حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307200 / تحميل: 6763
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وإن أراد البيع ولا حاكم هناك ، استقلّ به ، فإن كان فوجهان لهم ، أحدهما : جواز الاستقلال ؛ لأنّه نائب عن المالك في الحفظ ، فكذا في البيع(١) .

مسألة ٣٩٤ : لو وجد بعيراً في أيّام منى في الصحراء مقلَّداً كما يُقلَّد الهدي ، لم يجز أخذه ؛ لأنّه لا يجوز مع عدم التقليد فمعه أولى.

وقال الشافعي : يأخذه ويُعرّفه أيّام منى ، فإن خاف أن يفوته وقت النحر نحره ، والأولى عنده أن يرفع إلى الحاكم حتى يأمره بنحره(٢) .

ونقل بعضهم قولاً آخَر : إنّه لا يجوز أخذه(٣) ، كما ذهبنا إليه.

ثمّ بنوا القولين على القولين فيما إذا وجد بدنة منحورة غمس ما قُلّدت به في دمها وضرب صفحة سنامها ، هل يجوز الأكل منها؟ فإن منعنا الأكل ، منعنا الأخذ هنا ، وإن جوّزنا الأكل اعتماداً على العلامة ، فكذا التقليد علامة كون البعير هدياً ، والظاهر أنّ تخلّفه كان لضعفه عن المسير ، والأُضحية المعيّنة إذا ذُبحت في وقت النحر وقع في موقعه وإن لم يأذن صاحبها(٤) .

قال الجويني : لكن ذبح الضحيّة وإن وقع في موقعه لا يجوز الإقدام عليه من غير إذنٍ(٥) .

وجوّز بعض الشافعيّة الأخذ والنحر(٦) .

ولهذا الإشكال ذهب القفّال تفريعاً على هذا القول أنّه يجب رفع

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٦.

(٢) البيان ٧ : ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦.

٣٠١

الأمر إلى الحاكم لينحره(١) .

وهذا ليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّ الأخذ الممنوع منه إنّما هو الأخذ للتملّك ، ولا شكّ أنّ هذا البعير لا يؤخذ للتملّك.

المطلب الثاني : في الملتقط.

مسألة ٣٩٥ : يصحّ أخذ الضالّة في موضع الجواز لكلّ بالغٍ عاقلٍ.

ولو أخذه في موضع المنع ، لم يجز ، وضمنه ، إماماً كان أو غيره ؛ لأنّه أخذ ملك غيره بغير إذنه ، ولا أذن الشارع له ، فهو كالغاصب.

وهذا الفرض في الإمام عندنا باطل ؛ لأنّه معصوم.

أمّا عند العامّة الذين لم يوجبوا عصمة إمامهم فإنّه قد يُفرض.

وكذا يُفرض عندنا في نائب الإمام.

وكذا يجوز للصبي والمجنون أخذ الضوالّ ؛ لأنّه اكتساب ، وينتزع الوليّ ذلك من يدهما ، ويتولّى التعريف عنهما سنةً ، فإن لم يأت له مالك تملّكاه وضمناه بتمليك الوليّ لهما وتضمينهما إيّاه إن رأى الغبطة في ذلك ، وإن لم يكن في تمليكهما غبطة ، أبقاها أمانةً.

مسألة ٣٩٦ : الأقرب : عدم اشتراط الحُرّيّة ، فيجوز للعبد القِنّ والمدبَّر والمكاتَب وأُمّ الولد والمعتق بعضه التقاطُ الضوالّ في موضع الجواز ؛ لأنّه اكتساب وهؤلاء من أهله وهُمْ أهلٌ للحفظ.

والأقرب : إنّه لا يشترط الإسلام ولا العدالة ، فيجوز للكافر أخذ الضالّة ، وكذا للفاسق ؛ لأنّه اكتساب وهُما من أهله.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

٣٠٢

وقال الشافعي : لا يجوز لغير الإمام وغير نائبه أخذ الضوالّ للحفظ لصاحبها ، فإن أخذها غير الامام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لزمه الضمان ؛ لأنّه لا ولاية له على صاحبها(١) .

ولأصحابه وجهٌ آخَر : إنّه يجوز أخذها لحفظها قياساً على الإمام(٢) .

واحتجّ بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنَع من أخذها من غير أن يفرّق بين قاصد الحفظ وقاصد الالتقاط ، والقياس على الإمام باطل ؛ لأنّ له ولايةً ، وهذا لا ولاية له(٣) .

ونحن نقول بموجبه في موضع المنع من أخذها.

أمّا لو وجدها في موضعٍ يخاف عليها فيه ، مثل أن يجدها في أرض مسبعة يغلب على الظنّ افتراس الأسد لها إن تركها فيه ، أو وجدها قريبةً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها ، أو في موضعٍ يستحلّ أهله أخذ أموال المسلمين ، أو في برّيّة لا ماء بها ولا مرعى ، فالأولى جواز الأخذ للحفظ ، ولا ضمان على آخذها ؛ لما فيه من إنقاذها من الهلاك ، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حرقٍ ، وإذا حصلت في يده سلّمها إلى بيت المال ، وبرئ من ضمانها ، وله التملّك مع الضمان ؛ لأنّ الشارع نبّه على علّة عدم التملّك لها بأنّها محفوظة ، فإذا كانت في المهلكة انتفت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٥ - ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦٠ - ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٣ و ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٢ - ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٣) راجع : المغني ٦ : ٣٩٩ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

٣٠٣

العلّة.

مسألة ٣٩٧ : لو ترك دابّة بمهلكةٍ فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلّصها ، تملّكها - وبه قال الليث والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق(١) - إلّا أن يكون تركها بنيّة العود إليها فأخذها ، أو كانت قد ضلّت منه ؛ لما رواه العامّة عن الشعبي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ وجد دابّةً قد عجز عنها أهلها فسيّبوها فأخذها فأحياها فهي له »(٢) .

وفي لفظٍ آخَر عن الشعبي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « مَنْ ترك دابّةً بمهلكةٍ فأحياها رجل فهي لمَنْ أحياها »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عبد الله بن سنان - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام قال : « مَنْ أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها لـمّا لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقةً حتى أحياها من الكلال ومن الموت فهي له ، ولا سبيل له عليها ، وإنّما هي مثل الشي‌ء المباح »(٤) .

ولأنّ القول بملكها يتضمّن إحياءها وإنقاذها من الهلاك ، وحفظاً للمال عن الضياع ، ومحافظةً على حرمة الحيوان ، وفي القول بعدم الملك‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٠ - ١٦١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٧ / ٣٥٢٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٦٨ / ٢٥٩ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤ - ٣٥٥.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٨ / ٣٥٢٥ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٦ ، الهامش (٤)

٣٠٤

تضييع ذلك كلّه من غير مصلحةٍ تحصل ، ولأنّ مالكه نبذه رغبةً عنه وعجزاً عن أخذه ، فمَلَكه آخذه ، كالمتساقط من السنبل وسائر ما ينبذه الناس رغبةً عنه وزهداً فيه.

المطلب الثالث : في الأحكام.

مسألة ٣٩٨ : يجوز للإمام ونائبه أخذ الضالّة على وجه الحفظ لصاحبه ، ثمّ يرسله في الحمى الذي حماه الإمام لخيل المجاهدين والضوالّ ؛ لأنّ للإمام نظراً في حفظ مال الغائب ، وفي أخذ هذه حفظ لها عن الهلاك ، ثمّ يُعرّفها حولاً ، فإن جاء صاحبها ، وإلّا بقيت في الحمى.

وقال أحمد : لا يلزمه تعريفها ؛ لأنّ عمر لم يكن يُعرّف الضوالّ(١) .

وفعل عمر ليس حجّةً.

وإذا عرف إنسان دابّته ، أقام البيّنة عليها وأخذها ، ولا يكفي وصفها ؛ لأنّها ظاهرة بين الناس يعرف صفاتها غير أهلها ، فلا تكون الصفة(٢) لها دليلاً على ملكه لها ، ولأنّ الضالّة قد كانت ظاهرةً للناس حين كانت في يد مالكها ، فلا يختصّ هو بمعرفة صفاتها دون غيره ، ويمكنه إقامة البيّنة عليها ؛ لظهورها للناس ومعرفة خلطائه وجيرانه بملكه إيّاها.

مسألة ٣٩٩ : الأقرب عندي : إنّه يجوز لكلّ أحدٍ أخذ الضالّة ، صغيرةً كانت أو كبيرةً ، ممتنعةً عن السباع أو غير ممتنعةٍ ، بقصد الحفظ لمالكها ، والأحاديث(٣) الواردة في النهي عن ذلك محمولة على ما إذا نوى بالالتقاط‌

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٩٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) في « ث ، خ ، ر » : « الصفات ».

(٣) منها : ما تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ١٦٦.

٣٠٥

التملّك إمّا قبل التعريف أو بعده ، أمّا مع نيّة الاحتفاظ فالأولى الجواز ، كما أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه أخذ ما لا يجوز أخذه على وجه التملّك.

مسألة ٤٠٠ : ما يحصل عند الإمام من الضوالّ فإنّه يُشهد عليها ويَسِمها بوَسْم أنّها ضالّة.

ثمّ إن كان له حمى ، تركها فيه إن رأى المصلحة في ذلك ، وإن رأى المصلحة في بيعها أو لم يكن له حمى ، باعها بعد أن يصفها ويحفظ صفاتها ، ويحفظ ثمنها لصاحبها ، فإنّ ذلك أحفظ لها ؛ لأنّ في تركها ضرراً على مالكها ؛ لإفضائه إلى أن تأكل جميع ثمنها.

وأمّا غير الإمام ونائبه إذا التقط الضالّة ولم يجد سلطاناً يُنفق عليها ، أنفق من نفسه ، ويرجع مع نيّة الرجوع.

وقيل : لا يرجع ؛ لأنّ عليه الحفظَ ، ولا يتمّ إلّا بالإنفاق(١) .

والأوّل أقرب ؛ دفعاً لتوجّه الضرر بالالتقاط.

ولا يبعد من الصواب التفصيلُ ، فإن كان قد نوى التملّك قبل التعريف أو بعده ، أنفق من ماله ، ولا رجوع ؛ لأنّه فَعَل ذلك لنفعه ، وإن نوى الحفظ دائماً ، رجع مع الإشهاد إن تمكّن ، وإلّا فمع نيّته.

ولو كان للّقطة نفعٌ كالظهر للركوب ، أو الحمل أو اللبن أو الخدمة ، قال الشيخرحمه‌الله : يكون ذلك بإزاء ما أنفق(٢) .

والأقرب : أن ينظر في قدر النفقة وقيمة المنفعة ، ويتقاصّان.

مسألة ٤٠١ : لا يضمن الضالّة بعد الحول إلّا مع قصد التملّك.

ولو قصد حفظها دائماً ، لم يضمن ، كما في لقطة الأموال ، إلّا مع‌

____________________

(١) كما في شرائع الإسلام ٣ : ٢٩٠.

(٢) النهاية : ٣٢٤.

٣٠٦

التفريط أو التعدّي.

ولو قصد التملّك ، ضمن ، فإن نوى الحفظ بعد ذلك ، لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّه قد تعلّق الضمان بذمّته ، كما لو تعدّى في الوديعة ثمّ نوى الحفظ.

ولو قصد الحفظ ثمّ نوى التملّك ، لزمه الضمان من حين نيّة التملّك.

مسألة ٤٠٢ : لو وجد مملوكاً بالغاً أو مراهقاً ، لم يجز له أخذه ؛ لأنّه كالضالّة الممتنعة يتمكّن من دفع المؤذيات عنه.

ولو كان صغيراً ، كان له أخذه ؛ لأنّه في معرض التلف ، والمال إذا كان بهذه الحال جاز أخذه ، وهو نوع منه.

وإذا أخذ عبداً صغيراً للحفظ ، لم يدفع إلى مدّعيه إلّا بالبيّنة ، ولا تكفي الشهادة على شهود الأصل بالوصف ؛ لاحتمال الشركة في الأوصاف ، بل يجب إحضار شهود الأصل ليشهدوا بالعين ، فإن تعذّر إحضارهم لم يجب نقل العبد إلى بلدهم ولا بيعه على مَنْ يحمله ، ولو رأى الحاكم ذلك صلاحاً جاز ، ولو تلف قبل الوصول أو بعده ولم يثبت دعواه ، ضمن المدّعي قيمة العبد وأجره.

مسألة ٤٠٣ : لو ترك متاعاً في مهلكةٍ فخلّصه إنسان ، لم يملكه ؛ لأنّه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى عليه التلف كالخشية على الحيوان ، فإنّ الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع ، والمتاع يبقى إلى أن يعود مالكه إليه.

ولو كان المتروك عبداً ، لم يملكه آخذه ؛ لأنّ العبد في العادة يمكنه التخلّص إلى الأماكن التي يعيش فيها ، بخلاف البهيمة.

وله أخذ العبد والمتاع ليخلّصه لصاحبه.

وهل يستحقّ الأُجرة عن تخليص العبد أو المتاع؟ الوجه : إنّه لا يستحقّ إلّا مع الجُعْل ؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير جُعْلٍ ، فلم يستحق شيئاً ، كالملتقط.

٣٠٧

وقال أحمد : يستحقّ الجُعْل(١) . وليس بجيّدٍ.

مسألة ٤٠٤ : ما يلقيه رُكْبان البحر فيه من السفينة خوفاً من الغرق إذا أخرجه غير مالكه ، فالأقرب : إنّه للمُخرج ، وبه قال الليث بن سعد والحسن البصري [ قال : ](٢) وما نضب عنه الماء فهو لأهله(٣) .

وقال ابن المنذر : يردّه على أربابه ، ولا جُعْل له(٤) ، وهو مقتضى قول الشافعي(٥) .

ويتخرّج على قول أحمد : إنّ لمن أنقذه أُجرة مثله(٦) .

والأقرب : ما قدّمناه ؛ لأنّه مال ألقاه أربابه فيما يتلف بتركه فيه اختياراً منهم ، فمَلَكه مَنْ أخرجه ، كالمنبوذ بنيّة الإعراض عن تملّكه.

ولو انكسرت السفينة في البحر فأُخرج بعض المتاع الذي فيها بالغوص وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، روى الشعيري فيه أنّ الصادقعليه‌السلام سئل عن ذلك ، فقال : « أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم وهُمْ أحقّ به »(٧) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني والشرح الكبير ، وهو مقتضى ما في الإشراف على مذاهب أهل العلم.

(٣ و ٤) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦١ ، المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٥) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٦) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٢٧٧ ، الهامش (٣)

٣٠٨

وقال الشافعي وابن المنذر : إذا انكسرت السفينة فأخرجه قوم ، يأخذ أصحاب المتاع متاعهم ، ولا شي‌ء للّذين أصابوه(١) .

وعلى قياس قول أحمد يكون لمستخرجه أُجرة المثل ؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى تحصيله(٢) وحفظه لصاحبه وصيانته عن الغرق ، فإنّ الغوّاص إذا علم أنّه يُدفع إليه الأجر بادر إلى التخليص ، وإن علم أنّه يؤخذ منه بغير شي‌ءٍ لم يخاطر بنفسه في استخراجه(٣) .

مسألة ٤٠٥ : قد بيّنّا أنّه يجوز للإنسان أن يلتقط العبد الصغير وكذا الجارية الصغيرة ، ويُملك كلٌّ منهما بعد التعريف.

وقياس مذهب أحمد : إنّه لا يُملكان بالتعريف(٤) .

وقال الشافعي : يملك العبد دون الجارية ؛ لأنّ التملّك بالتعريف - عنده - كالقرض ، والجارية - عنده - لا تُملك بالقرض(٥) .

واستشكل بعض العامّة ذلك ؛ فإنّ الملقوط محكوم بحُرّيّته ، وإن كان ممّن يعبّر عن نفسه فأقرّ بأنّه مملوك لم يُقبل إقراره ؛ لأنّ الطفل لا قول له ، ولو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريف سيّده(٦) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦ - ٣٥٧.

(٢) الظاهر : « تخليصه ».

(٣) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٤) كما في المغني ٦ : ٤٠٢ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٩ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، البيان ٧ : ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٧ ، المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٦) المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

٣٠٩

الفصل الثالث : في اللقيط‌

وفيه مطالب :

الأوّل : الأركان.

اللقيط كلّ صبي ضائع لا كافل له ، ويُسمّى منبوذاً باعتبار أنّه يُنبذ ، أي يرمى ، ويُسمّى لقيطاً ، أي ملقوطاً ، واللقيط فعيل بمعنى مفعول ، كما يقال : دهين وخضيب وجريح وطريح ، وإنّما هو مدهون ومخضوب ومجروح ومطروح ، ويُسمّى ملقوطاً باعتبار أنّه يُلقط.

إذا عرفت هذا ، فالأركان ثلاثة :

الأوّل : الالتقاط.

وهو واجب على الكفاية ؛ لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك ، وفي تركه إتلاف النفس المحترمة ، وقد قال الله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١) .

ولأنّ فيه إحياء النفس فكان واجباً ، كإطعام المضطرّ وإنجائه من الغرق ، وقد قال الله تعالى :( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (٢) وقال تعالى :( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (٣) .

ووجد سُنَين أبو جميلة منبوذاً فجاء به إلى عمر بن الخطّاب ، فقال :

____________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة المائدة : ٣٢.

(٣) سورة الحجّ : ٧٧.

٣١٠

ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال : وجدتُها ضائعةً فأخذتُها ، فقال عريفه : إنّه رجل صالح ، فقال : كذلك؟ قال : نعم ، قال : اذهب فهو حُرٌّ ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته(١) .

وهذا الخبر عندنا لا يُعوّل عليه ، والولاء عندنا لمن يتولّاه الملتقط ، فإن لم يتوال أحداً ، كان ميراثه للإمام.

وليس أخذ اللقيط واجباً على الأعيان بالإجماع وأصالة البراءة ، ولئلّا تتضادّ الأحكام ، ولأنّ الغرض الحفظ والتربية ، وذلك يحصل بأيّ واحدٍ اتّفق ، بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولو تركه الجماعة بأسرهم أثموا بأجمعهم إذا علموا به وتركوه مع إمكان أخذه.

مسألة ٤٠٦ : ويستحبّ الإشهاد على أخذه ؛ لأنّه أصون وأحفظ ، لأنّه يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ، ولا تعريف في اللقيط.

وللشافعيّة طريقان ، أحدهما : إنّه على وجهين أو قولين كما قدّمنا في اللّقطة ، والأصح : القطع بالوجوب ، بخلاف اللّقطة ، فإنّ الأصحّ فيها الاستحباب ؛ لأنّ اللقيط يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، فجاز أن يجب الإشهاد عليه كما في النكاح(٢) .

والأصل عندنا ممنوع.

وحكى الجويني وجهاً ثالثاً هو : الفرق ، فإن كان الملتقط على ظاهر العدالة لم يكلّف الإشهاد ، وإن كان مستور العدالة كُلّف ليصير الإشهاد قرينةً‌

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧٣٨ / ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٧.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، البيان ٨ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

٣١١

تغلب على الظنّ الثقة(١) .

وإذا أوجبنا الإشهاد فلو تركه لم تسقط ولاية الحضانة.

وقال الشافعي : تسقط ولاية الحضانة ، ويجوز الانتزاع(٢) .

وإذا أشهد فليشهد على الملتقط وما معه من ثيابٍ وغيرها إن كان معه شي‌ء.

الركن الثاني : اللقيط.

وقد ذكرنا أنّه كلّ صبي ضائع لا كافل له ، والتقاطه من فروض الكفايات ، فيخرج بقيد الصبي البالغ ، فإنّه مستغنٍ عن الحضانة والتعهّد ، فلا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وقع في معرض هلاكٍ ، أُعين ليتخلّص.

أمّا الصبي الذي بلغ سنّ التمييز فالأقرب : جواز التقاطه ؛ لحاجته إلى التعهّد والتربية ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّه لا يلتقط ؛ لأنّه مستقلٌّ ممتنع ، كضالّة الإبل ، فلا يتولّى أمره إلّا الحاكم(٣) .

وقولنا : « ضائع » نريد به المنبوذ ؛ لأنّ غير المنبوذ يحفظه أبوه أو جدّه لأبيه أو الوصي لأحدهما ، فإن لم يكن أحد هؤلاء ، نصب القاضي له مَنْ يراعيه ويحفظه ويتسلّمه ؛ لأنّه كان له كافل معلوم ، وهو أبوه أو جدّه أو وصيّهما ، فإذا فقد قام القاضي مقامه ، كما أنّه يقوم لحفظ مال الغائبين والمفقودين ، أمّا المنبوذ فإنّه يشبه اللّقطة ولهذا يُسمّى لقيطاً فلم يختصّ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩.

(٢) الوسيط ٤ : ٣٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٤.

٣١٢

حفظه بالقاضي.

وقولنا : « لا كافل له » نريد به مَنْ لا أب له ولا جدّ للأب ومَنْ يقوم مقامهما ، والملتَقَط ممّن هو في حضانة أحد هؤلاء لا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وُجد في مضيعةٍ أُخذ ليُردّ إلى حاضنه.

الركن الثالث : الملتقِط.

مسألة ٤٠٧ : يعتبر في الملتقِط التكليف والحُرّيّة والإسلام والعدالة ، فلا يصحّ التقاط الصبي ولا المجنون.

ولو كان الجنون يعتوره أدواراً ، أخذه الحاكم من عنده ، كما يأخذه لو التقطه المجنون المطبق أو الصبي.

وأمّا العبد فليس له الالتقاط ؛ لأنّ منافعه ملك سيّده ، فليس له صَرفها إلى غيره إلّا بإذنه ، ولأنّ الالتقاط تبرّعٌ والعبد ليس من أهله ؛ إذ أوقاته مشغولة بخدمة مولاه.

ولو أذن له السيّد أو علم به فأقرّه في يده ، جاز ، وكان السيّد في الحقيقة هو الملتقِط ، والعبد نائبه قد استعان به عليه في الأخذ والتربية والحضانة ، فصار كما لو التقطه سيّده وسلّمه إليه.

وإذا أذن له السيّد ، لم يكن له الرجوع في ذلك.

أمّا لو كان الطفل في موضعٍ لا ملتِقط له سوى العبد ، فإنّه يجوز له التقاطه ؛ لأنّه تخليصٌ له من الهلاك ، فجاز ، كما لو أراد التخليص من الغرق.

ولو التقط العبد مع وجود ملتقطٍ غيره ، لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّه المنصوب للمصالح ، إلّا أن يرضى مولاه ويأذن بتقريره في‌

٣١٣

يده ، فيقدَّم على الحاكم.

ولا فرق بين القِنّ والمدبَّر وأُمّ الولد والمكاتَب والمحرَّر بعضه في ذلك كلّه ؛ لأنّه ليس لأحد هؤلاء التبرّعُ بماله ولا بمنافعه إلّا بإذن السيّد.

وقال الشافعي : المكاتَب إذا التقط بغير إذن السيّد انتُزع من يده ، كالقِنّ ، وإن التقط بإذن السيّد جاء فيه الخلاف في تبرّعاته بالإذن ، لكنّ الظاهر عندهم المنع ؛ لأنّ حقّ الحضانة ولاية ، وليس المكاتَب أهلاً لها(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما.

وللشافعيّة وجهان في الـمُعتَق نصفه إذا التقط في يوم نفسه هل يستحقّ الكفالة؟(٢) .

مسألة ٤٠٨ : لا يجوز للكافر أن يلتقط الصبي المسلم ، سواء كان الكافر ذمّيّاً أو معاهداً أو حربيّاً ؛ لأنّه لا ولاية للكافر على المسلم ، قال الله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه ويُعلّمه الكفر ، بل الظاهر أنّه يُربّيه على دينه وينشأ على ذلك كولده ، فإن التقطه لم يُقرّ في يده.

أمّا لو كان الطفل محكوماً بكفره ، فإنّه يجوز للكافر التقاطه ؛ لقوله تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٤) .

وللمسلم التقاط الطفل الكافر.

مسألة ٤٠٩ : الأقرب : اعتبار العدالة في الملتقِط ، فلو التقطه الفاسق‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٣) سورة النساء : ١٤١.

(٤) سورة الأنفال : ٧٣.

٣١٤

لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّ الفاسق غير مؤتمنٍ شرعاً ، وهو ظالم ، فلا يجوز الركون إليه ؛ لقوله تعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ) (١) ولا يؤمن أن يبيع الطفل أو يسترقّه ويدّعيه مملوكاً له بعد مدّةٍ ، ولا يؤمن سوء تربيته له ولا يوثق عليه ويخشى الفساد به ، وهو قول الشافعي(٢) أيضاً.

ويفارق اللّقطة - حيث أُقرّت في يد الفاسق عندنا وفي أحد قولَي الشافعي(٣) - من ثلاثة أوجُه :

الأوّل : إنّ في اللّقطة معنى التكسّب ، والفاسق من أهل التكسّب ، وهاهنا لا كسب ، بل هو مجرّد الولاية.

الثاني : إنّ في اللّقطة وجوب ردّها إليه لو انتزعناها منه بعد التعريف حولاً ونيّة التملّك ليتملّكها ، فلم ننتزعها منه واستظهرنا عليه في حفظها وإن كان الانتزاع أحوط ، وهنا لا يردّ اللقيط إليه ، فكان الانتزاع أحوط وأسهل.

الثالث : المقصود في اللّقطة حفظ المال ، ويمكن الاحتياط عليه بالاستظهار في التعريف ، أو بنصب الحاكم مَنْ يُعرّفها ، فيزول خوف الخيانة ، ولا يحتاج إلى أن ينتزعها الحاكم ، وهنا المقصود حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولا سبيل إلى الاستظهار عليه ؛ لأنّه قد يدّعي رقّه في بعض البلدان وبعض الأحوال.

____________________

(١) سورة هود : ١١٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٢ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥ ، المغني ٦ : ٤١٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٣ ، البيان ٧ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٢ و ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

٣١٥

وقيل : لا يشترط العدالة ، ولا ينتزع اللقيط من يد الفاسق ؛ لإمكان حفظه في يده بالإشهاد عليه ، ويأمر الحاكم أميناً يشارفه عليه كلّ وقتٍ ويتعهّده في كلّ زمانٍ ، ويشيع أمره فيعرف أنّه [ لقيط ](١) فينحفظ بذلك من غير زوال ولايته ؛ جمعاً بين الحقّين ، كما في اللّقطة(٢) .

مسألة ٤١٠ : مَنْ ظاهر حاله الأمانة إلّا أنّه لم يختبر حاله ، لا ينتزع من يده ؛ لأنّ ظاهر المسلم العدالة ، ولم يوجد ما يعارض هذا الظاهر ، ولأنّ حكمه حكم العَدْل في لقطة المال والولاية في النكاح وأكثر الأحكام ، لكن يوكل الإمام مَنْ يراقبه من حيث لا يدري لئلّا يتأذّى ، فإذا حصلت للحاكم الثقة به صار كمعلوم العدالة.

وقبل ذلك لو أراد السفر به ، مُنع وانتُزع منه ؛ لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه وأن يكون إظهاره العدالة لمثل هذا الغرض الفاسد ، وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني له : إنّه يُقرّ في يده ويسافر به ؛ لأنّه يُقرّ في يده في الحضر من غير مشرفٍ يُضمّ إليه ، فكذا في السفر ، كالعَدْل ، ولأنّ الظاهر الستر والصيانة(٣) .

فأمّا مَنْ عُرفت عدالته وظهرت أمانته فيُقرّ اللقيط في يده في سفرٍ وحضرٍ ؛ لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة ، ولها وجهان.

مسألة ٤١١ : يعتبر في الملتقِط الرشد ، فلا يصحّ التقاط المبذِّر‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « لقطة ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) المغني ٦ : ٤١٣ - ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠.

(٣) الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦ ، المغني ٦ : ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١١ ، وفيها القول الأوّل فقط.

٣١٦

المحجور عليه ، فلو التقط لم يُقر في يده وانتُزع منه ؛ لأنّه ليس مؤتمناً عليه شرعاً وإن كان عَدْلاً.

ولا يشترط في الملتقِط الذكورة ، فإنّ الحضانة أليق بالإناث.

ولا يشترط كونه غنيّاً ؛ إذ ليست النفقة على الملتقط.

والفقير يساوي الغني في الحضانة.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر ، وهو : إنّه لا يُقرّ في يد الفقير ؛ لأنّه لا يتفرّغ للحضانة ؛ لاشتغاله بطلب القوت(١) .

مسألة ٤١٢ : لو ازدحم على لقيطٍ اثنان ، فإن كان ازدحامهما عليه قبل أخذه وقال كلّ واحدٍ منهما : أنا آخذه وأحضنه ، جعله الحاكم في يد مَنْ رآه منهما أو من غيرهما ؛ لأنّه لا حقّ لهما قبل الأخذ.

وإن ازدحما بعد الأخذ بأن تناولاه تناولاً واحداً دفعةً واحدة ، فإن لم يكن أحدهما أهلاً للالتقاط مُنع منه ، وسلّم اللقيط إلى الآخَر ، كما لو كان أحدهما مسلماً حُرّاً عَدْلاً والآخَر يكون كافراً أو فاسقاً أو عبداً لم يأذن له مولاه ، أو مكاتَباً كذلك ، فإنّ المسلم العَدْل الحُرّ يُقرّ في يده ، ولا يشاركه الآخَر ، ولا اعتبار بمشاركته إيّاه في الالتقاط ؛ لأنّه لو التقطه وحده لم يُقرّ في يده ، فإذا شاركه مَنْ هو من أهل الالتقاط كان أولى.

وأمّا إن كان كلّ واحدٍ منهما أهلاً للالتقاط ، فإن سبق أحدهما إلى الالتقاط ، مُنع الآخَر من مزاحمته.

ولا يثبت السبق بالوقوف على رأسه من غير أخذٍ ، وهو أظهر وجهي‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣١٧

الشافعيّة ، والثاني : إنّه يثبت(١) .

وإن لم يسبق أحدهما ، فإن اختصّ أحدهما بوصفٍ يوجب تقدّمه قُدّم ، وكان أولى من الآخَر.

وإن تساويا من كلّ وجهٍ ، فإن سلّم أحدهما لصاحبه ورضي بإسقاط حقّه جاز ؛ لأنّ الحقّ له ، فلا يُمنع من الإيثار به ، وإن تشاحّا أُقرع بينهما - وبه قال الشافعي(٢) - لقوله تعالى :( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (٣) .

ولأنّه أمر مشكل ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما ، وعدم أولويّة أحدهما ، وكلّ مشكلٍ ففيه القرعة بالنصّ عن أهل البيتعليهم‌السلام (٤) .

ولأنّه لا يمكن أن يُخرج عن أيديهما ؛ لاشتماله على إبطال حقّهما الثابت لهما بالالتقاط ، أو يُترك في أيديهما إمّا جمعاً ، والاجتماع على الحضانة مشقٌّ أو متعذّر ، ولا يمكن أن يكون عندهما في حالةٍ واحدة ، وإمّا بالمهايأة ، وهو يشتمل على الإضرار باللقيط ؛ لما في تبدّل الأيدي من قطع الأُلفة واختلاف الأغذية والأخلاق ، أو يختصّ به أحدهما لا بالقرعة ، ولا سبيل إليه ؛ لتساويهما ، فلم يبق مخلص إلّا القرعة ، كالزوج يسافر بإحدى زوجاته بالقرعة.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ - ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) سورة آل عمران : ٤٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣.

٣١٨

وقال بعض الشافعيّة : يرجّح أحدهما باجتهاد القاضي ، فمَن رآه خيراً للّقيط أقرّه في يده(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يستوي الشخصان في اجتهاد القاضي ولا سبيل إلى التوقّف ، فلا بدّ من مرجوعٍ إليه ، وليس سوى القرعة.

وقال بعض الشافعيّة : يخيّر الصبي في الانضمام إلى مَنْ شاء منهما(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد لا يكون مميّزاً بحيث يفوّض إليه التخيير ، ولو كان مميّزاً فإنّه لا يخيّر ، كما يخيّر الصبي بين الأبوين عند بلوغه سنّ التمييز - عندهم(٣) - لأنّه هناك يعوّل على الميل الناشئ من الولادة ، وهذا المعنى معدوم في اللقيط.

مسألة ٤١٣ : هذا إذا تساويا في الصفات ، فإن ترجّح أحد الملتقطين بوصفٍ يوجب تخصيصه به دون الآخَر وكانا معاً ممّن يثبت لهما جواز الالتقاط ، أُقرّ في يده ، وانتُزع من يد الآخَر.

والصفات المرجّحة أربعة :

أ : الغنى ، فلو كان أحدهما غنيّاً والآخَر فقيراً ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّهما يتساويان - وهو قول بعض علمائنا(٤) - لأنّ الفقير أهل للالتقاط ، كالغني.

وأظهرهما عند الشافعيّة : أولويّة الغني ؛ لأنّه ربما يواسيه بمالٍ وينفعه في كثيرٍ من الأوقات ويؤاكله أحياناً ، ولأنّ الفقير قد يشتغل بطلب القوت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٤٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٦ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤.

(٤) لم نتحقّقه.

٣١٩

عن الحضانة(١) .

فإن رجّحنا الغني على الفقير وكانا معاً غنيّين إلّا أنّ أحدهما أكثر غنىً من الآخَر ، فللشافعيّة وجهان في تقديم أكثرهما مالاً(٢) .

ب : أن يكون أحدهما بلديّاً والآخَر قرويّاً ، أو كان أحدهما بلديّاً أو قرويّاً والآخَر بدويّاً ، تساويا عند بعض علمائنا(٣) ، ورجّح البلديّ على القرويّ ، والقرويّ على البدويّ ؛ لما فيه من حفظ نسبه وإمكان وصول قريبه إليه.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

ج : مَنْ ظهرت عدالته بالاختبار يُقدّم على المستور على خلافٍ بين علمائنا.

وللشافعيّة وجهان :

أحسنهما : إنّه يقدّم احتياطاً للصبي.

والثاني : يستويان ؛ لأنّ المستور لا يسلّم ثبوت المزيّة للآخَر ويقول : لا أترك حقّي بجهلكم بحالي(٥) .

د : الحُرّ أولى من العبد والمكاتَب وإن كان التقاطه بإذن السيّد ؛ لأنّه في نفسه ناقص ، وليست يدُ المكاتَب يدَ السيّد.

مسألة ٤١٤ : لا تُقدّم المرأة على الرجل ؛ لأنّ المرأة وإن كانت

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٣) لم نتحقّقه.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧ - ٤٨٨.

(٥) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

٤ ـ إنّه تحدّث عمّا يجب أنْ يتّصفَ به الإمام والقائد لمسيرة الاُمّة مِنْ الصفات ، وهي :

أ ـ العمل بكتاب الله.

ب ـ الأخذ بالقسط.

ج ـ الإداناة بالحقّ.

د ـ حبس النفس على ذات الله.

ولم تتوفّر هذه الصفات الرفيعة إلاّ في شخصيته الكريمة التي تحكي اتّجاهات الرسول (صلّى الله عليه وآله) ونزعاته.

وتسلّم مسلم هذه الرسالة ، وقد أوصاه الإمام بتقوى الله وكتمان أمره(١) ، وغادر مسلم مكّة ليلة النصف مِنْ رمضان(٢) ، وعرج في طريقه على يثرب فصلّى في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وطاف بضريحه ، وودّع أهله وأصحابه(٣) ، وكان ذلك هو الوداع الأخير لهم ، واتّجه صوب العراق وكان معه قيس بن مسهر الصيداوي ، وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي ، واستأجر مِنْ يثرب دليلين مِنْ قيس يدلاّنه على الطريق(٤) .

وسارت قافلة مسلم تجذّ في السير لا تلوي على شيء ، يتقدّمها الدليلان وهما يتنكبان الطريق ؛ خوفاً مِن الطلب فضلاً عن الطريق ، ولم يهتديا له وقد أعياهما السير واشتدّ بهما العطش ، فأشارا إلى مسلم بسنن الطريق بعد

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٧.

(٢) مروج الذهب ٢ / ٨٦.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٨.

(٤) الأخبار الطوال / ٢٣١ ، تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٧.

٣٤١

أنْ بان لهما وتوفيا في ذلك المكان حسبما يقوله المؤرّخون(١) ، وسار مسلم مع رفقائه حتّى أفضوا إلى الطريق ووجدوا ماءً فأقاموا فيه ؛ ليستريحوا ممّا ألمَّ بهمْ مِنْ عظيم الجهد والعناء.

رسالة مسلم للحُسين (عليهما السّلام) :

ويقول المؤرّخون : إنّ مسلم تخوّف مِنْ سفره وتطيّر بعد أنْ أصابه مِن الجهد وموت الدليلين ، فرفع للإمام رسالة يرجو فيها الاستقالة مِنْ سفارته ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّي أقبلت مِن المدينة مع دليلين ، فجازا(٢) عن الطريق فضلاّ ، واشتدّ عليهما العطش فلمْ يلبثا أنْ ماتا ، وأقبلنا حتّى انتهينا إلى الماء فلمْ ننجُ إلاّ بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى (المضيق) مِنْ بطن الخبث ، وقد تطيّرت مِنْ توجّهي هذا ، فإنْ رأيت أعفيتني مِنه وبعثت غيري ، والسّلام.

جواب الحُسين (عليه السّلام) :

وكتب الإمام الحُسين جواباً لرسالة مسلم ندد فيه بموقفه واتّهمه بالجبن ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد خشيت أنْ لا يكون حمَلَك على الكتاب إليّ في الاستعفاء مِن الوجه الذي وجّهتك له إلاّ الجبن ، فامضِ لوجهك الذي

__________________

(١) الإرشاد / ٢٢٧.

(٢) جازا عن الطريق : أي تركاه خلفهما.

٣٤٢

وجّهتك فيه ، والسّلام(١) .

أضواء على الموضوع :

وأكبر الظنّ أنّ رسالة مسلم مع جواب الإمام مِن الموضوعات ، ولا نصيب لها مِن الصحة ؛ وذلك لما يلي :

١ ـ إنّ مضيق الخبث الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع ما بين مكّة والمدينة حسب ما نصّ عليه الحموي(٢) ، في حين أنّ الرواية تنصّ على أنّه استأجر الدليلين مِنْ يثرب ، وخرجوا إلى العراق فضلّوا عن الطريق وماتا الدليلان. ومِن الطبيعي أنّ هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق ولمْ تقع ما بين مكّة والمدينة.

٢ ـ إنّه لو كان هناك مكان يُدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب والعراق لمْ يذكره الحموي ، فإنّ السفر منه إلى مكّة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيّام ، في حين أنّ سفر مسلم مِنْ مكّة إلى العراق قد حدّده المؤرّخون فقالوا : إنّه سافر مِنْ مكّة في اليوم الخامس عشر مِنْ رمضان وقدم إلى الكوفة في اليوم الخامس مِنْ شوال ، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً ، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر مِنْ مكّة إلى المدينة ؛ فإنّ المسافة بينهما تزيد على ألف وستمئة كيلو متر.

وإذا استثنينا مِنْ هذه المدّة سفر رسول مسلم مِنْ ذلك المكان ورجوعه إليه فإنّ مدّة سفره مِنْ مكّة إلى الكوفة تكون أقلّ مِنْ عشرة أيّام ، ويستحيل عادة قطع تلك

__________________

(١) الإرشاد / ٢٢٦ ، وفي الحدائق الوردية ١ / ١١٧ خرج مسلم مِنْ مكّة حتّى أتى المدينة ، وأخذ منها دليلين ، فمرّا به في البريّة فأصابهما عطش فمات أحد الدليلين ، فكتب مسلم إلى الحُسين يستعفيه ، فكتب إليه الحُسين (عليه السّلام) : «أنْ امضِ إلى الكوفة».

(٢) معجم البلدان ٢ / ٣٤٣.

٣٤٣

المسافة بهذه الفترة مِن الزمن.

٣ ـ إنّ الإمام اتّهم مسلماً في رسالته بالجبن ، وهو يناقض توثيقه له مِنْ أنّه ثقته وكبير أهل بيته والمبرز بالفضل عليهم ، ومع اتّصافه بهذه الصفات كيف يتّهمه بالجبن؟!

٤ ـ إنّ اتّهام مسلم بالجبن يتناقض مع سيرته ؛ فقد أبدى هذا البطل العظيم مِن البسالة والشجاعة النادرة ما يبهر العقول ، فإنّه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحدّه مِنْ دون أنْ يعينه أو يقف إلى جنبه أيّ أحد ، وقد أشاع في تلك الجيوش المكثّفة القتل ممّا ملأ قلوبهم ذعراً وخوفاً ، ولمّا جيء به أسيراً إلى ابن زياد لمْ يظهر عليه أيّ ذلّ أو انكسار.

ويقول فيه البلاذري : إنّه أشجع بني عقيل وأرجلهم(١) ، بل هو أشجع هاشمي عرفه التاريخ بعد أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام).

إنّ هذا الحديث مِن المفتريات الذي وضِعَ للحطّ مِنْ قيمة هذا القائد العظيم الذي هو مِنْ مفاخر الاُمّة العربية والإسلاميّة.

في بيت المختار :

وسار مسلم يطوي البيداء حتّى دخل الكوفة فاختار النزول في بيت المختار الثقفي(٢) ، وهو مِنْ أشهر أعلام الشيعة وأحد سيوفهم ومِنْ أحبّ الناس وأنصحهم للإمام الحُسين.

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

(٢) الإرشاد / ٢٢٦ ، تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٧ ، وقيل : نزل مسلم في بيت مسلم بن عوسجة ، وقيل : نزل في بيت هانئ بن عروة ، جاء ذلك في كلّ مِن الإصابة ١ / ٣٣٢ ، وتهذيب التهذيب.

٣٤٤

لقد اختار مسلم النزول في بيت المختار دون غيره مِنْ زعماء الشيعة ؛ وذلك لوثوقه بإخلاصه للإمام الحُسين وتفانيه في حبّه ، كما أنّ هناك عاملاً آخر له أهمّيته ، فقد كان المختار زوجاً لعمرة بنت النعمان بن بشير حاكم الكوفة ، ولا شك أنّ يده لنْ تمتد إلى المسلم طالماً كان مقيماً في بيت صهره المختار ، وقد دلّ ذلك على إحاطة مسلم بالشؤون الاجتماعية.

وفتح المختار أبواب داره لمسلم وقابله بمزيد مِن الحفاوة والتكريم ، ودعا الشيعة إلى مقابلته ، فأقبلوا إليه مِنْ كلّ حدب وصوب وهم يظهرون له الولاء والطاعة.

ابتهاج الكوفة :

وعمّت الأفراح بمقدم مسلم جميع الأوساط الشيعية في الكوفة ، وقد وجد منهم مسلم ترحيباً حارّاً وتأييداً شاملاً ، وكان يقرأ عليهم رسالة الحُسين وهم يبكون ويبدون التعطّش لقدومه والتفاني في نصرته ؛ لينقذهم مِنْ جور الاُمويِّين وظلمهم ويعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين ، مؤسس العدالة الكبرى في الأرض ، وكان مسلم يوصيهم بتقوى الله وكتمان أمرهم حتّى يقدم إليهم الإمام الحُسين.

البيعة للحُسين (عليه السّلام) :

وانثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكانت صيغة البيعة الدعوة إلى كتاب الله وسنّة رسوله وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسويّة ، وردّ المظالم إلى

٣٤٥

أهلها ونصرة أهل البيت (عليهم السّلام) ، والمسالمة لمَنْ سالموا والمحاربة لمَنْ حربوا. وقد شبّه السيّد المقرّم هذه البيعة ببيعة الأوس والخزرج للنّبي (صلّى الله عليه وآله)(١) ، وكان حبيب بن مظاهر الأسدي يأخذ البيعة منهم للحُسين(٢) .

كلمة عابس الشاكري :

وانبرى المؤمن الفذ عابس بن شبيب الشاكري فأعرب لمسلم عن ولائه الشخصي واستعداده للموت في سبيل الدعوة ، إلاّ إنّه لمْ يتعهد له بإيّ أحد مِنْ أهل مصره قائلاً : أمّا بعد ، فإنّي لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في أنفسهم وما أغرّك منهم. والله ، إنّي محدّثك عمّا أنا موطّن عليه نفسي. والله ، لاُجيبنَّكم إذا دعوتم ولاُقاتلنَّ معكم عدوكم ، ولأضربنَّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله ، لا أريد بذلك إلاّ ما عند الله.

وقد صدق عابس ما عاهد عليه الله ؛ فلمْ يخن ضميره ففدى بنفسه ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واستشهد بين يديه في كربلاء. وانبرى حبيب ابن مظاهر فخاطب عابساً قائلاً له : رحمك الله ، فقد قضيت ما في نفسك بواجز مِنْ قولك ، وأنا والله الذي لا إله إلاّ هو على مثل ما أنت عليه.

واندفع سعيد الحنفي فأيّد مقالة صاحبيه(٣) ، وهؤلاء الأبطال مِنْ

__________________

(١) الشهيد مسلم بن عقيل / ١٠٣.

(٢) الحدائق الوردية ١ / ١٢٥ مِنْ مخطوطات مكتبة الإمام كاشف الغطاء العامّة.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٣٤٦

أنبل مَنْ عرفهم التاريخ صدقاً ووفاءً ، فقد بذلوا أرواحهم بسخاء إلى الإمام الحُسين واستشهدوا بين يديه في كربلاء.

عدد المبايعين :

وتسابقت جماهير الكوفة إلى بيعة الحُسين على يد سفيره مسلم بن عقيل ، وقد اختلف المؤرّخون في عدد مَنْ بايعه ، وهذه بعض الأقوال :

١ ـ أربعون ألفاً(١) .

٢ ـ ثلاثون ألفاً ، ومِنْ بينهم حاكم الكوفة النعمان بن بشير(٢) .

٣ ـ ثمانية وعشرون ألفاً(٣) .

٤ ـ ثمانية عشر ألفاً ، حسب ما جاء في رسالة مسلم إلى الحُسين ، يقول فيها : وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجل الإقبال(٤) .

__________________

(١) شرح شافية أبي فراس ١ / ٩٠ مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، مثير الأحزان لابن نما / ١١.

(٢) دائرة معارف وجدي ٣ / ٤٤٤ ، حقائق الأخبار عن دول البحار ، روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان ـ محمد بن أبي بكر المتوفى سنة (٧٣٠ هـ) / ٦٧ مِنْ مصوّرات مكتبة الحكيم ، مناقب الإمام علي بن أبي طالب / ١٣ ، وجاء فيه : أنّ النعمان قال : يا أهل الكوفة ، ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحبّ إليكم مِن ابن بنت بجدل.

(٣) تاريخ أبي الفداء ١ / ٣٠٠.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

٣٤٧

٥ ـ اثنا عشر ألفاً(١) .

رسالة مسلم للحُسين :

وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة حينما بايعه ذلك العدد الهائل مِنْ أهل الكوفة ، فكتب للإمام يستحثّه فيها على القدوم إليهم ، وكان قد كتبها قبل شهادته ببضع وعشرين ليلة(٢) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني مِنْ أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً(٣) فعجّل حين يأتيك كتابي ، فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوي(٤) .

لقد كتب مسلم هذه الرسالة ؛ لأنّه لمْ يرَ أيّة مقاومة لدعوته ، وإنّما رأى إجماعاً شاملاً على بيعة الإمام وتلهّفاً حارّاً لرؤيته ، وحمل الكتاب جماعة مِنْ أهل الكوفة وعليهم البطل العظيم عابس الشاكري ، وقدم الوفد مكّة المكرّمة وسلّم الرسالة إلى الإمام ، وقد استحثّوه على القدوم إلى الكوفة وذكروا إجماع أهلها على بيعته وما قالاه مسلم مِن الحفاوة البالغة منهم ؛ وعند ذلك تهيأ الإمام إلى السفر للكوفة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٤ ، الصراط السوي في مناقب آل النّبي / ٨٦ مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، تهذيب التهذيب ٢ / ٣٥٠ ، الإصابة ١ / ٣٣٢ ، الحدائق الوردية ١ / ١١٧.

(٢) أنساب الأشراف ١ / ق ١.

(٣) وفي رواية البلاذري (إنّ جميع أهل الكوفة معك).

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

٣٤٨

موقف النعمان بن بشير :

كان موقف النعمان بن بشير(١) من الثورة موقفاً يتّسم باللين والتسامح ، وقد اتّهمه الحزب الاُموي بالضعف ، أو التضاعف في حفظ مصلحة الدولة والاهتمام بسلامتها ، فأجابهم : لأنْ أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحبّ إليّ مِنْ أن أكون قويّاً في معصية الله ، وما كنت لأهتك ستراً ستره الله(٢) .

وقد أعطى الشيعة بموقفه هذا قوّة وشجعهم على العمل ضد الحكومة علناً ، ولعلّ سبب ذلك يعود لأمرين :

١ ـ إنّ مسلم بن عقيل كان ضيفاً عند المختار ، وهو زوج ابنته عمرة ، فلم يعرض للثوار بسوء رعايةً للمختار.

__________________

(١) النعمان بن بشير الأنصاري الخزرجي ، كان قد ولاّه معاوية الكوفة بعد عبد الرحمن بن الحكم ، وكان عثماني الهوى ؛ يجاهر ببغض علي ويسيء القول فيه ، وقد حاربه يوم الجمل وصفين ، وسعى بإخلاص لتوطيد المُلْك إلى معاوية ، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابيّة على بعض المناطق العراقيّة. ويقول المحقّقون : إنّه كان ناقماً على يزيد ، ويتمنّى زوال المُلْك عنه شريطة أنْ لا تعود الخلافة لآل علي (عليه السّلام). ومِن الغريب في شأن هذا الرجل أنّ يزيد لمّا أوقع بأهل المدينة وأباحها لجنده ثلاثة أيّام لمْ يثأر النعمان لكرامة وطنه وقومه ، وفي الإصابة ٣ / ٥٣٠ إنّه لمّا هلك يزيد دعا النعمان إلى ابن الزّبير ، ثمّ دعا إلى نفسه فقاتله مروان ، فقُتل وذلك في سنة (٦٥ هـ). وكان شاعراً مجيداً ، له ديوان شعر طُبع حديثاً.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٦.

٣٤٩

٢ ـ إنّ النعمان كان ناقماً على يزيد ؛ وذلك لبغضه للأنصار. فقد أغرى الأخطل الشاعر المسيحي في هجائهم ، فثار لهم النعمان كما ألمعنا إلى ذلك في البحوث السابقة ، ولعل لهذا ولغيره لمْ يتّخذ النعمان أيّ إجراء مضاد للثورة.

خطبة النعمان :

وأعطى النعمان للشيعة قوّة في ترتيب الثورة وتنظيماً ، وهيأ لهم الفرص في أحكام قواعدها ممّا ساء الحزب الاُموي ، فأنكروا عليه ذلك وحرّضوه على ضرب الشيعة ، فخرج النعمان وصعد المنبر فأعلن للناس سياسته المتّسمة بالرفق ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فاتّقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ؛ فإنّ فيها تهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصب الأموال. إنّي لمْ اُقاتل مَنْ لمْ يُقاتلني ، ولا أثب على مَنْ لا يثب عليّ ، ولا اُشاتمكم ، ولا أتحرّش بكم ، ولا آخذ بالقرف(١) ولا الظنّة ولا التّهمة ، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله إلاّ هو ، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لمْ يكن منكم ناصر. أما إنّي أرجو أنْ يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثر ممّنْ يرديه الباطل(٢) .

وليس في هذا الخطاب أيّ ركون إلى وسائل العنف والشدّة ، وإنّما كان فيه تحذير مِنْ مغبّة الفتنة وحبّ للعافية ، وعدم التعرّض لمَنْ لا يثب على السلطة ، وعدم أخذ الناس بالظنّة والتّهمة كما كان يفعل زياد بن أبيه

__________________

(١) القرف : التهمة.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٧.

٣٥٠

والي العراق. وعلّق أنيس زكريا على خطاب النعمان بقوله :

ولنا مِنْ خطبه ـ أيّ خطب النعمان ـ في الكوفة برهان آخر على أنّه كان يرى الفتنة يقظى ولا بد أنْ تشتعل ، وإنّه لنْ يهاجم القائمين بها قبل أنْ يهاجموه ، فجعل لأنصارها قوّة وطيدة الأركان ويداً فعالة في ترتيب المؤامرة وتنظيمها على الأسس المتينة(١) .

سخط الحزب الاُموي :

وأغضبت سياسة النعمان عملاء الحكم الاُموي ، فانبرى إليه عبد الله بن مسلم الحضرمي حليف بني اُميّة ، فأنكر خطّته قائلاً : إنّه لا يصلح ما ترى إلاّ الغشم(٢) ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!(٣) .

ودافع النعمان عن نفسه بأنّه لا يعتمد على أيّة وسيلة تبعده عن الله ، ولا يسلك طريقاً يتجافى مع دينه ، وقد استبان للحزب الاُموي ضعف النعمان وانهياره أمام الثورة.

اتصال الحزب الاُموي بدمشق :

وفزع الحزب الاُموي مِنْ تجاوب الرأي العام مع مسلم واتّساع نطاق الثورة ، في حين أنّ السلطة المحليّة أغضّت النظر عن مجريات الأحداث

__________________

(١) الدولة الاُمويّة في الشام / ٤١.

(٢) الغشم : الظلم.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٧.

٣٥١

وقد اتّهمتها بالضعف أو بالتواطؤ مع الثوار ، وقام الحزب الاُموي باتّصال سريع بحكومة دمشق ، وطلبوا منها اتّخاذ الإجراءات الفورية قبل أنْ يتّسع نطاق الثورة ، ويأخذ العراق استقلاله وينفصل عن التبعية لدمشق.

ومِنْ بين الرسائل التي وفدت على يزيد رسالة عبد الله الحضرمي ، جاء فيها : أمّا بعد ، فإنّ مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحُسين بن علي ، فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قويّاً ينفّذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوّك ؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعّف(١) .

وتدعو هذه الرسالة إلى إقصاء النعمان عن مركزه ، واستعمال شخص آخر مكانه قوي البطش ؛ ليتمكن مِن القضاء على الثورة ، فإنّ النعمان لا يصلح للقضاء عليها. وكتب إليه بمثل ذلك عمارة بن الوليد بن عقبة وعمر بن سعد.

فزع يزيد :

وفزع يزيد حينما توافدت عليه رسائل عملائه في الكوفة بمبايعة أهلها للحُسين ، فراودته الهواجس وظلّ ينفق ليله ساهراً يطيل التفكير في الأمر ؛ فهو يعلم أنّ العراق مركز القوّة في العالم الإسلامي وهو يبغضه ويحقد على أبيه ، فقد أصبح موتراً منهم لما صبّوه عليه مِن الظلم والجور ، وإنّ كراهية أهل العراق ليزيد لا تقلّ عن كراهيتهم لأبيه ، كما إنّه على

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٧.

٣٥٢

يقين أنّ الأغلبية الساحقة في العالم الإسلامي تتعطّش لحكم الإمام الحُسين ؛ لأنّه المثل الشرعي لجدّه وأبيه ولا يرضون بغيره بديلاً.

استشارته لسرجون :

وأحاطت الهواجس بيزيد وشعر بالخطر الذي يهدّد مُلْكه فاستدعى سرجون الرومي ، وكان مستودع أسرار أبيه ومِنْ أدهى الناس ، فعرض عليه الأمر ، وقال له : ما رأيك إنّ حُسيناً قد توجّه إلى الكوفة ، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحُسين ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيئ ، فما ترى مَنْ أستعمل على الكوفة؟

وتأمّل سرجون وأخذ يطيل التفكير ، فقال له : أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذاً رأيه؟ فقال يزيد : نعم. فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية وقد مات ، وقد أمر بهذا الكتاب(١) .

أمّا دوافع سرجون في ترشيح ابن زياد لولاية الكوفة فهي لا تخلو مِنْ أمرين :

١ ـ إنّه يعرف قسوة ابن زياد وبطشه وأنّه لا يقوى أحد على إخضاع العراق غيره ؛ فهو الذي يتمكّن مِن القضاء على الثورة بما يملك مِنْ وسائل الإرهاب والعنف.

٢ ـ إنّه قد دفعته العصبية القومية لهذا الترشيح ؛ فإنّ ابن زياد رومي.

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٦٨.

٣٥٣

ولاية ابن زياد على الكوفة :

وكان يزيد ناقماً على ابن زياد كأشدّ ما تكون النقمة ، وأراد عزله عن البصرة(١) ؛ وذلك لمعارضة أبيه في البيعة له ، إلاّ إنّه استجاب لرأي سرجون ؛ فقد رأى فيه الحفاظ على مصلحة دولته ، فعهد له بولاية الكوفة والبصرة ، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه ، وكتب إليه هذه الرسالة : أمّا بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي مِنْ أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ، فسرْ حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسّلام.

وأشارت هذه الرسالة إلى مدى قلق السلطة في دمشق وفزعها مِنْ مسلم بن عقيل ، وقد شدّدت على ابن زياد في الإسراع بالسفر إلى الكوفة لإلقاء القبض عليه.

وتنصّ بعض المصادر أنّ يزيد كتب إلى ابن زياد : إنْ كان لك جناحان فطر إلى الكوفة(٢) ، وهذا ممّا ينبئ عن الخوف الذي ألمّ بيزيد مِنْ الثورة في العراق. وحمل مسلم بن عمرو الباهلي العهد لابن زياد بولاية الكوفة مع تلك الرسالة.

ويقول المؤرّخون : إنّ الباهلي كان مِنْ عيون بني اُميّة في الكوفة ومِنْ أهمّ عملائهم ، كما كان مِنْ أجلاف العرب ، وهو الذي ضنّ على مسلم أنْ يشرب جرعة مِن الماء حينما جيء به أسيراً إلى ابن زياد.

__________________

(١) البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

٣٥٤

وتسلّم ابن زياد مِن الباهلي العهد له بولاية الكوفة وقد طار فرحاً ؛ فقد تمّ له الحكم على جميع أنحاء العراق بعد ما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة ، وقد سرّ ما خولته دمشق مِن الحكم المطلق على العراق.

وبما سوّغت له مِن استعمال الشدّة والقسوة وسفك الدماء لكلّ مَنْ لا يدخل في طاعة يزيد أو يشترك بأيّة مؤامرة ضدّه ، وكان هذا التفويض المطلق في استعمال القسوة على الناس ممّا يتّفق مع رغبات ابن زياد وميوله ؛ فقد كان مِنْ عوامل استمتاعاته النفسية حبّ الجريمة والإساءة إلى الناس ، وعدم التردّد في سفك الدماء.

خطبة ابن زياد في البصرة :

وتهيأ ابن زياد لمغادرة البصرة والتوجّه إلى الكوفة ، وقبل مغادرته لها جمع الناس وخطب فيهم خطاباً قاسياً ، جاء فيه : إنّ أمير المؤمنين يزيد ولاّني الكوفة وأنا غاد إليها الغداة. فوالله ، إنّي ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنآن ، وإنّي لنكل لمَنْ عاداني وسمّ لمَنْ حاربني ، أنصف القارة مِنْ راماها.

يا أهل البصرة ، قد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان ، وإيّاكم والخلاف والإرجاف ، فوالله الذي لا إله غيره ، لئن بلغني عن رجلٍ منكم خلاف لأقتلنّه وعرينه(١) ووليّه ، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى حتّى تسمعوا لي ، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق أنا ابن زياد أشبه

__________________

(١) العرين : الجماعة.

٣٥٥

بين مَنْ وطأ الحصا ، ولمْ ينتزعني شبه خال ولا ابن عم(١) .

ما أهون سفك الدماء عند اُولئك البرابرة الوحوش مِنْ ولاة بني اُميّة! لقد تحدّث الطاغية عن نفسيته الشريرة التي توغّلت في الإثم ، فهو يأخذ البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر والأدنى بالأقصى ، ويقتل على الظنّة والتهمة كما كان يفعل أبوه زياد ، الذي أشاع القتل في ربوع العراق.

سفر الطاغية إلى الكوفة :

وسار الخبيث الدنس مِن البصرة متّجهاً إلى الكوفة ؛ ليقترف أعظم موبقة لمْ يقترفها شقي غيره ، وقد صحبه مِنْ أهل البصرة خمسمئة رجل فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور الحارثي(٢) ، وهو مِنْ أخلص أصحاب الإمام الحُسين ، وقد صحب ابن زياد ليكون عيناً عليه ويتعرّف على خططه ، وقد صحب ابن زياد هذا العدد ليستعين بهم على بثّ الإرهاب وإذاعة الخوف بين الناس ، والاتصال بزعماء الكوفة لصرفهم عن الثورة.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أخذ ابن زياد يجذّ في السير لا يلوي على شيء قد واصل السير إلى الكوفة مخافة أنْ يسبقه الحُسين إليها ، وقد جهد أصحابه وأعياهم المسير ، فسقط منهم جماعة منهم عبد الله بن الحارث فلمْ يعبأ.

ولمّا ورد القادسية سقط مولاه (مهران) ، فقال له ابن زياد : إنْ أمسكت على هذا الحال فتنظر إلى القصر فلك مئة ألف. فقال له مهران : لا والله لا أستطيع. ونزل الطاغية فلبس ثياباً

__________________

(١) الطبري ٦ / ٢٠٠.

(٢) الطبري ٦ / ١٩٩.

٣٥٦

يمانية وعمامة سوداء وتلثّم ؛ ليوهم مَنْ رآه أنّه الحُسين ، وسار وحده فدخل الكوفة ممّا يلي النجف(١) ، وكان قلبه كجناح طائر مِنْ شدّة الخوف ، ولو كانت عنده مسكة مِن البسالة والشجاعة لما تنكّر وغيّر بزّته وأوهم على الناس أنّه الحُسين.

وقد تذرّع الجبان بهذه الوسائل لحماية نفسه ، وتنصّ بعض المصادر أنّه حبس نفسه عن الكلام خوفاً مِنْ أنْ يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم.

في قصر الإمارة :

وأسرع الخبيث نحو قصر الإمارة(٢) وقد علاه الفزع وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء ؛ مِنْ تباشير الناس وفرحهم بقدوم الإمام الحُسين ،

__________________

(١) مقتل الحُسين ـ المقرم / ١٦٥.

(٢) قصر الإمارة : هو أقدم بناية حكومية شُيّدت في الإسلام ، بناها سعد بن أبي وقاص ، وقد اندثرت معالمه كما اندثرت جميع معالم الكوفة ما عدا الجامع. وقد اهتمت مديرية الآثار العامّة في العراق بالتعرّف عليه ؛ فكشفت في مواسم مختلفة اُسسه ، وقد أظهرت نتائج الحفائر التي اُجريت عليه أنّه يتألّف مِنْ سور خارجي يضمّ أربعة جدران ، تقريباً طولها ١٧٠ متراًً ، ومعدل سمكها ٤ أمتار ، وتدعم كلّ ضلع مِنْ الخارج ستة أبراج نصف دائرية باستثناء الضلع الشمالي ، حيث يدعمها برجان فقط. والمسافة ما بين كلّ برج وآخر ٢٤ و ٦٠ سنتمتر ، وارتفاع هذا السور بأبراجه يصل إلى ما يقرب مِنْ عشرين متراً. وقد بُني القصر بناء محكماً ، وصُمّمت هندسته على غاية حربية ؛ ليكون في حماية آمنة مِنْ كلّ غزو خارجي ، جاء ذلك في تخطيط مدينة الكوفة للدكتور كاظم الجنابي / ١٣٥ ـ ١٥٥ =

٣٥٧

ولمّا انتهى إلى باب القصر وجده مغلقاً والنعمان بن بشير مشرف مِنْ أعلا القصر ، وكان قد توهّم أنّ القادم هو الحُسين ؛ لأنّ أصوات الناس قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته ، فانبرى يخاطبه : ما أنا بمؤدٍ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، ومالي في قتالك مِنْ إرب.

ولمس ابن مرجانة في كلام النعمان الضعف والانهيار فصاح به بنبرات تقطر غيظاً : افتحْ لا فتحت ، فقد طال ليلك. ولمّا تكلم عرفه بعض مَنْ كان خلفه فصاح بالناس : إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة!

ومِن الغريب أنّ ذلك المجتمع لمْ يُميّز بين الإمام الحُسين وبين ابن مرجانة ، مع أنّ كلاً منهما قد عاش فترة في ديارهم ؛ ولعلّ الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبزّته ولبسه للعمامة السوداء.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الناس حينما علموا إنّه ابن زياد جفلوا وخفّوا مسرعين إلى دورهم وهم يتحدّثون عمّا عانوه مِن الظلم والجور أيّام أبيه ، وقد أوجسوا مِنْ عبيد الله الشرّ.

وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسّلاح ، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي ، فأخذوا يحدّثونه عن الثورة ويعرّفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات للقضاء عليها.

__________________

= وقد وقفت عليه غير مرّة ، وتطلّعت إلى كثير مِنْ معالمه ، ففي بعض أبوابه الرئيسة مظلاّت لحرّاس القصر قد ردمت ولمْ يبقَ منها إلاّ بعض معالمها ، وفي جانب منه بعض الغرف التي اُعدّت للسجن ، وقد صُمّمت بشكل غريب ، وفي جانب منه مطابخ القصر ـ ولم يشر الاُستاذ الجنابي إليها ـ وقد اُحكم بناء القصر حتّى كان مِن المتعذّر اقتحامه والاستيلاء عليه.

٣٥٨

خطابه في الكوفة :

وعندما انبثق نور الصبح أمر ابن مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم ، فاجتمعت الجماهير وقد خيّم عليها الذعر والخوف ، وخرح ابن زياد متقلداً سيفه ومعتمّاً بعمامة ، فاعتلى أعواد المنبر وخطب الناس ، فقال : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدّة على مريبكم ، فأنا لمطيعكم كالوالد البرّ الشفيق ، وسيفي وسوطي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد(١) .

وحفل هذا الخطاب بما يلي :

١ ـ إعلام أهل الكوفة بولايته على مصرهم وعزل النعمان بن بشير عنه.

٢ ـ تعريفهم أنّ حكومة دمشق قد عهدت له بالإحسان على مَنْ يتبع السلطة ولمْ يتمرّد عليها ، واستعمال الشدّة والقسوة على الخارجين عليها.

ولمْ يعرض ابن مرجانة في خطابه للإمام الحُسين وسفيره مسلم ؛ خوفاً مِن انتفاضة الجماهير عليه وهو بعدُ لمْ يحكم أمره.

__________________

(١) مقاتل الطالبيِّين / ٩٧.

٣٥٩

نشر الإرهاب :

وعمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف ، ويقول بعض المؤرّخين : إنّه لمّا أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة صالَ وجالَ وأرعدَ وأبرقَ ، وأمسكَ جماعةً مِنْ أهل الكوفة فقتلهم في الساعة(١) ، وقد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب وصرف الناس عن الثورة.

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد وخرج إليهم بزي غير ما كان يخرج به ، فخطب فيهم خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعّد ، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة مِنْ غير عنف ولين مِنْ غير ضعف ، وأنْ أخذ البريء بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، والولي بالولي.

فانبرى إليه رجل مِنْ أهل الكوفة يُقال له : أسد بن عبد الله المرّي فردّ عليه : أيّها الأمير ، إنّ الله تبارك وتعالى يقول :( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ‏ ، إنّما المرء بجدّه ، والسيف بحدّه ، والفرس بشدّه ، وعليك أنْ تقول وعلينا أنْ نسمع ، فلا تقدّم فينا السيئة قبل الحسنة.

وأُفحم ابن زياد فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(٢) .

__________________

(١) الفصول المهمة / ١٩٧ ، وسيلة المال / ١٨٦.

(٢) الفتوح ٥ / ٦٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470