حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307361 / تحميل: 6767
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

مع القاسطين والناكثين

٢١
٢٢

وفزعت القبائل القرشية كأشدّ ما يكون الفزع هولاً مِنْ حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وأيقنت أنّ جميع مخططاته السياسية والاقتصادية إنّما هي امتداد ذاتي للاتّجاهات الفكرية والاجتماعية عند الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الذي أطاح بغلوائهم وكبريائهم ، وحطّم حياتهم الاقتصادية القائمة على الربا والاحتكار والاستغلال. وممّا زاد في فزعهم القرارات الحاسمة التي أعلنها الإمام (عليه السّلام) فور انتخابه للحكم ، والتي كان منها إقصاء ولاة عثمان عن جميع مراكز الدولة ، ومصادرة جميع ما نهبوه مِن الخزينة المركزية ، كما اضطربوا مِنْ إعلان الإمام (عليه السّلام) للمساواة العادلة بين جميع الشعوب الإسلامية ، مساواة في الحقوق والواجبات ، ومساواة في كلّ شيء ، وقد هالهم ذلك فكانوا يرون أنّ لهم التفوّق على بقية الشعوب ، ولهم امتيازات خاصة على بقية الناس.

لقد ورمت آناف القرشيين وسائر القوى المنحرفة عن الحقّ مِنْ حكومة الإمام (عليه السّلام) ، فأجمع رأيهم على إعلان العصيان المسلّح ، وإشعال نار الحرب في البلاد للإطاحة بحكومته التي اتّخذت الحكم وسيلة للإصلاح الاجتماعي وتطوير حياة الإنسان. وأوّل الحروب التي أُثيرت على الإمام (عليه السّلام) هي حرب الجمل ، وأعقبها حرب صفّين ، ثم حرب النهروان ، وقد وضعت تلك الحروب الحواجز والسدود أمام حكمه الهادف إلى رفع مستوى القيم الإنسانية ، والقضاء على جميع ألوان التأخّر في البلاد.

ويقول الرواة : إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد أحاط الإمام (عليه السّلام) علماً بما يُمْنى به في عهد خلافته مِنْ تمرّد بعض الفئات عليه ، وقد عهد إليه بقتالهم ، وقد أسماهم الناكثين والقاسطين والمارقين(١) . ولا بدّ لنا أنْ نعرض ـ بإيجاز ـ

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩ ، تاريخ بغداد ٨ / ٣٤٠ ، اُسد الغابة ٤ / ٣٣ ، كنز العمال ٦ / ٨٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ٢٣٥.

٢٣

لهذه الحروب التي تصوّر لنا الحياة السياسية والفكرية في ذلك العصر الذي أترعت فيه عواطف الكثيرين بحبّ المُلْك والسّلطان ، كما تصوّر لنا الأحقاد التي تكنّها القبائل القرشية على الإمام (عليه السّلام). ومِن المقطوع به أنّ هذه الأحداث قد ساهمت مساهمةً ايجابيةً في خلق كارثة كربلاء ؛ فقد نشرت الأوبئة الاجتماعية ، وخلقت جيلاً انتهازياً لا ينشد إلاّ مطامعه الخاصة. وفيما يلي ذلك :

الناكثون :

وهم الذين نكثوا بيعتهم ، وخاسوا ما عاهدوا عليه الله في التضحية والطاعة للإمام ، فانسابوا في ميادين الباطل وساحات الضلال ، وتمرّسوا في الإثم. وقد أجمع فقهاء المسلمين على تأثيمهم ؛ إذ لمْ يكن لهم أيّ مُبرّر في الخروج على السّلطة الشرعية التي تبنّت المصالح العامّة ، وأخذت على عاتقها أنْ تسير بين المسلمين بالحقّ المحض والعدل الخالص ، وتقضي على جميع أسباب التخلّف في البلاد.

أمّا أعلام الناكثين فهم : طلحة والزبير ، والسيّدة عائشة بنت أبي بكر ، ومروان بن الحكم ، وسائر بني أُميّة ، وغيرهم مِن الذين ضاقوا ذرعاً مِنْ عدل الإمام (عليه السّلام) ومساواته.

دوافع التمرّد :

والشيء المحقّق أنّه لمْ تكن للناكثين أيّة أهداف اجتماعية ، وإنّما دفعتهم مصالحهم الخاصة لنكث بيعة الإمام (عليه السّلام) ؛ فطلحة والزبير قد خفّا إليه بعد أنْ تقلّد الخلافة يطلبان منحهما ولاية البصرة والكوفة ، فلمّا خبا أملهما

٢٤

أظهرا السخط ، وخفّا إلى مكة لإعلان الثورة عليه وتمزيق شمل المسلمين ، وقد أدلى الزبير بتصريح أعرب فيه عن أهدافه ، فقد أقبل إليه وإلى طلحة رجل فقال لهما : إنّ لكما صحبةً وفضلاً فأخبراني عن مسيركما وقتالكما أشيء أمركما به رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ وسكت طلحة ، وأمّا الزبير فقال : حدّثنا أنْ ها هنا بيضاء وصفراء ـ يعني دراهم ودنانير ـ فجئنا لنأخذ منها(١) . فمِنْ أجل الظفر بالمنافع المادّية أعلن الشيخان تمرّدها على حكومة الإمام (عليه السّلام).

وأمّا السيّدة عائشة فإنّها كانت تروم إرجاع الخلافة إلى أسرتها ، فهي أوّل مَنْ قدح زناد الثورة على عثمان ، وأخذت تُلْهِبُ المشاعر والعواطف ضده ، وكانت تقول : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وقد جهدت على ترشيح طلحة للخلافة ، وكانت تشيد به في كلّ مناسبة ، إلاّ أنّها أخيراً استجابت لعواطفها الخاصة المترعة بالودّ والحنان لابن اُختها عبد الله بن الزبير ، فرشّحته لإمارة الصلاة ، وقدّمته على طلحة. وأمّا بنو أُميّة فقد طلبوا مِن الإمام (عليه السّلام) أنْ يضع عنهم ما أصابوا مِن المال في أيّام عثمان ، فرفض الإمام (عليه السّلام) أنْ يضعَ عنهم ما اختلسوه مِنْ أموال الأُمّة ، فاظهروا له العداء ، وعملوا على إثارة الفتنة والخلاف.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّه لمْ تكن للناكثين نزعة إصلاحية أو دعوة إلى الحقّ ، وإنّما كانت بواعثهم الأنانية والأطماع ، والأحقاد على الإمام (عليه السّلام) الذي هو نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

٢٥

خديعة معاوية للزبير :

وأيقن معاوية بأهداف الزبير وطلحة ، فقام بدوره في خديعتهما وإغرائهما ؛ ليتخذهما سلّماً يعبر عليهما لتحقيق أهدافه ومآربه ، فقد كتب إلى الزبير رسالة جاء فيها : لعبد الله الزبير أمير المؤمنين مِنْ معاوية بن أبي سفيان سلام عليك. أمّا بعد ، فإنّي قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب ؛ فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين. وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله مِنْ بعدك ، فأظهروا الطلب بدم عثمان وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله وخذل مناوئكم.

ولمّا وصلت هذه الرسالة إلى الزبير لَمْ يملك أهابه مِن الفرح والسرور ، وخفّ إلى طلحة فأخبره بذلك ، فلَمْ يشكّا في صدق نيته وإخلاصه لهما ، وتحفّزا إلى إعلان الثورة على الإمام (عليه السّلام) ، واتّخذا دم عثمان شعاراً لهما(١) .

مؤتمر مكة :

وخفّ المتآمرون إلى مكّة فاتخذوها وكراً لدسائسهم التخريبية الهادفة لتقويض حكم الإمام (عليه السّلام) ، وقد وجدوا في هذا البلد الحرام تجاوباً فكرياً مع الكثيرين مِنْ أبناء القبائل القرشية التي كانت تَكُنّ في أعماق نفسها الكراهية والحقد على الإمام (عليه السّلام) ؛ لأنّه قد وَتَرَ الكثيرين منهم في سبيل الإسلام.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد تداول زعماء الفتنة الآراء في الشعار الذي يتبنونه ، والبلد التي يغزونها ، وسائر الشؤون الاُخرى التي تضمن لثورتهم النّجاح.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣١.

٢٦

قرارات المؤتمر :

واتّخذ أعضاء المؤتمر بالإجماع القرارات التالية ، وهي :

١ ـ أنْ يكون شعار المعركة دم عثمان والمطالبة بثأره ؛ لأنّه قُتِلَ مظلوماً ، واستباح الثوار دمه بعد توبته بغير حقّ. لقد رفعوا قميص عثمان شعاراً لهم ، فكان شعاراً للتمرّد ، وشعاراً للرأسمالية القرشية التي طغت في البلاد.

٢ ـ تحميل الإمام علي (عليه السّلام) المسؤولية في إراقة دم عثمان ؛ لأنّه آوى قتلته ولَمْ يقتص منهم.

٣ ـ الزحف إلى البصرة واحتلالها ، واتّخاذها المركز الرئيس للثورة ؛ لأنّ لهم بها حزباً وأنصاراً ، وقد أعرضوا عن الزحف إلى يثرب ؛ لأنّ فيها الخليفة الشرعي ، وهو يتمتع بالقوى العسكرية التي لا قابلية لهم عليها ، كما أعرضوا عن النزوح إلى الشام ؛ لأنّ الاُمويِّين لَمْ يستجيبوا لهم ؛ لأنّها كانت تحت قبضتهم فخافوا عليها من التصدّع والاحتلال.

تجهيز الجيش بالأموال المنهوبة :

وجهّز يعلى بن أُميّة جيش عائشة بالأموال التي نهبها مِنْ بيت المال حينما كان والياً على اليمن أيّام عثمان. ويقول المؤرخون : إنّه أمدّ الجيش بستمئة بعير ، وستمئة ألف درهم(١) ، وأمدّهم عبد الله بن عامر والي عثمان على البصرة بمال كثير(٢) كان قد اختلسه مِنْ بيت المال ، ولَمْ يتحرّج أعضاء القيادة العسكرية العامّة في جيش عائشة مِنْ هذه الأموال المحرّمة.

__________________

(١) و (٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ١٠٦.

٢٧

الخطاب السّياسي لعائشة :

وخطبت عائشة في مكّة خطاباً سياسياً حمّلت فيه المسؤولية في إراقة دم عثمان على الغوغاء ، فهم الذين سفكوا الدم الحرام في الشهر الحرام ، وقد قتلوا عثمان بعد ما أقلع عن ذنوبه ، وأخلص في توبته ، ولا حُجّة لهم فيما اقترفوه مِنْ سفك دمه(١) .

وقد كان خطابها فيما يقول المحقّقون حافلاً بالمغالطات السّياسية ؛ فإنّ الغوغاء لَمْ يسفكوا دمه ، وإنّما سفك دمه الذين رفعوا علم الثورة عليه ، وفي طليعتهم كبار الصحابة ، كعمار بن ياسر ، وأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود ، وطلحة ، والزبير ، وكانت هي بالذات مِنْ أشدّ الناقمين عليه ؛ فقد اشتدّت في معارضته ، وأفتت في قتله وكفره ، فقالت : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. فأيّ علاقة للغوغاء بإراقة دمه؟! وأمّا توبته فإنّ عثمان أعلن غير مرّة عن تراجعه عن أحداثه ، إلاّ أنّ بني أُميّة كانوا يزجّونه في مخططاتهم السّياسية فيعود إلى سياسته الأولى ، ولَمْ يقلع عنها حتّى قُتِلَ.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد كان خطابها أوّل بادرةٍ لإعلان العصيان المسلّح على حكومة الإمام (عليه السّلام) ، وكان الأولى بعائشة ـ بحسب مكانتها الاجتماعية ـ أنْ تدعو إلى وحدة الصفِّ وجمع كلّمة المسلمين ، وأنْ تقوم بالدعم الكامل لحكومة الإمام (عليه السّلام) التي تمثّل أهداف النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وما تصبوا إليه الأُمّة مِن العزّة والكرامة.

__________________

(١) نص خطابها في تاريخ الطبري ٣ / ٤٦٨.

٢٨

عائشة مع أُمّ سلمة :

ومِن الغريب حقاً أنْ تخفّ عائشة إلى أُمِّ سلمة تطلب منها القيام بمناجزة الإمام (عليه السّلام) ، مع علمها بما تكنّه مِن الولاء والتقدير له ، الأمر الذي دلّ على عدم خبرتها بالاتجاهات الفكرية لضرّاتها مِنْ أزواج النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، ولمّا قابلتها خاطبتها بناعم القول قائلة : يا بنت أبي أُميّة ، أنتِ أوّل مهاجرة مِنْ أزواج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنتِ كبيرة اُمّهات المؤمنين ، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقسّم مِنْ بيتك ، وكان جبرئيل أكثر ما يكون في منزلك.

ورمقتها أُمّ سلمة بطرفها ، وقالت لها بريبة : لأمرٍ ما قلتِ هذه المقالة! فأجابتها عائشة مخادعة : إنّ القوم استتابوا عثمان ، فلمّا تاب قتلوه صائماً في الشهر الحرام. وقد عزمت على الخروج إلى البصرة ، ومعي الزبير وطلحة ، فاخرجي معنا لعلّ الله يصلح هذا الأمر على أيدينا.

وأسدت لها أُمّ سلمة النصيحة ، وذكّرتها بمواقفها مع عثمان ونقمتها عليه ، وحذّرتها مِن الخروج على ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلةً : يا بنت أبي بكر ، بدم عثمان تطلبين؟! والله ، لقد كنت مِنْ أشدّ الناس عليه ، وما كنت تسميه إلاّ نعثلاً ، فما لك ودم عثمان وعثمان رجل مِنْ بني عبد مناف ، وأنت امرأة مِنْ بني تيم بن مرة؟ ويحك يا عائشة! أعلى علي وابن عمِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تخرجين ، وقد بايعه المهاجرون والأنصار؟!

وجعلت أُمّ سلمة تذكّر عائشة فضائل علي ومآثره ، وقرب منزلته من

٢٩

رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وكان عبد الله بن الزبير يسمع حديثها فغاظه ذلك ، وخاف أنْ تصرف عائشة عن عزمها فصاح بها : يا بنت أبي أُميّة ، إنّنا قد عرفنا عداوتكِ لآل الزبير.

فنهرته أُمّ سلمة وصاحت به : والله لتوردنّها ، ثمّ لا تصدنّها أنت ولا أبوك. أتطمع أنْ يرضى المهاجرون والأنصار بأبيك الزبير وصاحبه طلحة ، وعلي بن أبي طالب حيّ وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟! فقال لها ابن الزبير : ما سمعنا هذا مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ساعة قط. فقالت أُمّ سلمة : إنْ لمْ تكن أنت سمعته فقد سمعته خالتك عائشة ، وها هي فاسألها قد سمعته (صلّى الله عليه وآله) يقول : «علي خليفتي عليكم في حياتي ومماتي ، مَنْ عصاه فقد عصاني». أتشهدين يا عائشة بهذا أم لا؟ فلم يسع عائشة الإنكار وراحت تقول : اللّهم نعم.

ومضت أُمّ سلمة في نصيحتها لعائشة قائلة : اتّقي الله يا عائشة في نفسك ، واحذري ما حذّرك الله ورسوله ، ولا تكوني صاحبة كلاب الحوأب ، ولا يغرّنكِ الزبير وطلحة ؛ فإنّهما لا يغنيان عنك مِن الله شيئاً(١) .

ولمْ تعِ عائشة نصيحة أُمّ سلمة ، واستجابت لعواطفها ، وأصرّت على مناجزة الإمام (عليه السّلام).

__________________

(١) الفتوح ٢ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

٣٠

وكتبت أُمّ سلمة بجميع الأحداث التي جرت في مكّة إلى الإمام (عليه السّلام) ، وأحاطته علماً بأعضاء الفتنة(١) .

الزحف إلى البصرة :

وتحرّكت كتائب عائشة صوب البصرة ، ودقّ طبل الحرب ، ونادى المتمرّدون بالجهاد ، وقد تهافت ذوو الأطماع والحاقدون على الإمام (عليه السّلام) إلى الالتحاق بجيش عائشة ، قد رفعوا أصواتهم بالطلب بدم عثمان الذي سفكه طلحة والزبير وعائشة ، واتّجهت تلك الجيوش لتشقّ كلمة المسلمين ، وتغرق البلاد بالثكل والحزن والحداد.

عسكر :

وسار موكب عائشة في البيداء يجذ السير ، فصادفهم العرني صاحب عسكر فعرض له راكب فقال له :

ـ يا صاحب الجمل أتبيع جملك؟

ـ نعم.

ـ بكم؟

ـ بألف درهم.

ـ ويحك! أمجنون أنت ، جمل يباع بألف درهم؟!

ـ نعم جملي هذا ، فما طلبت عليه أحداً قط إلاّ أدركته ، ولا طلبني وأنا عليه أحد قط إلاّ فتّه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٧٩.

٣١

ـ لو تعلم لمَنْ نريده لأحسنت بيعتاً.

ـ لمَنْ تريده؟

ـ لأُمّك.

ـ لقد تركت أُمّي في بيتها قاعدة ما تريد براحاً.

ـ إنّما اُريده لأُمّ المؤمنين عائشة.

ـ هو لك خذه بغير ثمّن.

ـ ارجع معنا إلى الرحل فلنعطك ناقة مهرية ، ونزيدك دراهم.

فقفل معهم فأعطوه الناقة وأربعمئة درهم ، أو ستمئة درهم ، وقُدّم العسكر إلى عائشة فاعتلت عليه(١) ، وقد أصبح كعجل بني إسرائيل ؛ فقُطّعت الأيدي ، وأُزهقت الأنفس ، وأُريقت الدماء مِنْ حوله.

الحوأب :

وسارت قافلة عائشة فاجتازت على مكان يُقال له (الحوأب) ، فتلقّت الركب كلاب الحيّ بهرير وعواء ، فذعرت عائشة ، فالتفتت إلى مُحمّد بن طلحة فقالت له : أي ماء هذا يا مُحمّد؟

ـ ماء الحوأب يا أُمّ المؤمنين.

فهتفت وهي تلهث : ما أراني إلاّ راجعة.

ـ لِمَ يا أُمّ المؤمنين؟!

ـ سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه : «كأنّي بإحداكن قد نبحتها

__________________

(١) ابن الأثير ٣ / ١٠٧ ، تاريخ الطبري ٣ / ٤٧٥ ، تذكرة الخواصّ.

٣٢

كلاب الحوأب ، وإيّاكِ أنْ تكوني أنتِ يا حميراء»(١) .

ـ تقدّمي رحمك الله ودعِ هذا القول.

فلمْ تبرح مِنْ مكانها ، وطاقت بها الهموم والآلام ، وأيقنت بضلالة قصدها ، وذعرت القيادة العسكرية مِنْ توقّف عائشة التي اتّخذوها قبلة لهم يغرون بها السذّج والبسطاء ، فخفّوا إليها في دهشة قائلين : يا أُمّه! فقطعت عليهم الكلاب وراحت تقول بنبرات ملؤها الأسى والحزن : أنا والله صاحبة كلاب الحوأب ردّوني ردّوني.

وأسرع إليها ابن اُختها عبد الله بن الزبير كأنّه ذئب فانهارت أمامه ، واستجابت لعواطفها ، ولولاه لارتدّت على عقبيها إلى مكة ، فجاء لها بشهود اشترى ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب ، وهي أوّل شهادة زور تُقام في الإسلام(٢) . فأقلعت عن فكرتها ، وأخذت تقود الجيوش لحرب وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وباب مدينة علمه.

في ربوع البصرة :

ودهمت جيوش عائشة أهل البصرة فملئت قلوبهم ذعراً وفزعاً

__________________

(١) روى ابن عباس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال يوماً لنسائه وهنّ جميعاً عنده : «أيتكنّ صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب ، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار ، وتنجو بعدما كادت؟» ، شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٩٧ ، ابن كثير ٦ / ٢٩٧ ، ٢١٢ ، الخصائص ـ السيوطي ٢ / ١٣٧ ، الاستيعاب وجاء فيه : وهذا الحديث من أعلام نبوته (صلّى الله عليه وآله).

(٢) مروج الذهب ٢ / ٣٤٧ ، تاريخ اليعقوبي.

٣٣

وخوفاً ؛ فقد أحاطت ببلدهم القوات العسكرية التي تنذر باحتلال بلدهم ، وجعلها منطقة حرب وعصيان على الخليفة الشرعي ، وانبرى حاكم البصرة عثمان بن حنيف وهو مِنْ ذوي الإدارة والحزم والحريجة في الدين ، فبعث أبا الأسود الدؤلي إلى عائشة يسألها عن سبب قدومها إلى مصرهم ، ولمّا مثل عندها قال لها : ما أقدمك يا أُمّ المؤمنين؟

ـ أطلب بدم عثمان.

ـ ليس في البصرة مِنْ قتلة عثمان أحد.

ـ صدقت ، ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة ، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله ، أنغضب لكم مِنْ سوط عثمان ، ولا نغضب لعثمان مِنْ سيوفكم؟!

وردّ عليها أبو الأسود قائلاً : ما أنتِ مِن السوط والسيف! إنّما أنتِ حبيسة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، أمرك أنْ تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك ، وليس على النساء قتال ، ولا لهنّ الطلب بالدماء ، وأنّ علياً لأولى منكِ وأمسّ رحماً ؛ فإنّهما ابنا عبد مناف!

ولمْ تذعن لقوله ، وراحت مصرّة على رأيها قائلة : لست بمنصرفة حتّى أمضي لما قدمت إليه ، أفتظن أبا الأسود أنّ أحداً يقدم على قتالي؟ وحسبت أنّها تتمتّع بحصانة لعلاقتها الزوجية مِنْ النّبي (صلّى الله عليه وآله) فلا يقدم أحد على قتالها ، ولمْ تعلم أنّها أهدرت هذه الحرمة ، ولمْ ترعَ لها جانباً ، فأجابها أبو الأسود بالواقع قائلاً : أما والله ، لتقاتلنّ قتالاً أهونه الشديد.

٣٤

ثمّ انعطف أبو الأسود صوب الزبير فذكّره بماضِ ولائه للإمام (عليه السّلام) وقربه منه قائلاً : يا أبا عبد الله ، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذاً بقائم سيفك تقول : لا أحد أولى بهذا الأمر مِن ابن أبي طالب ، وأين هذا المقام مِنْ ذاك؟! فأجابه الزبير بما لمْ يؤمن به قائلاً : نطلب بدم عثمّان. [فقال له :] أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بعد.

ولان الزبير ، واستجاب لنصيحة أبي الأسود ، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة وعرض الأمر عليه ، فأسرع أبو الأسود تجاه طلحة وعرض عليه النصيحة فأبى من الاستجابة ، وأصرّ على الغيّ والعدوان(١) ، ورجع أبو الأسود مِنْ وفادته التي أخفق فيها ، فأحاط ابن حنيف علماً بالأمر ، فجمع أصحابه وخطب فيهم وقال : أيّها الناس ، إنّما بايعتم الله ؛ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.

والله ، لو علم عليٌّ أحداً أحق بهذا الأمر منه ما قبله ، ولو بايع الناس غيره لبايع وأطاع ، وما به إلى أحد مِنْ صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حاجة ، وما بأحد عنه غنى. ولقد شاركهم في محاسنهم وما شاركوه في محاسنه ، ولقد بايع هذان الرجلان وما يريدان الله ؛ فاستحلا الفطام قبل الرضاع ، والرضاع قبل الولادة ، والولادة قبل الحمل ، وطلبا ثواب الله مِن العباد ، وقد زعما أنّهما بايعا مستكرهين ؛ فإنْ كانا استُكرها قبل بيعتهما ، وكانا رجلين مِنْ عرض قريش ، لهما أنْ يقولا ولا يأمرا ؛ ألا وأنّ الهدى ما كانت عليه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٨١.

٣٥

العامّة ، والعامّة على بيعة علي ، فما ترون أيها الناس؟ فقام إليه الفذ النّبيل حكيم بن جبلة فخاطبه بمنطق الإيمان والحقّ والإصرار على الحرب(١) .

وجرت مناظرات بين الفريقين إلاّ أنّها لمْ تنته إلى خير ، وخطب طلحة والزبير وكان خطابهما الطلب بدم عثمان ، فردّ عليهما أهل البصرة ممّن كانت تأتيهم رسل طلحة بالتحريض على قتل عثمان ، وحمّلوه المسؤولية في إراقة دمه.

وخطبت عائشة خطابها الذي كانت تكرره في كلّ وقت ، وهو التحريض على المطالبة بدم عثمان ؛ لأنّه قد خلص مِن ذنوبه وأعلن توبته ، ولكنّها لمْ تنهِ خطابها حتّى ارتفعت الأصوات ؛ فقوم يصدّقونها ، وقوم يكذّبونها ، وتسابّوا فيما بينهم وتضاربوا بالنعال ، واقتتل الفريقان أشدّ القتال وأعنفه ، وأسفرت الحرب عن عقد هدنة بينهما حتّى يقدم الإمام علي (عليه السّلام). وكتبوا بينهم كتاباً وقّعه عثمان بن حنيف وطلحة والزبير ، وقد جاء فيه بإقرار عثمان بن حنيف على الإمرة ، وترك المسلحة وبيت المال له ، وأنْ يباح للزبير وطلحة وعائشة ومَنْ انضمّ إليهم أنْ ينزلوا حيث شاؤوا مِن البصرة.

ومضى ابن حنيف يقيم بالناس الصلاة ، ويقسّم المال بينهم ، ويعمل على نشر الأمن وإعادة الاستقرار في المصر ، إلاّ أنّ القوم قد خاسوا بعهدهم ومواثيقهم ، فأجمعوا على الفتك بابن حنيف.

ويقول المؤرّخون : إنّ حزب عائشة انتهزوا ليلة مظلمة شديدة الريح ، فعدوا على ابن حنيف وهو يصلّي بالناس صلاة العشاء ، فأخذوه ثمّ عدوا إلى بيت المال فقتلوا مِنْ حرسه أربعين رجلاً واستولوا عليه ، وزجّوا بابن حنيف في السجن ، وأسرفوا في تعذيبه بعد أنْ نتفوا لحيته وشاربيه(٢) .

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٦٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٠.

٣٦

وغضب قوم مِنْ أهل البصرة ، ونقموا على ما اقترفه القوم مِنْ نقض الهدنة والنكاية بحاكمهم واحتلال بيت المال ، فخرجوا يريدون الحرب ، وكانت هذه الفئة مِنْ ربيعة يرأسها البطل العظيم حكيم بن جبلة ، فقد خرج في ثلاثمئة رجل مِنْ بني عبد القيس(١) ، وخرج أصحاب عائشة وحملوها معهم على جمل ، وسُمّي ذلك اليوم الجمل الأصغر(٢) ، والتحم الفريقان في معركة رهيبة ، وقد أبلى ابن جبلة بلاءً حسناً.

ويقول المؤرّخون : إنّ رجلاً مِنْ أصحاب طلحة ضربه ضربة قطعت رجله ، فجثا حكيم وأخذ رجله المقطوعة فضرب بها الذي قطعها فقتله ، ولمْ يزل يقاتل حتّى قُتِلَ(٣) .

لقد أضاف القوم إلى نقض بيعتهم للإمام (عليه السّلام) نكثهم للهدنة التي وقّعوا عليها مع ابن حنيف ، وإراقتهم للدماء بغير حقّ ، ونهبهم ما في بيت المال ، وتنكيلهم بابن حنيف.

ويقول المؤرّخون : إنّهم قد همّوا بقتله لولا أنّه هدّدهم بأخيه سهل بن حنيف الذي يحكم المدينة مِنْ قبل علي (عليه السّلام) ، وأنّه سيضع السيف في بني أبيهم إنْ أصابوه بمكروه ، فخافوا مِنْ ذلك وأطلقوا سراحه ، فانطلق حتّى التحق بالإمام (عليه السّلام) في بعض طريقه إلى البصرة ، فلمّا دخل عليه قال للإمام (عليه السّلام) مداعباً : أرسلتني إلى البصرة شيخاً فجئتك أمرداً.

وأوغرت هذه الأحداث الصدور ، وزادت الفرقة بين أهل البصرة ؛ فقد انقسموا على أنفسهم ؛ فطائفة منهم تسللوا حتّى التحقوا بالإمام (عليه السّلام) ، وقوم انضمّوا إلى جيش عائشة ، وطائفة ثالثة اعتزلت الفتنة ولمْ يطب لها الانضمام إلى أحد الفريقين.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٠.

(٢) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٤٣٠.

(٣) اُسد الغابة ٢ / ٤٠.

٣٧

النزاعُ على الصلاة :

وليس مِن الغريب في شيء أنْ يتنازع كلّ مِنْ طلحة والزبير على إمامة الصلاة ؛ فإنّهما إنّما نكثا بيعة الإمام (عليه السّلام) طمعاً بالحكم ، وسعياً وراء المصالح المادية.

ويقول المؤرّخون : إنّ كلّ واحد منهما كان يروم التقدّم على صاحبه لإمامة الناس والآخر يمنعه حتّى فات وقت الصلاة ، فخافت عائشة مِنْ تطوّر الأحداث ، فأمرت أنْ يصلّي بالناس يوماً مُحمّد بن طلحة ، ويوماً عبد الله بن زبير(١) . فذهب ابن الزبير ليصلّي فجذبه مُحمّد وتقدّم للصلاة فمنعه عبد الله ، ورأى الناس أنّ خير وسيلة لقطع حبل النزاع القرعة ، فاقترعا فخرج مُحمّد بن طلحة فتقدّم وصلّى بالناس ، وقرأ في صلاته : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ).

وأثارت هذه الصور الهزيلة السخرية عليهم بين الناس ، واندفعوا إلى نقدهم ، وفي ذلك يقول الشاعر :

تبارى الغلامانِ إذ صلّيا

وشحّ على المُلْك شيخاهما

وما لي وطلحة وابن الزبيرِ

وهذا بذي الجذعِ مولاهما

فأُمّهما اليوم غرَّتهما

ويعلى بنُ مُنبه ولاّهما(٢)

إنّ هذه البادرة تصوّر مدى تهالك القوم على الإمرة والسلطان وهم بعد في بداية الطريق ، فلو كتب لهم النجاح في القضاء على حكم الإمام (عليه السّلام) لفتح بعضهم على بعض باب الحرب للاستيلاء على زمام الحكم.

رُسل الإمام (عليه السّلام) إلى الكوفة :

وأوفد الإمام (عليه السّلام) رسله إلى أهل الكوفة يستنجد بهم ، ويدعوهم إلى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٧.

(٢) الأغاني ١١ / ١٢٠.

٣٨

نصرته ، والقيام معه لإخماد نار الفتنة التي أشعلها المتمرّدون. وأقبلت الرسل إلى الكوفة فوجدوا عاملها أبا موسى الأشعري يدعو إلى الفتنة ، ويخذّل الناس عن نصرة إمامهم ويدعوهم إلى التمرّد ، ويحبب لهم العافية. ولمْ تكن لأبي موسى حجّة في ذلك ، وإنّما كان يعبّر عن حقده وأضغانه على الإمام (عليه السّلام) ، وكان فيما أجمع عليه المؤرّخون عثمّاني الهوى.

وأقبلت رسل الإمام (عليه السّلام) على أبي موسى يعنّفونه ويلومونه ، إلاّ أنّه لمْ يعنَ بهم ، فبعثوا إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة ذكروا فيها تمرّده وعدم استجابته لنداء الحقّ ، وأرسل إليه الإمام (عليه السّلام) هاشم المرقال ، وهو مِنْ خيرة أصحاب الإمام (عليه السّلام) ، وزوّده برسالة يطلب فيها مجيء أبي موسى إليه ، ولمّا انتهى إليه هاشم وعرض عليه رسالة الإمام (عليه السّلام) لمْ يستجب له وبقي مصمّماً على عناده وعصيانه ، فأرسل هاشم إلى الإمام (عليه السّلام) رسالة يخبره فيها بموقف أبي موسى وتمرّده ، فبعث الإمام (عليه السّلام) ولده الحسن (عليه السّلام) وعمّار بن ياسر ومعهما رسالة بعزله وتعيين قرضة بن كعب الأنصاري في مكانه.

ولمّا وصل الإمام الحسن (عليه السّلام) إلى الكوفة التام الناس حوله زمراً وهم يظهرون له الطاعة والولاء ، وأعلن لهم عزل الوالي المتمرّد وتعيين قرضة في منصبه ، إلاّ أنّ أبا موسى بقي مصمّماً على غيّه ؛ يثبّط عزائم الناس ويدعوهم إلى التخاذل والخروج عن الطاعة ، ولم يستجب للإمام الحسن (عليه السّلام). ورأى الزعيم الكبير مالك الأشتر أنّ الأمر لا يتمّ إلاّ بإخراج أبي موسى مهان الجانب ، فجمع نفراً مِنْ قومه اُولي بأسٍ شديدٍ فأغار بهم على قصر الإمارة ، وأخذ الناس ينهبون أمتعته وأمواله ، فاضطر الجبان إلى الاعتزال عن عمله ، ومكث ليلته في الكوفة ثمّ خرج هارباً حتّى أتى مكة فأقام مع المعتزلين.

ودعا الإمام الحسن (عليه السّلام) الناس إلى الخروج لنصرة أبيه (عليه السّلام) ، وقد نفر معه آلاف كثيرة ؛ فريق منها ركب السفن ، وفريق آخر ركب المطي ، وهم مسرورون كأشدّ ما يكون السرور بنصرتهم للإمام (عليه السّلام).

٣٩

وطوت الجيوش البيداء تحت قيادة الإمام الحسن (عليه السّلام) ، فانتهوا إلى ذي قار حيث كان الإمام (عليه السّلام) مقيماً هناك ، وقد سرّ (عليه السّلام) بنجاح ولده ، وشكر له مساعيه وجهوده. وانضمّت جيوش الكوفة إلى الجيش الذي كان مع الإمام (عليه السّلام) والبالغ عدده أربعة آلاف ، وكان فيهم أربعمئة ممّن شهد بيعة الرضوان مع النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسند الإمام (عليه السّلام) قيادة ميمنة جيشه إلى الحسن (عليه السّلام) ، وقيادة ميسرته إلى الحُسين (عليه السّلام)(١) ، كما كانت جيوشه مزوّدة بأحسن السلاح ، ويقول المؤرّخون : إنّ الحُسين (عليه السّلام) كان قد ركب فرس جدّه (صلّى الله عليه وآله) المسمّى بالمرتجز(٢) .

التقاءُ الجيشين :

وتحرّكت قوات الإمام (عليه السّلام) مِنْ ذي قار وهي على بيّنة مِنْ أمرها ، فلمْ تكن متردّدة ولا شاكّة في أنّها على الهُدى والحقّ ، وقد انتهت إلى مكان يسمّى بالزاوية يقع قريباً مِن البصرة ، فأقام فيه الإمام (عليه السّلام) وقد بادر إلى الصلاة ، وبعدما فرغ منها أخذ يبكي ودموعه تسيل على سحنات وجهه الشريف ، وهو يتضّرع إلى الله في أنْ يحقن دماء المسلمين ويجنّبه ويلات الحرب ، ويجمع كلمة المسلمين على الهُدى والحقّ.

رُسل السّلام :

وأوفد الإمام (عليه السّلام) رسل السّلام للقاء عائشة ، وهم زيد بن صوحان ،

__________________

(١) جواهر المطالب ـ شمس الدين أبي البركات / ٤٣ ، من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

(٢) وقعة الجمل ـ مُحمّد بن زكريا بن دينار / ٣٥.

٤٠

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470