حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام16%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307404 / تحميل: 6768
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

واستقبل المسلمون حكومة معاوية بعد الصلح بكثير مِن الذعر والفزع والخوف ، فقد عرفوا واقع معاوية ووقفوا على اتّجاهاته الفكرية والعقائدية ، فخافوه على دينهم وعلى نفوسهم وأموالهم ، وقد وقع ما خافوه ؛ فإنّه لمْ يكد يستولي على رقاع الدولة الإسلاميّة حتّى أشاع الظلم والجور والفساد في الأرض.

ويقول المؤرّخون : إنّه ساس المسلمين سياسة لمْ يألفوها مِن قبل ، فكانت سياسته تحمل شارات الموت والدمار ، كما كانت تحمل معول الهدم على جميع القيم الأخلاقية والإنسانية ، وقد انتعشت في عهده الوثنية بجميع مساوئها التي نفر منها الناس.

يقول السيّد مير علي الهندي : ومع ارتقاء معاوية الخلافة في الشام عاد حكم التوليغارشية الوثنية السابقة ، فاحتلّ موقع ديمقراطية الإسلام ، وانتعشت الوثنية بكلّ ما يرافقها مِن خلاعات وكأنّها بُعثت مِن جديد ، كما وجدت الرذيلة والتبذّل الخلقي لنفسها مُتّسعاً في كلّ مكان ارتادته رايات حكّام الاُمويِّين مِن قادة جند الشام(١) .

والشيء المؤكّد أنّ حكومة معاوية لمْ تستند إلى رضى الأُمّة أو مشورتها ، وإنّما فُرضت عليها بقوّة السّلاح ، وقد اعترف معاوية بذلك اعترافاً رسمياً بتصريح أدلى به أمام جمهور غفير مِن الناس ، فقال : والله ، ما ولّيتها ـ أي الخلافة ـ بمحبّة علمتها منكم ، ولا مسرّة بولايتي ، ولكنْ جالدتكم بسيفي هذا مجالدة ، فإنْ لمْ تجدوني أقوم مجتمعكم كلّه فاقبلوا منّي بعضه.

ولمّا وقعت الأُمّة فريسة تحت أنيابه بعد الصلح خطب في (النخيلة) خطاباً قاسياً ، أعلن فيه عن جبروته وطغيانه على الأُمّة ، واستهانته بحقوقها ، فقد جاء فيه : والله ، إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ؛ إنّكم لتفعلون ذلك ، وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم ،

__________________

(١) روح الإسلام / ٢٩٦.

١٢١

وقد أعطاني الله ذلك وانتم له كارهون(١) .

ومثّل هذا الخطاب الاتجاهات الشريرة التي يحملها معاوية ، فمِن أجل الإمرة والسيطرة على العباد أراق دماء المسلمين ، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد.

ولا بدّ لنا مِن دراسةٍ موجزة للمخططات السياسية التي تبنتها حكومة معاوية وما رافقها مِن الأحداث الجسام ؛ فإنّها ـ فيما نعتقد ـ مِن ألمع الأسباب في ثورة الإمام الحسين (عليه السّلام) ، فقد رأى ما مُنِيَ به المسلمون في هذا العهد مِن الحرمان والاضطهاد ، وما أُصيبوا به مِن الانحراف والتذبذب مِن جراء النقائص الاجتماعية التي أوجدها الحكم الاُموي ، فهبّ سلام الله عليه ـ بعد هلاك معاوية ـ إلى تفجير ثورته الكبرى التي أدت إلى إيقاظ الوعي الاجتماعي الذي اكتسح الحكم الاُموي ، وأزال جميع معالمه وآثاره وهذه بعض معالم سياسة معاوية.

سياسته الاقتصادية :

ولمْ تكن لمعاوية أيّة سياسة اقتصادية في المال حسب المعنى المصطلح لهذه الكلمة ، وإنّما كان تصرّفه في جباية الأموال وإنفاقها خاضعاً لرغباته وأهوائه ؛ فهو يهب الثراء العريض للقوى المؤيدة له ، ويحرم العطاء للمعارضين له ، ويأخذ الأموال ويفرض الضرائب ، كلّ ذلك بغير حقّ.

إنّ مِن المقطوع به أنّه لمْ يعد في حكومة معاوية أي ظل للاقتصاد الإسلامي الذي عالج القضايا الاقتصادية بأروع الوسائل وأعمقها ، فقد عنى بزيادة الدخل الفردي ، ومكافحة البطالة ، وإذابة الفقر ، واعتبر مال

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ٢٥٤.

١٢٢

الدولة ملكا للشعب يُصرف على تطوير وسائل حياته وازدهار رخائه ، ولكنّ معاوية قد أشاع الفقر والحاجة عند الأكثرية الساحقة مِن الشعب ، وأوجد الرأسمالية عند فئة قليلة راحت تتحكّم في مصير الناس وشؤونهم.

وهذه بعض الخطوط الرئيسة في سياسته الاقتصادية :

الحرمان الاقتصادي :

وأشاع معاوية الحرمان الاقتصادي في بعض الأقطار التي كانت تضمّ الجبهة المعارضة له ، فنشر فيها البؤس والحاجة حتّى لا تتمكن مِن القيام بأيّة معارضة له ، وهذه بعض المناطق التي قابلها بالاضطهاد والحرمان :

١ ـ يثرب :

وسعى معاوية لإضعاف يثرب فلمْ ينفق على المدنيين أي شيء مِن المال ، وجهد على فقرهم وحرمانهم ؛ لأنّهم مِن معاقل المعارضة لحكمه ، وفيهم كثير مِن الشخصيات الحاقدة على الاُسرة الاُمويّة الطامعة في الحكم.

ويقول المؤرّخون : إنّه أجبرهم على بيع أملاكهم فاشتراها بأبخس الأثمان ، وقد أرسل القيّم على أملاكه لتحصيل وارداتها فمنعوه عنها ، وقابلوا حاكمهم عثمان بن محمّد وقالوا له : إنّ هذه الأموال لنا كلّها ، وإنّ معاوية آثر علينا في عطائنا ولمْ يعطنا درهماً فما فوقه حتّى مضّنا الزمان ، ونالتنا المجاعة ، فاشتراها بجزء مِن مئة مِن ثمنها. فردّ عليهم حاكم المدينة بأقسى القول وأمرّه.

ووفد على معاوية الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري فلمْ يأذن له ؛ تحقيراً وتوهيناً به ، فانصرف عنه ، فوجّه له معاوية بستمئة درهم فردّها جابر ، وكتب إليه :

وإنّي لأختار القنوعَ على الغِنى

إذا اجتمعا والماءُ بالباردِ المحضِ

١٢٣

وأقضي على نفسي إذا الأمر نابني

وفي الناس مَنْ يُقضى عليهِ ولا يقضي

وألبسُ أثوابَ الحياءِ وقد أرى

مكانَ الغنى ألاّ أهينُ له عرضي

وقال لرسول معاوية : قل له : والله يا بن آكلة الأكباد ، لا تجد في صحيفتك حسنة أنا سببها أبداً.

وانتشر الفقر في بيوت الأنصار وخيّم عليهم البؤس ، حتّى لمْ يتمكن الرجل منهم على شراء راحلة يستعين بها على شؤونه ، ولمّا حجّ معاوية واجتاز على يثرب استقبله الناس ومنهم الأنصار ، وكان أكثرهم مشاة ، فقال لهم : ما منعكم مِن تلقيِّ كما يتلقّاني الناس؟ فقال له سعيد بن عبادة : منعنا مِن ذلك قلّة الظهر ، وخفّة ذات اليد ، وإلحاح الزمان علينا ، وإيثارك بمعروفك غيرنا.

فقال له معاوية باستهزاء وسخرية : أين أنتم عن نواضح المدينة؟ فسدّد له سعيد سهماً مِن منطقه الفياض قائلاً : نحرناها يوم بدر ، يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان(١) .

لقد قضت سياسة معاوية بنشر المجاعة في يثرب ، وحرمان أهلها مِن الصّلة والعطاء. يقول عبد الله بن الزبير في رسالته إلى يزيد : فلعمري ، ما تؤتينا ممّا في يدك مِن حقّنا إلاّ القليل ، وإنّك لتحبس عنّا منه العريض.

وقد أوعز معاوية إلى الحكومة المركزية في يثرب برفع أسعار المواد الغذائية فيها حتّى تعمّ فيها المجاعة ، وقد ألمع إلى ذلك يزيد في رسالته التي بعثها للمدينين ، ووعدهم فيها بالإحسان إنْ خضعوا لسلطانه ، وقد جاء فيها :

ولهم عليّ عهد أنْ أجعل الحنطة كسعر الحنطة عندنا ، والعطاء

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ٢ / ٧٣.

١٢٤

الذي يذكرون أنّه احتبس عنهم في زمان معاوية فهو عليّ لهم وفراً كاملاً(١) .

وقد جعل معاوية الولاة على الحجاز تارة مروان بن الحكم ، وأُخرى سعيد بن العاص ، وكان يعزل الأول ويولّي الثاني ، وقد جهدا في إذلال أهل المدينة وفقرهم.

٢ ـ العراق :

أمّا العراق فقد قابله معاوية بالمزيد مِن العقوبات الاقتصادية باعتباره المركز الرئيس للمعارضة ، والقطر الوحيد الساخط على حكومته ، وكان واليه المغيرة بن شعبة يحبس العطاء والأرزاق عن أهل الكوفة. وقد سار حكّام الاُمويِّين مِن بعد معاوية على هذه السيرة في اضطهاد العراق وحرمان أهله ، فإنّ عمر بن عبد العزيز أعدلهم لمْ يساوِ بين العراقيين والشاميين في العطاء ، فقد زاد في عطاء الشاميين عشرة دنانير ولمْ يزد في عطاء أهل العراق(٢) .

لقد عانى العراق في عهد الحكم الاُموي أشد ألوان الضيق ؛ ممّا جعل العراقيين يقومون بثورات متّصلة ضد حكمهم.

٣ ـ مصر :

ونالت مصر المزيد مِن الاضطهاد الاقتصادي ، فقد كتب معاوية إلى عامله : أنْ زد على كلّ امرئ مِن القبط قيراطاً. فأنكر عليه عامله وكتب إليه : كيف أزد عليهم وفي عهدهم أنْ لا يزاد عليهم!(٣) وشمل الضيق الاقتصادي سائر الأقطار الإسلاميّة ؛ ليشغلها عن معارضة حكمه.

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ١٥١.

(٢) العقد الفريد ٤ / ٢٥٩.

(٣) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ١ / ٣٠٢.

١٢٥

الرفاه على الشام :

وبينما كانت البلاد الإسلاميّة تعاني الجهد والحرمان نجد الشام في رخاء شامل ، وأسعار موادها الغذائية منخفضة جداً ؛ لأنّها أخلصت للبيت الاُموي ، وعملت على تدعيم حكمه ، فكان الرفاه يعدّ فيها شائعاً ، أمّا ما يؤيد ذلك فهي رسالة يزيد التي ذكرناها قبل قليل.

وقد حملوا أهل الشام على رقاب الناس كما ألمع إلى ذلك مالك بن هُبيرة في حديثه مع الحصين بن نمير ، يقول له : هلمّ فلنبايع لهذا الغلام ـ أي خالد بن يزيد ـ الذي نحن ولدنا أباه ، وهو ابن اختنا ، فقد عرفت منزلتنا مِن أبيه ، فإنّه كان يحملنا على رقاب العرب(١) .

استخدام المال في تدعيم ملكه :

واستخدم معاوية الخزينة المركزية لتدعيم ملكه وسلطانه ، واتّخذ المال سلاحاً يمكّنه مِن قيادة الأُمّة ورئاسة الدولة. يقول السيد مير علي الهندي : وكانت الثروات التي جمعها معاوية مِن عمالته على الشام يبذّرها هو وبطانته على جنوده المرتزقة ، الذين ساعدوه بدورهم على إخفات كلّ همسة ضدهم(٢) .

وكانت هذه السياسة غريبة على المسلمين ، لمْ يفكّر فيها أحد مِن الخلفاء السابقين ، وقد سار عليها مَنْ جاء بعده مِن خلفاء الاُمويِّين ؛ فاتّخذوا المال

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ / ٣٨.

(٢) روح الإسلام / ٢٩٦.

١٢٦

وسيلة لدعم سلطانهم. يقول الدكتور محمّد مصطفى : وكان مِن عناصر سياسة الاُمويِّين استخدام المال سلاحاً للإرهاب ، وأداة للتقرّيب ، فحرموا منه فئةً مِن الناس ، وأغدقوه أضعافاً مضاعفة لطائفة أُخرى ؛ ثمناً لضمائرهم ، وضماناً لصمتهم(١) .

وجعل شكري فيصل المال أحد العاملين الأساسيين اللذين خضع لهما المجتمع الإسلامي خضوعاً عجيباً ، وكان مِن جملة الأسباب في فتن السياسة ، وسيطرة الطبقة الحاكمة مِن قريش ، كما إنّه أحد الأسباب في وقوع الخلاف ما بين العرب والعجم ، بل وما بين العرب أنفسهم(٢) .

المنحُ الهائلة لأسرته :

ومنح معاوية الأموال الهائلة لاُسرته ، فوهبهم الثراء العريض(٣) ؛ وذلك لتقوية مركزهم ، وبسط نفوذهم على العالم الإسلامي ، في حين أشاع البؤس والحرمان عند أغلب فئات الشعب.

منح خراج مصر لعمرو :

ووهبَ معاوية خراج مصر لابن العاص وجعله طعمة له ما دام حياً ؛ وذلك لتعاونه معه على مناجزة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، رائد الحقّ والعدالة في الأرض ، وقد ألمعنا إلى تفصيل ذلك في البحوث السّابقة.

__________________

(١) اتجاهات الشعر العربي / ٢٧.

(٢) المجتمعات الإسلاميّة في القرن الأول ـ شكري فيصل / ٥٠.

(٣) الفخري / ١٤٥.

١٢٧

هباتُ الأموال للمؤيّدين :

وأغدق معاوية الأموال الهائلة على المؤيدين له والمنحرفين عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد أسرف في ذلك إلى حدّ بعيد ، ويقول الرواة : إنّ يزيد بن منبه قدم عليه من البصرة يشكو له ديناً قد لزمه ، فقال معاوية لخازن بيت المال : أعطه ثلاثين ألفاً. ولمّا ولّى قال : وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أُخرى(١) .

لقد وهب له هذه الأموال الضخمة جزاءً لمواقفه ، ومواقف أخيه الذي أمدّ المتمردين في حرب الجمل بالأموال التي نهبها مِن بيت مال المسلمين ، وقد حفل التاريخ ببوادر كثيرة مِن هبات معاوية للقوى المنحرفة عن الإمام (عليه السّلام) ، والمؤيدة له.

شراءُ الأديان :

وفتح معاوية باباً جديداً في سياسته الاقتصادية وهي شراء الأديان وخيانة الذمم ؛ فقد وفد عليه جماعة مِن أشراف العرب فأعطى كلّ واحد منهم مئة ألف ، وأعطى الحتات عمّ الفرزدق سبعين ألفاً ، فلمّا علم الحتات بذلك رجع مغضباً إلى معاوية فقال له : فضحتني في بني تميم ؛ أمّا حسبي فصحيح ، أوَلست ذا سنّ؟ ألست مطاعاً في عشيرتي؟

ـ بلى.

ـ فما بالك خست بي دون القوم ، وأعطيت مَنْ كان عليك أكثر ممّن

__________________

(١) العقد الفريد ١ / ١٩٤.

١٢٨

كان لك؟!

فقال معاوية بلا حياء ولا خجل : إنّي اشتريت مِن القوم دينهم ووكلتك إلى دينك.

ـ أنا اشتري منّي ديني. فأمر له بإتمام الجائزة(١) .

لقد خسرت هذه الصفقة التي كشفت عن مسخ الضمائر ، وتحوّلها إلى سلعة تباع وتشرى.

عجز الخزينة المركزيّة :

ومُنيت الخزينة المركزية بعجزٍ مالي خطير نتيجة الإسراف في الهبات لشراء الذمم والأديان ، ولمْ تتمكن الدولة مِن تسديد رواتب الموظفين ؛ ممّا اضطر معاوية إلى أنْ يكتب لابن العاص راجياً منه أنْ يسعفه بشيء مِن خراج مصر الذي جعله طعمة له ، فقد جاء في رسالته : أمّا بعد ، فإنّ سؤال أهل الحجاز وزوّار أهل العراق قد كثروا عليّ ، وليس عندي فضل مِن إعطيات الجنود ، فأعنّي بخراج مصر هذه السنة.

ولم يستجب له ابن العاص وراح ينكر عليه ، ويذكّره بأياديه التي أسداها عليه ، وقد أجابه بهذه الآبيات :

معاويَ إنْ تدركْك نفسٌ شحيحةٌ

فما ورثتني مصر اُمّي ولا أبي

وما نلتُها عفواً ولكن شرطتُها

وقد دارت الحربُ العوانُ على قطبِ

ولولا دفاعي الأشعري وصحبهُ

لألفيتها ترغو كراغيةِ السغبِ

ولمّا قرأ معاوية الأبيات تأثر منه ، ولمْ يعاوده بشيء مِن أمر مصر(٢) .

__________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ٢ / ١٥٣.

(٢) الأخبار الطوال / ٢٠٤.

١٢٩

مصادرةُ أموال المواطنين :

واضطر معاوية بعد إسرافه وتبذيره إلى مصادرة أموال المواطنين ؛ ليسد العجز المالي الذي مُنيت به خزينة الدولة ، وقد صادر مواريث الحتات عمّ الفرزدق ، فأنكر عليه الفرزدق وقال يهجوه :

أبوك وعمّي يا معاويَ أورثا

تراثاً فيختار التراثَ أقاربُهْ

فما بالُ ميراثِ الحُتاتِ أخذته

وميراثُ صخرٍ جامدٌ لك ذائبُهْ

فلو كان هذا الأمرُ في جاهليةٍ

علمتَ مَن المرء القليل حلائبُهْ

ولو كان في دينٍ سوى ذا شنئتمُ

لنا حقّنا أو غصّ بالماء شاربُهْ

ألستُ أعزّ الناس قوماً واُسرةً

وأمنعهم جاراً إذا ضيم جانبُهْ

وما ولدت بعد النّبيِّ وآلهِ

كَمثلي حَصَانٌ في الرجال يقاربُهْ

وبيتي إلى جنب الثريا فِناؤهُ

ومِن دونهِ البدرُ المُضيء كواكبُهْ

أنا ابنُ الجبال الشمِّ في عدد الحصى

وعرقُ الثرى عرقي فمَنْ ذا يحاسبُهْ

وكم مِن أبٍ لي يا معاويَ لمْ يزلْ

أغرَّ يباري الريح ما ازورّ جانبُهْ

نمته فروعُ المالكَينِ ولمْ يكنْ

أبوك الذي مِن عبد شمس يقاربُهْ(١)

ومعنى هذه الأبيات أنّ الأموال التي خلّفها صخر جد معاوية قد انتقلت إلى ورّاثه ، في حين إنّ ميراث عمّ الفرزدق قد صادره معاوية ، ولو كان ذلك في الجاهلية لكان معاوية أقصر باعاً مِن أن تمتد يده إليه ؛ فإنّ الفرزدق ينتمي إلى اُسرة هي مِن أعزّ الاُسر العربية وأمنعها.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٣٢ ، ديوان الفرزدق / ٢٤٦.

١٣٠

ضريبةُ النيروز :

وفرض معاوية على المسلمين ضريبة النيروز ليسدّ بها نفقاته ، وقد بالغ في إرهاق الناس واضطهادهم على أدائها ، وقد بلغت فيما يقول المؤرّخون عشرة ملايين درهم(١) ، وهي مِن الضرائب التي لمْ يألفها المسلمون ، وقد اتّخذها الخلفاء مِن بعده سُنّة فأرغموا المسلمين على أدائها.

نهب الولاة والعمال :

وأصبحت الولاية في عهد معاوية مصدراً مِن مصادر النّهب والسرقة ، ومصدراً للثراء وجمع الأموال. يقول أنس بن أبي إياس لحارثة الغذاني صاحب زياد بن أبيه حينما وليَ على (سرق) ، وهي إحدى كور الأهواز :

أحارُ بنَ بدر قد وليتَ إمارةً

فكن جُرذاً فيها تخونُ وتسرقُ

وباه تميماً بالغنى إنّ للغنى

لساناً به المرءُ الهيوبة ينطقُ

ولا تحقرنْ يا حارُ شيئاً أصبتهُ

فحظّك مِن مُلْك العراقيين سُرّقُ(٢)

ويصف عقبة بن هبيرة الأسدي ظلم الولاة واستقصائهم أموال الرعية بقوله :

معاوي إنّنا بشرٌ فأسجحْ

فلسنا بالجبال ولا الحديدِ(٣)

أكلتم أرضنا فجردتموها

فهل مِن قائم أو مِن حصيدِ

__________________

(١) الحركات الفكرية في الإسلام / ٤٢ ، تاريخ التمدن الإسلامي ٢ / ٢٢.

(٢) الشعر والشعراء / ٤٦٢.

(٣) السجح : السهولة والين.

١٣١

فهبنا أُمّةً ذهبت ضياعا

يزيدُ أميرُها وأبو يزيدِ

أتطمع في الخلافةِ إذ هلكنا

وليس لنا ولا لك مِن خلودِ

ذروا خول الخلافةِ واستقيموا

وتأميرَ الأراذل والعبيدِ

وأعطونا السويّة لا تزركُمْ

جنودٌ مردفاتٌ بالجنودِ(١)

وقد عانى المسلمون ضروباً شاقةً وعسيرةً مِن جور الولاة وظلم الجباة ، فقد تمرّسوا بالسّلب والنّهب ، ولمْ يتركوا عند أحدٍ مِن الناس فضلاً مِن المال إلاّ صادروه.

جبايةُ الخراج :

أمّا جباية الخراج فكانت خاضعة لرغبات الجُباة وأهوائهم ، وقد سأل صاحب أخنا عمرو بن العاص عن مقدار ما عليه مِن الجزية ، فنهره ابن العاص وقال له : لو أعطيتني مِن الأرض إلى السّقف ما أخبرتك ، ما عليك! إنّما أنتم خزانة لنا ، إنْ كثر علينا كثرنا عليكم ، وإنْ خُفّف عنّا خفّفنا عنكم(٢) .

وهدمت هذه الإجراءات الظالمة جميع قواعد العدل والمساواة التي جاء بها الإسلام.

اصطفاء الذهب والفضة :

وأوعز معاوية إلى زياد بن أبيه أنْ يصطفي له الذهب والفضة ، فقام

__________________

(١) خزانة الأدب ٢ / ٢٢٥.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ٢ / ٧٩ ـ ٨٠.

١٣٢

زياد مع عمّاله بإجبار المواطنين على مصادرة ما عندهم مِن ذلك وإرساله إلى دمشق(١) ، وقد ضيّق بذلك على الناس وترك الفقر آخذاً بخناقهم.

شلّ الحركة الاقتصادية :

وشلّت الحركة الاقتصادية في جميع أنحاء البلاد ، فخربت الزراعة والتجارة ، وأُصيب الاقتصاد العام بنكسةٍ شاملة نتيجة تبذير معاوية وإسرافه ، وقد أعلن ذلك عبد الله بن همّام السّلولي ، فقد كتب شعراً في رقاع وألقاها في المسجد الجامع يشكو فيها الجور الهائل ، والمظالم الفظيعة التي صبّها معاوية وعمّاله على الناس ، وهذه هي الأبيات :

ألا أبلغ معاويةَ بن صخرٍ

فقد خرب السوادُ فلا سوادا

أرى العمّالَ أقساءً علينا

بعاجل نفعِهمْ ظلموا العبادا

فهل لك أنْ تدارك بالدنيّا

وتدفع عن رعيّتك الفسادا

وتعزل تابعاً أبداً هواهُ

يخرّب مِن بلادتهِ البلادا

إذا ما قلتَ أقصر عن هواهُ

تمادى في ضلالته وزادا(٢)

وقد صوّر السلولي بهذه الأبيات سوء الحالة الاقتصادية ، وتسلّط الولاة على ظلم الرعية ، ودعا السلطة إلى عزلهم وإقصائهم عن وظائفهم ؛ فقد جهدوا في خراب السواد ، وامتصّوا الدماء ، واتّبعوا الهوى ، وظلّوا عن الطريق القويم.

__________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ١ / ٣٠١.

(٢) الإسلام والحضارة العربية ٢ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

١٣٣

حجّة معاوية :

ويرى معاوية أنّ أموال الأُمّة وخزينتها المركزية مُلْكٌ له يتصرف فيها حيث ما شاء ، يقول : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما أُخذ مِن مال الله فهو لي ، وما تركته كان جائزاً إليّ(١) .

وهذا المنطق بعيد عن روح الإسلام ، وبعيد عن اتجاهاته ، فقد قنّن أُسسه الاقتصادية على أساس أنّ المال مال الشعب ، وأنّ الدولة ملزمة بتنميته وتطويره ، وليس لرئيس الدولة وغيره أنْ يتلاعب باقتصاد الأُمّة وينفقه على رغباته وأهوائه ؛ فإنّ ذلك يؤدي إلى إذاعة الحاجة ونشر البطالة ، ويعرّض البلاد للأزمات الاقتصادية.

لقد اعتبر الإسلام الفقر كارثةً اجتماعية ، ووباءً شاملاً يجب مكافحته بكلّ الطرق والوسائل ، وليس لرئيس الدولة أنْ يصطفي مِن مال الأُمّة أي شيء ، هذا هو رأي الإسلام ، ولكنّ معاوية ـ بصورة لا تقبل الجدل ـ لمْ يعِ ذلك ، فتصرّف بأموال المسلمين حسب رغباته وأهوائه.

هذه بعض معالم سياسة معاوية الاقتصادية التي فقدت روح التوازن ، وأشاعت البؤس والحرمان في البلاد.

سياسةُ التفريق :

وبنى معاوية سياسته على تفريق كلمة المسلمين وتشتيت شملهم ، وبثّ روح التفرقة والبغضاء بينهم ؛ إيماناً منه بأنّ الحكم لا يمكن أنْ يستقر له إلاّ في

__________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ١ / ٣٠١.

١٣٤

تفلّل وحدة الأُمّة ، وإشاعة العداء بين أبنائها. يقول العقاد : وكانت له ـ أي لمعاوية ـ حيلته التي كرّرها وأتقنها وبرع فيها ، واستخدمها مع خصومه في الدولة مِن المسلمين وغير المسلمين ، وكان قوام تلك الحيلة العمل الدائب على التفرقة ، والتخذيل بين خصومه بإلقاء الشبهات بينهم ، وإثارة الإحن فيهم ، ومنهم مَنْ كانوا مِن أهل بيته وذوي قرباه. كان لا يطيق أنْ يرى رجلين ذوي خطر على وفاق ، وكان التنافس الفطري بين ذوي الأخطار ممّا يعينه على الإيقاع بهم(١) .

لقد شتّت كلمة المسلمين ، وفصم عُرى الأُخوّة الإسلاميّة التي عقد أواصرها الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وبنى عليها مجتمعه.

اضطهادُ الموالي :

وبالغ معاوية في اضطهاد الموالي وإذلالهم ، وقد رام أْن يبيدهم إبادة شاملة. يقول المؤرّخون : إنّه دعا الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب ، وقال لهما : إنّي رأيت هذه الحمراء قد كثرت ، وأراها قد قطعت على السلف ، وكأنّي أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان ، فقد رأيت أنْ أقتل شطراً منهم ، وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق.

ولمْ يرتضِ الأحنف وسمرة هذا الإجراء الخطير ، فأخذا يلطفان به حتّى عدل عن رأيه(٢) .

لقد سنّ معاوية اضطهاد الموالي ، وأخذت الحكومات التي تلت مِن بعده تشيع فيهم الجور والحرمان بالرغم مِن اشتراكهم في الميادين العسكرية

__________________

(١) معاوية في الميزان / ٦٤.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٦٠.

١٣٥

وغيرها مِن أعمال الدولة. يقول شاعر الموالي شاكياً ممّا ألمّ بهم مِن الظلم :

أبلغ أُميّة عنّي إنْ عرضت لها

وابنَ الزبير وأبلغ ذلك العَرَبا

إنّ المواليَ أضحتْ وهي عاتبةٌ

على الخليفة تشكوا الجوع والحَرَبا

وانبرى أحد الخراسانيين إلى عمر بن عبد العزيز يطالبه بالعدل فيهم قائلاً له : يا أمير المؤمنين ، عشرون ألفاً مِن الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق ، ومثلهم قد أسلموا مِن أهل الذمّة يؤدّون الخراج!(١)

وكان الشعبي قاضي عمر بن عبد العزيز قد بغض المسجد حتّى صار أبغض إليه مِن كناسة داره ـ حسب ما يقول ـ ؛ لأنّ الموالي كانت تصلّي فيه(٢) ، وقد اضطر الموالي إلى تأسيس مسجدٍ خاصٍ لهم أسموه (مسجد الموالي) ، كانوا يقيمون الصلاة فيه(٣) .

ويميل (خودا بخش) إلى الظنّ أنّهم إنّما اضطروا إلى تأدية صلاتهم فيه بعدما رؤوا تعصّب العرب ضدهم ، وأنّهم لمْ يكونوا يسمحون لهم بالعبادة معهم في مسجد واحد(٤) .

وكان الموالي يلطفون بالردّ على العرب ويدعونهم إلى الهدى قائلين : إنّنا لا ننكر تباين الناس ، ولا تفاضلهم ، ولا السيّد منهم والمسود ، والشريف والمشروف ، ولكنّنا نزعم أنّ تفاضل الناس فيما بينهم هو ليس بآبائهم ولا بأحسابهم ، ولكنّه بأفعالهم وأخلاقهم ، وشرف أنفسهم ، وبُعد همّهم ، فمَنْ كان دنيء الهمّة ، ساقط المروءة لمْ يشرف وإنْ كان مِن بني هاشم في ذؤابتها ؛ إنّما الكريم مَنْ كرمت أفعاله ، والشريف مَنْ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ١٣٤ ، الكامل في التاريخ ٥ / ١٩.

(٢) طبقات ابن سعد ٦ / ١٧٥.

(٣) الطبري في أحداث سنة ٢٤٥.

(٤) الحضارة الإسلاميّة ١ / ٤٣.

١٣٦

شرفت همّته(١) .

ولمْ يعِ الاُمويّون ومَنْ سار في ركابهم هذا المنطق المشتق مِن واقع الإسلام وهديه ، الذي أمر ببسط المساواة والعدل بين جميع الناس من دون فرق بين قوميّاتهم.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أدّت هذه السياسة العنصرية إلى إشاعة الأحقاد بين المسلمين واختلاف كلمتهم ، كما أدّت إلى تجنيد الموالي لكلّ حركة ثورية تقوم ضد الحكم الاُموي ، وكانوا بالأخير هم القوة الفعّالة التي أطاحت بالاُمويِّين ، وطوت معالمهم وآثارهم.

العصبيّة القبلية :

وتبعاً لسياسة التحزّب والتفريق التي سار عليها الاُمويّون فقد أحيوا العصبيات القبلية ، وقد ظهرت في الشعر العربي صوراً مريعةً ومؤلمة مِن ألوان ذلك الصراع الذي كانت تخلقه السلطة الاُمويّة ؛ لإشغال الناس بالصراع القبلي عن التدخل في الشؤون السياسية ، وإبعادهم عمّا يقننه معاوية مِن الظلم والجور.

ويقول المؤرّخون : إنّه عمد إلى إثارة الأحقاد القديمة ما بين الأوس والخزرج ، محاولاً بذلك التقليل مِن أهميتهم وإسقاط مكانتهم أمام العالم العربي والإسلامي ، كما تعصّب لليمنيين على المصريين ، وأشعل نار الفتنة فيما بينهم حتّى لا تتحد لهم كلمة تضر بمصالح دولته.

وسار عمّال معاوية على وفق منهج سياسته التخريبية ، فكان زياد بن أبيه يضرب القبائل بعضها ببعض ، ويؤجج نار الفتنة فيما بينها حتّى تكون تحت مناطق نفوذه يقول ولهاوزن : وعرف زياد كيف يُخضع القبائل

__________________

(١) العقد الفريد ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩.

١٣٧

بأنْ يضرب إحداها بالأُخرى ، وكيف يجعلها تعمل مِن أجله ، وأفلح في ذلك(١) .

وحفلت مصادر التاريخ ببوادر كثيرة مِن ألوان التناحر القبلي الذي أثاره معاوية وعمّاله ؛ ممّا أدى إلى انتشار الضغائن بين المسلمين ، وقد عانى الإسلام مِن جراء ذلك أشدّ ألوان المحن ؛ فقد أوقف كلّ نشاط مثمر له ، وخولف ما كان يدعو له النّبي (صلّى الله عليه وآله) مِن التآخي والتعاطف بين المسلمين.

سياسة البطش والجبروت :

وساس معاوية الأُمّة سياسةَ بطشٍ وجبروت ، فاستهان بمقدّراتها وكرامتها ، وقد أعلن ـ بعد الصلح ـ أنّه إنّما قاتل المسلمين وسفك دماءهم ليتأمّر عليهم ، وأنّ جميع ما أعطاه للإمام الحسن (عليه السّلام) مِن شروط فهي تحت قدميه لا يفي بشيء منها ، وقد أدلى بتصريح عبّر فيه عن كبريائه وجبروته فقال : نحن الزمان ، مَنْ رفعناه ارتفع ، ومَنْ وضعناه اتّضع(٢) .

وسار عمّاله وولاته على هذه الخطة الغادرة ، فقد خطب عتبة بن أبي سفيان بمصر فقال : يا حاملي آلام اُنوفٍ رُكّبت بين أعين ، إنّي قلّمت أظفاري عنكم ليلين مسيئكم ، وسألتكم إصلاحكم إذا كان فسادكم باقياً عليكم ، فأمّا إذا أبيتم إلاّ الطعن على السلطان والنقض للسلف ، فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم ، فإنْ حسمتُ أدواءكم وإلاّ فإنّ السيف مِن ورائكم. فكم حكمة منّا لمْ تعِها قلوبكم ، ومِن موعظة منّا صمّت عنها آذانكم ، ولست أبخل

__________________

(١) الدولة العربية / ٢٠٧.

(٢) نهاية الإرب ٦ / ٧.

١٣٨

بالعقوبة إذا جدتم بالمعصية(١) .

وخاطب المصريين في خطاب آخر له فقال : يا أهل مصر ، إيّاكم أنْ تكونوا للسيف حصيداً ؛ فإنّ لله ذبيحاً لعثمان. لا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أُنس الحقّ بإحياء الفتنة وإماتة السنن ؛ فأطأكم والله وطأةً لا رمق معها حتّى تنكروا ما كنتم تعرفون(٢) .

ومثّلت هذه القطع مِن خطابه مدى أحقاده على الأُمّة وتنكّره لجميع قيمها وأهدافها. ومِن اُولئك الولاة الذين كفروا بالحقّ والعدل خالد القسري ؛ فقد خطب في مكة وهو يهدّد المجتمع بالدمار والفناء ، فقد جاء في خطابه : أيّها الناس ، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة ، وإيّاكم والشبهات ؛ فإنّي والله ما اُوتي لي بأحدٍ يطعن على إمامه إلاّ صلبته في الحرم(٣) .

وكانت هذه الظاهرة ماثلة عند جميع حكام الاُمويِّين وولاتهم ، يقول الوليد بن يزيد :

فدعْ عنكَ إدكارك آل سعدى

فنحن الأكثرون حصىً ومالا

ونحنُ المالكون الناس قسراً

نسومُهُمُ المذلّةَ والنّكالا

ونوردهُمْ حياضَ الخسف ذلاً

وما نألوهمُ إلاّ خبالا(٤)

وصوّرت هذه الأبيات مدى استهانته بالأُمّة ، فإنّه مع بقية الحكّام مِن أُسرته قد ملكوا الناس بالغلبة والقوّة ، وإنّهم يسومونهم الذلّ ويوردونهم حياض الخسف. ومِنْ اُولئك الملوك عبد الملك بن مروان ،

__________________

(١) تهذيب الكامل للمبرد ١ / ١٧.

(٢) العقد الفريد ٢ / ١٥٩.

(٣) تاريخ الطبري ٨ / ٨٠.

(٤) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ١ / ٣٨٧.

١٣٩

فقد خطب في يثرب أمام أبناء المهاجرين والأنصار فقال :

ألا وإنّي لا اُداوي أمر هذه الأُمّة إلاّ بالسيف حتّى تستقيم قناتكم ، وإنّكم تحفظون أعمال المهاجرين الأوّلين ، ولا تعملون مثل عملهم ، وإنّكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون أنفسكم. والله ، لا يأمرني أحدٌ بتقوى الله بعد مقامي هذا إلاّ ضربت عنقه(١) .

وحفل هذا الخطاب بالطغيان الفاجر على الأُمّة ، فهو لا يرى حلاً لأزماتها إلاّ بسفك الدماء وإشاعة الجور والإرهاب ، أمّا بسط العدل ونشر الدعة والرفاهية بين الناس فلمْ يفكّر به ، ولا دار بخلده ، ولا في خلد واحد مِن حكّام الاُمويِّين.

احتقارُ الفقراء :

وتبنّى الحكم الاُموي في جميع أدواره اضطهاد الفقراء واحتقار الضعفاء. يقول المؤرّخون : إنّ بني أُميّة كانوا لا يسمحون للفقراء بالدخول إلى دوائرهم الرسمية إلاّ في آخر الناس.

يقول زياد بن أبيه لعجلان حاجبه : كيف تأذن للناس؟

ـ على البيوتات ، ثمّ على الأسنان ، ثمّ على الأدب.

ـ مَنْ تؤخر؟

ـ الذين لا يعبأ الله بهم.

ـ مَنْ هم؟

ـ الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف ، وكسوة الصيف في الشتاء(٢) .

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٤ / ٣٣.

(٢) نهاية الإرب ٦ / ٨٦.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470