاء فيها :

ألا أبلغ معاويةَ بنَ حربٍ

فلا قرّت عيونُ الشامتينا

أفي شهر الصيامِ فجعتمونا

بخيرِ الناس طُرّاً أجمعينا

قتلتُمْ خيرَ مَنْ ركب المطايا

ورحّلها ومَنْ ركب السفينا(٢)

ومعنى هذه الأبيات أنّ معاوية هو الذي فجع المسلمين بقتل الإمام (عليه السّلام) ، الذي هو خير الناس ، فهو مسؤول عن إراقة دمه. ومِن الطبيعي أنّ أبا الأسود لمْ ينسب هذه الجريمة لمعاوية إلاّ بعد التأكد منها ، فقد كان الرجل متحرّجاً أشدّ التحرّج فيما يقول.

٢ ـ أنّ القاضي نعمان المصري ، وهو مِن المؤرّخين القُدامى ، قد ذكر قولاً في أنّ معاوية هو الذي دسّ ابن ملجم لاغتيال الإمام (عليه السّلام) ، قال ما نصه :

__________________

(١) الصراع بين الموالي ومبادئ الإسلام / ١٠٣.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٩٨.

١٠٤

وقيل : إنّ معاوية عامَلَه ـ أي عامل ابن ملجم ـ على ذلك ـ أي على اغتيال الإمام (عليه السّلام) ـ ودسّ إليه فيه ، وجعل له مالاً عليه(١) .

٣ ـ وممّا يؤكد اشتراك الحزب الاُموي في المؤامرة هو أنّ الأشعث بن قيس قد ساند ابن ملجم ، ورافقه أثناء عملية الاغتيال ، فقد قال له : النجا فقد فضحك الصبح. ولمّا سمعه حِجْر بن عدي صاح به : قتلته يا أعور! وكان الأشعث مِن أقوى العناصر المؤيدة للحزب الاُموي ، فهو الذي أرغم الإمام (عليه السّلام) على قبول التحكيم ، وهدّد الإمام (عليه السّلام) بالقتل قبل قتله بزمان قليل ، كما كان عيناً لمعاوية بالكوفة.

إنّ المؤامرة ـ كما يقول الرواة ـ قد أُحيطت بكثير مِن السرّ والكتمان ، فما الذي أوجب فهم الأشعث ودعمه لها لولا الإيعاز إليه مِن الخارج؟!

٤ ـ إنّ مؤتمر الخوارج قد انعقد في مكة أيّام موسم الحجّ ، وهي حافلة ـ مِن دون شك ـ بالكثيرين مِن أعضاء الحزب الاُموي الذين نزحوا إلى مكة لإشاعة الكراهية والنقمة على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وأغلب الظنّ أنّهم تعرّفوا على الخوارج الذين كانوا مِن أعدى الناس للإمام (عليه السّلام) ، فقاموا بالدعم الكامل لهم على اغتيال الإمام (عليه السّلام).

وممّا يساعد على ذلك أنّ الخوارج بعد انقضاء الموسم أقاموا بمكة إلى رجب ، فاعتمروا في البيت ، ثمّ نزحوا إلى تنفيذ مخططهم ، فمِن المحتمل أنْ يكونوا في طيلة هذه المدّة على اتصال دائم مع الحزب الاُموي ، وسائر الأحزاب الاُخرى المناهضة لحكم الإمام (عليه السّلام).

٥ ـ والذي يدعو إلى الاطمئنان في أنّ الحزب الاُموي كان له الضلع الكبير في هذه المؤامرة ، هو أنّ ابن ملجم كان معلّماً للقرآن(٢) ،

__________________

(١) المناقب والمثالب ـ القاضي نعمان المصري / ٩٨ ، مِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم.

(٢) لسان ميزان ٣ / ٤٤٠.

١٠٥

وكان يأخذ رزقه مِن بيت المال ، ولمْ تكن عنده أيّة سعة مالية ، فمِنْ أين له الأموال التي اشترى بها سيفه ـ الذي اغتال به الإمام (عليه السّلام) ـ بألف وسمّه بألف؟! ومِنْ أين له الأموال التي أعطاها مهراً لقطام ، وهو ثلاثة آلاف وعبد وقَينة؟! كلّ ذلك يدعو إلى الظنّ أنّه تلقّى دعماً مالياً مِن الاُمويِّين إزاء قيامه باغتيال الإمام (عليه السّلام).

٦ ـ وممّا يؤكد أنّ ابن ملجم كان عميلاً للحزب الاُموي هو أنّه كان على اتصال وثيق بعمرو بن العاص ، وزميلاً له منذ عهدٍ بعيدٍ ؛ فإنّه لمّا فتح ابن العاص مصر كان ابن ملجم معه ، وكان أثيراً عنده ، فقد أمره بالنزول بالقرب منه(١) .

وأكبر الظنّ أنّه أحاط ابن العاص علماً بما اتفق عليه مع زميليه مِن عملية الاغتيال له وللإمام (عليه السّلام) ومعاوية ؛ ولذا لمْ يخرج ابن العاص إلى الصلاة ، وإنّما استناب غيره ، فلم تكن نجاته وليدة مصادفة ، وإنّما جاءت وليدة مؤامرة حيكت اُصولها مع ابن العاص.

هذه بعض الاُمور التي توجب الظنّ باشتراك الحزب الاُموي في تدبير المؤامرة ودعمها.

اغتيالُ الإمام (عليه السّلام) :

وأطلّ على المسلمين شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ، وقد كان الإمام (عليه السّلام) على يقين بانتقاله إلى حظيرة القدس في بحر هذا الشهر العظيم ، فكان يجهد نفسه ويرهقها على أنْ يفطر على خبز الشعير وجريش الملح ، وأنْ لا يزيد على ثلاث لقم ـ حسب ما يقوله المؤرّخون ـ ، وكان يُحيي ليالي هذا الشهر بالعبادة.

ولمّا أقبلت ليلة الثامن عشر أحس الإمام (عليه السّلام) بنزول الرزء القاصم ،

__________________

(١) لسان ميزان ٣ / ٤٤٠.

١٠٦

فكان برماً تساوره الهموم والأحزان ، وجعل يتأمل في الكواكب ، وهي مرتعشة الضوء كأنّها ترسل أشعة حزنها إلى الأرض ، وطفق يقول :

«ما كذبتُ ولا كُذّبت ، إنّها الليلة التي وُعِدْتُ فيها».

وأنفق الإمام (عليه السّلام) ليله ساهراً ، وقد راودته ذكريات جهاده وعظيم عنائه في الإسلام ، وزاد وجيبه وشوقه لملاقاة ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ ليشكو إليه ما عاناه مِن أُمّته مِن الأود. وتوجّه الإمام (عليه السّلام) بمشاعره وعواطفه إلى الله يطلب منه الفوز والرضوان ، وقبل أنْ تشرق أنوار ذلك الفجر ـ الذي دام في ظلامه على البؤساء والمحرومين ـ انطلق الإمام (عليه السّلام) فأسبغ الوضوء ، وتهيّأ إلى الخروج مِن البيت ، فصاحت في وجهه وزّ ، كأنّها صاحب ملتاعة حزينة ، تُنذر بالخطر العظيم الذي سيدهم أرض العرب والمسلمين.

وتنبّأ الإمام مِن لوعتهن بنزول القضاء ، فقال : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، صوائح تتبعها نوائح»(١) . وخرج الإمام (عليه السّلام) إلى بيت الله ، فجعل يوقظ الناس على عادته إلى عبادة الله ، ثمّ شرع في صلاته ، وبينما هو ماثل بين يدي الله وذكره على شفتيه إذ هوى عليه المجرم الخبيث عبد الرحمن بن ملجم ، وهو يهتف بشعار الخوارج : (الحكم لله لا لك) ، فعلا رأس الإمام (عليه السّلام) بالسيف فقدّ جبهته الشريفة التي طالما عفّرها بالسجود لله ، وانتهت الضربة الغادرة إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر فيه إلاّ في سعادة الناس ، وجمعهم على صعيد الحقّ. ولمّا أحسّ الإمام (عليه السّلام) بلذع السيف انفرجت شفتاه عن ابتسامة ، وانطلق صوته يدوّي في رحاب الجامع قائلاً : «فزتُ وربِّ الكعبة».

لقد كنتَ يا أمير المؤمنين أوّل الفائزين ، وأعظم الرابحين

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٩١.

١٠٧

بمرضاة الله ، فقد سايرتَ الحقّ منذ نعومة أظفارك ، فلمْ تداهن في دينك ، ولمْ تؤثر رضا أحدٍ على طاعة الله ، قد جاهدتَ وناضلتَ مِن أجل أنْ تعلو كلمة الله في الأرض ، ووقيتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بنفسك ومُهجتك. لقد فزتَ ، وانتصرتْ مبادئك ، وبقيتَ أنت وحدك حديث الدهر بما تركته مِن سيرةٍ مشرقةٍ أضاءت سماء الدنيا ، وغذّت الأجيال بجوهر الحقّ والعدل.

وخفّ الناس مسرعين إلى الجامع حينما أُذيعَ مقتل الإمام (عليه السّلام) ، فوجدوه طريحاً في محرابه وهو يلهج بذكر الله ، قد نزف دمه. ثمّ حُمل إلى داره والناس تعجّ بالبكاء ، وهم يهتفون ـ بذوب الروح ـ : قُتلَ إمام الحقّ والعدل! قُتِلَ أبو الضعفاء وأخو الغرباء! واستقبلته عائلته بالصراخ ، فأمرهنَّ (عليه السّلام) بالخلود إلى الصبر. وغرق الإمام الحسن (عليه السّلام) بالبكاء ، فالتفت إليه الإمام (عليه السّلام) قائلاً : «يا بُني ، لا تبكِ فأنت تُقْتَلُ بالسمّ ، ويُقْتَلُ أخوك الحُسين بالسيف». وتحقّق تنبّؤ الإمام (عليه السّلام) ، فلمْ تمضِ حفنةٌ مِن السنين وإذا بالحسن (عليه السّلام) اغتاله معاوية بالسمّ فذابت أحشاؤه ، وأمّا الحُسين (عليه السّلام) فتناهبت جسمه السيوف والرماح ، وتقطّعت أوصاله على صعيد كربلاء.

ويقول المؤرّخون : إنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يكن حاضراً بالكوفة حينما اغتيل أبوه ، وإنّما كان في معسكر النخيلة قائداً لفرقة مِن الجيش الذي أعدّه الإمام (عليه السّلام) لمناجزة معاوية ، وقد أرسل إليه الإمام الحسن (عليه السّلام) رسولاً يعرّفه بما جرى على أبيه ، فقفل راجعاً إلى الكوفة وهو غارق بالأسى والشجون ، فوجد أباه على حافّة الموت ، فألقى بنفسه عليه يوسعه تقبيلاً ، ودموعه تتبلور على خديه.

١٠٨

وأخذ الإمام العظيم يوصي أولاده بالمُثل الكريمة والقيم الإنسانية ، وعهد إليهم أنْ لا يقتلوا غير قاتله ، وأنْ لا يتّخذوا مِنْ قتله سبباً لإثارة الفتنة وإراقة الدماء بين المسلمين ، كما فعل بنو اُميّة حينما قُتِلَ عميدهم عثمان.

الى رفيق الاعلى :

وأخذ الإمام (عليه السّلام) يعاني آلام الاحتضار وهو يتلو آيات الذكر الحكيم ، وكان آخر ما نطق به قوله تعالى : «لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ». ثمّ فاضت روحه الزكية تحفّها ملائكة الرحمن ، فمادت أركان العدل في الأرض ، وانطمست معالم الدين. لقد مات ملاذ المنكوبين والمحرومين ، الذي جهد نفسه أنْ يقيم في ربوع هذا الكون دولة تكتسح الإثرة والاستغلال ، وتقيم العدل والحقّ بين الناس.

وقام سبطا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بتجهيز أبيهما ، فغسّلا جسده الطاهر وأدرجاه في أكفانه ، وفي الهزيع الأخير مِن الليل حملوه إلى مقرّه الأخير فدفنوه في النجف الأشرف ، وقد واروا معه العدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية لمّا وافاه النبأ بمقتل الإمام (عليه السّلام) فرح ، واتّخذ يوم قتله عيداً رسمياً في دمشق ، فقد تمّت بوارق آماله ، وتمّ له اتّخاذ المُلْك وسيلة لاستعباد المسلمين ، وإرغامهم على ما يكرهون.

متاركُ حكومة الإمام (عليه السّلام) :

وتركت حكومة الإمام (عليه السّلام) آثاراً بالغة الأهميّة والخطورة في المجتمع الإسلامي ، ولعلّ مِن أهمها ما يلي :

١٠٩

١ ـ أنّها أبرزت الواقع الإسلامي بجميع طاقاته في عالم السياسة والحكم ، فقد كان الإمام (عليه السّلام) يهدف في حكمه إلى إزالة الفوارق الاجتماعية بين الناس ، وتحقيق الفرض المتكافئة بينهم على اختلاف قومياتهم وأديانهم ، ومعاملة جميع الطوائف بروح المساواة والعدالة فيما بينهم مِن دون أنْ تتمتّع أي طائفة بامتيازٍ خاصٍ. وقد أوجدت هذه السياسة للإمام (عليه السّلام) رصيداً شعبياً هائلاً ، فقد ظلّ علي (عليه السّلام) قائماً في قلوب الجماهير الشعبية بما تركه مِنْ صنوف العدل والمساواة ، وقد هام بحبّه الأحرار ، ونظروا إليه كأعظم مصلح اجتماعي في الأرض ، وقدّموه على جميع أعلام تلك العصور.

يقول أيمن بن خريم الأسدي مخاطباً بني هاشم ، وعلى رأسهم الإمام (عليه السّلام) :

أأجعلُكمْ وأقواماً سواءً

وبينكُمُ وبينهمُ الهواءُ

وهمْ أرضٌ لأرجلِكُمْ وأنتمْ

لأرؤوسِهمْ وأعينِهم سماءُ(١)

٢ ـ أنّ مبادئ الإمام (عليه السّلام) وآراءه النيّرة ظلّت تطارد الاُمويِّين وتلاحقهم في قصورهم ، فكانوا ينظرون إليها شبحاً مُخيفاً يُهدّد سلطانهم ، ممّا جعلهم يفرضون سبّه على المنابر ؛ للحطّ مِن شأنه ، وصرْف الناس عن قِيَمه ومبادِئه.

٣ ـ أنّ حكومة الإمام (عليه السّلام) التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية الكبرى قد جرّت لأبنائه كثيراً مِن المشاكل والمصاعب ، وألحقت بهم التنكيل والقتل مِن حكّام عصرهم ، وقد تنبّأ النّبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بذلك ، فقد روى أبو جعفر الإسكافي أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السّلام) فوجد عليّاً (عليه السّلام) نائماً ، فذهبت لتوقظه ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : «دعيه ، فرُبّ سهرٍ له بعدي طويل ، ورُبّ جفوةٍ لأهل بيتي مِنْ أجله». فبكت فاطمة (عليها السّلام) ، فقال لها : «لا تبكي فإنّه معي ، وفي موقف الكرامة عندي»(٢) .

__________________

(١) الأغاني ١ / ٢١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٧.

١١٠

لقد أمعن الحكم الاُموي والعباسي في ظلم أبناء الإمام (عليه السّلام) ؛ لأنّهم تبنَّوا حقوق المظلومين والمضطهدين ، وتبنَّوا المبادئ العليا التي رفع شعارها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، فناضلوا كأشدّ ما يكون النضال في سبيل تحقيقها على مسرح الحياة.

وكان مِن أشدّ أبناء الإمام (عليه السّلام) حماساً واندفاعاً في حماية مبادئ أبيه الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد انطلق إلى ساحات الجهاد عازماً على الموت ، آيساً مِن الحياة ؛ ليحمي مبادئ جدّه وأبيه ، ويرفع راية الإسلام عاليةً خفّاقة ، وينكّس أعلام الشرك والإلحاد ، ويحطّم قيود العبودية والذلّ.

٤ ـ أوجد الإمام (عليه السّلام) في أثناء حكمه القصير وعياً أصيلاً في مقارعة الظلم ومناهضة الجور ، فقد هبّ في وجه الحكم الاُموي أعلام أصحابه كحِجْر بن عدي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وعبد الله بن عفيف الأزدي وأمثالهم مِن الذين تربّوا بهدي الإمام (عليه السّلام) ، فدوّخوا اُولئك الظالمين بثورات متلاحقة أطاحت بزهوهم وجبروتهم. لقد كان حكم الإمام (عليه السّلام) ـ حقّاً ـ مدرسة للنضال والثورة ، ومدرسة لبث الوعي الديني والإدراك الاجتماعي ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن مخلّفات حكومة الإمام (عليه السّلام).

خلافةُ الحسن (عليه السّلام) :

وتقلّد الإمام الحسن (عليه السّلام) أزمة الخلافة الإسلامية بعد أبيه ، فتسلّم قيادة حكومة شكلية عصفت بها الفتن ، ومزّقت جيشها الحروب والأحزاب ، ولمْ تَعُدْ هناك أيّة قاعدة شعبية تستند إليها الدولة ، فقد كان الاتّجاه العام الذي يمثّله الوجوه والأشراف مع معاوية ، فقد كانوا على اتصال وثيق به قبل مقتل الإمام (عليه السّلام) وبعده ، كما كان لهم الدور الكبير في إفساد جيش الإمام (عليه السّلام) حينما مُنِيَ جيش معاوية بالهزيمة والفِرار. وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الإمام الحسن (عليه السّلام)

١١١

بعد أنْ تقلّد الخلافة أخذ يتهيّأ للحرب ، وقد أمر بعقد اجتماع عام في جامع الكوفة ، وقد حضرته القوات المسلّحة وغيرها ، وألقى الإمام (عليه السّلام) خطاباً رائعاً ومؤثراً دعا فيه إلى تلاحم القوى ووحدة الصف ، وحذّر فيه مِن الدعايات التي تبثّها أجهزة الحكم الاُموي ، ثمّ ندب الناس لحرب معاوية ، فلمّا سمعوا ذلك وجلت قلوبهم وكُمّتْ أفواههم ، ولمْ يستجب منهم أحد سوى البطل المُلهم عَدِي بن حاتم ، فانبرى يُعلن دعمه الكامل للإمام (عليه السّلام) ، ووجّه أعنف اللوم والتقريع لأهل الكوفة على موقفهم الانهزامي ، واستبان للإمام وغيره أنّ جيشه لا يريد الحرب ، فقد خلع يد الطاعة ، وانساب في ميادين العصيان والتمرّد.

وبعد جهود مكثّفة قام بها بعض المخلصين للإمام (عليه السّلام) نفر للحرب أخلاط مِن الناس ـ على حدّ تعبير الشيخ المُفيد ـ كان أكثرهم مِن الخوارج والشكّاكين وذوي الأطماع ، وهذه العناصر لمْ تؤمن بقضية الإمام (عليه السّلام) ، وقد تطعّمت بالخيانة والغدر.

ويقول الرواة : إنّ الإمام (عليه السّلام) أسند مقدمة قيادة جيشه لعبيد الله بن العباس ـ الذي وتره معاوية بابنيه ـ ليكون ذلك داعية إخلاص له ، وحينما التقى جيشه بجيش معاوية مدّ إليه معاوية أسلاك مكره ، فمنّاه بمليون درهم يدفع نصفه في الوقت ، والنصف الآخر إذا التحقّ به(١) . وسال لعاب عبيد الله فاستجاب لدنيا معاوية ، ومال عن الحقّ ، فالتحق بمعسكر الظلم والجور ومعه ثمانية آلاف مِن الجيش(٢) ، غير حافل بالخيانة والعار ، ولا بالأضرار الفظيعة التي ألحقها بجيش ابن عمّه ؛ فقد تفلّلت جميع وحداته وقواعده.

ولمْ تقتصر الخيانة على عبيد الله ، وإنّما خان غيره مِن كبار قادة ذلك

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ / ٢٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩١.

١١٢

الجيش فالتحقوا بمعاوية ، وتركوا الإمام (عليه السّلام) في أرباض ذلك الجيش المنهزم يصعد آهاته وآلامه. ولمْ تقتصر محنة الإمام (عليه السّلام) وبلاؤه في جيشه على خيانة قادة فرقه ، وإنّما تجاوز بلاؤه إلى ما هو أعظم مِن ذلك ، فقد قامت فصائل مِن ذلك الجيش بأعمال رهيبة بالغة الخطورة ، وهي :

١ ـ الاعتداء على الإمام (عليه السّلام).

وقام الرجس الخبيث الجرّاح بن سنان بالاعتداء على الإمام (عليه السّلام) ، فطعنه في فخذه بمغول(١) ، فهوى الإمام (عليه السّلام) جريحاً ، وحُمِلَ إلى المواني لمعالجة جرحه(٢) ، وطعنه شخص آخر بخنجر في أثناء الصلاة(٣) ، كما رماه شخص بسهم في أثناء الصلاة إلاّ أنّه لمْ يؤثّر فيه شيئاً(٤) ، وأيقن الإمام (عليه السّلام) أنّ أهل الكوفة جادون في قتله واغتياله.

٢ ـ الحكم عليه بالكفر.

وأُصيب ذلك الجيش بدينه وعقيدته ، فقد رموا حفيد نبيّهم وريحانته بالكفر والمروق مِن الدين ، فقد جابهه الجرّاح بن سنان رافعاً عقيرته ، قائلاً : أشركت يا حسن كما أشرك أبوك(٥) . وكان هذا رأي جميع الخوارج الذين كانوا يمثّلون الأكثرية الساحقة في ذلك الجيش.

٣ ـ الخيانة العظمى.

والخيانة العظمى التي قام بها بعض زعماء ذلك الجيش أنّهم راسلوا

__________________

(١) المغول : آلة تشبه السيف.

(٢) الإرشاد / ١٧٠.

(٣) و (٤) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٠٢ ـ ١٠٥.

(٥) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٠٣.

١١٣

معاوية ، وضمنوا له تسليم الإمام (عليه السّلام) أسيراً ، أو اغتياله متى رغب وشاء(١) ، وأقضَّ ذلك مضجع الإمام (عليه السّلام) ، فخاف أنْ يؤسر ويُسلّم إلى معاوية فيمنّ عليه ، ويسجّل بذلك يداً لبني اُميّة على الأُسرة النّبوية ، كما كان (عليه السّلام) يتحدّث بذلك بعد إبرام الصلح.

٤ ـ نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام).

وعمد أجلاف أهل الكوفة إلى نهب أمتعة الإمام (عليه السّلام) وأجهزته ، فنزعوا بساطاً كان جالساً عليه ، كما سلبوا منه رداءه(٢) .

هذه بعض الأحداث الرهيبة التي قام بها ذلك الجيش الذي تمرّس في الخيانة والغدر.

الصلحُ :

ووقف الإمام الحسن (عليه السّلام) مِن هذه الفتن السود موقف الحازم اليقظ ، الذي تمثّلت فيه الحكمة بجميع رحابها ومفاهيمها ، فرأى أنّه أمام أمرين :

١ ـ أنْ يفتح باب الحرب مع معاوية ، وهو على يقين لا يخامره أدنى شك أنّ الغلبة ستكون لمعاوية ؛ فإمّا أنْ يُقتل هو وأصحابه وأهل بيته الذين يمثّلون القيم الإسلامية ، ويخسر الإسلام بتضحيتهم قادته ودعاته مِن دون أنْ تستفيد القضية الإسلامية أيّ شيء ؛ فإنّ معاوية بحسب قابلياته الدبلوماسية يحمّل المسؤولية على الإمام (عليه السّلام) ، ويُلقي على تضحيته ألف حجاب ، أو أنّه يؤسر فيمنّ عليه معاوية فتكون سيئة على بني هاشم ، وفخراً لبني اُميّة.

٢ ـ أنْ يصالح معاوية فيحفظ للإسلام رجاله ودعاته ، ويبرز في

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٠٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي.

١١٤

صلحه واقع معاوية ، ويكشف عنه ذلك الستار الصفيق الذي تستّر به ، وقد اختار (عليه السّلام) هذا الأمر على ما فيه مِن قذى في العين ، وشجى في الحلق.

ويقول المؤرّخون : إنّه جمع جيشه فعرض عليهم الحرب أو السلم ، فتعالت الأصوات مِن كلّ جانب وهم ينادون : البقيّة البقيّة(١) .

لقد استجابوا للذلّ ورضوا بالهوان ومالوا عن الحقّ ، وقد أيقن الإمام (عليه السّلام) أنّهم قد فقدوا الشعور والإحساس ، وأنّه ليس بالمستطاع أنْ يحملهم على الطاعة ويكرههم على الحرب ، فاستجاب ـ على كره ومرارة ـ إلى الصلح.

لقد كان الصلح أمراً ضرورياً يحتّمه الشرع ، ويلزم به العقل ، وتقضي به الظروف الاجتماعية الملبدة بالمشاكل السياسية ؛ فإنّ مِن المؤكد أنّه لو فتح باب الحرب لمُنِيَ جيشه بالهزيمة ، ومُنِيَت الأُمّة مِن جرّاء ذلك بكارثة لا حدّ لأبعادها.

أمّا كيفية الصلح وشروطه وأسبابه ، وزيف الناقدين له فقد تحدّثنا عنها بالتفضيل في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام).

موقفُ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

والشيء المحقّق أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) قد تجاوب فكرياً مع أخيه في أمر الصلح ، وأنّه تمّ باتفاقٍ بينهما ، فقد كانت الأوضاع الراهنة تقضي بضرورته ، وأنّه لا بدّ منه.

وهناك بعض الروايات الموضوعة تعاكس ما ذكرناه ، وأنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) كان كارهاً للصلح ، وقد همّ أنْ يعارضه فأنذره أخوه

__________________

(١) حماة الإسلام ١ / ١٢٣ ، المجتنى لابن دريد / ٣٦.

١١٥

بأنْ يقذفه في بيت فيطيّنه عليه حتّى يتمّ أمر الصلح ، فرأى أنّ مِن الوفاء لأخيه أنْ يطيعه ولا يخالف له أمراً ، فأجابه إلى ذلك. وقد دلّلنا على افتعال ذلك وعدم صحته إطلاقاً في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام).

عدي بن حاتم مع الحسين (عليه السّلام) :

ولمّا أُبرم أمر الصلح خفّ عدي بن حاتم ومعه عبيدة بن عمر إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) وقلبه يلتهب ناراً ، فدعا الإمامَ إلى إثارة الحرب قائلاً : يا أبا عبد الله ، شريتم الذلّ بالعزّ ، وقبلتم القليل وتركتم الكثير! أطعنا اليوم واعصنا الدهر ؛ دع الحسن وما رأى مِن هذا الصلح ، واجمع إليك شيعتك مِن أهل الكوفة وغيرها ، وولّني وصاحبي هذه المقدمة ، فلا يشعر ابن هند إلاّ ونحن نقارعه بالسيوف.

فقال الحسين (عليه السّلام) : «إنّا قد بايعنا وعاهدنا ولا سبيل لنقض بيعتنا»(١) . ولو كان الحسين (عليه السّلام) يرى مجالاً للتغلّب على الأحداث لخاض الحرب وناجز معاوية ، ولكنْ قد سُدّتْ عليه وعلى أخيه جميع النوافذ والسبل ، فرؤوا أنّه لا طريق لهم إلاّ الصلح.

تحوّلُ الخلافة :

وتحوّلت الخلافة الإسلاميّة مِن طاقتها الأصيلة ومفاهيمها البنّاءة إلى مُلْكٍ عضوض مستبد ، لا ظل فيه للعدل ، ولا شبح فيه للحقّ ؛ قد تسلّطت الطغمة

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٠٣.

١١٦

الحاكمة مِن بني أُميّة على الأُمّة ، وهي تمعن في إذلالها ونهب ثرواتها وإرغامها على العبودية. يقول بعض الكتّاب : ونجمَ عن زوال الخلافة الراشدة وانتقال الخلافة إلى بني أُميّة نتائج كبيرة ، فقد انتصرت اُسرة بني أُميّة على الاُسرة الهاشميّة ، وهذا كان معناه انتصار الأرستقراطية القرشية وأصحاب رؤوس المال والمضاربات التجارية على أصحاب المبادئ والمُثل.

لقد كان نصر معاوية هزيمة لكلّ الجهود التي بُذلت للحدّ مِن طغيان الرأسمالية القرشية ، هزيمة لحلف الفضول ، وهزيمة للدوافع المباشرة لقيام الإسلام وحربه على الاستغلال والظلم ، هزيمة للمُثل والمبادئ ، ونجاح للحنكة والسياسة المدعومة بالتجربة والمال ، ولقد كان لهذه الهزيمة وقع مفجع على الإسلام وأجيال المسلمين.

ويقول نيكلسون : واعتبر المسلمون انتصار بني أُميّة وعلى رأسها معاوية ، انتصاراً للأرستقراطية والوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء ، والتي جاهدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى قضى عليها ، وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتّى نصرهم الله ، وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام ، ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السّراء والضرّاء ، وأزال سيادة رهطٍ كانوا يحتقرون الفقراء ، ويستذلون الضعفاء ، ويبتزّون الأموال.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد فُجع العالم الإسلامي بعد الصلح بكارثة كبرى ، فخرج مِن عالم الدعة والأمن والاستقرار إلى عالم مليء بالظلم والجور ؛ فقد أسرع الاُمويّون بعد أنْ استتب لهم الأمر إلى الاستبداد بشؤون المسلمين ، وإرغامهم على ما يكرهون.

وعانى الكوفيّون مِن الظلم ما لم يعانه غيرهم ؛ فقد أخذت

١١٧

السلطة تحاسبهم حساباً عسيراً على وقوفهم مع الإمام (عليه السّلام) في أيّام صفين ، وعهدت في شؤونهم إلى الجلادين أمثال المغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، فصبّوا عليهم وابلاً مِن العذاب الأليم ، وأخذ الكوفيّون يندبون حظهم التعيس على ما اقترفوه من عظيم الإثم في خذلانهم للإمام أمير المؤمنين وولده الحسن (عليهما السّلام) ، وجعلوا يلحّون على الإمام الحسين (عليه السّلام) بوفودهم ورسائلهم لينقذهم مِن ظلم الاُمويِّين وجورهم. إلاّ أنّ مِن المدهش حقّاً أنّه لمّا استجاب لهم شهروا في وجهه السّيوف ، وقطّعوا أوصاله وأوصال أبنائه على صعيد كربلاء وبهذا ينتهي بنا المطاف عن اُفول دولة الحقّ.

١١٨

حكومةُ معاوية

١١٩
١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

ذلك فيما يرويه المؤرخون أن معاوية أراد عزله عن الكوفة فبلغه ذلك ، فرأى أن يسافر الى دمشق ويبادر بتقديم استقالته عن منصبه حتى لا تكون عليه حزازة ، وليرى الناس أنه كاره للإمارة والحكم ، ولما وصل الى دمشق عنّ له أن يلتقي بيزيد قبل التقائه بمعاوية فيحبذ له الخلافة من بعد أبيه ليتخذ من اغرائه وسيلة الى اقراره فى الحكم ، كما أدلى بذلك لأصحابه ولما التقى بيزيد قال له :

« إنه قد ذهب أعيان أصحاب محمد (ص) وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم ، وأحسنهم رأيا ، وأعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟. »

ولما سمع ذلك يزيد الطائش المغرور طار لبه فرحا وسرورا فانبرى إليه قائلا :

« أو ترى ذلك يتم؟ »

« نعم ».

ومضى يزيد مستعجلا الى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فارتاح معاوية بذلك وبعث بالوقت خلفه فعرض عليه مقالته ليزيد فأجابه بصدور ذلك منه ثم انبرى إليه يحفزه على تحقيق هذه الفكرة قائلا له مقال المنافق الذي لا يعرف الخير ولا يفكر به :

« يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان. وفي يزيد منك خلف فاعقد له ، فان حدث بك حدث كان كهفا للناس وخلفا منك ، ولا تسفك دماء ، ولا تكون فتنة!! »

وأصابت هذه الكلمات الهدف المقصود لمعاوية فقال له مخادعا ومستشيرا :

« ومن لي بهذا؟ »

٤٢١

« أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك. »

فاستحسن معاوية رأيه ، وأجازه على ذلك فأقره فى عمله ، ثم أمره بالخروج الى الكوفة ليعمل على تحقيق ذلك ، ولما انصرف عنه اجتمع بقومه فبادروه بالسؤال عن مصيره فأجابهم بما جلبه من البلاء والفتن لعموم المسلمين من أجل غايته قائلا :

« لقد وضعت رجل معاوية فى غرز بعيد الغاية على أمة محمد (ص) وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبدا » وتمثل :

بمثلي شاهد النجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى انتهى الى الكوفة ، ففاوض بمهمته جماعة ممن عرفهم بالولاء والإخلاص للبيت الأموي فأجابوه الى ما أراد فأوفد منهم عشرة الى معاوية بعد أن أرشاهم بثلاثين ألف درهم ، وجعل عليهم عميدا ولده موسى ، فلما انتهوا الى معاوية حبذوا له الأمر ودعوه الى انجازه فشكرهم معاوية ، وأوصاهم بكتمان الأمر ، ثم التفت الى ابن المغيرة فساره قائلا :

« بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ »

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية وقال :

« لقد هان عليهم دينهم »(1) .

لقد توصل معاوية الى تحقيق ذلك بشراء الأديان والضمائر والى الاعتماد

__________________

(1) تأريخ الطبري 6 / 169 ، الكامل لابن الأثير 3 / 214 ، وكان قدوم المغيرة على معاوية في سنة 45 ، ففي هذه السنة عمل معاوية مقدمات البيعة لولده.

٤٢٢

على الوسائل التي لم يألفها المسلمون ، ولم يقرها الدين.

وفود الأمصار :

ووجه معاوية دعوة رسمية الى جميع الشخصيات الرفيعة فى العالم الإسلامى يدعوهم الى الحضور في دمشق ليفاوضهم في أمر البيعة ليزيد ، فلما حضروا عنده دعا الضحاك بن قيس الفهري سرّا وقال له :

« إذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامى ، فاستاذني للقيام ، فاذا أذنت لك فاحمد الله تعالى ، واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم ادعني الى توليته من بعدي فاني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فاسأل الله في ذلك ، وفى غيره الخيرة وحسن القضاء ».

ثم دعا فريقا آخر من الأذناب والعملاء الذين هان عليهم دينهم فباعوه بأبخس الأثمان ، فأمرهم بتصديق مقالة الضحاك وتأييد فكرته ، وهم : عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ، وعبد الله بن مسعدة الفزاري ، وثور بن معن السلمي ، وعبد الله بن عصام الأشعري ، فاستجابوا لدعوته ، ونزى معاوية على المنبر فحدث الناس بما شاء أن يتحدث به ، وبعد الفراغ من حديثه انبرى إليه الضحاك فاستأذنه بالكلام فأذن له ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : « أصلح الله أمير المؤمنين ، وأمتع به ، إنا قد بلونا الجماعة والألفة والاختلاف ، والفرقة ، فوجدناها ألمّ لشعثنا ، وأمنة لسبلنا ، وحاقنة لدمائنا وعائدة علينا فى عاجل ما نرجو ، وآجل ما نؤمل ، مع ما ترجو به الجماعة من الألفة ، ولا خير لنا أن نترك سدى ، والأيام عوج رواجع والله يقول : « كل يوم هو في شأن » ، ولسنا ندري ما يختلف به العصران ، وأنت

٤٢٣

يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه ، نسأل الله بك المتاع ، وقد رأينا من دعة يزيد بن أمير المؤمنين ، وحسن مذهبه وقصد سيرته ، ويمن نقيبته ، مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين ، والشبه بأمير المؤمنين ، في عقله ، وسياسته وشيمته المرضية ، ما دعانا الى الرضا به في امورنا ، والقنوع به في الولاية علينا ، فليوله أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ عهده ، وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده ، نأوي إليه إن كان كون ، فانه ليس أحد أحق بها منه ، فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ، ووفقك في امورنا ».

ودل هذا الكلام على أن صاحبه رجل سوء ونفاق ، فقد عمد الى سحق جميع القيم الإنسانية في سبيل أطماعه ومنافعه.

ولما فرغ الضحاك من مقالته انبرى من بعده زملاؤه فأيدوا مقالته ، وأخذوا ينسبون ليزيد فضائل المحسنين ، ويضفون عليه مواهب العبقريين ، ويطلقون عليه الألقاب الضخمة ، والنعوت الشريفة التي اتصف بعكسها ، وأخذوا يموهون على المجتمع أنهم إنما تكلموا من صالحه واسعاده ، وهم ـ يعلم الله ـ إنما أرادوا هلاكه وتحطيمه ، والقضاء على نواميسه ومقدساته وبعد ما انتهى حديث هؤلاء التفت معاوية الى الوفد العراقي ليسمع رأيه وكان شخصية الوفد الأحنف بن قيس حليم العرب وسيد تميم فطلب منه معاوية الرأي فى الأمر ، فقام الأحنف خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم التفت الى معاوية قائلا :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان الناس قد أمسوا فى منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد بن أمير المؤمنين ، نعم الخلف وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين فاعرف من تسند إليه الأمر من

٤٢٤

بعدك ، ثم اعص أمر من يأمرك ، لا يغررك من يشير عليك ، ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا » :

لقد منح الأحنف النصيحة الى معاوية وأرشده الى الحق فأشار عليه بعدم سماع أقوال المرتزقين الذين ينظرون الى صالح أنفسهم أكثر مما ينظرون لصالحه ، وبيّن له أن العراقيين والحجازيين لا يرضون بهذه البيعة ما دام حفيد الرسول وسبطه الأول حيا ، وقد اثارت هذه الكلمات غضب النفعيين والمرتشين الذين تذرع معاوية بهم الى تحقيق هدفه فقام إليه الضحاك بن قيس فندد بمقالته وشتم العراقيين وهذا نص كلامه :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق ، والفتهم في دينهم الفراق ، يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون بأقفائهم ، اختالوا جهلا وبطرا ، لا يرقبون من الله راقبة ، ولا يخافون وبال عاقبة ، اتخذوا ابليس لهم ربا ، واتخذهم ابليس حزبا ، فمن يقاربوه لا يسروه ، ومن يفارقوه لا يضروه ، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين فى نحورهم ، وكلامهم في صدورهم ، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ، ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا أنفسكم يا أهل العراق على المناصحة لإمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الآجل ».

ولم نحسب أن العراق قد ذم بمثل هذا الذم الفظيع ، أو وصم بمثل هذه الامور ، ولكن العراقيين هم الذين جروا لأنفسهم هذا البلاء وتركوا هذا الوغد وأمثاله يحط من كرامتهم ، ويتطاول عليهم.

٤٢٥

وعلى أي حال ، فان الأحنف لم يذعن لمعاوية ولم يعتن بمقالة الضحاك فقد انبرى يهدد معاوية باعلان الحرب إن أصرّ على تنفيذ فكرته قائلا :

« يا أمير المؤمنين ، إنا قد فررنا(1) عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا ، وأشدها عقدا ، وأوفاها عهدا ، قد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قعصا ، ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك ، فان تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم ، والله إن وراء الحسن خيولا جيادا ، وأذرعا شدادا ، وسيوفا حدادا ، إن تدن له شبرا من غدر ، تجد وراءه باعا من نصر ، وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ، ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما ، وما نزل عليهم فى ذلك غير من السماء ، وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم ، والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم ، وأيم الله إن الحسن لأحب لأهل العراق من علي ».

لقد بالغ الأحنف فى نصح معاوية ، وذكر له تمسك العراقيين بولاء أهل البيت (ع) وان اخلاصهم للإمام الحسن أكثر من أبيه ، وهم على استعداد الى مناجزته إن نفذ بيعة يزيد ، وانطلق عبد الرحمن بن عثمان فندد بمقالة الأحنف ، وحرض معاوية على تنجيز مهمته قائلا له :

« أصلح الله أمير المؤمنين ، ان رأي الناس مختلف ، وكثير منهم منحرف ، لا يدعون أحدا الى رشاد ، ولا يجيبون داعيا الى سداد ، مجانبون لرأي الخلفاء ، مخالفون لهم في السنة والقضاء ، وقد وقفت ليزيد فى أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية ، فاذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فان يزيد أعظمنا حلما وعلما ، وأوسعنا كنفا ، وخيرنا سلفا ، قد

__________________

(1) فررنا : أي بحثنا وفتشنا.

٤٢٦

أحكمته التجارب ، وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ، ولا يقفن بك دونها واقف ، ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو ، وفي صدره داء دوّى ، إن قال فشر قائل ، وإن سكت فذو دغائل ، قد عرفت من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والكلف للتفريق فاجعل ببيعته عنا الغمة ، واجمع به شمل الأمّة ، فلا تحد عنه إذا هديت له ، ولا تنش عنه إذا وقفت له ، فان ذلك الرأي لنا ولك ، والحق علينا وعليك ، اسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك ».

وصورت لنا هذه الكلمات ضميرا قلقا ، ونفسا أثيمة ، قد اعتنقت الشر ، وابتعدت عن الخير ، وانبرى معاوية يهدد من لا يوافقه على رغبته ليفرض على المجتمع الخضوع لفكرته ، والرضا ببيعة يزيد قائلا :

« أيها الناس : إن لإبليس إخوانا وخلاّنا ، بهم يستعد ، وإياهم يستعين ، وعلى ألسنتهم ينطق ، إن رجوا طمعا أو جفوا ، وإن استغنى عنهم أرجفوا ، ثم يلحقون الفتن بالفجور ، ويشققون لها حطب النفاق ، عيابون مرتابون ، إن ولوا عروة أمر حنقوا ، وإن دعوا الى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ، ولا بمقلعين ، ولا متعظين ، حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل ، وتحل بهم قوارع أمر جليل ، تجتث اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(1) فأولى لأولئك ثم أولى ، فانا قد قدما وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر ».

بمثل هذا الإرهاب الفظيع الذي لم يعهد له نظير تذرع معاوية الى تحقيق فكرته ، ثم استدعى الضحاك بن قيس فولاه الكوفة جزاء لكلامه

__________________

(1) الفقع : بالفتح والكسر ، البيضاء الرخوة من الكماة.

٤٢٧

بعد هلاك المغيرة ، واستدعى عبد الرحمن فولاه الجزيرة ، وقام يزيد بن المقفع رافعا عقيرته قائلا :

« أمير المؤمنين هذا ـ وأشار الى معاوية ـ ».

ثم قال : « فإن هلك ، فهذا ـ وأشار الى يزيد ـ ».

ثم قال : « فمن أبى ، فهذا ـ وأشار الى السيف ـ!!! »

فاستحسن معاوية كلامه وقال له :

« اجلس ، فأنت سيد الخطباء وأكرمهم!! »

بهذا اللون من الإرهاب فرض معاوية ابنه الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين ، فلولا السيف لما وجد الى ذلك سبيلا. ولما رأى الأحنف بن قيس تصميم معاوية على فكرته وعدم تنازله عنها انبرى إليه قائلا :

« يا أمير المؤمنين : أنت أعلمنا بليله ونهاره ، وبسره وعلانيته ، فان كنت تعلم أنه خير لك فوله واستخلفه ، وإن كنت تعلم أنه شر لك ، فلا تزوده الدنيا وأنت صائر الى الآخرة ، فانه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب ، واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما ، وإلى ما هما ، وإنما علينا أن نقول : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير »(1) .

ولم يعتن معاوية بمقالة الأحنف ونصحه ، ولم يفكر في مصير المسلمين إذا استخلف عليهم ولده قرين الفهود والمدمن على الخمور ، وأخذ معاوية ولده يزيد فأجلسه فى قبة حمراء وبايعه بولاية العهد وأمر الناس بمبايعته ، وأقبل بعض العملاء فسلم عليهما ثم أقبل على معاوية فقال له :

« يا أمير المؤمنين : اعلم انك لو لم تول هذا ـ وأشار الى يزيد ـ

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 174 ـ 180.

٤٢٨

أمور المسلمين لاضعتها ».

فالتفت معاوية الى الأحنف :

« ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ »

ـ أخاف الله إذا كذبت ، وأخافكم إذا صدقت.

ـ جزاك الله على الطاعة خيرا.

وخرج الأحنف فلقيه ذلك الرجل بعد أن أجزل له معاوية بالعطاء فقال للأحنف معتذرا من مقالته :

« يا أبا بحر : إني لأعلم ان شر من خلق الله هذا وابنه ـ يعنى معاوية ويزيد ـ ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال ، فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت »(1) .

لقد أحدث معاوية بهذه البيعة المشومة صدعا في الإسلام ، وقد صور لنا الشاعر الموهوب عبد الله بن هشام السلولي بمقطوعته الرائعة جزعه وجزع خيار المسلمين من خلافة يزيد بقوله :

فان تأتوا برملة أو بهند

نبايعها أميرة مؤمنينا

إذا ما مات كسرى قام كسرى

نعد ثلاثة متناسقينا

فيا لهفا لو أن لنا ألوفا

ولكن لا نعود كما عنينا

إذا لضربتموا حتى تعودوا

بمكة تلعقون بها السخينا

خشينا الغيظ حتى لو شربنا

دماء بني أميّة ما روينا

لقد ضاعت رعيتكم وأنتم

تصيدون الأرانب غافلينا(2)

لقد ذعر المسلمون في جميع أقطار الأرض من هذا الحادث الخطير

__________________

(1) تاريخ ابن خلكان 1 / 230 ، التمدن الإسلامى 4 / 76 ـ 77.

(2) مروج الذهب 2 / 339.

٤٢٩

لأن الخلافة عندهم ليست كسروية ولا قيصرية حتى تورث بل أمرها شورى بين المسلمين يختارون لخلافتهم من أحبوا وذلك عند الجمهور من أبناء السنة والجماعة ، وأما عند الشيعة فإنها حق شرعي لأمير المؤمنين وأولاده الطيبين كما نصّ النبي (ص) على ذلك.

ومهما يكن من شيء فإن معاوية بعد ما أخذ البيعة ليزيد من أهل دمشق رفع مذكرة الى جميع عماله يطلب فيها أخذ البيعة ليزيد من جميع المواطنين ، واستجاب جميع عماله لذلك سوى مروان بن الحكم فإنه قد ورم أنفه لصرف الأمر عنه وهو شيخ الأمويين بعد معاوية ، وتوجّه فورا بحاشيته الى دمشق ، فلما مثل عند معاوية انبرى إليه وهو مغيظ قائلا :

« أقم الامور يا ابن أبي سفيان ، واعدل عن تأميرك الصبيان ، واعلم أن لك من قومك نظراء ، وأن لك على مناوءتهم وزراء ».

فاندفع إليه معاوية يخادعه قائلا له بناعم القول :

« أنت نظير أمير المؤمنين ، وعدته في كل شديدة ، وعضده ، والثاني بعد ولي عهده. »

ثم أعطاه ولاية العهد حيلة منه ومكرا وأخرجه من عاصمته مكرما فلما وصل الى يثرب عزله عن منصبه(1) وجعل مكانه سعيد بن العاص وقيل الوليد بن عاقبة ، وكتب إليه أن يأخذ البيعة من أهل المدينة لولده إلا انه فشل أخيرا فى أداء مهمته فقد أصرت الجماهير على رفض دعوة معاوية وعدم طاعته في شأن خليفته الجديد ، خصوصا الشخصيات الرفيعة من أبناء المهاجرين والأنصار فإنهم قد شجبوا ذلك وأعلنوا سخطهم وإنكارهم على معاوية ، فإنهم كانوا يحقرون يزيد ويأنفون أن يعد في مصافهم ،

__________________

(1) مروج الذهب 2 / 330.

٤٣٠

فضلا عن أن يكون خليفة عليهم.

سفرة معاوية الاولى بشرب :

ورأى معاوية بعد امتناع المدنيين عن بيعة يزيد واجماعهم على رفضها أن ينطلق بنفسه الى المدينة ليفاوض أهل الحل والعقد ، وليشتري الذمم والضمائر بالأموال ، ويتوعد ويرهب من لم يخضع للمادة ليفوز ولده بالخلافة وسافر من أجل هذه الغاية الى يثرب وذلك سنة خمسين من الهجرة ، فلما انتهى إليها بعث فورا نحو عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير. فلما حضروا عنده أمر حاجبه أن لا يسمح لأحد بالدخول عليه حتى يخرج هؤلاء النفر من عنده ثم التفت إليهم قائلا :

« الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فإني قد كبر سني ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أن أدعى فأجيب ، وقد رأيت أن أستخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارهم ، وأبناء خيارهم ، ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما علي ، على حسن رأيي فيهما ، وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا ، رحمكم الله ».

وقد احتوى كلامه على اللين والمدح والثناء ، ولكن هؤلاء الأبطال الذين هم نخبة العرب والمسلمين رأيا وإقداما ، لم يذعنوا لمعاوية وردوا عليه مقاله وعرفوه بمن هو أهل للخلافة وأول من تكلم منهم حبر الأمّة عبد الله

٤٣١

ابن عباس فقال :

« الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده ، واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وصلى الله على محمد وآل محمد.

أما بعد : فانك قد تكلمات فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإن الله جل ثناؤه ، وتقدست أسماؤه اختار محمدا (ص) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرف به ، وأولاهم بالأمر أخصهم به ، وإنما على الأمّة التسليم لنبيها ، إذا اختاره الله لها ، فإنه إنما اختار محمدا (ص) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم ».

وتكلم من بعده عبد الله بن جعفر فقال :

« الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه : نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقه ، وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله (ص).

أما بعد : فان هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أخذ فيها بسنة رسول الله (ص) فأولو رسول الله (ص) ، وإن أخذ فيها بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول؟ وأيم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ، ولأطيع الرحمن وعصي الشيطان ، وما اختلف في الأمّة سيفان ، فاتق الله يا معاوية ، فانك قد صرت راعيا ، ونحن رعية ، فانظر لرعيتك ، فانك مسئول عنها غدا ، وأما ما ذكرت من ابني عمي ، وتركك أن تحضرهما ، فو الله ما أصبت الحق ، ولا يجوز لك ذلك إلا بهما ، وإنك لتعلم انهما معدن العلم

٤٣٢

والكرم ، فقل أودع واستغفر الله لي ولكم ».

وبيّن عبد الله بن جعفر استحقاق أهل البيت (ع) للخلافة على جميع الوجوه فان كان مدرك استحقاقها القرآن الكريم فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ، وإن كانت السنة المقدسة قال الرسول أولى بالأمر من غيرهم ، وإن كانت سنة الشيخين قال الرسول (ص) أولى بالأمر وذلك لمواهبهم وكمالهم وتقدمهم على غيرهم بالعلم والفضل ، ثم بيّن الأضرار الناجمة من ترك الأمّة لهم وعدم اتباعهم ، وانبرى من بعده عبد الله بن الزبير فقال :

« الحمد لله الذي عرفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد : فان هذه الخلافة لقريش خاصة ، تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتق الله يا معاوية وأنصف نفسك ، فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله (ص) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله (ص) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله ، وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتق الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك ».

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وحفزهم لمعارضة معاوية وإفساد مهمته ، وانبرى من بعده عبد الله بن عمر فقال :

« الحمد لله الذي أكرمنا بدينه ، وشرفنا بنبيه (ص).

أما بعد : فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ، ولا قيصرية ، ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلنى مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست

٤٣٣

شرطا مشروطا ، وإنما هي في قريش خاصة ، لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ممن كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها ، واعلم انه لا يغني عنك من الله شيئا ».

لقد شجب ابن عمر بيعة يزيد ولكنه لم يلبث أن سمع وأطاع وبايع له لأن معاوية قد أرشاه بمائة ألف دينار(1) وبذلك فقد باع عليه ضميره ودينه.

ومهما يكن من شيء فان معاوية قد ثقل عليه كلام هؤلاء النفر فلقد جابهوه بعدم صلاحية ابنه للخلافة ، وانهم أولى بها منه ، وانبرى إليهم مجيبا :

« قد قلت وقلتم ، وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحب إلي من أبنائهم ، مع ان ابني إن قاولتموه وجد مقالا ، وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله (ص) فلما مضى رسول الله ولىّ الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك الى بني عبد مناف فلا يزال فيهم الى يوم القيامة وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها ، فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ».

وعلى أي حال فقد فشل معاوية فى مهمته ونزح عن يثرب وولى الى عاصمته ، وأعرض عن ذكر بيعة يزيد(2) فلقد عرف انها لا تتم ما دام الحسن حيا ، فأخذ يطيل التفكير في كيفية اغتيال الإمام حتى يتم له الأمر وقد توصل الى ما أراد ، فاغتاله بالسم كما سنبينه عند نهاية المطاف من هذا الكتاب.

__________________

(1) سنن البيهقي 8 / 159 ، تأريخ ابن كثير 8 / 137 ، فتح الباري 13 / 59.

(2) الامامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

٤٣٤

لقد اتخذ معاوية بعد اغتياله للإمام جميع التدابير ، واعتمد على جميع الوسائل فى ارغام المسلمين على بيعة يزيد ، وفرضه حاكما عليهم ، وقد راسل الوجوه من أبناء المهاجرين والأنصار يدعوهم الى ذلك ، وذكر المؤرخون نصوص رسائله مع أجوبتهم له ، وقد كتب الى الإمام الحسينعليه‌السلام ما نصه :

« أما بعد : فقد انتهت إلي منك امور ، لم أكن أظنك بها رغبة عنها ، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ، ومنزلتك التي أنزلك الله بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق الله ، ولا تردن هذه الأمّة في فتنة ، وانظر لنفسك ودينك وأمّة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون »

وأجابه أبو الشهداء (ع) فذكر له الاحداث الجسام التي ارتكبها وعرض عليه ما مني به المسلمون من الظلم والجور فى دوره ، وقد استشهدنا ببعض فصوله للاستدلال به على شجب الإمام الحسين (ع) لموبقات معاوية وقد جاء فى آخر جوابه ما لفظه :

« وقلت فيما قلت : لا ترد هذه الأمّة في فتنة. وإني لا أعلم فتنة لها أعظم من امارتك عليها.

وقلت فيما قلت : انظر لنفسك ولدينك ، ولأمّة محمد ، وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وإن لم أفعل فأستغفر الله لذنبي وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى.

وقلت فيما قلت : متى تكدني أكدك ، فكدني يا معاوية فيما بدا لك فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ، ولا تمحق إلا عملك ، فكدني ما بدا لك.

٤٣٥

واتق الله يا معاوية ، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها! واعلم أن الله ليس بناس لك ، قتلك بالظنة ، وأخذك بالتهمة وامارتك صبيا يشرب الخمر ، ويلعب بالكلاب!! ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام. »(1)

ولم يجد مع ابن هند النصح ، ولا التحذير من عقوبة الله ، فقد راح يعمل بوحي من جاهليته الى ضرب الإسلام ، والى ارغام المسلمين على مبايعة يزيد المستحل لجميع ما حرم الله.

سفره الثاني الى يثرب :

ولما رأى معاوية أن خيار الصحابة ، وأبناء المهاجرين والأنصار لم يستجيبوا لدعوته ، وأصروا على رفض بيعة يزيد سافر مرة أخرى الى يثرب ، وقد أحاط نفسه بالقوى العسكرية ليرغم الجبهة المعارضة على الاستجابة له ، وفي اليوم الثاني من قدومه أرسل الى الإمام الحسين ، والى عبد الله بن عباس ، وسبق ابن عباس فأجلسه معاوية عن يساره وشاغله بالحديث حتى أقبل الحسين (ع) فأجلسه عن يمينه وسأله عن بني الحسن وعن أسنانهم فاخبره بذلك ، وخطب معاوية خطبة أشاد فيها بيزيد ، وذكر علمه بالقرآن والسنة ، وحسن سياسته ، ثم دعاهم الى بيعته والى الاستجابة لقوله.

خطبة الامام الحسين :

وقام أبي الضيم بعد خطاب معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 188 ـ 190.

٤٣٦

« أما بعد : يا معاوية ، فلن يؤدي القائل وإن أطنب في صفة الرسول (ص) من جميع جزءا ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله (ص) من ايجاز الصفة ، والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، واستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حق من اسم حقه من نصيب ، حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنك تصف محجوبا ، أو تنعت غائبا ، أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش والحمام السبّق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصرا.

ودع عنك ما تحاول!! فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فو الله ما برحت تقدح باطلا في جور ، وحنقا في ظلم ، حنى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تراثا ، ولقد لعمر الله أورثنا الرسول (ص) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرسول فاذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا اولي الأبصار.

٤٣٧

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (ص) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمر الله يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال (ص) : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف تحتج بالمنسوخ من فعل الرسول فى أوكد الأحكام ، وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعا ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد فى دينه وقرابته وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي فى دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إن هذا لهو الخسران المبين ، واستغفر الله لي ولكم. »

وذهل معاوية فنظر الى ابن عباس فقال له :

« ما هذا يا ابن عباس؟؟ »

« لعمر الله إنها لذرية الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، قاله عما تريد ، فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين »(1) .

وانصرف الإمام (ع) وترك الأسى يحر في نفس معاوية ، واعتمد معاوية بعد ذلك على جميع وسائل العنف والإرهاب ، فقد روى المؤرخون أنه لما كان في مكة أحضر الإمام الحسين ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن ابن أبي بكر ، وابن عمر وقال لهم : إني أتقدم إليكم ، إنه قد أعذر من أنذر ، إني كنت أخطب فيكم ، فيقوم إليّ القائم منكم فيكذبني على رءوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح. وإني قائم بمقالة ، فأقسم بالله لئن ردّ عليّ

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٤٣٨

أحدكم كلمة فى مقامى هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف الى رأسه ، فلا يبقينّ رجل إلا على نفسه!

ودعا صاحب حرسه بحضورهم فقال له : أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف ، فان ذهب رجل يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما؟!

وخرج وخرجت الجماعة معه فنزى على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتز أمر دونهم ، ولا يقضى إلا عن مشورتهم ، وانهم قد رضوا وبايعوا يزيد ، فبايعوا على اسم الله »(1) .

وبهذه الوسائل الرهيبة ، والكذب السافر حمل معاوية المسلمين على بيعة يزيد وقد انتهك بذلك الحرمات ، والقى المسلمين فى الفتن والبلاء.

عائشة وبيعة يزيد :

ولم تعارض عائشة هذه البيعة المشومة ، ولم تعمل أي عمل إيجابي ضد هذه الكارثة الكبرى التي روع بها المسلمون ، وانتهكت بها حرمة الإسلام ، فقد كانت تدلي بالرأي لمعاوية في حمل المعارضين على الطاعة فقد أوصته بالرفق بهم ، واللين معهم ليستجيبوا له قائلة :

« وارفق بهم ـ أي بالمعارضين ـ فإنهم يصيرون الى ما تحب إن شاء الله!! »(2)

__________________

(1) الكامل لابن الأثير وغيره.

(2) الإمامة والسياسة.

٤٣٩

لقد وقفت عائشة هذا الموقف المؤسف من بيعة يزيد الماجن الخليع وهي من دون شك تعلم بفسقه ، وبلعبه بالفهود والقرود ، واستباحته لما حرم الله ، إن الفكر ليقف حائرا أمام موقفها هذا ، وموقفها من بيعة أمير المؤمنين (ع) الذي هو أخو النبي وأبو سبطيه ، وباب مدينة علمه ، فإنها لما أخبرت ببيعته انهارت أعصابها ، وهتفت وهي حانقة مغيظة ، وبصرها يشير الى السماء ثم ينخفض فيشير الى الأرض قائلة :

« والله ليت هذه انطبقت على هذه إن تمّ الأمر لابن أبي طالب!! »

وقفلت راجعة الى مكة تحفز الجماهير لحرب الإمام رائد العدالة الاجتماعية الكبرى في الأرض ، فقادت الجيوش لمناجزته حتى أغرقت الأرض بالدماء ، وأشاعت الثكل والحزن والحداد بين المسلمين للإطاحة بحكمه.

وعلى أي حال ، فإن موقف عائشة من بيعة يزيد ، وتأييد ابن عمر وسائر القوى النفعية لها قد أخلد للمسلمين الفتن والمصاعب وجرّ لهم الويلات والخطوب ، فقد سارت الخلافة الإسلامية تنتقل بالوراثة الى الطلقاء وأبنائهم الذين لم يألوا جاهدا في الكيد للإسلام ، وفى نشر البغي والفساد في الأرض.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470