حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام12%

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
تصنيف: الإمام الحسن عليه السلام
الصفحات: 470

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 307148 / تحميل: 6759
الحجم الحجم الحجم
حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام

حياة الامام الحسن بن علي عليهما السلام الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: دار البلاغة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ببدلها ، وأنّها تلفت على وجهٍ مضمون ، وأمّا إذا قامت بالوديعة بيّنة أو أقرّ بها الورثة ولم توجد ، لم يجب ضمانها ؛ لأنّ الوديعة أمانة ، والأصل أنّها تلفت على الأمانة ، فلم يجب ضمانها.

ومنهم مَنْ قال : صورة المسألة أن يثبت أنّ عنده وديعة فتُطلب فلا توجد بعينها ولكن يكون في تركته من جنسها ، فيحتمل أن تكون تلفت ، ويحتمل أن تكون قد اختلطت بماله ، فلـمّا احتمل الأمران أُجري مجرى الغرماء ، وحاصّهم ، فأمّا إذا لم يكن في تركته من جنسها فلا ضمان ؛ لأنّه لا يحتمل إلّا تلفها.

ومنهم مَنْ قال بظاهر قوله ، وأنّه يحاصّ الغرماء بكلّ حال ؛ لأنّ الوديعة يجب عليه ردّها ، إلّا أن يثبت سقوط الردّ بالتلف من غير تفريطٍ ، ولم يثبت ذلك ، ولأنّ الجهل بعينها كالجهل [ بها ](١) وذلك لا يُسقط عنه وجوب الردّ ، كذا هنا(٢) .

فروع :

أ - إذا تبرّم(٣) المستودع بالوديعة فسلّمها إلى القاضي ضمن‌ ، إلّا مع الحاجة.

ب - لا يلحق بالمرض علوّ السنّ والشيخوخة‌ ؛ لأصالة براءة الذمّة.

ج - لو أقرّ المريض بالوديعة ولا تهمة ثمّ مات في الحال ، فالأقرب هنا على قول مَنْ مَنَع من المحاصّة : المحاصّةُ هنا‌ ؛ إذ إقراره بأنّ عنده أو عليه وديعة يقتضي حصوله في الحال ، فإذا مات عقيبه لم يمكن فرض التلف قبل الإيصاء.

____________________

(١) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٨٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٧.

(٣) تبرّم : تضجّر. لسان العرب ١٢ : ٤٣ « برم ».

١٨١

البحث الثالث : في نقل الوديعة‌.

مسألة ٣١ : إذا أودعه في قريةٍ فنقلها المستودع إلى قريةٍ أُخرى‌ ، فإن اتّصلت القريتان وكانت المنقول إليها أحرز أو ساوت الأُولى في الأمن ولا خوف بينهما ، فالأقرب : عدم الضمان ، مع احتماله ؛ لأنّ الظاهر من الإيداع في قريةٍ عدم رضا المالك بنقلها عنها.

وإن لم تتّصل القريتان ، فالأقرب : الضمان ، سواء كان الطريق آمناً أو مخوفاً - وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) - لأنّ حدوث الخوف في الصحراء غير بعيدٍ.

وأظهرهما عندهم : عدم الضمان مع الأمن ، وثبوته لا معه ، كما لو لم تكن بينهما مسافة ، بل اتّصلت العمارتان(٢) .

وقال أكثر الشافعيّة : إن كان بين القريتين مسافة سُمّي المشي فيها سفراً ، ضمن بالسفر بها(٣) .

وبعضهم لا يقيّد ، بل يقول : إن كان بينهما مسافة ضمن. ولم يجعل مطلق المسافة مصحّحاً اسم السفر(٤) .

وقال آخَرون منهم : إن كانت المسافة بينهما دون مسافة التقصير وكانت آمنةً والقرية المنقول إليها أحرز ، لم يضمن(٥) :

وهو يقتضي أنّ السفر بالوديعة إنّما يوجب الضمان بشرط طول السفر. وهو بعيد عندهم ؛ فإنّ خطر السفر لا يتعلّق بالطول والقصر(٦) .

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

١٨٢

وإن كانت المسافة بحيث لا تصحّح اسم السفر ، فإن كان فيها خوفٌ ضمن ، وإلّا فوجهان:

أحدهما : إنّ الحكم كذلك ؛ لأنّ الخوف في الصحراء متوقّع.

وأظهرهما عندهم : إنّه كما لو لم تكن مسافة(١) .

وإن كانت القرية المنقول عنها أحرز من المنقول إليها ، ضمن المستودع بالنقل ، فإنّ المالك حيث أودعه فيها اعتمد حفظه فيها ، ولو كانت المنقول إليها أحرز أو تساويا ، فلا ضمان ، وبه قال الشافعي(٢) .

وقد بيّنّا احتمال الضمان.

مسألة ٣٢ : إذا قلنا بالتفصيل - وهو عدم الضمان مع كون القرية المنقول إليها أحرز - وجب معرفة سبب كونها أحرز ، وهو متعدّد :

منها : حصانتها في نفسها أو انضباط أهلها أو امتناع الأيدي الفاسدة عنها.

ومنها : كونها عامرةً لكثرة القطّان بها.

ومنها : أن يكون مسكنه ومسكن أقاربه وأصدقائه بها ، فلا يقدم عليها اللصوص ، ولا يقوى طمعهم فيها ؛ لأنّ قرية أهله وأقاربه أحرز في حقّه.

واعلم أنّا حيث منعنا النقل فذلك إذا لم تَدْعُ ضرورة إليه ، فإن اضطرّ إلى نقلها جاز ، كما جوّزنا له السفر بها مع الحاجة إليه.

مسألة ٣٣ : إذا أراد الانتقال ولا ضرورة إليه ، فالحكم فيه كما سبق فيما إذا أراد السفر.

والنقل من محلّة إلى محلّة أو من دارٍ إلى دارٍ كالنقل من قريةٍ إلى قريةٍ متّصلتي العمارة.

وأمّا إذا نقل من بيتٍ إلى بيتٍ في دارٍ واحدة أو خانٍ واحد ،

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٤.

١٨٣

لم يضمن وإن كان الأوّل أحرز إذا كان الثاني حرزاً أيضاً.

هذا إذا أطلق الإيداع.

والتحقيق أن نقول : إذا أودعه شيئاً ، ففيه ثلاثة أقسام.

الأوّل : أن يودعه ولا يعيّن له موضعاً لحفظها‌ ، فإنّ المودَع يحفظ الوديعة في حرز مثلها أيّ موضعٍ شاء ، فإن وضعها في حرزٍ ثمّ نقلها إلى حرز مثلها ، جاز ، سواء كان مثل الأوّل أو دونه - وبه قال الشافعي(١) - لأنّ المودَع ردّ ذلك إلى حفظه واجتهاده ، فكلّ موضعٍ هو حرز مثلها وهي محفوظة فيه فكان وضعها فيه داخلاً تحت مطلق الإذن بالوضع فيه حيث جعل ذلك منوطاً باختياره.

الثاني : إذا عيّن له موضعاً ، فقال : احفظها في هذا البيت‌ ، أو في هذه الدار ، واقتصر على ذلك ولم ينهه عن غيره ، فإن كان الموضع ملكاً لصاحب الوديعة ، لم يجز للمستودع نقلها عنه ، فإن نقلها ضمن ؛ لأنّه ليس بمستودعٍ في الحقيقة ، وإنّما هو وكيل في حفظها ، وليس له إخراجها من ملك صاحبها.

وكذا إن كانت في موضعٍ استأجره لها.

وإن كان الموضع ملكاً للمستودع ، فإن نقلها إلى ما دونه في الحرز أو وضعها فيه ابتداءً ، ضمن ؛ لأنّه خالف أمره في شي‌ءٍ مطلوب فيه مرغوب إليه ، فكان ضامناً ، كما لو وضعها في غير حرزٍ.

وإن كان الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه ، فلا ضمان عليه ؛ لأنّ تعيينه البيت إنّما أفاد تقدير الحرزيّة ، وليس الغرض عينه ، كما لو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة ، فإنّه يجوز أن يزرعها ما يساويها في الضرر أو يقصر ضرره عنها ؛ لأنّ الغرض بتعيينها تقدير المنفعة لا عينها ، كذا هنا ، وحمل التعيين‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٢٦.

١٨٤

على تقدير الحرزيّة دون التخصيص الذي لا غرض فيه ، وبه قال الشافعي(١) .

نعم ، لو كان التلف بسبب النقل ، كما إذا انهدم عليه البيت المنقول إليه ، فإنّه يضمن ؛ لأنّ التلف هنا جاء من المخالفة.

وكذا مكتري الدابّة للركوب إذا ربطها في الاصطبل فماتت ، لم يضمن ، وإن انهدم عليها ضمن.

وكذا لو سُرقت من البيت المنقول إليه أو غُصبت فيه ، على إشكالٍ.

الثالث : إذا عيّن له موضعاً ، فقال : احرزها في هذا البيت‌ ، أو هذه الدار ولا تخرجها منه ولا تنقلها عنه ، فأخرجها ، فإن كان لحاجةٍ بأن يخاف عليها في الموضع الذي عيّنه الحريق أو النهب أو اللّصّ فنقلها عنه إلى أحرزها ، لم يضمن ؛ لأنّ الضرورة سوّغت له النقل.

وإن نقلها لغير عذرٍ ، ضمن مطلقاً عندنا - وهو اختيار أبي إسحاق الشيرازي(٢) - سواء نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل أو كان مساوياً أو أحرز منه ؛ لأنّه خالف صريح الإذن لغير حاجةٍ فضمن ، كما لو نقلها إلى حرزٍ هو دون الأوّل وهو حرز مثلها.

وقال أبو سعيد الاصطخري : إن كان الحرز الثاني مثل الأوّل أو أحرز منه ، لم يضمن بالنقل إليه ؛ لأنه نقلها عنه إلى مثله ، فأشبه ما إذا عيّن له موضعاً فنقلها عنه إلى مثله من غير نهي(٣) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١١٩ ، البيان ٦ : ٤٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٢) راجع المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٦ - ٣٦٧ ، وحلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، والبيان ٦ : ٤٢٧.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، البيان ٦ : ٤٢٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

١٨٥

ثمّ تأوّل كلام الشافعي بأنّه أراد بذلك إذا كان الموضع الذي هي فيه ملكاً لصاحب الوديعة(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا نهاه عن نقلها عن دارٍ فنقلها إلى دارٍ أُخرى ضمن ، وإن نهاه عن نقلها عن بيتٍ فنقلها إلى بيتٍ آخَر في الدار لم يضمن ؛ لأنّ البيتين في دارٍ واحدة حرزٌ واحد ، والطريق إلى أحدهما طريق إلى الآخَر ، فأشبه ما لو نقلها من زاويةٍ إلى زاويةٍ(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يكون بيت في الدار يلي الطريق والآخَر لا يليه ، فالذي لا يليه أحرز.

والحقّ ما قلناه ؛ لأنّه خالف لفظ المودع فيما لا مصلحة له فيه ، فوجب أن يضمن ، كما لو نقلها إلى موضعٍ هو دونه في الحرز.

مسألة ٣٤ : قد بيّنّا أنّه إذا نهاه عن النقل عن الموضع الذي عيّنه ، لم يجز له نقلها عنه إلّا لضرورةٍ‌ ، كحريقٍ أو غرقٍ أو نهبٍ أو خوف اللّصّ وشبهه ، فإن حصلت إحدى هذه الأعذار نَقَلها ، ولا ضمان ، سواء نقلها إلى حرزٍ مثل الأوّل أو أدون منه إذا كان حرز مثلها إذا لم يجد أحرز منه.

فإن وجد أحرز منه واقتصر على الأدون ، احتُمل الضمان ؛ لأنّا قد بيّنّا أنّ التعيين لا يفيد الاختصاص ، بل تقدير الحرز ، فإذا تعذّر الشخص وجب الانتقال إلى المساوي أو الأحرز ، وعدمُه ضعيفاً ؛ لأنّ التعيين قد زال ، فساغ النقل للخوف ، فيتخيّر المستودع حينئذٍ ، ولو لم يعيّن له الحرز ابتداءً جاز له الوضع في الأدون ، فكذا إذا عيّنه.

____________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) تحفة الفقهاء ٣ : ١٧٣ ، بدائع الصنائع ٦ : ٢١٠ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٩ ، حلية العلماء ٥ : ١٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، المغني ٧ : ٢٨٥ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٨٧.

١٨٦

والأوّل أقوى.

ولو أمكن النقل عن المعيّن مع عروض إحدى هذه الحالات ، ضمن ؛ لأنّه مفرّط حينئذٍ في الحفظ ، إذ الظاهر أنّه قصد بالنهي عن النقل نوعاً من الاحتياط ، فإذا عرضت هذه الأحوال فالاحتياط النقل ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(١) .

ولو قال : لا تنقلها وإن حدثت ضرورة ، فحدثت ضرورة ، فإن لم ينقل لم يضمن ، كما لو قال : أتلف مالي ، فأتلفه ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر(٣) .

وإن نقل ، لم يضمن ؛ لأنّه قصد الحفظ والصيانة والإصلاح ، فكان محسناً ، فيندرج تحت عموم قوله تعالى :( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٤) وهو أصحّ وجهي الشافعيّة(٥) .

مسألة ٣٥ : لو نقلها المستودع عن الموضع المعيّن المنهيّ عن نقلها عنه‌ ، فادّعى المستودع الخوفَ من الحريق أو الغرق أو اللّصّ أو شبهه من الضرورات ، وأنكر المالك ، فإن عرف هناك ما يدّعيه المستودع ، كان القولُ قولَه مع اليمين ؛ لأنّه ادّعى الظاهر ، فصُدّق بيمينه ، وإلّا طُولب بالبيّنة ، فإن لم تكن هناك بيّنة ، صُدّق المالك بيمينه ؛ لأنّه منكر ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٦) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٢ و ٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٤) التوبة : ٩١.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١٠ - ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠١ - ٣٠٢.

١٨٧

ولهم وجهٌ آخَر : إنّ ظاهر الحال يغنيه عن اليمين(١) .

ولهم وجهٌ آخَر غريب فيما إذا لم ينهه عن النقل ، فنقل إلى ما دونه : إنّه لا يضمن(٢) .

وهذا كلّه فيما إذا كان البيت المعيّن أو الدار المعيّنة ملكاً للمستودع ، أمّا إذا كان ملكاً للمالك ، فليس للمستودع إخراجها عن ملكه بحالٍ ، إلّا أن تعرض ضرورة إلى ذلك.

البحث الرابع : في التقصير في دفع المهلكات‌.

مسألة ٣٦ : يجب على المستودع دفع مهلكات الوديعة وما يوجب نقص ماليّتها ؛ إذ الحفظ واجب ، ولا يتمّ إلّا بذلك.

فلو استودع ثياب صوفٍ ، وجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح بمجرى العادة ؛ لئلّا يفسدها الدود.

ولو لم يندفع الفساد إلّا بأن يلبس وتعبق(٣) بها رائحة الآدمي ، وجب على المستودع لُبْسها.

فإن لم يفعل ففسدت بترك اللُّبْس وتعريض الثوب للريح ، كان ضامناً ، سواء أمره المالك أو سكت عنه.

أمّا لو نهاه عن النشر وفِعْلِ ما يحتاج إليه الحفظ فامتنع من ذلك حتى فسدت ، فَعَل مكروهاً ، ولا ضمان عليه ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٤) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣١١.

(٣) راجع الهامش (١) من ص ١٥٥.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

١٨٨

ولهم وجهٌ آخَر : إنّ عليه الضمان(١) .

هذا إذا علم المستودع ذلك ، أمّا لو لم يعلم المستودع ذلك بأن أودعه صندوقاً مقفلاً لا يعلم ما فيه ، أو كيساً مشدوداً ولم يُعلمه المالك ، لم يضمن ؛ لعدم التفريط ، وانتفاء التقصير منه.

مسألة ٣٧ : إذا كانت الوديعة دابّةً أو آدميّاً ، وجب على المستودع القيامُ بحراستها ومراعاتها وعلفها وسقيها.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يأمره المالك بالعلف والسقي ، أو ينهاه عنهما ، أو يُطلق الإيداع.

فإن أمره بالعلف والسقي ، وجب عليه فعلهما ورعاية المأمور به.

فإن امتنع المستودع من ذلك حتى مضت مدّة تموت مثل الدابّة في مثل تلك المدّة ، نُظر إن ماتت ضمنها ، وإن لم تمت دخلت في ضمانه ، وإن نقصت ضمن النقصان.

وتختلف المدّة باختلاف الحيوان قوّةً وضعفاً.

فإن ماتت قبل مضيّ تلك المدّة ، لم يضمنها إن لم يكن بها جوع وعطش سابق ، وإن كان وهو عالمٌ ضمن ، وكذا لو كان جاهلاً.

وللشافعيّة في الجاهل وجهان كالوجهين فيما إذا حبس مَنْ به بعض الجوع وهو لا يعلم حتى مات(٢) .

وأظهرهما عندهم : عدم الضمان(٣) .

وعلى تقدير الضمان لهم وجهان : هل يضمن الجميع أو بالقسط؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٣ - ١٢٤ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

١٨٩

كما لو استأجر دابّةً لحمل قدرٍ فزاد عليه(١) .

وإن نهاه المالك عن العلف والسقي فتركهما ، كان عاصياً ؛ لما فيه من تضييع المال المنهيّ عنه شرعاً وهتكِ حرمة الروح ؛ لأنّ للحيوان حرمةً في نفسه يجب إحياؤه لحقّ الله تعالى.

وفي الضمان إشكال أقربه : العدم - وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) - كما لو قال : اقتل دابّتي ، فقتلها ، أو أمره برمي قماشه في البحر ، فرماه ، أو أمره بقتل عبده ، فقتله ، فإنّه يأثم ، ولا ضمان عليه ، كذا هنا.

وقال بعضهم : يجب عليه الضمان ؛ لحصول التعدّي في الوديعة ، وهو مقتضٍ للضمان ، فأشبه ما لو لم ينهه(٣) .

ولو علفها وسقاها مع نهيه عنهما ، كان الحكم كما تقدّم في القسم الأوّل.

وقال بعض الشافعيّة : الخلاف هنا مخرَّجٌ ممّا إذا قال : اقتلني ، فقتله هل تجب الدية؟(٤) .

ولم يرتضه باقي الشافعيّة ؛ لأنّا إذا أوجبنا الدية أوجبناها للوارث ، ولم يوجد منه إذن في الإتلاف ، وهنا بخلافه(٥) .

وإن أطلق الإيداع ، فلا يأمره بالعلف والسقي ولا ينهاه عنهما ، فيجب‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢٤ ، البيان ٦ : ٤٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٣.

(٣) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، البيان ٦ : ٤٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٤ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٣.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢.

١٩٠

على المستودع العلف والسقي ؛ لأنّه التزم بحفظها ، ولأنّه ممنوع من إتلافها جوعاً ، فإذا التزم حفظها تضمّن ذلك علفها وسقيها ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه العلف والسقي ؛ لأنّه استحفظه إيّاها ولم يأمره بعلفها(٢) .

وقد بيّنّا الأمر الضمني.

مسألة ٣٨ : لا خلاف في أنّه لا يجب على المستودع الإنفاق على الدابّة والآدمي من ماله‌ ؛ لأصالة البراءة ، والتضرّر المنفي شرعاً ، لكن إن دفع إليه المالك النفقةَ فذاك ، وإن لم يدفع إليه ، فإن كان المالك قد أمره بعلفها وسقيها رجع به عليه ؛ لأنّه أمره بإتلاف ماله فيما عاد نفعه إليه ، فكان كما لو ضمن عنه مالاً بأمره وأدّاه عنه.

وإن أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولا نهاه عنهما ، فإن كان المالك حاضراً أو وكيله طالَبه بالإنفاق عليها أو ردّها عليه ، أو أذن له المالك في الإنفاق فينفق ، ويرجع به إن لم يتطوّع بذلك.

وإن لم يكن المالك حاضراً ولا وكيله ، رفع الأمر إلى الحاكم ، فإن وجد الحاكم لصاحبها مالاً أنفق عليها منه ، وإن لم يجد مالاً رأى الحاكم المصلحة للمالك إمّا في بيعها ، أو بيع بعضها وإنفاقه عليها ، أو إجارتها ، أو الاستدانة على صاحبها من بيت المال أو من المستودع أو من غيره ، فيفعل ما هو الأصلح.

فإن استدان عليه من بيت المال أو من غير المستودع ، دَفَعه إلى‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٨ ، حلية العلماء ٥ : ١٨١ ، البيان ٦ : ٤٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ ، المغني ٧ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٠.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦٦ ، حلية العلماء ٥ : ١٨١ ، البيان ٦ : ٤٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، المغني ٧ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٧ : ٢٩٠.

١٩١

المستودع لينفقه عليها إن رأى ذلك مصلحةً.

وإن استدان من المستودع ، فالأقرب : إنّ الحاكم يتخيّر بين أن يأذن للمستودع في الإنفاق عليها ، وبين أن يأذن لغيره من الأُمناء يقبض من المستودع وينفق ؛ لأنّ المستودع أمين عليها ، فجاز للحاكم الإخلاد [ إليه ](١) في إنفاق ما يستدينه منه عليها ، كما أنّ للمالك أمره بالإنفاق ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني لهم : إنّه ليس للحاكم أن يأذن للمستودع في الإنفاق ممّا يستدينه منه على المالك ، بل يقيم الحاكم أميناً يقبض منه وينفق ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون أميناً في حقّ نفسه(٢) .

والوجه : ما تقدّم.

وعلى ما اخترناه من جواز إخلاد الحاكم إلى المستودع فالأقرب : إنّه لا يقدّرها ، بل يكل الأمر إلى اجتهاد المستودع ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني لهم : إنّ الحاكم يقدّرها ولا يكلها إلى المستودع(٣) .

[ فإن اختلفا في قدر النفقة ](٤) فالقول قوله فيما أنفق إذا ادّعى الإنفاق بالمعروف ، ولو ادّعى أكثر لم يُقبل قوله إلّا بالبيّنة.

وكذا لو قدّر له الحاكم النفقة ، فادّعى أنّه أنفق أكثر.

ولو اختلف المستودع والمالك في قدر المدّة التي أنفق فيها ، قُدّم قول صاحبها ؛ لأنّ الأصل عدم ذلك ، وبراءة ذمّته.

ولو اختلفا في قدر النفقة ، قُدّم قول المستودع ؛ لأنّه أمين فيها.

____________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) حلية العلماء ٥ : ١٨٢.

(٣) حلية العلماء ٥ : ١٨٢ ، البيان ٦ : ٤٤٠.

(٤) ما بين المعقوفين أضفناه من المغني ٧ : ٢٩٣ ، والشرح الكبير ٧ : ٢٩٢.

١٩٢

ولو أنفق عليها من غير إذن الحاكم ، فإن قدر على إذن الحاكم ولم يُحصّله ، لم يكن له الرجوع ؛ لأنّه متطوّع.

وإن لم يقدر على الحاكم فأنفق ، فليُشهد على الإنفاق والرجوع ، فإن ترك الإشهاد مع قدرته عليه ، فالأقرب : إنّه متبرّع ، وإن تعذّر عليه الإشهاد ، فالأقرب : إنّه يرجع مع قصده الرجوع ، ويقدّم قوله في ذلك ؛ لأنّه أعرف بقصده.

وإذا قلنا : ينفق ويرجع ، صار كالحاكم في بيعها أو بيع بعضها أو إجارتها أو الاقتراض على مالكها.

ولو ترك المستودع الإنفاقَ مع إطلاق الإيداع ولم يرفعه إلى الحاكم ولا أنفق عليها حتى تلفت ، ضمن إن كانت تلفت من ترك ذلك ؛ لأنّه تعدّى بتركه.

وإن تلفت في زمانٍ لا تتلف في مثله ؛ لعدم العلف ، لم يضمن ؛ لأنّها لم تتلف بذلك.

ولو نهاه عن السقي والعلف ، لم يضمن بترك ذلك على ما تقدّم(١) من الخلاف.

وهل يرجع على المالك؟ إشكال ينشأ : من تبرّعه بالإنفاق ، وعدمه.

مسألة ٣٩ : إذا احتاج المستودع إلى إخراج الدابّة لعلفها أو سقيها ، جاز له ذلك ؛ لأنّ الحفظ يتوقّف عليه ، ولا ضمان.

ولا فرق بين أن يكون الطريق آمناً أو مخوفاً إذا خاف التلف بترك السقي واضطرّ إلى إخراجها.

ولو أخرجها من غير ضرورةٍ للعلف والسقي ، فإن كان الطريق آمناً لا خوف فيه وأمكنه سقيها في موضعها ، فالأقرب : عدم الضمان ؛ لاطّراد‌

____________________

(١) في ص ١٨٩.

١٩٣

العادة بذلك ، وهو أظهر قولَي الشافعيّة(١) .

ولو علفها وسقاها في داره أو اصطبله حيث يعلف دوابّه ويسقيها ، فقد بالغ في الحفظ.

وإن أخرجها من موضعها وكان يفعل ذلك في دوابّ نفسه لضيق الموضع أو لغيره ، فلا ضمان عليه.

وإن كان يسقي دوابّه فيه ، قال الشافعي : ضمن(٢) .

واختلف أصحابه ، فأطلق بعضُهم وجوبَ الضمان ؛ لأنّه أخرج الوديعة عن الحرز لغير ضرورةٍ(٣) .

وقيّده بعضهم بما إذا كان ذلك الموضع أحرز ، فأمّا إذا كان الموضع المُخْرج إليه أحرز أو مساوياً ، فلا ضمان(٤) .

وقال آخَرون : إنّه محمول على ما إذا كان في الإخراج خوف ، فإن لم يكن فلا ضمان(٥) .

مسألة ٤٠ : إذا تولّى المستودع السقي والعلف بنفسه أو أمر به صاحبه أو غلامه وكان حاضراً لم تزل يده ، فذاك.

وإن بعثها على يده للسقي أو أمره بعلفها أو أخرج الدابّة من يده ، فإن لم يكن صاحبه أو غلامه أميناً ضمن ، وإن كان أميناً فالأقرب : عدم الضمان ؛ لقضاء العادة بالاستنابة في ذلك ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٦) .

والوجهان عند بعضهم مخصوصان بمَنْ يتولّى ذلك بنفسه ، فأمّا في‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ - ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٥ - ٢٩٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

١٩٤

حقّ غيره فلا ضمان قطعاً(١) .

فروع :

أ - لو نهاه عن العلف لعلّةٍ تقتضي النهي - كالقولنج وشبهه - فعلفها قبل زوال العلّة فماتت ، ضمن ؛ لأنّه مفرّط.

ب - العبد المودع والأمة كالدابّة‌ في جميع ما تقدّم.

ج - لو أودعه نخلاً ، فالأقرب : إنّ سقيه واجب كما قلنا في الدابّة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة. وفي الثاني : إنّه لا يضمن بترك السقي إذا لم يأمره بالسقي(٢) .

البحث الخامس : في المخالفة في كيفيّة الحفظ‌.

مسألة ٤١ : يجب على المستودع اعتماد ما أمره المالك في كيفيّة الحفظ‌ ، فإذا أمره بالحفظ على وجهٍ مخصوص فعدل عنه إلى وجهٍ آخَر وتلفت الوديعة ، فإن كان التلف بسبب الجهة المعدول إليها ضمن وكانت المخالفة تقصيراً ؛ لأنّه لو راعى الوجه المأمور به لم يتحقّق التلف ، ولو حصل التلف بسببٍ آخَر فلا ضمان.

هذا إذا لم يتحقّق المستودع التلف لو امتثل الأمر ، أمّا إذا تحقّق التلف بالامتثال فخالف للاحتياط في الحفظ فاتّفق التلف فلا ضمان ، لأنّه محسن فلا سبيل عليه ؛ للآية(٣) .

مسألة ٤٢ : إذا أودعه مالاً في صندوقٍ وقال له : لا ترقد عليه‌ ، فخالف ورقد عليه ، فإن تلفت الوديعة بالرقود بأن انكسر رأس الصندوق

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٦.

(٣) التوبة : ٩١.

١٩٥

بثقله وتلف ما فيه ، ضمن ؛ لأنّه خالف ، وتلفت الوديعة بالمخالفة ، فكان ضامناً.

وإن تلفت بغير الرقود ، فإن كان في بيتٍ محرز فأخذه اللّصّ ، أو كان في برّيّةٍ فأخذه اللّصّ من رأس الصندوق ، فالأقرب : عدم الضمان - وبه قال الشافعي(١) - لأنّه زاده احتياطاً وحفظاً ، والتلف ما جاء منه.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر : إنّه يضمن - وبه قال مالك - لأنّ رقوده على الصندوق تنبيه عليه وتعظيم لما فيه ، وموهم للسارق نفاسة ما فيه فيقصده(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه زاده احتياطاً وخيراً(٣) ، كما لو قال له : ضَع المال في صحن الدار ، فوضعه في البيت ، لم يضمن ، ولا يقال : إنّ هذا يتضمّن التنبيه عليه ، كذا هنا.

وكذا الخلاف فيما لو قال : لا تقفل عليها ، فقفل ، أو قال : لا تقفل عليها إلّا قفلاً واحداً ، فقفل قفلين ، أو قال : لا تغلق باب البيت ، فأغلق(٤) .

وإن كان في البرّيّة فأخذه اللّصّ من جنب الصندوق ، احتُمل عدمُ الضمان ؛ لأنّه إذا كان فوق الصندوق اطّلع على الجوانب كلّها ، فيكون أبلغ في الحفظ ، وثبوتُه ؛ لأنّه إذا رقد عليه أخلى جنب الصندوق ، وربما لا يتمكّن السارق من الأخذ لو كان [ بجنبه ](٥) .

____________________

(١ و ٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٣) في الطبعة الحجريّة : « حرزاً » بدل « خيراً ».

(٤) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « تحته ». والظاهر ما أثبتناه.

١٩٦

وهذا إنّما يظهر إذا فرض الأخذ من الجانب الذي لو لم يرقد عليه لكان يرقد هناك ، وذلك بأن كان يرقد أمام الصندوق فتركه فانتهز السارق الفرصة ، أو قال المالك : ارقد قُدّامه ، فرقد فوقه ، فأخذ السارق المالَ من قُدّامه.

وللشافعيّة وجهان(١) كالاحتمالين.

والأوّل أقوى ؛ لأنّه زاده خيراً(٢) .

وكذا لو قال : ضَعْها في هذا البيت ولا تنقلها ، فخاف عليها فنَقَلها ، فلا ضمان ؛ لأنّه زاده خيراً(٣) .

ولو أمره بدفن الوديعة في بيته وقال : لا تبن عليه ، فبنى ، فهو كما لو قال : لا ترقد عليه ، فرقد.

تذنيب : لو نقل المستودع الوديعةَ عند الخوف إلى مكانٍ‌ غير ما عيّنه المالك بأُجرةٍ ، لم يرجع بها على المالك ؛ لأنّه متطوّع متبرّع.

مسألة ٤٣ : إذا استودع دراهم أو دنانير أو شبهها وأمره المالك بأن يربطها في كُمّه فأمسكها في يده ، ضمن‌ ؛ لأنّه خالف المالكَ في تعيين الحرز ، ولأنّ الكُمّ أحرز ؛ لأنّ الإنسان في معرض السهو والغفلة والنسيان فيرسل يده فتسقط الوديعة ببسط اليد والإرسال ، فإذا خالف المستودع في الإحراز عن الأعلى إلى الأدنى لا لضرورةٍ كان ضامناً.

واختلفت الرواية عن الشافعي ، فروى المزني أنّه لا يضمن(٤) ، ونقل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٧ - ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

(٢ و ٣) في الطبعة الحجريّة : « حرزاً » بدل « خيراً ».

(٤) مختصر المزني : ١٤٧ ، الحاوي الكبير ٨ : ٣٧٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ١٧٠ ، البيان ٦ : ٤٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩.

١٩٧

الربيع عنه الضمان(١) .

واختلف أصحابه على طريقين :

منهم مَنْ قال : ليست على قولين ، وإنّما هي على اختلاف حالين ، وفيها طريقان :

أحدهما : إنّه إن لم يربطها في الكُمّ واقتصر على الإمساك باليد ، ضمن ، كما نقله الربيع ، ورواية المزني محمولة على ما إذا أمسك باليد بعد الربط في الكُمّ.

وأصحّهما عندهم : إنّ رواية المزني محمولة على ما إذا تلفت بأخذ غاصبٍ ، فلا يضمن ؛ لأنّ اليد أحرز بالإضافة ، وإن سقطت بنومٍ أو نسيانٍ ضمن ؛ لأنّها لو كانت مربوطةً في الكُمّ ما ضاعت بهذا السبب ، فالتلف حصل بسبب المخالفة(٢) .

ومنهم مَنْ قال : إنّ المسألة على قولين :

أحدهما : الضمان ؛ لأنّ ما في اليد يضيع بالنسيان وبسط اليد ، وما في الكُمّ لا يضيع بهما.

وهذا القول يقتضي الضمان بالوضع في اليد مطلقاً ؛ لأنّها ليست حرزاً على هذا القول.

والثاني : عدمه ؛ لأنّ اليد أحرز من الكُمّ ؛ لأنّ الطرّار يأخذ من الكُمّ ، ولا يتمكّن من الأخذ من اليد(٣) .

فروع :

أ - لو أمره بالربط في كُمّه فامتثل ، لم يحتج في ذلك إلى الإمساك‌

____________________

(١) الأُمّ ٤ : ١٣٧ ، مضافاً إلى المصادر المزبورة في الهامش السابق ما عدا مختصر المزني.

(٢) البيان ٦ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨ ، روضة الطالبين ٥ : ٢٩٩ - ٣٠٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، البيان ٦ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٨.

١٩٨

باليد ؛ لأنّه جعلها في حرزٍ أمره المالك به ، فلا يفتقر إلى الزيادة.

ب - لو أمره بربطها في كُمّه فجعلها في جيبه ، لم يضمن‌ ؛ لأنّ الجيب أحرز ، فإنّه ربما نسي فسقط الشي‌ء من كُمّه ، إلّا إذا كان واسعاً غير مزرور ، وهو أحد قولَي الشافعيّة(١) .

ولهم وجهٌ ضعيف : إنّه يضمن(٢) .

ولو انعكس فقال : ضَعْها في جيبك ، فربطها في كُمّه ، ضمن لا محالة.

ج - إذا ربطها في كُمّه بأمر المالك ، فإن جعل الخيط الرابط خارجَ الكُمّ فأخذها الطرّار ضمن‌ ؛ لأنّ فيه إظهارَ الوديعة ، وهو يتضمّن تنبيه الطرّار وإغراءه ، ولأنّ قطعه وحلّه على الطرّار أسهل ، وإن ضاع بالاسترسال وانحلال العقدة لم يضمن إذا احتاط في الربط وقوّة الشدّ ؛ لأنّها إذا انحلّت بقيت الدراهم في الكُمّ.

وإن جعل الخيط الرابط داخلَ الكُمّ ، انعكس الحكم ، فإن أخذه الطرّار لم يضمن ، وإن سقط بالاسترسال ضمن ؛ لأنّ العقد إذا انحلّ تناثرت الدراهم.

واستشكل بعضُ الشافعيّة هذا التفصيلَ ؛ لأنّ المأمور به مطلق الربط ، فإذا أتى به وجب أن لا ينظر إلى جهات التلف ، بخلاف ما إذا عدل عن المأمور به إلى غيره فأفضى إلى التلف ، وقضيّة هذا أن يقال : إذا قال : احفظ الوديعة في هذا البيت ، فوضعها في زاويةٍ منه فانهدمت عليها ، يضمن ؛ لأنّها لو كانت في زاويةٍ أُخرى لسلمت ، ومعلومٌ أنّه بعيد(٣) .

مسألة ٤٤ : إذا أودعه دراهم في طريقٍ أو سوقٍ ولم يقل له : اربطها‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، البيان ٦ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

١٩٩

في كُمّك ، أو : أمسكها في يدك ، فربطها في كُمّه وأمسكها بيده ، فقد بالغ في الحفظ.

وكذا لو جعلها في جيبه وهو ضيّق أو واسع مزرور ، ولو كان واسعاً غير مزرورٍ ضمن ؛ لسهولة أخذها باليد.

ولو أمسكها بيده ولم يربطها في كُمّه ، لم يضمن إن قلنا : اليد حرز ، وإلّا ضمن.

وقال الشافعي : إن تلفت بأخذ غاصبٍ لم يضمن ، وإن تلفت بغفلةٍ أو نومٍ أو بسط يدٍ ضمن(١) .

ولو ربطها ولم يمسكها بيده ، فالحكم النظر إلى كيفيّة الربط وجهة التلف عندهم(٢) .

ولو وضعها في الكُمّ ولم يربط فسقطت ، ضمن.

وفصّل بعضُ الشافعيّة فقال : إن كانت خفيفةً لا يشعر بها ضمن ؛ لتفريطه في الإحراز ، وإن كانت ثقيلةً يشعر بها لم يضمن(٣) .

وقياس هذا يلزم طرده فيما سبق من صُور الاسترسال كلّها.

ولو وضعها في كور عمامته من غير شدٍّ ، ضمن.

مسألة ٤٥ : إذا أودعه شيئاً وهو في السوق أو الطريق أو غيره ، وقال : احفظ هذه الوديعة في بيتك‌ ، وجب على المستودع المبادرة إلى بيته والإحراز فيه ، فإن أخّر من غير عذرٍ ضمن ، ولو كان لعذرٍ فلا ضمان.

وكذا لو بادر إلى المضيّ إلى بيته فتلفت ، لم يضمن.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، التهذيب - للبغوي - ٥ : ١٢١ ، البيان ٦ : ٤٢٩ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٣٠٩ ، روضة الطالبين ٥ : ٣٠٠.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

«ما لنا والدخول بين السلاطين».

إنّ حياتهم العملية لمْ تكن صدى لعقيدتهم التي آمنوا بها ، فقد كانوا يمنّون قادتهم بالوقوف معهم ثمّ يتخلّون عنهم في اللحظات الحاسمة.

ومِنْ مظاهر ذلك التناقض : أنّهم بعدما أرغموا الإمام الحسن (عليه السّلام) على الصلح مع معاوية وغادر مصرهم جعلوا ينوحون ويبكون على ما فرّطوه تجاهه ، ولمّا قتلوا الإمام الحُسين (عليه السّلام) ودخلت سبايا أهل البيت (عليهم السّلام) مدينتهم أخذوا يعجّون بالنياحة والبكاء ، فاستغرب الإمام زين العابدين (عليه السّلام) ذلك منهم ، وراح يقول : «إنّ هؤلاء يبكون وينوحون مِنْ أجلنا! فمَنْ قتلنا؟!».

إنّ فقدان التوازن في حياة ذلك المجتمع جرّ لهم الويلات والخطوب وألقاهم في شرّ عظيم.

الغدر والتذبذب :

والظاهرة الاُخرى في المجتمع الكوفي الغدر ، فقد كان مِنْ خصائصهم التي اشتهروا بها ، وقد ضُرِبَ بهم المثل فقيل : أغدر مِنْ كوفيّ(١) ، كما ضُرِبَ المثل بعدم وفائهم فقيل : الكوفي لا يوفي(٢) .

وقد وصفهم أمير المؤمنين (عليهم السّلام) بقوله : «اُسود روّاغة ، وثعالب روّاغة». وقال فيهم : «إنّهم اُناس مجتمعة أبدانهم ، مختلفة أهواؤهم ، وإنّ مَنْ فاز بهم فاز بالسهم الأخيب». وإنّه أصبح لا يطمع في نصرتهم

__________________

(١) الفرق بين الفِرق ـ لعبد القاهر البغدادي / ٢٦.

(٢) آثار البلاد ـ لزكريا القزويني / ١٦٧.

٤٢١

ولا يصدق قولهم(١) .

لقد كان الجانب العملي في حياتهم هو التقلّب والتردّد والتخاذل ، وقد غرّوا زيد بن علي الثائر العظيم فقالوا له : إنّ معك مئة ألف رجل مِنْ أهل الكوفة يضربون دونّك بأسيافهم(٢) ، وقد أحصى ديوانه منهم خمسة عشر ألفاً كانوا قد بايعوه على النصرة(٣) ، ثمّ لمّا أعلن الثورة هبط عددهم إلى مئتي وثمانية عشر رجلاً(٤) .

وقد نصح داود بن علي زيداً بأنْ لا ينخدع بأهل الكوفة ، فقال له : يابن عمّ ، إنّ هؤلاء يغرّونك مِنْ نفسك ؛ أليس قد خذلوا مَنْ كان أعزّ عليهم منك جدّك علي بن أبي طالب حتّى قُتِلَ؟ والحسن مِنْ بعده بايعوه ثمّ وثبوا عليه فانتزعوا رداءه مِنْ عنقه ، وانتهبوا فسطاطه وجرحوه؟ أو ليس قد أخرجوا جدّك الحُسين وحلفوا له بأوكد الأيمان ثمّ خذلوه وأسلموه ، ثمّ لمْ يرضوا بذلك حتّى قتلوه(٥) ؟

وكانوا ينكثون البيعة بعد البيعة ، وقد ألمع إلى هذه الظاهرة أعشى همدان الذي كان شاعر ثورة محمّد بن الأشعث الذي ثار على الحجّاج ، يقول داعياً على أهل الكوفة :

أبى اللهُ إلاّ أنْ يتمّمَ نورَهُ

ويُطفئَ نورَ الفاسقين فيخمدا

ويُنزل ذلاً بالعراقِ وأهلهِ

لما نقضوا العهد الوثيق المؤكّدا

وما أحدثوا مِنْ بدعةٍ وعظيمةٍ

مِن القول لمْ تصعد إلى الله مصعدا

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ / ٢٣٨.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ٣ / ١٦٧٧.

(٣) الطبري ٢ / ٣ / ١٦٨٥.

(٤) (٥) الطبري ٢ / ٣ / ١٦٧٩.

٤٢٢

وما نكثوا مِن بيعةٍ بعد بيعةٍ

إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا(١)

وقد عرفوا بهذا السمت عند جميع الباحثين ، ويرى (فلهوزن) إنّهم متردّدون متقلّبون ، وإنّهم لمْ يألفوا النظام والطاعة ، وإنّ الإخلاص السياسي والعسكري لمْ يكنْ معروفاً لهم على الإطلاق ، وأكّد ذلك الباحث (وزتر شنين) يقول : إنّ مِنْ صفاتهم المميّزة البارزة الهوائية والتقلّب ، ونقص الثقة بأنفسهم(٢) .

ولمْ يكنْ هذا التذبذب في حياتهم مقتصراً على العامّة ، وإنّما كان شائعاً حتّى عند رجال الفكر والأدب ؛ فسراقة الشاعر المعروف وقف في وجه المختار ، واشترك في قتاله يوم جبّانة السبيع ، فلمّا انتصر المختار وقع سراقة أسيراً بين يدي أصحابه فزُجّ به في السجن ، فأخذ سراقة يستعطفه وينظم القصيد في مدحه ، ويذكر مبادئ ثورته ويبالغ في تمجيده ، فكان ممّا قاله فيه :

نُصرتَ على عدوِّك كلّ يومٍ

بكلّ كتيبةٍ تنعى حُسينا

كنصرِ محمّد في يوم بدرٍ

ويوم الشِّعبِ إذ لاقى حُنينا

فأسجح(٣) إذ ملكت فلو ملكنا

لجرنا في الحكومةِ واعتدينا

تقبّل توبةً منّي فإنّي

سأشكرُ إنْ جعلتَ النقد دينا

ولمّا عفا عنه المختار خرج مِن الكوفة ، فلمْ يبعد عنها قليلاً حتّى أخذ يهجو المختار ويحرّض عليه. وقد قال في هجائه :

ألا أبلغ أبا إسحاقَ أنّي

رأيتُ البلقَ دهماً مصمتاتِ

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ١١١٣.

(٢) السيادة العربية / ٧٤.

(٣) السجح : حسن العفو.

٤٢٣

كفرتُ بوحيكُمْ وجعلتُ نذراً

عليّ قتالكمْ حتّى المماتِ

أرى عينيّ ما لمْ تُبصراهُ

كلانا عالمٌ بالترّهاتِ

إذا قالوا أقولُ لهم كذبتمْ

وإنْ خرجوا لبستُ لهم أداتي(١)

لقد مضى يصبّ ثورته وسخريته على المختار وأصحابه في نفس الوزن الذي نظم فيه قصيدته السابقة. ومِن الطبيعي إنّ هذا التناقض في حياتهم كان ناجماً مِن الاضطراب النفسي ، وعدم التوازن في السلوك.

ومِن غرائب ذلك التناقض أنّ بعضهم كان يحتاط في أبسط الاُمور ولا يتحرّج مِن اقتراف أعظم الموبقات! فقد جاء رجل مِنْ أهل الكوفة إلى عبد الله بن عمر يستفتيه في دم البعوض يكون على الثوب أطاهر أم نجس ، فقال له ابن عمر : مِنْ أين أنت؟

ـ مِنْ أهل العراق.

فبُهر ابن عمر وراح يقول : انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! وقد سمعته يقول فيه وفي أخيه : «هما ريحانتاي مِن الدنيا»(٢) !

ويعزو بعضهم السبب في هذا الاضطراب إلى الظروف السياسية القاسية التي مرّت عليهم ؛ فإنّ الحكم الاُموي كان قد عاملهم بمنتهى القسوة والشدّة ، فرماهم بأقسى الولاة وأشدّهم عنفاً ، أمثال المغيرة بن شعبة وزياد بن سُميّة ؛ ممّا جعل الحياة السياسية ضيّقة ومتحرّجة ، ممّا نجم عنه هذا التناقض في السلوك.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ / ٢٣٤ ، الأخبار الطوال / ٢٦٤.

(٢) الصراط السوي في مناقب آل النّبي / ٩٤ مِنْ مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين.

٤٢٤

التمرّد على الولاة :

والطابع الخاص الذي عُرِفَ به المجتمع الكوفي التمرّد على الولاة والتبرّي منهم ، فلا يكاد يتولّى عليهم والٍ وحاكمٍ حتّى أعلنوا الطعن عليه ، فقد طعنوا في سعد بن أبي وقاص مؤسس مدينتهم واتّهموه بأنّه لا يحسن الصلاة(١) فعزله عمر ولّى مكانه الصحابي الجليل عمّار بن ياسر ، ولمْ يلبثوا أنْ شكوه إلى عمر فعزله وولّى مكانه أبا موسى الأشعري ، ولمْ تمضِ أيّام مِنْ ولايته حتّى طعنوا فيه ، وقالوا : لا حاجة لنا في أبي موسى(٢) .

وضاق عمر بهم ذرعاً وبدا عليه الضجر ، فسأله المغيرة عن شأنه ، فقاله له : ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلاّ مِنْ عظيم فهل نابك مِنْ نائب؟ فانبرى عمر يشكو إليه الألم الذي داخله مِنْ أهل الكوفة قائلاً : وأيّ نائب أعظم مِنْ مئة ألف لا يرضون عن أمير ، ولا يرضى عنهم أمير(٣) .

وتحدّث عمر عنهم فقال : مَنْ عذيري مِنْ أهل الكوفة ؛ إنْ استعملت عليهم القوي فجروه ، وإنْ ولّيت عليهم الضعيف حقرّوه(٤) . لقد جُبلوا على التمرّد فهم لا يُطيقون الهدوء والاستقرار.

ويرى (ديمومبين) إنّ هذه الظاهرة اعتادها الكوفيون مِنْ أيّام الفرس الذين دأبوا

__________________

(١) فتوح البلدان / ٢٨٧.

(٢) الطبري ، وجاء فيه أنّهم اتّهموه بأنّه يتاجر في أقواتهم.

(٣) فتوح البلدان / ٢٧٩.

(٤) مختصر كتاب البلدان / ١٨٤ لابن الفقيه.

٤٢٥

على تغيير حكّامهم دوماً(١) ، ويذهب (فان فلوتن) إلى أنّ العرب المستقرّين بالكوفة كانوا قد تعوّدوا على حياة الصحراء بما فيها مِنْ ضغن وشحناء ، وحبّ الانتقام والتخريب والأخذ بالثأر ؛ فلذا تعوّدوا على التمرّد وعدم الطاعة للنظام(٢) .

الانهزاميّة :

والظاهرة الغريبة التي عُرِفَ بها المجتمع الكوفي هي الانهزامية وعدم الصمود أمام الأحداث ، فإذا جدّ الجد ولّوا منهزمين على أعقابهم ، فقد أجمعوا في حماس على مبايعة مسلم ونصرته ، ولمّا أعلن الثورة على ابن مرجانة انفضّوا مِنْ حوله حتّى لمْ يبقَ معه إنسان يدلّه على الطريق ، وقد وقفوا مثل هذا الموقف مِنْ زيد بن علي ، فقد تركوه وحده يصارع جيوش الاُمويِّين ، وراح يقول : فعلوها حُسينية.

وبايعوا عبد الله بن معاوية ، فقالوا له : ادعُ إلى نفسك فبنو هاشم أوّلى بالأمر مِنْ بني مروان(٣) ، وأخرجوه حيث كان مقيماً وأدخلوه القصر فبايعوه ، ولمّا زحف لقتاله والي الاُمويِّين عبد الله بن عمر فرّوا منهزمين ، ونظر عبد الله بن معاوية فإذا الأرض بيضاء مِنْ أصحابه فقد غدر به قائد قواته ؛ لأنّه كان على اتفاق مع والي الاُمويِّين فانهزم وانهزم معه الجيش(٤) ، وكان عيسى بن زيد يقول فيهم : لا أعرف موضع ثقة يفي ببيعته ويثبت عند اللقاء(٥) .

__________________

(١) النظم الإسلاميّة / ٢٦.

(٢) السيادة العربية / ١١.

(٣) (٤) تاريخ الطبري ٢ / ٣ / ١١٨٨٠.

(٥) مقاتل الطالبيِّين / ٤١٨.

٤٢٦

مساوئ الأخلاق :

واتّصفت الأكثرية الساحقة مِنْ أهل الكوفة بمساوئ الأخلاق. يقول فيهم عبد الله بن الحسن إنّهم : نفج العلانية ، خور السريرة ، هوج الردّة ، جزع في اللقاء ، تقدمهم ألسنتهم ولا تشايعهم ، وإن حوريتم خرتم ، وإنْ اجتمع الناس على إمام طعنتم ، وإنْ جئتم إلى مشاقّة نكصتم(١) .

ووصفهم المختار لعبد الله بن الزّبير حينما سأله عنهم ، فقال : لسلطانهم في العلانية أولياء وفي السرّ أعداء. وعلّق ابن الزّبير على قول المختار فقال : هذه صفة عبيد السوء ، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم ، فإذا غابوا عنهم شتموهم(٢) .

وهجاهم أعشى همدان بقوله :

وجبناً حشاه ربُّهمْ في قلوبهمْ

فما يقربونَ الناسَ إلاّ تهدّدا

فلا صدقَ في قولٍ ولا صبرَ عندهمْ

ولكنّ فخراً فيهم وتزيّدا(٣)

ويقول فيهم أبو السرايا :

وما رستُ أقطارَ البلاد فلمْ أجدْ

لكمْ شبهاً فيما وطأتُ مِن الأرضِ

خلافاً وجهلاً وانتشار عزيمةٍ

ووهناً وعجزاً في الشدائدِ والخفضِ

لقد سبقتْ فيكم إلى الحشر دعوةٌ

فلا عنكمُ راضٍ ولا فيكمُ مَرضي(٤)

__________________

(١) (٢) الطبري ٢ / ٣ / ١٦٨١.

(٣) الطبري ٢ / ٢ / ١١١٤.

(٤) يشير إلى دعوة الإمام الشهيد الحُسين (عليه السّلام) على أهل الكوفة يوم عاشوراء بقوله : «... ولا يرضي الولاة عنكم أبداً».

٤٢٧

سأبعد داري مِنْ قلى عن ديارِكُمْ

فذوقوا إذا ولّيتُ عاقبةَ البُغضِ(١)

وحلّل الدكتور يوسف خليف هذه الأبيات بقوله : وأبو السرايا في هذه الأبيات يردّد تلك الفكرة القديمة التي عُرِفَتْ عن أهل الكوفة مِنْ أنّهم أهل شقاق ونفاق ومساوئ أخلاق ، فيصفهم بالشقاق والجهل وتفرّق العزيمة والضعف والعجز ، ويرى أنّ هذه صفاتهم التي تلازمهم دائماً في الحرب والسلم ، وهي صفات لمْ تجعل أحداً مِنْ زعمائهم أو أئمتهم يرضى عنهم ، وهم منفردون بها مِنْ بين سائر البشر في جميع أقطار الأرض التي وطأتها قدماه ، ثمّ يعلن في النهاية ببغضه لهم واعتزامه البعد عنهم ؛ ليذوقوا مِنْ بعده سوء العاقبة وسوء المصير(٢) .

ووصفهم أبو بكر الهذلي بقوله : إنّ أهل الكوفة قطعوا الرحم ووصلوا المثانة ، كتبوا إلى الحُسين بن علي إنّا معك مئة ألف وغرّوه ، حتّى إذا جاء خرجوا إليه وقتلوه وأهل بيته صغيرهم وكبيرهم ثمّ ذهبوا يطلبون دمه ، فهل سمع السامعون بمثل هذا؟!(٣) .

الجشع والطمع :

وهناك نزعة عامّة سادت في أوساط المجتمع الكوفي ، وهي التهالك على المادة والسعي على حصولها بكلّ طريق. فلا يُبالون في سبيلها بالعار والخزي ، ولقد لعبت هذه الجهة دورها الخطير في إخفاق ثورة مسلم ؛ فقد بذل ابن زياد الأموال بسخاء للوجوه والأشراف فخفّوا إليه سِراعاً ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيِّين / ٥٤٤ ـ ٥٤٦.

(٢) حياة الشعر في الكوفة / ٤٤٥.

(٣) مختصر البلدان / ١٧٣.

٤٢٨

فغدروا بمسلم ونكثوا عهودهم ، وقد ملكهم ابن زياد بعطائه ؛ فأخرجهم لحرب ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد أنْ أقسموا الأيمان المغلّظة على نصرته والذبّ عنه.

التأثّر بالدعايات :

وظاهرة أخرى مِنْ ظواهر المجتمع الكوفي ، وهي سرعة التأثر بالدعايات مِنْ دون فحص ووقوف على واقعها ، وقد استغلّ هذه الظاهرة الاُمويِّون أيّام (مسكن) ؛ فأشاعوا في أوساط الجيش العراقي أنّ الحسن صالح معاوية ، وحينما سمعوا بذلك ماجوا في الفتنة وارتطموا في الاختلاف ، فعمدوا إلى أمتعة الإمام فنهبوها كما اعتدوا عليه فطعنوه في فخذه. ولمّا أذاعت عصابة ابن زياد بين جيوش مسلم أنّه جيش أهل الشام قد أقبل إليكم فلا تجعلوا أنفسكم عرضة للنقمة والعذاب ، فلمّا سمعوا ذلك انهارت أعصابهم وولّوا منهزمين ، وأمسى ابن عقيل وحده ليس معه إنسان يدلّه على الطريق.

هذه بعض مظاهر الحياة الاجتماعية في الكوفة ، وهي تكشف عن ضحالة ذلك المجتمع وانهياره أمام الأحداث ، فلمْ تكنْ له إرادة صلبة ولا وعي اجتماعي أصيل ؛ وقد جرّوا لهم بذلك الويل ، فدمّروا قضاياهم المصيرية وتنكّروا لجميع حقوقهم ، وفتحوا المجال للطاغية ابن مرجانة أنْ يتحكّم فيهم ، ويصبّ عليهم وابلاً مِن العذاب الأليم.

٤٢٩

الحياة الاقتصاديّة :

أمّا الحياة الاقتصادية في الكوفة فكانت تتّسم بعدم التوازن ، فقد كانت فيها الطبقة الأرستقراطية التي غرقت في الثراء العريض ، فقد منحتها الدولة الاُمويّة أيّام عثمان ومعاوية الهبات والامتيازات الخاصة ؛ فآثرت على حساب الضعفاء والمحرومين ، ومِنْ بين هؤلاء :

١ ـ الأشعث بن قيس : وقد اشترى في أيّام عثمان أراضي واسعة في العراق ، وكان في طليعة الإقطاعيين في ذلك العصر ، وهو الذي أرغم الإمام على قبول التحكيم ؛ لأنّ حكومته كانت تهدّد مصالحه وامتيازاته الخاصة.

٢ ـ عمرو بن حُريث : وكان أثرى رجل في الكوفة(١) ، وقد لعب دوراً خطيراً في إفساد ثورة مسلم وشلّ حركتها.

٣ ـ شبث بن ربعي : وهو مِن الطبقة الأرستقراطية البارزة في الكوفة(٢) ، وهو أحد المخذّلين عن مسلم ، كما تولّى قيادة بعض الفرق التي حاربت الحُسين (عليه السّلام).

هؤلاء بعض المثرين في ذلك العصر ، وكانوا يداً لابن مرجانة وساعده القوي الذي أطاح بثورة مسلم ؛ فقد كانوا يملكون نفوذاً واسعاً في الكوفة ، وقد استطاعوا أنْ يُعلنوا معارضتهم للمختار رغم ما كان يتمتّع به مِن الكُتل الشعبية الضخمة المؤلفة مِن الموالي والعبيد ، وهم الذين أطاحوا بحكومته.

أمّا الأكثرية الساحقة في المجتمع الكوفي فكانت مرتبطة بالدولة ، تتلقّى موادّها المعاشية منها ؛ باعتبارها المعسكر الرئيس للدولة ، فهي التي تقوم

__________________

(١) في الطبري : أنّ عمرو بن حُريث كان أكثر أهل الكوفة مالاً.

(٢) حياة الشعر في الكوفة / ١٦٨.

٤٣٠

بالاتفاق عليها ، وقد عانى بعضهم الحرمان والبؤس. وقد صوّر الشاعر الأسدي سوء حياته الاقتصادية بقصيدة يمدح بها بعض نبلاء الكوفة لينال مِنْ معروفه وكرمه ، يقول فيها :

يا أبا طلحةَ الجواد أغثني

بسجالٍ مَنْ سيبكَ المقسومْ

أحيي نفسي فدتك نفسي فإنّي

مفلسٌ قد علمتَ ذاك عديمْ

أو تطوع لنا بسلتِ دقيقٍ

أجرهُ إنْ فعلت ذاك عظيمْ

قد علمتمْ فلا تعامس عنّي

ما قضى الله في طعام اليتيمْ

ليس لي غيرُ جرّةٍ وأصيصٍ

وكتابٍ منمنمٍ كالوشومْ

وكساءٍ أبيعهُ برغيفٍ

قد رقعنا خروقَهُ بأديمْ

وأكافٍ أعارنيه نشيطٍ

هو لحافٌ لكلِّ ضيفٍ كريمْ(١)

أرأيت هذا الفقر المدقع الذي دعا الشاعر إلى هذا الاستعطاف والتذلل ، إنها مشكلة الفقر الذي أخذ بخناقه.

وعلّق شوقي ضيف على هذه الأبيات بقوله : ومِنْ هنا ارتفع صوت المال في القصيدة الاُمويّة ، واحتلّ جوانب غير قليلة منها ؛ فقد كان أساسياً في حياة الناس ، فطبيعي أنْ يكون أساسياً في فنّهم وشعرهم. أليس دعامة هامّة مَن دعائم الحياة؟! فلمْ لا يكون دعامة هامّة مِنْ دعائم البناء الفنّي؟ إنّه يستنر في قاع الحياة وقاع الشعر ؛ لأنّ الشعر إنّما هو تعبير عن الحياة(٢) .

إنّ الحياة الاقتصادية تؤثّر أثراً عميقاً وفعّالاً في كيان المجتمع ، وتلعب دوراً خطيراً في توجيه المجتمع نحو الخير أو الشرّ ؛ وقد ثبت أنّ كثيراً مِن الجرائم التي يقترفها بعض المصابين في سلوكهم إنّما جاءت نتيجة لفقرهم وبؤسهم ، أو لجشعهم على تحصيل المادة ، وقد اندفع أكثر الجيش

__________________

(١) حياة الحيوان ـ الجاحظ ٥ / ٢٩٧ ـ ٢٩٩.

(٢) التطور والتجدد في الشعر الاُموي / ١٣٤.

٤٣١

الذي خرج لحرب الإمام الحُسين (عليه السّلام) حينما منّاهم ابن مرجانة بزيادة مرتّباتهم التي يتقاضونها مِن الدولة.

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ سوء الحالة الاقتصادية في الكوفة كانت مِن الأسباب الفعّالة في إخفاق ثورة مسلم ، وتحوّل الجماهير عنه حينما أغدق ابن زياد الأموال على الوجوه والعرفاء وغيرهم ، فاندفعوا إلى القيام بمناهضة مسلم وصرف الناس عنه.

عناصر السكّان :

كانت الكوفة أممية قد امتزجت فيها عناصر مختلفة في لغاتها ، ومتباينة في طباعها وعاداتهم وتقاليدها.

فكان فيها العربي والفارسي والنبطي إلى جانب العبيد وغيرهم ، ولمْ تعدْ مدينة عربية خالصة كمكة والمدينة ، وإنّما كانت مدينة أهلها أخلاط مِن الناس كما يقول اليعقوبي.

وقد هاجرت إليها هذه العناصر باعتبارها المركز الرئيسي للمعسكر الإسلامي. فمنها تتدفّق الجيوش الإسلاميّة للجهاد ، كما تتدفّق بها المغانم الكثيرة التي وعد الله بها المجاهدين ، وقد بلغ نصيب الجندي المقاتل مِنْ فيء المدائن اثني عشر ألفاً(١) ؛ ممّا دعا ذلك إلى الهجرة إليها باعتبارها السبيل إلى الثروة. ونلمع إلى بعض تلك العناصر :

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٦ / ٤ ، مختصر كتاب البلدان / ١٦٦.

٤٣٢

العرب :

وحينما تمّ تأسيس الكوفة على يد فاتح العراق سعد بن أبي وقاص اتّجهت إليها أنظار العرب ، وتسابقوا إلى الهجرة إليها ، فقد سكنها في وقت مبكر سبعون بدرياً ، وثلاثمئة مِنْ أصحاب الشجرة(١) .

وقد ترجم ابن سعد في طبقاته مئة وخمسين صحابياً ممّن نزلوا الكوفة(٢) . ويقول فيها السفّاح : وهي ـ أيّ الكوفة ـ منزل خيار الصحابة وأهل الشرف(٣) .

أمّا القبائل العربية التي سكنتها فهي :

القبائل اليمنيّة :

وتسابقت القبائل اليمنية إلى سكنى الكوفة ، فكان عددهم فيما يقول المؤرّخون اثني عشر ألفاً(٤) ، وهي :

١ ـ قضاعة.

٢ ـ غسان.

٣ ـ بجيلة.

٤ ـ خثعم.

٥ ـ كندة.

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٦ / ٤.

(٢) طبقات ابن سعد ٦ / ٤٣.

(٣) مختصر كتاب البلدان / ٧٣.

(٤) معجم قبائل العرب ١ / ١٥ ، فتوح البلدان / ٢٧٦ ، معجم البلدان ٧ / ٢٦٧.

٤٣٣

٦ ـ حضرموت.

٧ ـ الأزد.

٨ ـ مذحج.

٩ ـ حِمْيَر.

١٠ ـ همدان.

١١ ـ النخع.

فهذه هي الاُسر التي تنتمي إلى اليمن وقد استوطنت الكوفة ، ونزلت في الجانب الشرقي مِن المسجد.

ويرى (فلهوزن) أنّ القبائل المشهورة مِن اليمن ، وهي : مذحج وهمدان وكندة ، قد كانت لها السيطرة والسيادة على الكوفة. ويقول عبد الملك بن مروان بعد دخوله إلى الكوفة ، حينما جاءته قبائل مذحج وهمدان : ما أرى لأحد مع هؤلاء شيئاً.

القبائل العدنانيّة :

أمّا القبائل العدنانية التي سكنت الكوفة ، فكان عددها ثمانية آلاف شخصاً ، وهي تتشكّل مِنْ أسرتين :

١ ـ تميم.

٢ ـ بنو العصر.

قبائل بني بكر :

وسكنت الكوفة قبائل بني بكر ، وهي عدّة اُسر منها :

١ ـ بنو أسد.

٤٣٤

٢ ـ غطفان.

٣ ـ محارب.

٤ ـ نمير.

وهناك مجموعة اُخرى مِن القبائل العربية استوطنت الكوفة ، وهي كنانة وجديلة وضبيعة وعبد القيس وتغلب وأياد وطي وثقيف وعامر ومزينة(١) .

ويرى (ماسنيون) أنّه إلى جانب القرشيين الذين سكنوا الكوفة عناصر شديدة البداوة مِنْ سكان الخيام ، وبيوت الشعر وأصحاب الإبل مِنْ بني دارم التميمي وجيرانهم اليمنيين القدماء مِنْ طيء ، وعناصر نصف رحالة مِنْ ربيعة وأسد مِن الغرب والشمال الغربي ، وبكر مِن الشرق والجنوب الشرقي ، وعبد القيس الذين جاءوا مِنْ هجر مِن الجنوب الشرقي.

ثمّ عناصر متحضّرة مِن القبائل الجنوبية الأصيلة مِن العربية الذين نزحوا مِن اليمن وحضرموت ، وهؤلاء كانوا قسمين : عناصر نصف متحضّرة مِنْ كندة وبجبلة ، وعناصر متحضّرة تماماً مِنْ سكّان المدن والقرى اليمنية مِنْ مذحج وحِمْيَر وهمدان(٢) .

إنّ العنصر العربي الذي استوطن الكوفة منذ تأسيسها كان مزيجاً مِن اليمانية والنزاريّة وغيرها ، ولكنّ اليمانية كانت أكثر عدداً ، كما كان تأثيرها في حياة المجتمع الكوفي أشدّ مِنْ غيرها.

الروح القبليّة :

وسادت في قبائل المجتمع العربي في الكوفة الروح القبلية فكانت كلّ قبيلة

__________________

(١) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة / ٤٢.

(٢) خطط الكوفة / ١٢ ـ ١٣.

٤٣٥

تنزل في حي معين لها لا يشاركها فيه إلاّ حلفاؤها ، كما كان لكلّ قبيلة مسجدها الخاص ومقبرتها الخاصة. ويرى (ماسنيون) أنّ جبّانات الكوفة هي إحدى الصفات المميّزة لطبوغرافيتها(١) ، كما سمّيت شوارعها وسككها بالقبائل التي كانت تقطن فيها(٢) ، وغدت المدينة صورة تامّة للحياة القبلية ، وبلغ الإحساس بالروح القبلية والتعصّب لها إلى درجة عالية ، فكانت القبائل تتنافس فيما بينها على إحراز النصر كما حدث في واقعة الجمل ؛ ومِنْ هنا غلب على الحياة فيها طابع الحياة الجاهلية(٣) .

ويحدّثنا ابن أبي الحديد عن الروح القبلية السائدة في الكوفة بقوله : إنّ أهل الكوفة في آخر عهد عليٍّ كانوا قبائل ، فكان الرجل يخرج مِنْ منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة اُخرى ، فينادي باسم قبيلته : يا للنخع أو يا لكندة ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة التي مرّ بها فينادون : يا لتميم أو يا لربيعة ، ويقبلون إلى ذلك الصائح فيضربونه ، فيمضي إلى قبيلته فيستصرخها ، فتُسلّ السيوف وتثور الفتنة(٤) .

لقد كانت الروح القبلية هي العنصر البارز في حياة المجتمع الكوفي ، وقد استغل ابن سُميّة هذه الظاهرة في إلقاء القبض على حِجْر وإخماد ثورته ؛ فضرب بعض الاُسر ببعض ، وكذلك استغل هذه الظاهرة ابنه للقضاء على حركة مسلم وهانئ وعبد الله بن عفيف الأزدي.

__________________

(١) (٢) خطط الكوفة / ١٨.

(٣) التطور والتجديد في الشعر الاُموي / ٨٠ ـ ٨١.

(٤) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٣٩.

٤٣٦

الفرس :

وإلى جانب العنصر العربي الذي استوطن الكوفة كان العنصر الفارسي ، وكانوا يسمّون الحمراء(١) ، وقد سألوا عن أمنع القبائل العربية فقيل لهم تميم فتحالفوا معهم(٢) .

وأكبر موجة فارسية استوطنت الكوفة عقيب تأسيسها هي المجموعة الضخمة مِنْ بقايا فلول الجيوش الساسانية التي انضمت إلى الجيش العربي وأخذت تُقاتل معه ، وقد عُرفت في التاريخ باسم (حمراء ديلم) ، فكان عددهم فيما يقول المؤرّخون أربعة آلاف جندي ، يرأسهم رجل يسمّى (ديلم) ، قاتلوا معه تحت قيادة رستم في القادسية ، فلمّا انهزمت الفرس وقُتل رستم عقدوا أماناً مع سعد بن أبي وقاص ، وشرطوا عليه أن ينزلوا حيث شاؤوا ، ويحالفوا مَنْ أحبّوا ، وأنْ يفرض لهم العطاء ، وقد حالفوا زهرة بن حويّة التميمي أحد قادة الفتح ، وفرض لهم سعد في ألف ألف ، وأسلموا وشهدوا فتح المدائن معه كما شهدوا فتح جلولاء ، ثمّ تحوّلوا فنزلوا الكوفة(٣) .

وقد كوّنت هذه الجالية مجموعة كبيرة في المجتمع الكوفي ، ويذكر (فلهوزن) أنّهم كانوا أكثر مِنْ نصف سكّان الكوفة ، وقد أخذ عددهم بازدياد حتّى تضاءلت نسبة العرب في الكوفة ، وتغلّبوا في عصر المأمون حتّى كانت اللغة الفارسية تحتلّ الصدارة في ذلك العصر(٤) . ويقول الجاحظ :

__________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٩٦.

(٢) تاريخ الطبري.

(٣) فتوح البلدان / ٢٨٠ ، خطط الكوفة / ١١.

(٤) فك العربية / ٨٣ ـ ٨٤.

٤٣٧

إنّ اللغة الفارسية أثّرت تأثيراً كبيراً في لغة الكوفة(١) .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ الفرس كانوا يشكّلون عنصراً مهمّاً في الكوفة وكوّنوا بها جالية متميزة ، فكان أهل الكوفة يقولون : جئت مِنْ حمراء ديلم(٢) .

ويقول البلاذري : إنّ زياداً سيّر بعضهم إلى الشام وسيّر قوماً منهم إلى البصرة(٣) ، وقد شاركت هذه الجالية في كثير مِن الفتوحات الإسلاميّة ، كما شكّلت المدّ العالي للإطاحة بالحكم الاُموي.

الأنباط :

وكانت الأنباط مِن العناصر التي سكنت الكوفة ، وقد أثّروا في الحياة العامّة تأثيراً عقلياً واجتماعياً.

ويقول المؤرّخون : إنّ الأنباط ليسوا عنصراً خاصاً مِن البشر وإنّما هم مِن العرب ، وكانوا يستخدمون اللغة الدارمية في كتابتهم ، وكانوا يستوطنون بلاد العرب الصخرية وقد انتقلوا منها إلى العراق ، واشتغلوا بالزراعة ، وكانوا ينطقون بلغتهم الدارمية(٤) ، وقد أثّروا تأثيراً بالغاً في حياة الكوفة.

يقول أبو عمرو بن العلاء لأهل الكوفة : لكم حذلقة النبط وصلفهم ، ولنا زهاء الفرس وأحلامهم(٥) .

ويروي الطبري أنّ رجلاً مِنْ بني عبس أسر رجلاً مِنْ أهل نهاوند اسمه دينار ، وكان يواصل العبسي ويهدي إليه ، وقد قدم

__________________

(١) البيان والتبيين ١ / ١٩ ـ ٢٠.

(٢) اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري / ٥٥.

(٣) فتوح البلدان / ٢٧٩.

(٤) الحضارة الإسلاميّة / ٩٧.

(٥) البيان والتبيين ٢ / ١٠٦.

٤٣٨

الكوفة في أيّام معاوية فقام في الناس وقال لهم : يا معشر أهل الكوفة ، أنتم أوّل مَنْ مررتم بنا كنتم خيار الناس ، فعمّرتم بذلك زمان عمر وعثمان ثمّ تغيّرتم ، وفشت فيكم خصال أربع : بخل وخبّ وغدر وضيق ، ولمْ يكن فيكم واحدة منهنّ فرافقتكم فإذا ذلك في مواليدكم ، فعلمت مِنْ أين أتيتم(١) .

ويرى (دي بود) أنّ التغيّر الاجتماعي ، وتبدّل الأخلاق في الكوفة قد نشأ في وقت مبكّر أيّام معاوية بن أبي سفيان(٢) ، ومِن الطبيعي أنّ للأنباط ضلعاً كبيراً في هذا التغيير.

السريانيّة :

والعنصر الرابع الذي شارك في تكوين الكوفة هي السريانية ، فقد كانت منتشرة في العراق قبل الفتح الإسلامي ، وكان الكثيرون منهم مقيمين على حوض دجلة ، وبعضهم كان مقيماً في الحيرة والكوفة وقد ارتبطوا بأهل الكوفة وتأثّروا بعاداتهم وأخلاقهم ؛ فإنّ الحياة الاجتماعية ـ كما يقول علماء الاجتماع ـ حياة تأثير وتأثر ، فكلّ إنسان يتأثر ويؤثر فيمَنْ حوله.

هذه هي العناصر التي شاركت في استيطان الكوفة وبناء مجتمعها ، فهي لمْ تكن عربيةً خالصةً وإنّما امتزجت بها هذه العناصر ، وقد نشأت بينها المصاهرة ، فنشأ جيل مختلط مِنْ هذه العناصر ولكنْ التغلّب الجنسي كان للعرب ؛ باعتبارهم الأكثرية الساحقة في القطر ، فقد أصبحت التقاليد

__________________

(١) تاريخ الطبري.

(٢) تاريخ الفلسفة في الإسلام / ١٥ ـ ١٨.

٤٣٩

الدينية والعادات الاجتماعية خاضعة للعرب ، كما كانت لهم الكلمة العليا في البلاد. وبهذا ينتهي بنا الحديث عن عناصر السكّان في الكوفة.

الأديان :

ولمْ يكن المجتمع الكوفي يدين بدين واحد وإنّما كانت فيه أديان متعدّدة ، ولكلّ دينٍ الحرية في إقامة طقوسه الدينية ، وهذه بعضها :

١ ـ الإسلام :

وكان الإسلام دين الأكثرية الساحقة للعرب الذين استوطنوا الكوفة ، فإنّها إنّما اُنشأت لتكون حامية للجنود الإسلاميّة التي كانت تبعث بهم الدولة لحركات الفتوح وعمليات الجهاد ، ولكنّ الإسلام لمْ ينفذ إلى أعماق قلوب الكثيرين منهم ، وإنّما جرى على ألسنتهم طمعاً بثمرات الفتوح التي أفاء الله بها على المجاهدين.

وقد أكّد علم الاجتماع أنّ التحوّل الاجتماعي لا يكون إلاّ بعد أجيال وأجيال ، وأنّ المجتمع يظلّ محافظاً على عاداته وتقاليده التي اكتسبها مِنْ آبائه ، ويؤيد ذلك ما مُنِيَ به مِن الحركات الفكرية التي تتنافى مع الإسلام ، والانقسامات الخطيرة بين صفوفه ، ونلمع إلى بعض تلك الانقسامات :

الخوارج :

واعتنق هذه الفكرة القرّاء وأصحاب الجباه السود حينما رفعت المصاحف في صفّين ، وقد أرغموا الإمام على قبول التحكيم بعد ما مُنِيَ

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470