حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307447 / تحميل: 6768
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم انتزاعها منه وانقراض أمر بني المسيب من الموصل:

ولما قتل إبراهيم وملك تُتُش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش، فدخلها مع أمه صفية عند ملك شاه، واستقرت هي وأعمالها في ولايته، وسار تُتُش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه وتقاتلا فانهزم تُتُش، وقام بمكانه ابنه رضوان وملك حَلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حران فملكها، فكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه توران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على علي بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقاً، وعاد إلى حصار الموصل، واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه منجداً له، وبعث كربوقا إليه عسكراً مع أخيه ألتوتناش، فرده مهزوماً إلى الجزيرة، فتمسك بطاعة كربوقا وجاء مدداً له على حصار الموصل، واشتد الحصار بعلي بن مسلم، فخرج من الموصل ولحق بصدقة بن مزيد بالحلَّة وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغز من السلجوقية أمراؤهم والبقاء لله وحده.

ما جاء من أخبارهم بتاريخ أبي الفداء الجزء الثالث:

في هذه السنة (٣٨٠) استولى أبو الذوّاد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلَّد بن جعفر أمير بني عقيل على الموصل، وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان، وقتل أولاده وعدة من قواده بعد قتال جرى بينهما واستقر أمر أبي الذوّاد بالموصل.

وفي سنة ٣٨٦ مات أبو ذَوّاد بن المسيب أمير الموصل وولي بعده أخوه المقلَّد بن المسيب.

وفي سنة ٣٩١ قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب بن رافع بن

٢٢١

المقلَّد بن جعفر بن عمر بن مهنا بن يُزَيدْ (بالتصغير) بن عبد الله بن زيد من ولد ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العقيلي، وكان المقلَّد المذكور أعور، وأخوه أبو الذوّاد محمد بن المسيب هو أول من استولى منهم على الموصل وملكها في سنة ثمانين وثلاثمائة. واستمر مالكها حتى قتل في هذه السنة، قتله مماليكه التُّرك بالأنبار وكان قد عظم شأنه، ولما مات قام مقامه ابنه قرواش بن المقلَّد بن المسيب. وفي هذه الصفحة في حوادث سنة ٣٩٢ جرى بين قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي وبين عسكر بهاء الدولة حروب انتصر فيها قرواش، ثم انتصر عسكر بهاء الدولة.

وفي حوادث سنة ٤١١ في الموصل قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد على وزيره أبي القاسم المغربي، ثم أطلقه فيما بعد وقبض أيضاً على سليمان بن فهد، وكان ابن فهد في حداثته بين يدي الصابي ببغداد، ثم صعد إلى الموصل وخدم المقلَّد بن المسيب والد قرواش، ثم نظر في ضياع قرواش فظلم أهلها، ثم سخط قرواش عليه وحبسه، ثم قتله وهو المذكور في شعر ابن الزمكدم في أبياته وهي:

ولـيل كـوجه البرقعيدي مظلم وبـرد أغـانيه وطـول قرونه

سـريت ونومي فيه نوم مشرد كـعقل سـليمان بن فهد ودينه

عـلى أولـق فـيه التفات كأنه أبـو جـابر في خطبه وجنونه

إلـى أن بدا نور الصباح كأنه سنى وجه قرواش وضوء جبينه

وكان من حديث هذه الأبيات أن قرواشاً جلس في مجلس شرابه في ليلة شاتية، وكان عنده المذكورون، وهم البرقعيدي وكان مغنياً لقرواش وسليمان بن فهد الوزير المذكور، وأبو جابر وكان حاجباً لقرواش. فأمر قرواش الزمكدم أن يهجو المذكورين ويمدحه فقال هذه الأبيات البديهية.

في حوادث سنة ٤٢٥ وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد صاحب نصيبين فقصد ولده قريش عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين واستقر قريش بها.

في حوادث سنة ٤٣٧ قتل عيسى بن موسى لهَمَذاني صاحب أربل،

٢٢٢

قتله ابنا أخ له وملكا قلعة أربل، وكان لعيسى أخ آخر اسمه سلار بن موسى قد نزل على قرواش صاحب الموصل لوحشة كانت بين سلار وأخيه عيسى. فلما بلغه قتل أخيه سار قرواش إلى أربل ومعه سلار فملكها وتسلمها سلار وعاد قرواش إلى الموصل.

في حوادث سنة ٤٤٢ استولى أبو كامل بركة بن المقلَّد، على أخيه قرواش بن المقلَّد، ولم يبق لقرواش مع أخيه المذكور تصرف في المملكة وغلب عليها أبو كامل المذكور ولقبُه زعيم الدولة.

في حوادث سنة ٤٤٣ تُوفِّي بركة بن المقلَّد بن المسيب بتكريت، واجتمع العرب وكبراء الدولة على إقامة ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلَّد وكان بدران بن المقلَّد المذكور صاحب نصيبين، ثم صارت لقريش المذكور بعده. وكان قرواش تحت الاعتقال منذ اعتقله أخوه بركة مع القيام بوظائفه ورواتبه، فلما تولّى قريش نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتقله بها.

في حوادث سنة ٤٤٤ مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة، أو منيع قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي الذي كان صاحب الموصل، وكان محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحمل فدفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وقيل: إن ابن أخيه قريش بن بدران المذكور أحضر عمه قرواشاً المذكور من الحبس إلى مجلسه وقتله فيه. وكان قرواش من ذوي العقل وله شعر حسن منه:

لـلـه در الـنـائبات فـإنه صدأ القلوب وصيقل الأحرار

مـا كنت إلاَّ زبرة فطبعنني سيفاً وأطلق صرفهن غراري

وجمع قرواش المذكور بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم ذلك، فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة. وقال مرة: ما برقبتي غير خمسة أو ستة قتلتهم من البادية، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.

في حوادث سنة ٤٥٠ سار إبراهيم نيال بعد انفصاله عن الموصل إلى هَمَذان وسار طغرلبك من بغداد في أثر أخيه أيضاً إلى هَمَذان، وتبعه من كان ببغداد من التُّرك، فقصد البساسيري بغداد ومعه قريش بن بدران

٢٢٣

العقيلي في مائتي فارس، ووصل إليها يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام ونزل بمشرعة الزوايا. وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر فأذّن بحي على خير العمل ثم عبر عسكره إلى الزاهر، وخطب بالجمعة الأُخرى من وصوله للمصري بجامع الرصافة أيضاً، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب في أثناء الأسبوع. وجمع البساسيري جماعته ونهب الحريم، ودخل الباب النوبي فركب الخليفة القائم لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة وبيده سيف وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة وسرى النهب إلى باب الفردوس من داره، فلما رأى القائم ذلك رجع إلى ورائه، ثم صعد إلى المنظرة ومع القائم رئيس الرؤساء، وقال رئيس الرؤساء لقريش بن بدران: يا علم الدين أمير المؤمنين القائم يستذم بذمامك وذمام رسول الله وذمام العربية على نفسه وماله وأهل وأصحابه، فأعطى قريش بحضرته ذماماً، فنزل القائم ورئيس الرؤساء إلى قريش من الباب المقابل لباب الحَلبة وسارا معه، فأرسل البساسيري إلى قريش، وقال له: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه، وكانا قد تعاهدا على المشاركة وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر. ثم اتفقا على أن يسلم رئيس الرؤساء إلى البساسيري؛ لأنه عدوه ويبقى الخليفة عند قريش. وحمل قريش الخليفة إلى معسكره ببردته والقضيب ولوائه، ونهبت دار الخليفة وحريمها أياماً، ثم سلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس. وسار به مهارس والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزل بها وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلـبك، وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر إلى المصلّى بالجانب الشرقي وعلى رأسه ألوية خليفة مصر، وأحسن إلى الناس، ولم يتعصب لمذهب، وكانت والدة القائم باقية، وقد قاربت تسعين سنة، فأفرد لها البساسيري داراً وأعطاها جاريتين من جواريها، وأجرى لها الجِراية، وكان قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء، فأحضره من الحبس، فقال رئيس الرؤساء: العفو، فقال له البساسيري: أنت قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي. وجرى على رئيس الرؤساء أمور من التشهير الممقوت ما ندع ذكره، ومات تعذيباً وصلباً وأرسل البساسيري إلى المستنصر العلوي بمصر يعرِّفه بإقامة الخطبة له بالعراق، وكان الوزير هناك ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب

٢٢٤

من البساسيري. فبرَّد فعل البساسيري وخوف من عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت بخلاف ما أمله. ثم سار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها. وأما طغرلبك فكان قد خرج عليه أخوه إبراهيم نيال وجرى بينه وبينه قتال، وآخره أن طغرلبك انتصر على أخيه إبراهيم نيال وأسره وخنقه بوتر، وكان قد خرج عليه مراراً وطغرلبك يعفو عنه، فلم يعف عنه في هذه المرة. وفي هذه السنة أعاد طغرلبك القائم إلى مقر ملكه وانتهى الأمر بقتل البساسيري.

في سنة ٤٥٢ تُوفِّي قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل ونصيبين، وكانت وفاته بنصيبين، وقام بالأمر بعده ابنه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش.

في سنة ٤٥٨ أقطع ألب ارسلان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل، الأنبار، وتكريت زيادة على الموصل.

في سنة ٤٧٧ سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك، وقيل: أكسب، والأول أصح جد الملوك لأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم وانحصر في آمد ونزل الأمير أرتق على آمد فحصره، فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكِّنه من الخروج من آمد، فأذن له أرتق وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به ثم سير السلطان عميد الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا اقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى السلطان. فقدم شرف الدولة إليه وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيج وكان قد ذهبت أمواله فاقترض شرف الدولة مسلم ما خدم به السلطان وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه الذي نجا عليه في المعركة، وكان اسم الفرس بشّار، وكان سابقاً وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب فرضي السلطان على مسلم وخلع عليه وأقرَّه على بلاده.

٢٢٥

في حوادث هذه السنة نفسها قال: لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية أرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك. وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية. ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف أعمال أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقُتِل بين يدي أربعمائة غلام من أحداث حَلب. وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب أحول، واتسع ملكه، وزاد على ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج، وديار ربيعة ومضر عن الجزيرة وحَلب وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل وغيرها. وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة بالأمر والعدل. ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملَّكوه، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج.

وأما قلعة حَلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم، فحاصر تُتُش القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه.

ولما قتل سليمان بن قطلومش مسلم بن قريش أرسل إلى ابن الْحُتَّيتي العباسي مقدم أهل حَلب يطلب منه تسليمها، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الْحُتَّيتي استدعى تُتُش إلى حَلب، وكان مع تُتُش أرتق بن أكسك؛ وقد فارق خدمة ملكشاه خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، وكان ابن الْحُتَّيتي قد كاتب السلطان ملكشاه في أمر حَلب فسار إليها من أصفهان في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حران وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها وملك قلعة جعبر، ثم ملك منبج وسار إلى حَلب فلما قاربها رحل أخوه تُتُش عنها على البرية وتوجَّه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حَلب وتسلمها وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي على أن يعوضه بقلعة جعبر

٢٢٦

فبقيت بيده ويد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي.

سنة ٤٨٦ وفيها تحرك تُتُش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه اقسنقر صاحب حَلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية وبران صاحب الرها. وسار تُتُش ومعه اقسنقر فافتتح نصيبين عنوة ثم قصد الموصل، وكنا قد ذكرنا (أبو الفداء) في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب وغيرهما استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم. ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها. فلما قصد تُتُش في هذه السنة الموصل خرج إبراهيم لقتاله، والتقوا بالمضيّع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقُتلوا وملك تُتُش الموصل، واستثاب عليها علي بن مسلم بن قريش وأمه صفية عمة تُتُش، وأرسل تُتُش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها. ثم سار تُتُش واستولى على ديار بكر.

في سنة ٤٨٩ بعد مقتل تُتُش سنة ٤٨٨ قصد كربوغا نصيبين، وبها محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، فطلع محمد إلى كربوغا واستحلفه ثم غدر كربوغا بمحمد، وقبض عليه وحاصر نصيبين وملكها، ثم سار إلى الموصل وقتل في طريقه محمد بن مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب، وحصر الموصل وبها علي بن مسلم أخو محمد المذكور من حين استنابه بها تتش، فلما ضاق عليه الأمر هرب من الموصل إلى صدقة بن مزيد بالحلَّة بعد حصار تسعة أشهر.

سنة ٥١٩ وفيها مات سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب قلعة جعبر، وملكها بعده ابنه مالك بن سالم.

الجزء الثالث ص١٨ سنة (٥٤١) سار عماد الدين زنكي، ونزل على قلعة جعبر وحصرها وصاحبها علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدين الكردي البشنوي.

٢٢٧

ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسَّان البعلبكي الذي كان صاحب منبج يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني،فقال صاحب قلعة جعبر لحسَّان: يخلصني منك الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق، وكان بلك محاصراً منبج، فجاءه سهم قتله فرجع حسَّان إلى زنكي ولم يخبره بذلك فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس ربيع الآخر من هذه السنة بالليل وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي فدخل أصحابه إليه وبه رمق ودفن بالرقة.

سنة ٥٦٤ في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كِلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة سروج بأعمالها والملوحة من بلد حَلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاعة.

ما جاء في كامل ابن الأثير من أوليتهم وأخبارهم

الجزء التاسع في سنة ٣٠٨ لما ملك أبو طاهر والحسين ابنا حمدان بلاد الموصل طمع فيها باذ وجمع الأكراد، فأكثر وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً وكاتب أهل الموصل فاستمالهم فأجابه بعضهم، فسار إليهم ونزل بالجانب الشرقي فضعفا عنه. وراسلا أبا الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين وبلداً غير ذلك. فأجاباه إلى ما طلب، وانتهى الأمر بانتصار الأميرين الحماديين بمناصرة أبي الذوّاد على باذ، فكانت هذه أول إمرة لبني عقيل في دولة بني حمدان.

في سنة ٣٨٠ لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان

٢٢٨

سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولّى الأمور. فسيَّر إليه قائداً من قواده وكان بهاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، وأقام نائب بهاء الدولة وليس له من الأمر شيء، ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذوَّاد.

في سنة (٣٨٢) كان بهاء الدولة قد أنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد حتى أنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه. فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة. فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر أنه إن قبض عليه اختلف العسكر وظفر به العرب، فتراجع في أمره. وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذوّاد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذوّاد، فلم يفعل أنفة وحسن عهد فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قُبِض وقُتِل وكُفِي شره. ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك، فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا لحقيق بأن تخاف ملابسته. وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذوّاد فأسره العرب ثم أطلقوه، فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.

سنة (٣٨٦) في هذه السنة ملك المقلَّد بن المسيب مدينة الموصل، وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذَّوّاد تُوفِّي في هذه السنة، فطمع المقلَّد في الإمارة فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً؛ لأنه أكبر منه فشرع المقلَّد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل فمال

٢٢٩

إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه البلد بألفي ألف درهم كل سنة، ثم حضر عند أخيه علي وأظهر له أن بهاء الدولة قد ولاه الموصل وسأله مساعدته على أبي جعفر؛ لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل، فخرج إليهم كل من استماله المقلَّد من الديلم، وضعف الحجاج وطلب منهم الأمان فأمنوه ووعدهم يوماً يخرج إليهم فيه. ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه فلم ينالوا منه شيئاً ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة ودخل المقلَّد البلد. واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما ويقدِّم علي لكبره ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية وسار علي إلى البر وأقام المقلَّد وجرى الأمر على ذلك مدة مديدة، ثم تشاجروا واختصموا وكان المقلَّد يتولّى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلَّد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها. وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره، وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عساكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلَّد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلَّد، فبلغ الخبر إليه فأنفذ أصحابه ليلاً فاقتتلوا وعادوا إلى المقلَّد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلَّد إلى بغداد أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد وأمره بمصالحة المقلَّد والقبض على أبي علي بن إسماعيل. فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجَّة، فلما وصل إليها أرسله المقلَّد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل لبهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلَّد الخلع السلطانية،ويُلقَّب بحسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين. واستقر الأمر على ذلك، وجلس القادر بالله له ولم يف المقلَّد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد ومد يده في المال وقصده المتصرفون والأماثل وعظم قدره.

سنة (٣٨٧): في هذه السنة قبض المقلَّد على أخيه علي؛ وكان سبب ذلك ما تقدم ذكره من الاختلاف الواقع بين أصحابهما واشتغل المقلَّد بما

٢٣٠

سبق بيانه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه وعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد، وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا وحلَّفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل عليه وهو سكران فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر. ففعلت ذلك وخلصت، وكانت في الحلَّة التي له على أربعة فراسخ من تكريت وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلَّة ليقبض أولاد أخيه فلم يجدهم. وأقام المقلَّد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، واجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن إلى حلل أخيه ومعه أولاد أخيه علي وحرمه ويستنفرهم على المقلَّد، واجتمع معهم نحو عشرة آلاف وراسل المقلَّد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل وبقي بينهم، فنزل واحد ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب منهم رافع بن محمد بن مقن، ومنهم من أشار بالكف عن القتال وصلة الرحم منهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه فبينما هم في ذلك قيل للمقلَّد: إنّ أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك، فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً ورد إليه ماله ومثله معه وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا وعاد إلى حلته وعاد المقلَّد إلى الموصل، وتجهَّز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي؛ لأنه تعصب لأخيه علي وقصد ولاية المقلَّد بالأذى فسار إليه. ولما خرج علي من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلَّد فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلَّد وامتنعوا عليه فافتتحها، فسمع المقلَّد بذلك فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي، وقال له: إن الأعور يعني المقلَّد قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل، وأمره بإفساد عسكر المقلَّد، فكتب إليهم فظفر المقلَّد بالكتب، فأخذها وسار مجدِّاً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه ودخل الموصل وهما معه. ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً وتبعه الحسن وتردُّدت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك

٢٣١

إلى سنة تسع وثمانين ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلَّد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق وتبعه المقلَّد، فلم يدركه فعاد، ولما استقر أمر المقلَّد بعد أخيه علي سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي، فدخله ثانية والتجأ ابن مزيد إلى مهذّب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلَّد. وأصلح الأمر معه، وسار المقلَّد إلى دقوقا فملكها ثم ملكها عليه جبريل بن محمد، ثم عادت إلى المقلَّد، ثم ملكها محمد بن عناز بعده، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب ثم إلى جبريل وموصك بن جكويه من أمراء الأكراد، ثم قصدها بدران بن المقلَّد وأخذها منهما.

سنة (٣٩١): في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب العقيلي غيلة قتله مماليك له ترك. وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه فتبعهم وظفر بهم وقتل منهم وقطع وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم فاغتنم بعضهم غفلته وقتلوه بالأنبار. وكان قد عظم أمره وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر. ولما قُتِل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار فخاف نائبه عبد الله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية فاستدعاه إليه، وقال له: أن أجعل بينك وبين قراوش عهداً وأُزوجه ابنتك، وأقاسمك على ما خلفه أبوه وتساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد، وأرسل عبد الله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال وأقام قراد عنده، ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفُه منك حمله على ذلك، فبذل من نفسه الموافقة له والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب ويخرج هو وقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم بعضاً عادوا جميعاً على قراد فأخذوه. فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله. فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد، فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش وهي بحالها. وسار قرواش إلى الكوفة فأوقع بخفاجة

٢٣٢

عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج.

سنة (٣٩٢): في هذه السنة سيَّر قرواش بن المقلَّد جمعاً من عقيل إلى المدائن، فحصروها فسيَّر إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن مزيد في بني أسد وقويت شوكتهم. فخرج الحجاج إليهم واستنجد خفاجة وأحضرهم من الشام فاجتمعوا معه واقتتلوا بنواحي (باكرم) في رمضان، فانهزمت الديلم والتُّرك وأُسر منهم خلق كثير واستبيح عسكرهم، فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، وقتل من أصحابهم خلق كثير وأسر مثلهم وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.

سنة (٣٩٧): في المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلَّد العقيلي وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي. وكان سببها أن قرواش جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها وعرف أبو علي الخبر فسار إليه فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مغلولاً، وملك أبو علي الكوفة وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.

سنة (٣٩٩): في هذه السنة قتل عيسى بن خلاط العقيلي أبا علي بن ثمال الخفاجي الذي كان والياً للحاكم بأمر الله صاحب مصر على الرحبة، وملكها، وأقام فيها مدة ثم قصده بدران بن المقلَّد، فأخذها منه وبقيت لبدران، فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها، ثم انتهى أمر ملكها إلى صالح بن مرداس صاحب حَلب.

سنة (٤٠١): في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلَّد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي صاحب مصر بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: (الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدَّت بقدرته أركان النصب، وأطلع

٢٣٣

بنوره شمس الحق من العرب. فأرسل القادر بالله أمير المؤمنين القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر وولاّه قضاء عمان والسواحل، وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش، فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.

سنة (٤٠١): وفيها تُوفِّي أبو عبد الله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمر بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشرة سنين، وكان بخيلاً شديد البخل وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.

سنة (٤١٧): في هذه السنة اجتمع دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسَّان أمير خفاجة، وجمعا عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلَّد العقيلي؛ وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم فاستعانوا بدُبيس، فسار إليهم واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير وعلم أصحابه بذلك فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار وسارت أسد وخفاجة خلفهم. فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثم تفرقوا.

وفي هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد، وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية ماضي الحكم نافذ الأمر والجند من أطوع الناس له وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك وخالفه الجند فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش فندم الجند على ذلك وسألوه أن يعود فلم يفعل. وأصعد إلى الموصل مع قرواش فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق. ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش وساروا يريدون حرب قرواش. وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع

٢٣٤

هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا وثبت بعضهم لبعض وكثر القتل. ففعل ثروان بن قراد فعلا جميلاً، وذلك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلَّد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.

الصفحة نفسها والسنة نفسها سار منيع بن حسَّان أمير خفاجة في الجامعين وهي لنور الدولة دُبيس فنهبها، فسار دُبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل جنود خفاجة الأنبار ونهبوها وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً ومعه غريب والأثير عنبر، ثم تركها ومضى إلى القصر فاشتد طمع جنود خفاجة وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية. وسار قرواش إلى الجامعين فاجتمع هو ونور الدولة دُبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل. فلم يقدر قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد وأعادهم قرواش، وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسَّان سار إلى الملك أبي كاليجار فأطاعه، فخلع عليه وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة، فخطب فيها لأبي كاليجار وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.

سنة (٤١٩): في هذه السنة في جمادى الأولى سار بدران بن المقلَّد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها وقاتلوه، فهزمهم واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسيَّر نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً فلقوهم فقاتلوهم وهزموهم وقتلوا أكثرهم، فأزعج ذلك ابن مروان وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين واجتمعوا بمن فيها وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد وقت الظهر وتبعهم عسكر ابن مروان، ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له. فأكثر فيهم القتل والأسر وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مغلوبين، فدخلوا نصيبين فاجتمعوا بها، واقتتلوا مرة أُخرى وكانوا على السواء. ثم سمع بدران بأن

٢٣٥

أخاه قرواشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه؛ لأنهما كانا مختلفين.

في سنة (٤٢٠) يذكر دخول الغز ديار بكر ومقاومة قرواش لهم ويذكر ملكهم مدينة الموصل ومقاومة قرواش لهم وانكساره، ثم يذكر ظفر قرواش بهم ص ١٦٣ مما يجب أن يضم إلى أخبار بني المقلَّد مع ما ذكر في ص١٦٤.

في سنة (٤٢١) قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين، وأنه رحل عنها خوفاً من قرواش، فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا، ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة بن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش، فآثر عليها غيرها فأرسلت إلى أبيها تشكو منه، فأرسل يطلبها إليه، فسيرها فأقامت بالموصل، ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش، وأطمعه في الجزيرة، فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار ويطلب الجزيرة لنفقتها، ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول، وتردُّدت الرسل بينهما في ذلك، فلم يستقر حال فسير جيشاً لمحاصرة الجزيرة وجيشاً مع أخيه بدران إلى نصيبين، فحصرها بدران وأتاه قرواش، فحصرها معه فلم يُمْلَك واحِد من البلدين، وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين، فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.

وفي هذه السنة في جمادى الأولى اختلف قرواش وغريب بن مقن؛ وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيَّق على من بها وأهلها يطلبون منه الأمان فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال. فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه ولم يتعرضوا إلى حلته وماله فيها وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.

٢٣٦

سنة (٤٢٥): وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نُمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.

سنة (٤٣٣) يذكر الحلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل.

سنة (٤٤٠) ذكر الحلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية. وفيها كانت الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلَّد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلَّد إلى عمّه قرواش وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة وتفاقم الشر بينهما.

ظهور الخلاف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما:

سنة (٤٤١): في هذه السنة ظهر الخلاف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلثايا، فأخرجوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمُغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب فنزلوا بمرج بابنيثا وبين الطائفتين نحو فرسخ واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحُميدي وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير فركبت العرب من أصحاب أبي كامل لقصده، فمنعهم وأسفر الصبح يوم الاثنين، وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار. وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار؛ لسوء طريقهم وفسادهم فهرب الباقون

٢٣٧

منهم وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً وفتحوا الباب ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة وهرب الباقون. فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه. ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه وقبل يده، وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك فيَّ وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير وأنا الطائع لأمرك والتابع لك. فقال له قرواش: بل أنت الأخ والأمر لك مسلّم، وأنت أقوم به مني، وصلح الحال بينهما وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره. وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما وجمع إلى نفسه جمعاً، وقاتل أصحاب قرواش وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما.

وفي هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوها وأخذوا من الأموال الكثير وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل بن المقلَّد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً وصبرا صبراً جميلاً وقُتل جماعة من الفريقين.

في هذه السنة في ذي القعدة ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه، وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار. فأجابهم إلى ذلك وسيّر معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار ولحقهم البساسيري، وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه. وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.

سنة (٤٤٢) وفي هذه السنة في جمادى الأولى استولى زعيم الدولة

٢٣٨

أبو كامل بركة بن المقلَّد على أخيه قرواش، وحجر عليه ومنعه من التصرف على اختياره؛ وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه. وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده، ثم أرسل إليه نفراً من أعيان أصحابه يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلّغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يُمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم. فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً فأمّنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.

سنة (٤٤٣) وفي هذه السنة في شهر رمضان تُوفِّي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلَّد بتكريت، وكان انحدر إليها في حلله قاصداً نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم وينهب البلاد. فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل، فتُوفِّي ودفن بمشهد الخضر بتكريت. واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلَّد، فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش، وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة وقيامه بالإمارة، وأنه يتصرف على اختياره ويقوم بالأمر نيابة عنه. فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش وقوي ابن أخيه ومالت العرب إليه، واستقرت الإمارة له وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة، ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتُقل بها.

سنة (٤٤٤): في هذه السنة جرى حِلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلَّد، وكان قريش قد نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق، فجرى بينه وبين أخيه المقلَّد منازعة أدت إلى الاختلاف، فسار المقلَّد إلى نور الدولة دُبيس بن مزيد ملتجئاً إليه فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد

٢٣٩

إلى الموصل، واختلَّت أحواله واختلفت العرب عليه، وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عُكبرا والعلث وغيرهما من قبض غلته، وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب. ثم إن قريشاً استمال العرب وأصلحهم، فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش، فإنه تُوفِّي هذه الأيام، وانحدر إلى العراق؛ ليستعيد ما أخذ منه، فوصل إلى الصالحية وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها، فنهبوا ما هناك وعادوا فلقوا كامل بن محمد بن المسيّب صاحب الحظيرة، فأوقع بهم وقاتلهم فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال، فسار إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد، فانهزم كامل وتبعه قريش فلم يلحقه، فقصد حلل بلال بن غريب وهي خالية من الرجال، فنهبها وقاتله بلال وأبلى بلاء حسناً فجرح ثم انهزم، وراسل قريش نواب الملك الرحيم يطلب ببذل الطاعة ويطلب تقرير ما كان له عليه، فأجابوه إلى ذلك على كره؛ لقوته وضعفهم واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم، فاستقر أمره وقوي شأنه. وفي هذه الصفحة: وفي السنة نفسها مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش بن المقلَّد العُقيلي الذي كان صاحب الموصل محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحُمل ميتاً إلى الموصل، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وكان من رجال العرب وذوي العقل منهم وله شعر حسن. وأورد له عن (دمية القصر) البيتين المنقولين عن تاريخ ابن خلدون وهذه الأبيات التي لم يوردها ابن خلدون:

مـن كان يحمد أو يذم موّرث لـلمال مـن آبـائه وجدوده

إنـي امـرؤ لـله أشكر وحده شـكراً كـثيراً جـالباً لمزيده

لـي أشقرٌ سمح العنان مغاور يعطيك ما يرضيك من مجهوده

ومـهند عـضب إذا جـردته خلت البروق تموج في تجريده

ومـثقف لـدنُ الـسنان كأنم أم الـمنايا رُكـبت في عوده

وبـذا حـويُت المال إلا أنني سـلّطت جود يدي على تبديده

وفي هذه السنة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، فدوَّخ كثيراً منها وأسرف في

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

فأجابه مفتخراً بأنّه مِنْ عملاء السلطة الاُمويّة وأذنابها قائلاً :

أنا مَنْ عرف الحقّ إذ تركته ونصح الاُمّة ، والإمام إذ غششته وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو.

أيّ حقّ عرفه الباهلي؟ وأيّ نصيحة أسداها للاُمّة هذا الجلف الجافي الذي ارتطم في الباطل وماج في الضلال؟ لقد كان منتهى ما يفخر به تماديه في خدمة ابن مرجانة الذي هو صفحةُ عارٍ وخزي على الإنسانية في جميع مراحل التاريخ.

وردّ عليه مسلم بمنطقه الفيّاض قائلاً : لاُمِّك الثكل! ما أجفاك وأفظك ، وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم منّي.

واستحيا عمارة بن عقبة(١) مِنْ جفوة الباهلي وقسوته ، فدعا بماء بارد فصبّه في قدح فأخذ مسلم كلّما أراد أنْ يشرب يمتلئ القدح دماً ، وفعل ذلك ثلاثاً ، فقال وقد ذاب قلبه مِن الظمأ : لو كان مِن الرزق المقسوم لشربته(٢) .

وهكذا شاءت المقادير أنْ يُحرمَ مِن الماء ويموت ظامئاً ، كما حُرِمَ مِن الماء ابن عمّه ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة.

مع ابن زياد :

وكان مِنْ أعظم ما رُزئ به مسلم أنْ يدخلَ أسيراً علي الدعيّ ابن مرجانة ، فقد ودّ أنّ الأرض وارته ولا يمثُل أمامه ، وقد شاءت المقادير

__________________

(١) في الإرشاد / ٢٣٩ ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فجاء بقُلّة عليها منديل وقدح فصبّ فيه ماء ، وقال له : اشرب.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٣.

٤٠١

أنْ يدخل عليه ، وقد دخل تحفُّ به الشرطة ، فلمْ يحفل البطل بابن زياد ولم يعنَ به ، فسلّم على الناس ولمْ يسلّم عليه ، فأنكر عليه الحرسي وهو مِنْ صعاليك الكوفة قائلاً : هلاّ تسلّم على الأمير؟ فصاح به مسلم محتقراً له ولأميره : اسكت لا اُمّ لك! ما لك والكلام؟! والله ليس لي بأمير فاُسلّم عليه.

وكيف يكون ابن مرجانة أميراً على مسلم سيّد الأحرار وأحد المستشهدين في سبيل الكرامة الإنسانية؟! إنّما هو أمير على اُولئك الممسوخين الذين لمْ يألفوا إلاّ الخنوع والذلّ والعار.

والتاع الطاغية مِن احتقار مسلم له وتبدّد جبروته ، فصاح به : لا عليك ، سلّمت أمْ لمْ تسلّم فإنّك مقتول.

ولمْ يملك الطاغية سوى سفك الدّم الحرام ، وحَسِبَ أنّ ذلك يخيف مسلماً أو يوجب انهياره وخضوعه له ، فانبرى إليه بطل عدنان قائلاً بكلّ ثقةٍ واعتزاز بالنفس : إنْ قتلتني فقد قَتَلَ مَنْ هو شرٌّ مِنك مَنْ كان خيراً منّي.

ولذعه هذا الكلام الصارم وأطاح بغلوائه ، فقد ألحقه مسلم بالجلاّدين والسفّاكين مِنْ قتلة الأحرار والمصلحين. واندفع الطاغية يصبح بمسلم : يا شاق ، يا عاق ، خرجت على إمام زمانك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة.

أيّ إمام خرج عليه مسلم ، وأيّ عصاً للمسلمين شقّها ، وأيّ فتنة ألقحها؟! إنّما خرج على قرين الفهود والقرود. لقد خرج لينقذ الاُمّة مِنْ محنتها أيّام ذلك الحكم الأسود.

وانبرى مسلم يردّ عليه قائلاً :

٤٠٢

والله ، ما كان معاوية خليفة بإجماع الاُمّة ، بل تغلّب على وصيّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) بالحيلة ، وأخذ منه الخلافة بالغصب ، وكذلك ابنه يزيد ؛ وأمّا الفتنة فإنّما ألقحتها أنت وأبوك زياد مِنْ بني علاج. وأنا أرجو أنْ يرزقني الله الشهادة على يد شرّ بربته ، فوالله ما خالفت ولا كفرت ولا بدّلت ، وإنّما أنا في طاعة أمير المؤمنين الحُسين بن علي ، ونحن أولى بالخلافة مِنْ معاوية وابنه وآل زياد.

وكانت هذه الكلمات أشدّ على ابن مرجانة مِن الموت ، فقد كشفت واقعه أمام شرطته وعملائه ، وجرّدته مِنْ كلّ نزعة إنسانية ، وأبرزته كأحقر مخلوق على وجه الأرض. ولمْ يجد الدّعيّ وسيلةً يلجأ إليها سوى الافتعالات الكاذبة التي هي بضاعته وبضاعة أبيه زياد مِنْ قبل. فأخذ يتّهم مسلماً بما هو برئ منه قائلاً : يا فاسق ، ألمْ تكن تشرب الخمر في المدينة؟

فصاح به مسلم : أحقّ والله بشرب الخمر مَنْ يقتل النفس المحرّمة وهو يلهو ويلعب كأنّه لمْ يسمع شيئاً.

واسترد الطاغية تفكيره فرأى أنّ هذه الأكاذيب لا تجديه شيئاً ، فراح يقول له : منّتك نفسك أمراً حال الله بينك وبينه وجعله لأهله.

فقال مسلم باستهزاء وسخرية : مَنْ أهله؟!

ـ يزيد بن معاوية.

ـ الحمد لله ، كفى بالله حاكماً بيننا وبينكم.

ـ أتظنّ أنّ لك مِن الأمر شيئاً؟

٤٠٣

ـ لا والله ، ما هو الظنّ ولكنّه اليقين.

ـ قتلني الله إنْ لمْ أقتلك.

ـ إنّك لا تدع سوء القتلة وقبح المُثلة وخبث السريرة. والله ، لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم وقدرت على شربة ماء لطال عليك أنْ تراني في هذا القصر ، ولكنْ إنْ كنت عزمت على قتلي فأقم لي رجلاً مِنْ قريش أوصي له بما اُريد(١) . وسمح له الطاغية بأن يوصي بما أهمّه.

وصيّة مسلم :

ونظر مسلم في مجلس ابن زياد فرأى عمر بن سعد فأحبّ أنْ يعهد إليه بوصيته ، فقال له : لا أرى في المجلس قرشيّاً غيرك(٢) ، ولي إليك حاجة وهي سرّ(٣) .

واستشاط ابن زياد غضباً حيث نفاه مسلم مِنْ قريش ، وأبطل استلحاقه ببني اُميّة ، فقد أبطل ذلك النسب اللصيق الذي ثبت بشهادة أبي مريم الخمّار ، ولمْ يستطع أنْ يقول ابن زياد شيئاً.

وامتنع ابن سعد مِن الاستجابة لمسلم ؛ ارضاءً لعواطف سيّده ابن مرجانة ، وكسباً لمودّته. وقد لمس ابن زياد خوره وخنوعه فأسرّها في نفسه

__________________

(١) الفتوح ٥ / ٩٧ ـ ٩٩.

(٢) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / ١٣٤.

(٣) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤ ، الإرشاد / ٢٣٩.

٤٠٤

ورأى أنّه خليق بأنْ يرشّحه لقيادة قوّاته المسلحة التي يزجّ بها لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وأمر ابن زياد عمر بن سعد بأنْ يقوم مع مسلم ليعهد إليه بوصيته ، وقام ابن سعد معه فأوصاه مسلم بما يلي :

١ ـ أنّ عليه ديناً بالكوفة يبلغ سبعمئة درهم ، فيبيع سيفه ودرعه ليوفيها عنه(١) .

وقد دلّ ذلك على شدّة احتياطه وتحرّجه في دينه ، كما أوصى أنْ يعطي لطوعة ما يفضل مِنْ وفاء دينه.

٢ ـ أنْ يستوهب جئته مِن ابن زياد فيواريها(٢) ؛ وذلك لعلمه بخبث الاُمويِّين وإنّهم لا يتركون المُثلة.

٣ ـ أنْ يكتب للحُسين بخبره(٣) فقد شغله أمره ؛ لأنّه كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة.

وأقبل ابن سعد يلهث على ابن زياد فقال له : أتدري أيّها الأمير ما قال لي؟ إنّه قال : كذا وكذا(٤) .

وأنكر عليه ابن زياد إبداءه السرّ فقال : لا يخونك الأمين ، ولكنْ قد يؤتمن الخائن ؛ أمّا ماله فهو لك تصنع به ما شئت ، وأمّا الحُسين فإنْ لمْ يردنا لمْ نرده وإنْ أرادنا لمْ نكفّ عنه ، وأمّا جثته فإنّا لن نشفّعك فيها(٥) .

__________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤ ، وفي الطبري ٦ / ٢١٢ إنّ عليّ ستمئة درهم ، وفي الأخبار الطوال / ٢٤١ إنّ عليّ ألف درهم.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٢.

(٣) الإرشاد / ٢٣٩.

(٤) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤.

(٥) وفي الإرشاد / ٢٣٩ أمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنِعَ بها.

٤٠٥

لقد ترك الطاغية شفاعة ابن سعد في جثة مسلم ؛ فقد عزم على التمثيل بها للتشفّي منه وليتّخذ مِنْ ذلك وسيلة لإرهاب الناس وخوفهم.

الطاغية مع مسلم :

وصاح ابن مرجانة بمسلم ، فقال له : بماذا أتيت إلى هذا البلد؟ شتّت أمرهم ، وفرّقت كلمتهم ، ورميت بعضهم على بعض.

وانطلق فخر هاشم قائلاً بكلّ ثقة واعتزاز بالنفس : لست لذلك أتيت هذا البلد ولكنّكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف ، وتأمّرتم على الناس مِنْ غير رضى ، وحملتموهم على غير ما أمركم الله به ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ؛ فأتيناهم لنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة ، وكنّا أهلاً لذلك ؛ فإنّه لمْ تزل الخلافة لنا منذ قُتِلَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ولا تزال الخلافة لنا ، فإنّا قُهرنا عليها.

إنّكم أوّل مَنْ خرج على إمام هدى وشقّ عصا المسلمين ، وأخذ هذا الأمر غصباً ونازع أهله بالظلم والعدوان(١) .

وأدلى مسلم بهذا الحديث عن أسباب الثورة التي أعلنها الإمام الحُسين على الحكم الاُموي ، وقد التاع الطاغية مِنْ كلام مسلم وتبدّدت نشوة ظفره ، فلمْ يجد مسلكاً ينفذ منه لإطفاء غضبه سوى السبّ للعترة الطاهرة ، فأخذ يسبّ علياً والحسن والحُسين.

وثار مسلم في وجهه ، فقال له : أنت وأبوك أحقّ بالشتم منهم ، فاقض ما أنت قاض ؛ فنحن

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٠١.

٤٠٦

أهل البيت موكّل بنا البلاء(١) .

لقد ظلّ مسلم حتّى الرمق الأخير مِنْ حياته عالي الهمّة ، وجابه الأخطار ببأس شديد ، فكان في دفاعه ومنطقه مع ابن مرجانة مثالاً للبطولات النادرة.

إلى الرفيق الأعلى :

وآن للقائد العظيم أنْ يُنقل عن هذه الحياة بعد ما أدّى رسالته بأمانة وإخلاص ، وقد رُزِقَ الشهادة على يد الممسوخ القذر ابن مرجانة ، فندب لقتله بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ، فقال له : خذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر واضرب عنقه بيدك ؛ ليكون ذلك أشفى لصدرك.

والتفت مسلم إلى ابن الأشعث الذي أعطاه الأمان فقال له : يابن الأشعث ، أما والله ، لولا أنّك آمنتني ما استسلمت. قمْ بسيفك دوني فقد اخفرت ذمّتك. فلمْ يحفل به ابن الأشعث(٢) .

واستقبل مسلم الموت بثغر باسم ، فصعد به إلى أعلى القصر وهو يسبح الله ويستغفره بكلّ طمأنينة ورضى ، وهو يقول : اللّهم ، احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا(٣) .

وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيين فضرب عنقه ، ورمى برأسه

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٠٢ ، وفي تاريخ ابن الأثير ، والإرشاد أنّ مسلماً لم يكلّم ابن زياد بعد شتمه له.

(٢) الطبري ٦ / ٢١٣.

(٣) الفتوح ٥ / ١٠٣.

٤٠٧

وجسده إلى الأرض(١) ، وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم الذي يحمل نزعات عمّه أمير المؤمنين (عليه السّلام) ومُثُلَ ابن عمّه الحُسين ، وقد استشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ونزل القاتل الأثيم فاستقبله ابن زياد ، فقال له : ما كان يقول وأنتم تصعدون به؟

ـ كان يسبّح الله ويستغفره ، فلمّا أردت قتله قلت له : الحمد لله الذي أمكنني منك وأقادني منك. فضربته ضربة لمْ تغن شيئاً ، فقال لي : أما ترى فيّ خدشاً تخدشنيه وفاءً مِنْ دمك أيّها العبد.

فبهر ابن زياد وراح يبدي إعجابه وإكباره له قائلاً : أوَفخراً عند الموت(٢) !

وقد انطوت بقتل مسلم صفحة مشرقة مِنْ أروع صفحات العقيدة والجهاد في الإسلام ، فقد استشهد في سبيل العدالة الاجتماعية ومن أجل إنقاذ الاُمّة وتحريرها مِن الظلم والجور. وهو أوّل شهيد مِن الاُسرة النّبوية يُقتل علناً أمام المسلمين ولمْ يقوموا بحمايته والذبّ عنه.

سلبه :

وانبرى سليل الخيانة محمّد بن الأشعث(٣) إلى سلب مسلم ، فسلب

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٩.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٧٤.

(٣) الأشعث بن قيس : إنّما سمي بالأشعث لشعوثة رأسه ، واسمه سعد بن كرب ، هلك بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بأربعين ليلة ، وكان عمره ٦٣ سنة ، جاء ذلك في تاريخ الصحابة / ٥ ؛ أمّا محمّد بن الأشعث فأمّه اُمّ فروة أخت أبى بكر لأبيه ، جاء ذلك في الرياض المستطاب / ٨.

٤٠٨

سيفه ودرعه وهو غير حافل بالعار والخزي ، وقد تعرّض للنقد اللاذع مِنْ جميع الأوساط في الكوفة.

ويقول بعض الشعراء في هجائه :

وتركت عمّكَ أنْ تُقاتلَ دونَهُ

فشلاً ولولا أنتَ كان منيعا

وقتلتَ وافدَ آلِ بيت محمّدٍ

وسلبت أسيافاً له ودروعا(١)

وعمد بعض أجلاف أهل الكوفة فسلبوا رداء مسلم وثيابه.

تنفيذ الإعدام في هانئ :

وأمر الطاغية بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة وإلحاقه بمسلم ؛ مبالغة في إذلال زعماء الكوفة وإذاعة للذعر والخوف بين الناس.

وقام محمّد بن الأشعث فتشفّع فيه خوفاً مِنْ بطش اُسرته قائلاً : أصلح الله الأمير ، إنّك قد عرفت شرفه في عشيرته(٢) ، وقد عرف قومه إنّي وأسماء بن خارجة جئنا به إليك ، فاُنشدك الله أيّها الأمير لما وهبته لي ؛ فإنّي أخاف عداوة أهل بيته ، وإنّهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عدداً.

فلمْ يحفل ابن زياد وإنّما زبره وصاح به ، فسكت العبد ، واُخرج البطل إلى السوق في موضع تُباع فيه الأغنام مبالغة في إذلاله. ولمّا عُلم أنّه ملاق حتفه جعل يستنجد باُسرته وقد رفع عقيرته : وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم. وا عشيرتاه(٣) !

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٨.

(٢) وفي رواية (عرفت شرفه في مصره).

(٣) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥.

٤٠٩

ولو كانت عند مذحج صبابة مِن الشرف والنبل لانبرت إلى إنقاذ زعيمها ، ولكنّها كانت كغيرها مِنْ قبائل الكوفة قد طلّقت المعروف ثلاثاً.

وعمد هانئ إلى إخراج يده مِن الكتاف وهو يطلب السلاح ليدافع به عن نفسه ، فلمّا بصروا به بادروا إليه فأوثقوه كتافاً ، وقالوا له : امدد عنقك. فأجاب برباطة جأش ورسوخ يقين : لا والله ، ما كنت بالذي أعينكم على نفسي.

وانبرى إليه وغد مِنْ شرطة ابن زياد يُقال له رشيد التركي(١) فضربه بالسيف فلمْ يصنع به شيئاً ، ورفع هانئ صوته قائلاً : اللّهم إلى رحمتك ورضوانك. اللّهم ، اجعل هذا اليوم كفّارة لذنوبي ؛ فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت محمّد.

وضربه الباغي ضربة أخرى فهوى إلى الأرض يتخبّط بدمه الزاكي ، ولمْ يلبث قليلاً حتّى فارق الحياة(٢) ، وكان عمره يوم استشهد تسعاً وتسعين سنة(٣) ، وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته ، وجزع لقتله الأحرار والمصلحون.

وقد رثاه أبو الأسود الدؤلي بقوله :

__________________

(١) وقد ثار لدم هانئ عبدُ الرحمن بن حصين فقتل رشيداً ، وفي ذلك يقول :

إنّي قتلتُ راشد التركيّا

وليته أبيض مشرفيّا

أرضى بذلك النّبيا

جاء ذلك في أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥.

(٢) الدر النظيم / ١٦٠ ، مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، أنساب الأشراف ١ ق ١.

(٣) مرآة الزمان / ٨٥.

٤١٠

أقول: وذاك مِنْ جزعٍ ووجدِ

أزالَ اللهُ مُلكَ بني زيادِ

هُمُ جدعوا الاُنوفَ وكنّ شُمّاً

بقتلهِمُ الكريمَ أخا مرادِ(١)

ورثى الأخطل ابنَ زياد بقوله :

ولمْ يكُ عن يومِ ابنِ عروة غائباً

كما لمْ يغبْ عن ليلة ابنِ عقيلِ

أخو الحرب صرّاها فليس بناكلٍ

جبارٍ ولا وجب الفؤاد ثقيلِ

السحل في الشوارع :

وعهد الطاغية إلى زبانيته وعملائه بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق ، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(٢) ؛ وذلك لإخافة العامة وشيوع الإرهاب ، وليكونا عبرة لكلّ مَنْ تحدّثه نفسه بالخروج على الحكم الاُموي.

لقد سُحب هانئ أمام اُسرته وقومه ، ولو كان عندهم ذرّة مِن الشرف والحمية لانبروا إلى تخليص جثة زعيمهم مِنْ أيدي الغوغاء الذين بالغوا في إهانتها.

صلب الجثّتين :

ولمّا قضى الطاغية إربه في سحل جثة مسلم وهانئ أمر بصلبهما ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥ ، ديوان أبي الأسود.

(٢) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥ ، الدر النظيم / ١٦٠ ، مقتل الخوارزمي ١ / ٢١٥.

٤١١

فصُلِبا منكوسين(١) في الكناسة(٢) ، فكان مسلم فيما يقول المؤرّخون أوّل قتيل صُلِبَتْ جثته مِنْ بني هاشم(٣) ، وقد استعظم المسلمون كأشدّ ما يكون الاستعظام هذا الحادث الخطير ؛ فإنّ هذا التمثيل الفظيع إنّما هو جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، ومسلم وهانئ إنّما هما مِنْ روّاد الحقّ ودُعاة الإصلاح في الإرض.

وعلى أيّ حالٍ ، فقد أخضع الطاغية بعد قتله لمسلم وهانئ العراق الثائر ، وارتمت جميع أوساطه تحت قدميه بدون أيّة مقاومة.

الرؤوس إلى دمشق :

وعمد ابن مرجانة إلى إرسال رأس مسلم وهانئ وعمارة بن صلخب الأزدي(٤) هدية إلى سيّده يزيد ؛ لينال الجائزة ويحرز إخلاص الاُسرة المالكة له.

وقد أرسل معها هذه الرسالة : أمّا بعد ، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه وكفاه مؤونة عدوّه. أخبر أمير المؤمنين ـ أكرمه الله ـ أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي ، وإنّي جعلت عليهما العيون ، ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتّى استخرجتهما ، وأمكن الله منهما ، فضربت أعناقهما وبعثت إليك برأسيهما مع هانئ بن أبي حيّة الوداعي الهمداني ، والزّبير بن الأروح التميمي ، وهما مِنْ أهل السمع والطاعة ، فليسألهما أمير المؤمنين

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ / ٩٤.

(٢) المناقب والمثالب / ١٧٢.

(٣) مروج الذهب ٣ / ٧.

(٤) أنساب الأشراف ١ ق ١ / ١٥٥.

٤١٢

عمّا أحبّ ؛ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً ، والسّلام(١) .

واحتوت هذه الرسالة على العمليات التي قام بها الطاغية للقضاء على الثورة ، والتي كان مِنْ أهمّها :

١ ـ استعانته بالعيون والجواسيس في معرفة شؤون الثورة والوقوف على أسرارها ، وقد قام بهذه العملية معقل مولاه.

٢ ـ إنّه دسّ لهانئ العضو البارز في الثورة الرجال حتّى صار تحت قبضته واعتقله ، وكذلك كاد لمسلم حينما ثار عليه ، فقد أرسل عيون أهل الكوفة ووجوهها مع العرفاء فأخذوا يذيعون الذعر وينشرون الإرهاب حتّى انهزم جيشه.

جواب يزيد :

ولمّا انتهت الرؤوس إلى دمشق سرّ يزيد بذلك سروراً بالغاً ، وكتب لابن مرجانة جواباً عن رسالته شكره فيها ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّك لمْ تعد إذ كنت كما أحبّ. عملت عمل الحازم وصلت صولة الشجاع الرابض. فقد كفيت وصدقت ظنّي ورأيي فيك وقد دعوت رسوليك فسألتهما عن الذين ذكرت ، فقد وجدتهما في رأيهما وعقلهما وفهمهما وفضلهما ومذهبهما كما ذكرت ، وقد أمرت لكلّ واحد منهما بعشرة آلاف درهم وسرّحتهما إليك فاستوص بهما خيراً.

وقد بلغني أنّ الحُسين بن علي قد عزم على المسير إلى العراق ، فضع المراصد والمناظر واحترس واحبس على الظنّ ، واكتب إليّ في كلّ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢١٤.

٤١٣

يوم بما تجدّد لك مِنْ خيرٍ أو شرٍّ ، والسّلام(١) .

وحفلت هذه الرسالة بالتقدير البالغ لابن زياد وأضفت عليه صفة الحازم اليقظ ، وإنّه قد حقّق ظنّ يزيد فيه أنّه أهل للقيام بمثل هذه الأعمال الخطيرة. وقد عرّفه يزيد بعزم الإمام الحُسين على التوجّه إلى العراق ، وأوصاه باتّخاذ التدابير التالية :

١ ـ وضع المراصد والحرس على جميع الطرق والمواصلات.

٢ ـ التحرّس في أعماله ، وأنْ يكون حذراً يقظاً.

٣ ـ أخذ الناس بسياسة البطش والإرهاب.

__________________

(١) الفتوح ٥ / ١٠٩ ، أنساب الأشراف ١ ق ١ ، ولمْ يتعرض المؤرّخون إلى شؤون هذه الرؤوس الكريمة ، فهل دُفنت في دمشق أو في مكان آخر؟ فقد أهملوا ذلك ، إلاّ أنّه جاء في مرآة الزمان / ٥٩ فيما يخصّ رأس هانئ ما نصه : أنّه في هذه السنّة ـ أي سنة ٣٠٢ هـ ـ ورد الخبر إلى بغداد أنّه وُجِدَ بخراسان بالقصر أزجاً فيه ألف رأس في برج ، في اُذن كلّ واحد خيط من إبريسم فيه رقعة فيها اسم صاحبه ، وكان مِنْ جملتها رأس هانئ بن عروة ، وحاتم بن حنّة ، وطلق بن معاذ وغيرهم. وتاريخهم ـ أيّ تاريخ وضعهم في ذلك الأزج ـ سنة سبعين مِن الهجرة.

ونقل الزركلي في هامش أعلامه ٩ / ٥١ عن صلة تاريخ الطبري / ٦٢ مِنْ حوادث سنة ٣٠٤ هـ أنّه ورد إلى بغداد كتاب مِنْ خراسان يذكر فيه أنّه وجِدَ بقندهار في أبراج سورها برج متّصل بها ، فيه خمسة آلاف رأس في سلال مِنْ حشيش ، ومِنْ هذه الرؤوس تسعة وعشرون رأساً ، في اُذن كلّ رأس منها رقعة مشدودة بخيط إبريسم باسم رجل منهم. وعدّ منهم هانئ بن عروة ، وقال : إنّهم قد وجدوا على حالهم إلاّ أنّه قد جفّت جلودهم ، والشعر عليها بحالته لمْ يتغيّر.

٤١٤

٤ ـ أنْ يكون على اتصال دائم مع يزيد ويكتب له بجميع ما يحدث في القطر ، وطبّق ابن مرجانة جميع ما عهده إليه سيّده ، ونفّذ ما يلي :

إعلانُ الأحكام العرفية :

وبعدما أطاح الطاغية بثورة مسلم قبض على العراق بيد مِنْ حديد ، وأعلن الأحكام العرفية في جميع أنحاء العراق ، واعتمد في تنفيذ خططه على القسوة البالغة ، فأشاع مِن الظلم والجور ما لا يوصف. فكان اسمه موجباً لإثارة الفزع والخوف في نفوس العراقيين كما كان اسم أبيه زياد مِنْ قبل.

لقد فوّضتْ إليه حكومة دمشق السلطات الواسعة ، وأمرته بأخذ الناس بالظنّة وإعدام كلّ مَنْ يحقد على الحكم الاُموي ، أو له ضلع بالاشتراك في أيّة مؤامرة تُحاك ضدّه.

وبهذه الأساليب الرهيبة ساق الناس لحرب الحُسين. فقد كان يحكم بالموت على كلّ مَنْ يتخلّف ، أو يرتدع عن الخوض في المعركة(١) .

احتلال الحدود العراقية :

واحتل ابن زياد جميع الحدود العراقية احتلالاً عسكرياً ، ومنع الناس مِن الدخول للعراق والخروج منه إلاّ بإذن وتأشير خاص مِنْ شرطة الحدود ، وكانوا إذا أخذوا رجلاً أجروا معه التحقيق الكامل. فإنْ علموا براءته أطلقوا سراحه ، وإلاّ بعثوه مخفوراً إلى السلطة المركزية في الكوفة ؛ لتجري معه المزيد مِن التحقيق. وقد احتاط في هذه الجهة أشدّ الاحتياط ؛ مخافة أنْ يلج أحدٌ إلى العراق أو يخرج منه مِنْ شيعة الإمام الحُسين. ويقول المؤرّخون :

__________________

(١) الدولة الاُمويّة في الشام / ٥٦.

٤١٥

إنّه جعل على جميع المفارق ورؤوس المنازل عيوناً مِنْ عسكره ، كما عيّن في البرّ نقاطاً ومسالح ترصد جميع الحركات ، وقد بعث الحُصين بن نمير رئيس شرطته إلى القادسية ومنها إلى خفان ثمّ إلى القطقطانية وجبل لعلع ، ورتّب في كلّ مكان جماعة مِن الفرسان والخيّالة ؛ لتفتيش الداخل والخارج.

وقد حفظت هذه الإجراءات تلك المناطق مِن الاشتراك بأيّ عمل ضدّ الدولة ، كما حفظت خطوط المواصلات بين الكوفة والشام ، وقد ألقت الشرطة القبض على مسهر الصيداوي رسول الإمام الحُسين إلى الكوفة وبعثته مخفوراً إلى ابن زياد ، وسنذكر حديثه في البحوث الآتية :

الاعتقالات الواسعة :

وقام ابن زياد بحملة اعتقالات واسعة النطاق في صفوف الشيعة. فاعتقل منهم فيما يقول بعض المؤرّخين اثني عشر ألفاً(١) ، وكان مِنْ بين المعتقلين سليمان بن صرد الخزاعي والمختار بن يوسف الثقفي وأربعمئة مِنْ الأعيان والوجوه(٢) .

وقد أثارث هذه الإجراءات عاصفة مِن الفزع والهلع لا في الكوفة فحسب وإنّما في جميع أنحاء العراق ، وقد ابتعد الكوفيون عن التدخّل في أيّة مشكلة سياسية ، ولمْ تبدِ منهم أيّة حركة مِنْ حركات المعارضة وأيقنوا أنْ لا قدرة لهم على الإطاحة بالعرش الاُموي ، وظلّوا قابعين تحت وطأة سياطه القاسية.

__________________

(١) المختار ، مرآة العصر الاُموي / ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء ١ / ١٠٩.

٤١٦

إخفاق الثورة

٤١٧
٤١٨

ويتساءل الكثيرون عن الأسباب التي أدّت إلى إخفاق مسلم في ثورته مع ما كان يتمتع به مِن القوى العسكرية ، في حين أنّ خصمه لمْ تكن عنده أيّة قوّة يستطيع أنْ يدافع بها عن نفسه ، فضلاً عن الهجوم والدخول في عمليات القتال ، ويعزو بعضهم السبب في ذلك إلى قلّة خبرة مسلم في الشؤون السياسية وعجزه مِن السيطرة على الموقف ؛ فترك المجال مفتوحاً لعدوه حتّى تغلّب عليه.

وهذا الرأي فيما يبدو سطحي ليست له أيّة صبغة مِن التحقيق ؛ وذلك لعدم ابتنائه على دراسة الأحداث بعمق وشمول ، ومِنْ أهمها فيما نحسب دراسة المجتمع الكوفي وما مُنِيَ به مِن التناقض في سلوكه الفردي والاجتماعي ، والوقوف على المخططات السياسية التي اعتمد عليها ابن زياد للتغلّب على الأحداث ، والنظر في الصلاحيات المُعطاة لمسلم بن عقيل مِنْ قبل الإمام ؛ فإنّ الإحاطة بهذه الاُمور توضّح لنا الأسباب في إخفاق الثورة ، وفيما يلي ذلك :

المجتمع الكوفي :

ولا بدّ لنا أنْ نتحدّث بمزيد مِن التحقيق عن طبيعة المجتمع الكوفي ؛ فإنّه المرآة الذي تنعكس عليه الأحداث الهائلة التي لعبت دورها الخطير في تاريخ الإسلام السياسي ، وأنْ نتبيّن العناصر التي سكنت الكوفة وننظر إلى طبيعة الصلات الاجتماعية فيما بينهما ، والحياة الاقتصادية التي كانت تعيش فيها ؛ فإنّ البحث عن ذلك يلقي الأضواء على فشل الثورة ، كما يلقي الأضواء على التذبذب والانحرافات الفكرية التي مُنِيَ بها هذا المجتمع ، والتي كان مِنْ نتائجها ارتكابه لأبشع جريمة في تاريخ الإنسانية وهي إقدامه على قتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإلى القراء ذلك :

٤١٩

الظواهر الاجتماعية :

أمّا الظواهر الاجتماعية التي تفرّد بها المجتمع الكوفي دون بقيّة الشعوب فهي :

التناقض في السلوك :

والظاهرة الغريبة في المجتمع الكوفي أنّه كان في تناقض صريح مع حياته الواقعية ؛ فهو يقول شيئاً ويفعل ضدّه ، ويؤمن بشيء ويفعل ما ينافيه ، والحال أنّه يجب أنْ تتطابق أعمال الإنسان مع ما يؤمن به.

وقد أدلى الفرزدق بهذا التناقض حينما سأله الإمام عن أهل الكوفة ، فقال له : خلّفت قلوب الناس معك ، وسيوفهم مشورة عليك. وكان الواجب يقضي أنْ تذب سيوفهم عمّا يؤمنون به ، وأنْ يناضلوا عمّا يعتقدون به ، ولا توجد مثل هذه الظاهرة في تاريخ أيّ شعب مِن الشعوب.

ومِنْ غرائب هذا التناقض أنّ المجتمع الكوفي قد تدخّل تدخّلاً إيجابياً في المجالات السياسية وهامَ في تياراتها ، فكان يهتف بسقوط الدولة الاُمويّة ، وقد كاتبوا الإمام الحُسين لينقذهم مِنْ جور الاُمويِّين وبطشهم ، وبعثوا الوفود إليه مع آلاف الرسائل التي تحثّه على القدوم لمصرهم.

ولمّا بعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل قابلوه بحماس بالغ ، وأظهروا له الدعم الكامل حتّى كاتب الإمام الحُسين بالقدوم إليهم ، ولكنْ لمّا دهمهم ابن مرجانة ونشر الرعب والفزع في بلادهم تخلّوا عن مسلم وأقفلوا عليهم بيوتهم ، وراحوا يقولون :

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470