حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307360 / تحميل: 6767
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وتُستباح حرُماته ، وإمّا أنْ يُقتلَ عزيزاً كريماً ، فاختار المنيّة للحفاظ على كرامته وكرامة الاُمّة ومقدّساتها.

وصيته لابن عباس :

وأقبل الحُسين على ابن عباس فعهد إليه بهذه الوصية قائلاً : «وأنت يابن عباس ابن عمّ أبي ، لمْ تزل تأمر بالخير منذ عرفتك ، وكنت مع أبي تشير عليه بما فيه الرشاد والسداد ، وقد كان أبي يستصحبك ويستنصحك ويستشيرك وتشير عليه بالصواب ، فامض إلى المدينة في حفظ الله ولا تخفِ عليّ شيئاً مِنْ أخبارك ؛ فإنّي مستوطن هذا الحرم ومقيم به ما رأيت أهله يحبّونني وينصرونني ، فإذا همْ خذلوني استبدلت بهم غيرهم ، واستعصمت بالكلمة التي قالها إبراهيم يوم اُلقي في النّار : حسبي الله ونعم الوكيل. فكانت النار عليه برداً وسلاماً»(١) .

رسائله إلى زعماء البصرة :

وكتب الإمام إلى رؤساء الأخماس بالبصرة يستنهضهم على نصرته والأخذ بحقّه ، وقد كتب إلى الأشراف ، ومِنْ بينهم :

١ ـ مالك بن مسمع البكري.

٢ ـ الأحنف بن قيس.

٣ ـ المنذر بن الجارود.

٤ ـ مسعود بن عمرو.

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ١ / ١٩٣.

٣٢١

٥ ـ قيس بن الهيثم.

٦ ـ عمر بن عبيد الله بن معمر(١) .

وقد أرسل كتاباً إليهم بنسخة واحدة ، وهذا نصه : «أمّا بعد ، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلّى الله عليه وآله) مِنْ خلقه وأكرمه بنبوّته واختاره لرسالته ، ثمّ قبضه إليه وقد نصح لعباده وبلّغ ما اُرسل به ، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقّ الناس بمقامه ، فاستأثر علينا قومنا بذلك فرضينا ، وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية ، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحق علينا ممّن تولاه ، وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ؛ فإنّ السنّة قد اُميتت ، والبدعة قد اُحييت ، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد»(٢) .

وألقت هذه الرسالة الأضواء على الخلافة الإسلاميّة فهي حسب تصريح الإمام حقّ لأهل البيت (عليهم السّلام) ؛ لأنّهم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأكثرهم وعياً لأهدافه ، إلاّ أنّ القوم استأثروا بها فلمْ يسع العترة الطاهرة إلاّ الصبر كراهة للفتنة وحفظاً على وحدة المسلمين.

كما حفلت هذه الرسالة بالدعوة إلى الحقّ بجميع رحابه ومفاهيمه ، فدعت إلى إحياء كتاب الله وسنّة نبيّه ، فإنّ الحكم الاُموي عمد إلى إقصائهما عن واقع الحياة.

وعلّق بعض الكتّاب على دعوة الإمام لأهل البصرة لبيعته ، فقال : إنّ رسالة الحُسين إلى أهل البصرة تُرينا كيف كان يعرف مسؤوليته ويمضي معها ، فأهل البصرة لمْ يكتبوا إليه ولمْ يدعوه إلى بلدهم كما فعل أهل الكوفة ، ومع هذا فهو يكتب إليهم ويعدّهم للمجابهة المحتومة ،

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٠.

٣٢٢

ذلك أنّه حين قرّر أنْ ينهض بتبعات دينه واُمّته كان قراره هذا آتياً مِنْ أعماق روحه وضميره ، وليس مِنْ حركة أهل الكوفة ودعوتهم إيّاه.

وعلى أي حالٍ ، فقد بعث الإمام كتبه لأهل البصرة بيد مولى له يُقال له سليمان ، ويُكني أبا رزين ، وقد جدّ في السير حتّى انتهى إلى البصرة ، فسلّم الكتب إلى أربابها.

جواب الأحنف بن قيس :

وأجاب الأحنف بن قيس زعيم العراق الإمام برسالةٍ كتب فيها هذه الآية الكريمة ، ولمْ يزد عليها (فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ)(١) . وقد طلب مِنْ الإمام الخلود إلى الصبر ، ولا يستخفّه الذين لا يوقنون بالله ولا يرجون له وقاراً.

جريمة المنذر :

أمّا المنذر بن الجارود العبدي فقد كان مِنْ أجلاف العرب وحُقرائهم ، فقد عمد إلى رسول الإمام فبعثه مخفوراً إلى ابن زياد ، وكان زوج ابنته ليظهر له الإخلاص والولاء فقتله ابن مرجانة ، وصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة(٢) .

واعتذر بعض المؤرّخين عن المنذر ، أو هو اعتذر عن نفسه بأنّه خشي أنْ يكون الرسول مِنْ قبل ابن مرجانة

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٠.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٠٠.

٣٢٣

لاختباره فلذا سلّمه إليه ، وهو اعتذار مهلهل ؛ فإنّ اللازم كان إجراء التحقيق معه حتّى يستبين له الأمر.

استجابة يزيد بن مسعود :

واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحقّ ، فاندفع بوحي مِنْ إيمانه وعقيدته إلى نصرة الإمام ، فعقد مؤتمراً عاماً دعا فيه القبائل العربية الموالية له ، وهي :

١ ـ بنو تميم.

٢ ـ بنو حنظلة.

٣ ـ بنو سعد.

ولمّا اجتمعت هذه القبائل انبرى فيهم خطيباً ، فوجّه خطابه أولاً إلى بني تميم ، فقال لهم : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم؟ وتعالت أصوات بني تميم وهي تعلن ولاءها المطلق وإكبارها له ، قائلين بلسان واحد : بخٍ بخٍ! أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر ؛ حللت في الشرف وسطاً ، وتقدّمت فيه فرطاً.

وسرّه تأييدهم ، فانطلق يقول : إنّي جمعتكم لأمر اُريد أنْ اُشاوركم ، وأستعين بكم عليه. واندفعوا جميعاً يظهرون له الولاء والطاعة ، قائلين : إنّا والله ، نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأى ، فقل حتّى نسمع.

٣٢٤

وتطاولت الأعناق واشرأبت النفوس لتسمع ما يقول الزعيم الكبير ، وانبرى قائلاً : إنّ معاوية مات ، فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا إنّه قد انكسر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم ، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظن أنّه قد أحكمه ، وهيهات الذي أراد! اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمّر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف مِن الحقّ موطأ قدميه ، فاُقسم بالله قسماً مبروراً لَجهاده على الدين أفضل مِنْ جهاد المشركين.

وهذا الحُسين بن علي وابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل(١) ، له فضل لا يوصف وعلم لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ويُحسن إلى الكبير ، فأكرم به راعي رعية ، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة وبلغت به الموعظة ، فلا تعشوا عن نور الحقّ ولا تسكعوا في وهد الباطل ، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونصرته ، والله ، لا يقصّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولْده والقلّة في عشيرته.

وها أنا ذا قد لبست للحرب لامتها وادّرعت لها بدرعها. مَنْ لمْ يُقتل يمت ، ومَنْ يهرب لمْ يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب.

وحفل هذا الخطاب الرائع بأمور بالغة الأهمية ، وهي :

أولاً : الاستهانة بهلاك معاوية ، وإنّه قد انكسر بموته باب الظلم والجور.

__________________

(١) الرأي الأثيل : الأصيل.

٣٢٥

ثانياً : القدح في بيعة معاوية ليزيد.

ثالثاً : عرض الصفات الشريرة الماثلة في يزيد مِن الإدمان على الخمر ، وفقد الحلم وعدم العلم وعدم التبصّر بالحقّ.

رابعاً : الدعوة إلى الالتفات حول الإمام الحُسين (عليه السّلام) ؛ وذلك لما يتمتّع به مِن الصفات الشريفة ، كأصالة الفكر وغزارة العلم وكبر السنّ ، والعطف على الكبير والصغير وغير ذلك مِن النزعات الكريمة التي تجعله أهلاً لإمامة المسلمين.

خامساً : إنّه عرض للجماهير عن استعداده الكامل للقيام بنصرة الإمام والذبّ عنه.

ولمّا أنهى الزعيم العظيم خطابه انبرى وجهاء بني حنظلة فأظهروا الدعم الكامل له ، قائلين : يا أبا خالد ، نحن نبلُ كنانتك وفرسان عشيرتك. إنْ رميت بنا أصبت وإنْ غزوت بنا فتحت. لا تخوض والله غمرة إلاّ خضناها ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ؛ ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا إذا شئت.

وكان منطقاً مشرّفاً دلّ على تعاطفهم ووقوفهم إلى جانبه ، وقام مِنْ بعدهم بنو عامر فأعربوا عن ولائهم العميق له ، قائلين : يا أبا خالد ، نحن بنو أبيك وحلفاؤك ؛ لا نرضى إنْ غضبت ، ولا نبقى إنْ ظعنت ، والأمر إليك فادعنا إذا شئت.

وأمّا بنو سعيد فأظهروا التردد وعدم الرغبة فيما دعاهم إليه ، قائلين : يا أبا خالد ، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال يوم الجمل فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ونأتيك برأينا.

وساءه تخاذلهم فاندفع يندّد بهم قائلاً :

٣٢٦

لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً ولا زال سيفكم فيكم.

جوابه للإمام (عليه السّلام) :

ورفع يزيد بن مسعود رسالة للإمام دلّت على شرفه ونبله واستجابته لدعوته ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد وصل إليّ كتابك وفهمت ما ندبتني إليه ، ودعوتني له مِن الأخذ بحظّي مِنْ طاعتك والفوز بنصيبي مِنْ نصرتك ، وإنّ الله لمْ يُخلِ الأرض قطّ مِنْ عامل بخير ودليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجّة الله على خلقه ووديعته في أرضه. تفرعتم مِنْ زيتونة أحمدية ، هو أصلها وأنتم فرعها ، فاقدم سعدت بأسعد طائر فقد ذلّت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك مِن الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها(١) ، وقد ذلّت لك رقاب بني سعد وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقها فلمع.

وحفلت هذه الرسالة بسموّ أدبه وكريم طباعه وتقديره البالغ للإمام.

ويقول بعض المؤرّخين : إنّها انتهت إلى الإمام في اليوم العاشر مِن المحرّم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته ، وهو وحيد فريد ، قد أحاطت به القوى الغادرة ، فلمّا قرأ الرسالة طفق يقول : «ما لك! آمنك الله مِن الخوف ، وأرواك يوم العطش الأكبر».

ولمّا تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فجزع لذلك وذابت

__________________

(١) خمسها : بالكسر الإبل الضماء التي ترعى ثلاثة أيام وترد الرابع.

٣٢٧

نفسه أسى وحسرات(١) .

استجابة يزيد البصري :

ولبّى نداء الحقّ يزيد بن نبيط البصري ، وكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ يتردّد إلى دار مارية ابنة سعد أو منقذ ، وكانت دارها مِنْ منتديات الشيعة ، وفيها تذاع فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) وتنشر مآثرهم.

ولمّا وجّه الإمام دعوته إلى أهل البصرة لنصرته استجاب لها يزيد بن نبيط ، ولحق به مِنْ أولاده العشرة عبد الله وعبيد الله ، وخاف عليه أصحابه أنْ يدركه الطلب مِنْ شرطة ابن زياد ، فقال لهم : لو استوت أخفافها بالجدد لهان عليّ طلب مَنْ طلبني(٢) واستوى على جواده مع ولديه ، وصحبه مولاه عامر وسيف بن مالك والأدهم بن اُميّة فلحقوا بالإمام في مكّة وصحبوه إلى العراق ، واستشهدوا بين يديه في كربلاء(٣) .

نقمة العراق على الاُمويِّين :

وكره العراقيون بصورة عامّة حكم الاُمويِّين وبغضوا سلطانهم ، وفيما نحسب أنّ الأسباب في ذلك ما يلي :

١ ـ إنّ العراق أيّام معاوية أصبح يُساس بالروح العسكرية ، والأحكام العرفية التي لا تتقيد بالقانون ، خصوصاً أيام زياد بن سميّة ، فقد كان يأخذ

__________________

(١) اللهوف / ١٦ ـ ١٩.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٨.

(٣) مقتل المقرم / ١٥٨ نقلاً عن ذخيرة الدارين / ٢٢٤.

٣٢٨

البريء بالسقيم ، والمقبل بالمدبر ، ويقتل على الظنّة والتّهمة ، ممّا أدى إلى إشاعة الكراهية للأمويين.

٢ ـ إنّ الكوفة كانت في عهد الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) عاصمة الدولة الإسلاميّة ، وفي أيام معاوية أصبحت دمشق العاصمة ومركز الحكم ، وأصبح العراق مصراً كسائر الأمصار ، وانتقلت عنه الخزينة المركزية ، وقد أخذ الكوفيون يندبون حظّهم التعيس بعد تحوّل الخلافة عنهم ، وأصبح اسم الإمام عندهم رمزاً إلى دولتهم المفقودة ، وتعلّقت آمالهم بأبناء الإمام فكانوا ينظرون إليهم إنّهم الأبطال لاستقلال بلادهم السياسي وتحررها مِن التبعية لدمشق.

فقد كره أهل العراق الخضوع لأهل الشام ، كما كره أهل الشام الخضوع والسيطرة لأهل العراق ، وقد صوّر شاعر الشام هذه النزعة بقوله :

أرى الشامَ تكره مُلكَ العراقِ

وأهلَ العراقِ لهم كارهونا

وقالوا عليٌّ إمامٌ لنا

فقلنا رضينا ابنَ هندٍ رضينا

وصوّر شاعر العراق هذه النزعة السائدة عند العراقيِّين بقوله مخاطباً أهل الشام :

أتاكمْ عليٌّ بأهلِ العراقِ

وأهلِ الحجاز فما تصنعونا

فإنْ يكره القومُ مُلكَ العراقِ

فقدماً رضينا الذي تكرهونا(١)

وكانت الثورات المتلاحقة التي قام بها العراق إنّما هي لكراهية أهل الشام والتخلّص مِنْ حكم الاُمويِّين.

٣ ـ إنّ السياسة الخاطئة التي تبعها معاوية مع زعماء الشيعة الذين تبنّوا القضايا المصيرية للشعب العراقي وكافة الشعوب الإسلاميّة ، وما عانوه مِن القتل والتنكيل قد هزّت مشاعر الكوفيِّين ، وأوغرت صدورهم بالحقد

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٧٠ طبع ليدن.

٣٢٩

على الاُمويِّين ، كما إنّ سبّ الإمام على المنابر قد زاد في بغضهم للأمويين ، وأشعل جذوة المعارضة في نفوسهم.

٤ ـ إنّ الاُمويِّين كانوا ينظرون إلى أهل الكوفة إنّهم الجبهة المعارضة لحكمهم ، وإنّهم المصدر الخطير الذي يهدد دولتهم فقابلوهم بمزيد مِن القسوة والإرهاب ، ممّا دعى الكوفيين إلى العمل المستمر لمناهضة الحكم الاُموي وتقويض سلطانه.

هذه بعض الأسباب التي أدّت إلى نقمة العراق على الحكم الاُموي وبغضهم له.

إعلان التمرّد في العراق :

وبعد هلاك معاوية أيقن العراقيون بانهيار الدولة الاُمويّة ، وقد رؤوا أنّ في تقليد يزيد مهام الخلافة إنّما هو استمرار للحكم الاُموي الذي جهد على إذلالهم وقهرهم.

وقد أجمعت الشيعة في الكوفة على مناجزته والخروج على سلطانه ، ورأوا أنّ في كفاحهم له جهاداً دينياً حسب ما يقول (جولد تسهير)(١) . ويرى (كريمر) إنّ الأخيار والصلحاء مِن الشيعة كانوا ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام ، وخلفاء أبي سفيان(٢) .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ شيعة الكوفة لمْ ترضَ بحكم يزيد ، وأجمعت على خلعه والبيعة للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وقد قاموا بما يلي :

__________________

(١) (٢) العقيدة والشريعة في الإسلام / ٦٩.

٣٣٠

المؤتمر العام :

وعقدت الشيعة بعد هلاك معاوية مؤتمراً عاماً في بيت أكبر زعمائهما سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا اندفاعاً كلياً في إلقاء الخطب الحماسية التي تظهر مساوئ الحكم الاُموي وفضائحه ، كما أشادوا بالإمام الحُسين ودعوا إلى البيعة له.

خطبة سليمان :

واعتلى سليمان بن صرد منصّة الخطابة ، فافتتح أولى جلساتهم بهذا الخطاب ، وقد جاء فيه : إنّ معاوية قد هلك ، وإنّ حُسيناً قد قبض على القوم ببيعته ، وقد خرج إلى مكّة وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإنْ كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوه فاكتبوا إليه ، وإنْ خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل مِنْ نفسه.

وتعالت أصواتهم مِنْ كلّ جانب وهم يقولون بحماس بالغ : نقتل أنفسنا دونه ، لا بل نقاتل عدوه(١) . وأظهروا رغبتهم الملحّة ودعمهم الكامل للإمام ، وقرّروا ما يلي :

١ ـ خلع بيعة يزيد.

٢ ـ إرسال وفد للإمام يدعونه للقدوم إليهم.

__________________

(١) الإرشاد / ٢٢٣ ـ ٢٢٤.

٣٣١

٣ ـ بعث الرسائل للإمام مِنْ مختلف الطبقات الشعبية التي تمثّل رغبة الجماهير الحاشدة لحكم الإمام.

وفد الكوفة :

وأوفدت الكوفة وفداً إلى الإمام يدعوه إلى القدوم إليهم ، ومِنْ بين ذلك الوفد عبد الله الجدلي(١) ، ولمّا مثل الوفد عند الإمام عرض عليه اجماع أهل الكوفة على نصرته والأخذ بحقّه ، وإنّه ليس لهم إمام غيره وحثّوه على القدوم إليهم.

الرسائل :

وعمد أهل الكوفة بعد مؤتمرهم فكتبوا الرسائل إلى الإمام (عليه السّلام) وهي تعرب عن إخلاصهم وولائهم له ، وتحثّه على القدوم إليهم ليتولّى قيادة الاُمّة ، وهذه بعضها :

١ ـ قد جاء فيما بعد البسملة ما نصّه : مِنْ سليمان بن صرد والمسيب بن نجيّة ، ورفاعة بن شدّاد وحبيب بن مظاهر ، وشيعته والمسلمين مِنْ أهل الكوفة.

أمّا بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبّار العنيد ـ يعني معاوية ـ الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها واغتصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها ، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دُولَة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعُدت ثمود! إنّه ليس علينا إمام

__________________

(١) مقاتل الطالبيِّين / ٩٥.

٣٣٢

فاقبلْ لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إنْ شاء الله. والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته(١) .

وكتبت هذه الرسالة في أواخر شهر شعبان ، وحملها عبد الله الهمداني وعبد الله بن وائل الهمداني ، وقد أمروهما بالإسراع والحذر مِن العدو. وأخذا يجذّان في السير لا يلويان على شيء ، وقدما مكّة لعشر مضين مِنْ رمضان(٢) ، وسلّما الرسالة للإمام وعرّفاه بشوق الناس إلى قدومه.

وقد عرضت هذه الرسالة مساوئ الحكم الاُموي ، فوصفت معاوية بالجبّار العنيد ، وأنّه ابتز أمر الاُمّة بالقهر والغلبة وتأمّر عليها بغير رضى منها ، وقد قتل خيارها وصلحاءها وجعل العطاء خاصة للأغنياء والوجوه ، وحرم منه بقيّة طوائف الشعب ، كما عرضت إلى مقاطعة الشيعة لحاكم الكوفة النعمان بن بشير ، وإنّهم إذا بلغهم قدوم الإمام قاموا بإقصائه عن الكوفة وإلحاقه بدمشق.

٢ ـ وقد أرسل الرسالة الثانية جماعة مِنْ أهل الكوفة ، وهذا نصها : إلى الحُسين بن علي مِنْ شيعته والمسلمين. أمّا بعد ، فحي هلا(٣) ، فإنّ الناس ينتظرونك ولا رأي لهم غيرك(٤) ، فالعجل ثمّ العجل ، والسّلام(٥)

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١ ، الإمامة والسياسة ـ ابن قتيبة الدينوري ٢ / ٣ ـ ٤.

(٢) الفتوح ٥ / ٤٤.

(٣) حي هلا : اسم فعل بمعنى أقبل وعجّل.

(٤) في تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٥ ، لا إمام لهم غيرك.

(٥) الإرشاد / ٢٢٤.

٣٣٣

وحمل هذه الرسالة قيس بن مسهر الصيداوي مِنْ بني أسد ، وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي وعمارة بن عبد الله السلولي ، كما حملوا معهم نحواً مِنْ خمسين صحيفة مِن الرجُل والاثنين والثلاثة والأربعة(١) ، وهي تحث الإمام على الإسراع إليهم والترحيب بقدومه ، وتعلن دعمهم الكامل له.

٣ ـ وأرسل هذه الرسالة جماعة مِن الانتهازيين الذين لا يؤمنون بالله ، وهم شبث بن ربعي اليربوعي ومحمّد بن عمر التميمي ، وحجّار بن أبجر العجلي ويزيد بن الحارث الشيباني ، وعزرة بن قيس الأحمسي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار وطمّت الجمام(٢) ، فاقدم على جند لك مجنّدة. والسّلام عليك(٣) .

وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل وازدهار الحياة ، وتهيأة البلاد عسكريّاً للأخذ بحقّ الإمام ومناجزة خصومه ، وقد وقعّها أولئك الأشخاص الذين كانوا في طليعة القوى التي زجّها ابن مرجانة لحرب الإمام.

ومِن المؤكّد أنّهم لمْ يكونوا مؤمنين بحقّه ، وإنّما اندفعوا لمساومة السلطة الاُمويّة ، والحصول منها على الأموال ومتع الحياة ، كما صرح الإمام الحُسين بذلك أمام أصحابه.

٤ ـ ومِنْ بين تلك الرسائل : إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة ، فاقدم علينا فنحن في مئة ألف سيف ، فقد فشا فينا الجور وعمل فينا بغير كتاب الله وسنّة نبيّه ، ونرجوا أنْ يجمعنا

__________________

(١) أنساب الأشراف ٤ / ق ١.

(٢) الجمام : الآبار.

(٣) أنساب الأشراف ١ / ق ١ ، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول / ٧٤.

٣٣٤

الله بك على الحقّ وينفي عنّا بك الظلم ، فأنت أحقّ بهذا الأمر مِنْ يزيد وأبيه الذي غضب الاُمّة وشرب الخمور ، ولعب بالقرود والطنابير وتلاعب بالدين(١) .

٥ ـ وكتب جمهور أهل الكوفة الرسالة الآتية ووقّعوها ، وهذا نصها : للحُسين بن علي أمير المؤمنين مِنْ شيعة أبيه (عليه السّلام). أمّا بعد ، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم في غيرك ، العجل العجل يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ؛ لعلّ الله أنْ يجمعنا بك على الحقّ ويؤيد بك المسلمين والإسلام. بعد أجزل السّلام وأتمّه عليك ورحمة الله وبركاته(٢) .

٦ ـ وكتب إليه جماعة هذه الرسالة الموجزة : إنّا معك ومعنا مئة ألف سيف(٣) .

٧ ـ وكانت آخر الرسائل التي وصلت إليه هذه الرسالة : عجّل القدوم يابن رسول الله ، فإنّ لك بالكوفة مئة ألف سيف فلا تتأخّر(٤) .

وقد تتابعت عليه الرسائل ما ملأ منها خرجين.

ويقول المؤرّخون : إنّه اجتمع عنده في نوب متفرّقة اثنا عشر ألف كتاب(٥) ، ووردت إليه قائمة فيها مئة وأربعون ألف اسم يعربون عن نصرتهم له حال ما يصل إلى

__________________

(١) تذكرة الخواصّ / ٢٤٨ ، الصراط السوي في مناقب آل النّبي ـ السيّد محمود القادي ، مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وبصورة موجزة رواه المسعودي في مروج الذهب ٣ / ٤.

(٢) وسيلة المال / ١٨٥ ، الفصول المهمّة ـ ابن الصباغ / ١٧٠.

(٣) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

(٤) بحار الأنوار ١٠ / ١٨٠.

(٥) اللهوف / ١٩.

٣٣٥

الكوفة(١) ، كما وردت عليه في يوم واحد ستمئة كتاب(٢) .

وعلى أيّ حالٍ ، فقد كثرت كتب أهل الكوفة إلى الإمام ، وقد وقّع فيها الأشراف وقرآء المصر ، وهي تمثّل تعطّشهم لقدوم الإمام ؛ ليكون منقذاً لهم مِنْ طغمة الحكم الاُموي ، ولكن بمزيد الأسف فقد انطوت صحيفة ذلك الأمل ، وانقلب الوضع وتغيّرت الحالة ، وإذا بالكوفة تنتظر الحُسين لتسقي سيوفها مِنْ دمه وتُطعم نبالها مِنْ لحمه. تريد أنْ تحتضنَ جسد الحُسين لتوزّعه السيوف وتطعنه الرماح وتسحقه الخيول بحوافراها.

الكوفة تنتظر الحُسين لتثب عليه وثبة الأسد ، وتنشب أظفارها بذلك الجسد الطاهر. الكوفة تنتظر الحُسين لتسبي عياله بدل أنْ تحميهم ، وتروّع أطفاله بدل أنْ تؤويهم(٣) . وهكذا شاءت المقادير ، ولا راد لأمر الله على نكث القوم لبيعة الإمام وإجماعهم على حربه.

ويقول المؤرّخون : إنّ الإمام بعد ما وافته هذه الرسائل عزم على أن يلبّي أهل الكوفة ، ويوفد إليهم ممثّله العظيم مسلم بن عقيل.

__________________

(١) الوافي في المسألة الشرقية ١ / ٤٣.

(٢) الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء ١ / ١٠٧ من مخطوطات مكتبة الإمام الحكيم.

(٣) مع الحسين في نهضته / ١٥٧.

٣٣٦

إيفاد مسلم إلى العراق

٣٣٧
٣٣٨

وتتابعت كتب أهل الكوفة كالسيل إلى الإمام الحُسين وهي تحثّه على المسير والقدوم إليهم ؛ لإنقاذهم مِنْ ظلم الاُمويِّين وعنفهم ، وكانت بعض تلك الرسائل تحمّله المسؤولية أمام الله والاُمّة إنْ تأخّير عن إجابتهم.

ورأى الإمام قبل كلّ شيء أنْ يختار للقياهم سفيراً له يعرّفه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم ، فإنْ رأى منهم نيّة صادقة وعزيمة مصمّمة فيأخذ البيعة منهم ثمّ يتوجّه إليهم بعد ذلك. وقد اختار لسفارته ثقته وكبير أهل بيته والمبرز بالفضل فيهم مسلم بن عقيل ، وهو مِنْ أفذاذ التاريخ ومِنْ أمهر الساسة وأكثرهم قابلية على مواجهة الظروف ، وللصمود أمام الأحداث ، وعرض عليه الإمام القيام بهذه المهمّة فاستجاب له عن رضى ورغبة ، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة وهي :

الأولى : رواها أبو حنيفة الدينوري ، وهذا نصّها : «مِن الحُسين بن علي إلى مَنْ بلغه كتابي هذا مِنْ أوليائه وشيعته بالكوفة ، سلام عليكم. أما بعد ، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم مِنْ محبّتكم لقدومي عليكم ، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي مِنْ أهلي مسلم بن عقيل ؛ ليعلم لي كنه أمركم ، ويكتب إليّ بما يتبيّن له مِن اجتماعكم ؛ فإنْ كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إنْ شاء الله ، والسّلام»(١) .

الثانية : رواها صفي الدين ، وقد جاء فيها بعد البسملة : «أمّا بعد ، فقد وصلتني كتبكم وفهمت ما اقتضته آراؤكم ، وقد بعثت إليكم ثقتي وابن عمّي مسلم بن عقيل ، وسأقدم عليكم وشيكاً في إثره إن شاء الله»(٢) .

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢١٠.

(٢) وسيلة المال / ١٨٦ من مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم.

٣٣٩

وهذه الرواية شاذّة ؛ إذ لم يذكر فيها مهمّة مسلم في إيفاده إليهم مِنْ أخذ البيعة له وغير ذلك ، ممّا هو مِنْ صميم الموضوع في إرسال مسلم.

الثالثة : رواها الطبري ، وقد جاء فيها بعد البسملة : «مِن الحُسين بن علي إلى الملأ مِن المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد ، فإنّ هانئاً وسعيداً(١) قدما عليّ بكتبكم ، وكانا آخر مَنْ قدم عليّ مِنْ رسلكم ، وقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم ، ومقالة جلّكم : أنّه ليس علينا إمام فأقبل ؛ لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحقّ.

وقد بعثت لكم أخي وابن عمّي وثقتي مِنْ أهل بيتي ، وأمرته أنْ يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم ؛ فإنْ كتب أنّه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجا مِنكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم ، أقدم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله. فلعمري ، ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب ، والآخذ بالقسط ، والدائن بالحقّ ، والحابس نفسه على ذات الله. والسّلام»(٢) .

وحفلت هذه الرسالة حسب نص الطبري بالاُمور التالية :

١ ـ توثيق مسلم والتدليل على سموّ مكانته ، فهو ثقة الحُسين.

٢ ـ تحديد صلاحية مسلم باستكشاف الأوضاع الراهنة ، ومعرفة التيارات السياسية ومدى صدق القوم في دعواهم. ومِن الطبيعي أنّه لا تُناط معرفة هذه الأمور الحساسة إلاّ بمَنْ كانت له المعرفة التامّة بشؤون المجتمع وأحوال الناس.

٣ ـ إنّه أوقف قدومه عليهم بتعريف مسلم له بإجماع الجماهير ورجال الفكر على بيعته ، فلا يقدم عليهم حتّى يعرّفه سفيره بذلك.

__________________

(١) هما : هانئ بن هانئ السّبيعي ، وسعيد بن عبد الله الحنفي.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٧.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470